السياسات العمومية الترابية بالمغرب:  مساهمة في دراسة المفهوم ومسالك التفعيل

  • .   

السياسات العمومية الترابية بالمغرب:  مساهمة في دراسة المفهوم ومسالك التفعيل

صابرين سليماني

باحثة بسلك الدكتوراه

جامعة محمد الخامس بالرباط

تقديم:

يظهر من خلال استقراء الكتابات والادبيات المعاصرة، بروز حقل معرفي تكاملي قائم بذاته في الحقل الأكاديمي العالمي يقوم على دراسة السياسات العمومية. وقد سطع نجم هذا الحقل المعرفي في المدرسة الانغلو- ساكسونية لتليه فيما بعد المدرسة الفرنكوفونية. وهذا يعني أن حقل السياسات العمومية هو حقل معرفي تكاملي متعدد التخصصاتmultidisciplinary، ويتمظهر ذلك في ارتباطه مع عدة حقول معرفية أخرى من قبيل علم الاجتماع، علم الادارة، علم القانون، علم الاقتصاد، علم السياسة والعلاقات الدولية.

ويعود ظهور حقل السياسات العمومية الى خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وفي ذلك خُلِقَنقاش كبير، فهناك تيار يتحدث عن ظهور هذا البراديغم مع الاقتصاديين وبالخصوص مع الأزمة الاقتصادية. وتوجه اخر يتحدث عن بروز هذا الحقل المعرفي بعد تبلور مفهوم علوم السياسة The Policy Sciences في الحقل الاكاديمي من قِبَلِ هارولد لاسويلHarold D. Lasswell في اطار منظوره لضرورة فهم تراكب مقاربة العلوم السياسية مع العملية الديموقراطية[1].

ويُشَكِلُ الفعل L’action  وحدة التحليل التي استقر عليها حقل دراسات السياسات العمومية، بحيث أن معظم التعريفات والتوصيفات التي تناولت السياسات العمومية Les Politiques Publiques   تناولتها باعتبارها فعلاً للدولة Science d’état en action . بينما عرجت تيارات أخرى الى تعريفها من منطلق كونها “برنامج عمل حكومي في قطاع حكومي او فضاء جغرافي”[2].ويذهب جيمس أندرسون في نفس التوجه القائل  بكون السياسات العمومية هي عبارة عن “برنامج عمل Programme d’action هادف يتبعه أداء فردي أو جماعي في التصدي لمشكلة أو مواجهة قضية أو موضوع”[3]. ويشكل تحديد تعريف كامل ومتكامل لبراديغم السياسات العمومية أمراً بالصعوبة بما كان، باعتباره “مجال يندرج ضمن حقل العلوم الاجتماعية وفرعاً أساسياً في حقل علم السياسة مما يضفي صبغة صعوبة تحصيل الاتفاق العام في حقل العلوم الاجتماعية عامةً”[4].

وفي هذا الصدد، نجد أن حقل السياسات العمومية أطرته حزمة من النظريات والمقتربات في إطار تعدد المداخل والأبعاد، بحيث نجد المقترب الاقتصادي، المقترب المعرفي، المقترب العقلاني، المقترب الكلاسيكي، المقترب النيومؤسساتي، وأخيراً وليس أخراً نجد المقترب التدرجي أو توالي المشاهد لصاحبه شارل جونس  Charles .O. Jones والذي حدد في كتابه An Introduction to the Study of Public Policy  الدورة الحياتية لصنع السياسات العمومية، والتي اختزلها في خمس مراحل جوهرية وتتمثل في “تحديد المشكل وادراجه في الأجندة الحكومية،  اقتراح البدائل وبلورة الحلول، تنفيذ برنامج العمل، تقييم هذا البرنامج، ونهاية السياسات العمومية”[5].

إن وضعية حقل السياسات العمومية تقتضي الركون عند ثلاث دوائر اساسية تتفرع عن براديغم السياسات العمومية، نتحدث عن الدائرة الأولى والتي تكنى بالسياسات العمومية الخارجية/الدولية، الدائرة الثانية والتي تكنى بالسياسات العمومية الوطنية، والدائرة الثالثة والتي تكنى بالسياسات العمومية الترابية. وفي هذا المقام سنتوقف بالدرس والتحليل عند براديغم السياسات العمومية الترابية Les Politiques Publiques Territoriales  بما يضمه هذا البراديغم من دلالات وتصورات وأبعاد ذات صلة بالتجربة المغربية في هذا الشأن.

ويعتبر موضوع السياسات العمومية الترابية من المواضيع الجديدة التي اقتحمت حقل الدراسات العلمية والأكاديمية  وأيضاً الممارسة السياسية للفاعل العمومي في الآونة الأخيرة، خاصةً في ظل اقرار المغرب للورش الاستراتيجي للجهوية الموسعة وتدشين جيل جديد من الاصلاحات، التي تجعل من اللاتمركز المدخل السليم والأسلم لتدبير الشأن العام والمحلي. الأمر الذي يطرح جملة اشكالات واختلالات خاصة عندما يتعلق الامر بصنع السياسات العمومية الترابية، ودورتها الحياتية، والفاعلين الرسمين وغير الرسمين في صياغتها وتتبعها وتنفيذها وتقييمها، والمقتربات النظرية والمنهجية المؤطرة لهذه السياسات الترابية[6].

أهمية الدراسة:

تَكْمُنُ أهمية الموضوع في كونه موضوعاً يغري بالدراسة والتحليل ويعود ذلك لزاويتين أساسيتين:

اولاً- الأهمية النظرية: إن التأمل في هذا النوع من المواضيع والدراسات تضع الباحث في صدد التعاطي مع مسألتين بالغتي الأهمية، أولهما مسألة السياسات العمومية  في التجربة المغربية، نتحدث عن الأساس النظري والمنهجي والقانوني والتنظيمي للدورة الحياتية لصنع السياسات العمومية الترابية. وثانيهما التـأطير الهندسي لفلسفة روح الدستور المغربي الجديد فيما يتعلق بحقل السياسات العمومية الترابية ومقتضيات القوانين التنظيمية التي أعطت للجهات اختصاصات وصلاحيات تخول لها مهمة الاشتراك في صياغة السياسة العامة الترابية انسجاماً مع السياسة العامة الوطنية للدولة.

ثانياً- الأهمية العلمية: يكتسي موضوع السياسات العمومية الترابية بالمغرب: مساهمة في دراسة المفهوم ومسالك التفعيل أهميةً قصوى على المستوى المعرفي والبحثي للدارسين والباحثين وكذلك الفاعلين العمومين والخواص. وتتجلى هذه الأهمية في كون موضوع السياسات العمومية الترابية يشكل براديغم جديدNouveau Paradigme ظهر في التجربتين الأمريكية والفرنكوفونية  في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وطفوه على سطح المشهد السياسي المغربي في الآونة الأخيرة فرضته طبيعة التحولات والتطورات وكذا الاصلاحات التي شهدتها الترسانة القانونية والمنظومة المجتمعية بشكل عام.

إشكالية الدراسة:

ستحاول الدراسة الإجابة عن الإشكالية الرئيسية التي يمكن صياغتها على النحو التالي: إلى أي حد يمكن الحديث عن وجود سياسات عمومية ترابية بالمغرب؟وماهي مداخل ومسالك تفعيل العمومية الترابية؟

ولبسط هذه الإشكالية، نأتي بالتساؤلات الفرعية التالية:

  • هل يمكننا الحديث عن سياسات عمومية ترابية بالمغرب بفلسفة تزاوج بين التأطير النظري والواقع الممارساتي لصانع القرار الترابي؟
  • هل أثر غياب وحدة المعجم الدستوري فيما يتعلق ببراديغم السياسات العمومية وكذا النواقص التي تشوب القوانين التنظيمية للجماعات الترابية في إرساء ممارسة فعالة وصياغة ناجعة لسياسات عمومية ترابية؟
  • مدى حضور لازمة المناخ المركزي على الفضاء الترابي في مراحل صياغة وتتبع وتنفيذ وتقييم السياسات العمومية الترابية؟ وماهي المقتربات المستعملة في ذلك؟
  • الى أي حد يمكننا الحديث عن منظومة تشاركية كمسلك لتفعيل السياسات العمومية الترابية في ظل بروز فاعلين جدد على المستوى الترابي أفرزها الدستور والقوانين التنظيمية للجماعات الترابية نخص بتساؤلناهذا أدوار المجتمع المدني والهيئات التشاورية على المستوى الجهوي والاقليمي والجماعي؟

الفروض العلمية:

  • تتأثر الدورة الحياتية لصنع السياسات العمومية الترابية بخصوصية التجربة المغربية في اختلافها مع كل من المدرسة الانغلو سكسونية والفرنكوفونية، ويتضح ذلك من خلال استقراء الممارسة التي تنم بتغيب تام للتكامل بين ما هو نظري وما هو تطبيقي ممارساتي. وواقع الحال أن غلبة المقاربة القطاعية في صنع السياسات العمومية بمستوياتها الثلاث تجسد صعوبة تنفيذها وملامسة أثر  وقعها على الفضاء الترابي.
  • مساهمة غياب وحدة المعجم الدستوري وثغرات القوانين التنظيمية للجماعات الترابية في ارساء سياسات عمومية ترابية ناجعة وفي تكريس مقاربة تشاركية تدمج مختلف الفاعلين التقليدين والجدد في سيناريوهات صناعة هذه السياسات الترابية.
  • تتسم الدورة الحياتية لصياغة السياسات العمومية الترابية بهيمنة الرؤية المركزية لا من حيث الصياغة، التتبع، التنفيذ، والتقييم. الشيء الذي يتطلب اعادة النظر في هذه الفلسفة واعتماد المقاربة الترابية التي تنطلق بالأساس من الأسفل لتتوجه الى الأعلى.
  • برز مع الهندسة الدستورية الجديدة لسنة 2011 ومع مواد القوانين التنظيمية للجماعات الترابية أدوار جديدة لفاعلين جدد في صياغة وتتبع وتنفيذ وتقييم السياسات العمومية الترابية من قبيل هيئات التشاور والتشارك وتنظيمات المجتمع المدني الى جانب دور المواطنين والمواطنات في هذه السيرورة.

وللإجابة عن الإشكالية الرئيسية، وسبر أغوار الأسئلة الفرعية، واختبار صحة الفروض العلمية، ستتناول الدراسة المحورين الآتيين:

المبحث الأول: التأطير النظري لبراديغم السياسات العمومية الترابية

المبحث الثاني: مسالك تفعيل السياسات العمومية الترابية

المبحث الأول: التأطير النظري لبراديغم السياسات العمومية الترابية

يُعتبر الشأن الترابي مكوناً أساسياً في الفعل العمومي L’action Publique، وتُشكل السياسات الترابية  Les Politique Publiques Territoriales مدخلاً مهماً في تدبير الفضاء الترابي بأليات وميكانيزماتجديدة تجعل حاجات ومتطلبات الساكنة في صلب اهتماماتها وفي جوهر اهدافها.

المطلب الأول: الاطار النظريلبراديغم السياسات العمومية الترابية

إن دراسة براديغم السياسات العمومية الترابية يتطلب بالدرجة الأولى التوقف عند التنظير  المفاهيمي، وجرد ما تيسر  من النظريات والمقتربات التي شملت المفهوم بالدرس والتحليل من زواياه وأبعاده ودلالاته المتعددة والمتشعبة في ذات الحال. ولعل النظريات والمقتربات عديدة ومتعددة بتعدد مكونات ودلالات الفعل الترابي الذي تتمخض على مستواه سيناريوهات صنع السياسات العمومية الترابية، وفي هذا المقام سنتطرق الى المجال الترابي والى الفعل العمومي الترابي.

الفقرة الأولى: المجال الترابي كفضاء لتدبير المشاكل العمومية

يُمثل المجال الترابي فضاء لمعالجة المشاكل العمومية وتدبيرها بأليات تتخذ من التشاور والتشارك والحوار قاعدة لرصد حلول ناجعة تترجم في شكل سياسات عمومية ترابية فعالة. على اعتبار أن المقاربة الترابية L’approche Territorialeتقوم على تشخيص المشكل انطلاقاً من الفضاء الترابي بمنطق تدبيري يحسم في عملية تحديد المشكل العمومي على المستوى الترابي[7].

من هذا المنطلق، ينبغي النظر الى ان المجال الترابي هو المستوى الترابي الوحيد الذي يحدد حجم المشاكل والتساؤلات خاصة ذات الصبغة التنموية الاجتماعية الترابية مما يتطلب تدخل فاعلين محلين/ترابين بتنوعهم وتعددهم من سلطات عمومية محلية وجماعات ترابية بمستوياتها وتنظيمات المجتمع المدني في سبيل ايجاد وصوغ حلول لمشاكل الساكنة وتنفيذها وتقييم أثرها على مدى رضا الساكنة من هذه القرارات أو هذه السياسات الترابية، التي تستهدف بالأساس المواطنين والمواطنات القاطنين بالفضاء الترابي[8].

ان استحضار المجال الترابي كفضاء لتدبير المشكل العمومي يعيد الى الأذهان أدبيات وطروحات ميشيل فوكوM. Foucaultحول المجال الترابي Le Territoire  في كتابه الشهير Sécurité, Territoire, Population، إذ يعتبر ميشيل فوكو أحد رواد السوسيولوجيا في مجال التنظير للمجال الترابي في اطار ما يصطلح عليه بالتدبير الحكوماتيLa Gestion Gouvernemental وسبل تحديد وتشخيص المشاكل المختلفة والمتعددة والتي يعاني من بالأساس الأفراد داخل المجتمع[9].

يتضح إذن أن المجال الترابي هو الفضاء الترابي الذي على مستواه تتحدد المشاكل العمومية التي تعاني منها ساكنة المجال ذاته، وعلى مستواه يتم التشخيص والصياغة، في اطار سلسلة عملياتية تتخذ من الأليات التشاورية والتشاركية أساساً في صياغة هذه السياسات التي تنم عن سيناريوهات لسيرورة قرارية معقدة. إن السيرورة القرارية على المستوى الترابي تساءل الجهات المسؤولة عن بلورة واتخاذ القرار المحلي/الترابي على مستوى المجال الترابي وتنفيذه من قبل الفاعلين الترابين وتقييم أثره على مدى استجابة وتلبية هذه السياسات الترابية لحاجيات ومتطلبات الساكنة المستهدفة. وعلى هذا المستوى بالضبط تبرز أوجه الاختلاف بين السيرورة القرارية المركزية على مستوى الدولة ككل، وبين السيرورة القرارية الترابية على المستوى الجهوي، الاقليمي، والجماعي[10].

الفقرة الثانية: الفعل العمومي الترابي

إن ما يميز الفعل العمومي الترابي L’action Publique Territorial  هو تعدد وتنوع مستوياته والفاعلين فيه، فعلى هذا المستوى، ذهبت بعض الدراسات الى تصنيف الفعل العمومي بين ما هو متجه نحو الأعلى أو ما يكنى بالمركز، والفعل العمومي المتجه نحو الأسفل أي الفضاء/المجال الترابي، وبين ما يمكن اعتباره الفعل العمومي الأفقي خاصة عندما يتعلق الأمر بالشراكات والتحالفات واتفاقيات التعاون والتوأمة بين الوحدات الترابية فيما بينها أو عندما يتعلق الأمر بخلق شبكات الفاعلين الدوليين أو غيرها[11].

وقد اتجهت مجموعة من البحوث نحو تحري ماهية الفعل العمومي الترابي، وذلك من خلال طرح جملة تساؤلات ذات الصلة بالمجال الترابي، وأيضاً بتزايد الطلب على دراسة هذا المجال العمومي الخصب الذي يجعل من الفضاء الترابي أرضيةً لتشخيص المشاكل العمومية التي تعاني منها ساكنة هذا الفضاء الجغرافي. وذهب بعض الخبراء الى الحديث عن بلورة المخاطر التدبيرية للفاعلين العمومين الترابين/المحلين باعتبارهم الوجهة الأولى التي تقصدها الساكنة. مما يستدعي استحضار اللازمة المتشابكة في هذه الثنائية، باستحضار دور الفاعل الترابي في بلورة الفعل العمومي الترابي، دوره في صياغة السياسات العمومية الترابية، دوره في ترسيخ الحكامة الترابية، ودوره في تحقيق التنمية الترابية[12].

إذن، يمكن القول أن التحول المفاهيمي الذي ارتقى من ما يكنى بالمحلي الى الحديث عن ما هو ترابي شكل قفزة مهمة في ماهية الفعل العمومي الترابي خاصة عندما يتعلق الأمر بارتباط الفعل العمومي بالفعالية والنجاعة والاستمرارية في تحقيق الغايات والأهداف.

ان تجاوز الفعل العمومي الترابي للمنطق المجالي المؤسساتي المركزي يقوم بالأساس على ركائز جوهرية، يشكل فيها البناء المؤسساتي الجديد وحدة بالأهمية بما كان، هو بناء قائم على تسطير أهداف الفعل العمومي وأيضاً تحديد الموارد التي من شأنها توجيه هذا الفعل. ناهيك عن ما ينتجه تعدد وتنوع المجالات والمكونات التي يتسم بها الفعل العمومي الترابي مما ينتج عنه نوع من التداخل خاصة على مستوى صياغة السياسات العمومية وغلبة فلسفة القطاعية على فلسفة الالتقائية. وأخيراً وليس أخراً، لابد لنا من استحضار التدبير الترابي الذي يضع  الباحث والممارس في ذات الحال أمام تساؤلات واشكالات تتمثل بالأساس في كيفية تدبير المجال الترابي بمختلف المتدخلين والفاعلين الترابين التقليدين في اطار حل مشاكل الساكنة التي تتنوع هي الأخرى لتشمل ما هو اجتماعي وما هو اقتصادي وما هو تنموي وغيرها، في ظل محدودية الموارد والامكانات على مستوى الوحدات الترابية. الشيء الذي يطرح نقطة مهمة تتمثل في وزن الأجهزة العمومية في التدبير المتعدد المستويات للمجال الترابي كما هو الحال في التجربة الفرنسيةLa Gestion Multi-niveaux de Territoire [13].

المطلب الثاني: التأطير القانوني  للسياسات العمومية الترابية

لن يستقيم الحديث عن التأطير القانوني لبراديغم السياسات العمومية الترابية من دون الحديث عند الهندسة الدستورية لسنة 2011 وما حملته من مستجدات، هذه المستجدات التي شكلت قطب رحى اهتمام الباحثين والممارسين في ذات الحال، خصوصاً عندما يتعلق الأمر ببراديغم السياسات العمومية واشكالية وحدة المعجم الدستوري في تحديد اصطلاح وتعريف متكامل وثابت لهذا المفهوم. وعندما يتعلق الأمر بالسياسات العمومية الترابية نجد التأطير الدستوري وما حملته مواد القوانين التنظيمية للجماعات الترابية.

الفقرة الأولى: السياسات العمومية الترابية في الهندسة الدستورية

يَحضر براديغمالسياسات العمومية بقوة في الهندسة الدستورية لعام 2011، مما دفع ببعض الباحثين الى الحديث عن ما يكنى “بدستور السياسات العامة”[14]. وفي هذا الاطار، جاء في فصول الدستور مصطلح السياسات العمومية ونذكر على سبيل المثال لا الحصر مصطلح السياسات العمومية (الفصل13)، السياسات العمومية الموجهة (الفصل 34)، التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة (الفصل 49)، السياسة العامة للدولة، السياسات العمومية، السياسات القطاعية (الفصل 92) السياسات العمومية الترابية (الفصل 137). وعلى هذا المستوى يظهر التنوع الاصطلاحي في دقة تحديد مفهوم للسياسات العمومية مما ينتج عنه خلط ولبس مفاهيمي شائع يؤثر لا محالة على مستويات التطبيق والتنزيل.

لقد نص دستور 2011 على السياسات العمومية الترابية في الفصل 137 وجاء في مقتضى الفصل مايلي “مساهمة الجهة في تفعيل السياسة العامة للدولة وفي اعداد السياسات الترابية من خلال ممثليها في مجلس المستشارين”[15].ويأتي تنصيص هذا الفصل من الدستور في انسجام تام والتركيبة الجديدة لمجلس المستشارين، والتي تضم”120 عضواً  108 عنصر منهم منتخبين على صعيد الجهات من طرف هيئة ناخبة جهوية تشكل فيها الجماعات الترابية 72 عضو، الى جانب عناصر ممثلين المنظمات المهنية للمشغلين بـ 12 عضواً، 24 عضواً بالغرف المهنية و12 عضواً من ممثلي هيئة المأجورين”[16].

الفقرة الثانية: السياسات العمومية الترابية على ضوء القوانين التنظيمية للجماعات الترابية

نصت القوانين التنظيمية للجماعات الترابية على دور الجهات والعمالات والاقاليم والجماعات في صياغة السياسات العمومية الترابية في انسجام تامٍ مع السياسات العمومية الوطنية، وفق منهج تشاركي وتنسيقي بين مختلف المصالح المركزية واللامركزية. ويشكل في ذلك برنامج التنمية للجماعات الترابية بمستوياتها الثلاث أسمى تمثل لسن سياسة عمومية ترابية بمقاربة تنسيقية وتشاركية وبأليات تشاورية وحوارية بين مختلف الفاعلين الترابين منتخبين او ممثلي القطاع الخاص وهيئات المجتمع المدني.

وفي هذا الصدد،  للسلطات العمومية ومجلس الجهة التشاور فيما بينهما في ما يتعلق بالسياسات القطاعية على المستوى الترابي، وتنص في ذلك المادة 93 من القانون رقم 1113.14 على انه “تتشاور السلطات العمومية ومجلس الجماعة في السياسات القطاعية التي تهم الجماعة وكذا التجهيزات والمشاريع الكبرى التي تخطط الدولة لإنجازها فوق تراب الجماعة”. كما تنص المادة 81 و 82 من القانون رقم 112.14 على اعداد برنامج التنمية للعمالة أو الاقليم بتنسيق من عامل العمالة أو الاقليم وبمقاربة تنسيقية تشاركية تعتمد اليات الحوار والتشاور في عملية اعداد البرنامج وتتبعه وتقييمه. وفي ما يتعلق بالجهات فقد نصت المادة 80 من القانون التنظيمي رقم 111.14 على قيام الجهة بمهامها مع مراعاة السياسات والاستراتيجيات العامة والقطاعية في مجالات منصوص عليها في نفس المادة[17]. وتعمل الجهة وفق المادة 83 على إعداد برنامج التنمية الجهوي تحت اشراف رئيس المجلس وفق مقاربة تشاركية تتخذ من أليات الحوار والتشاور مدخلاً أساسياً، وتعتمد على التنسيق مع والي الجهة وباقي المصالح المركزية واللامركزية. وتجدر الاشارة الى أنه يتعين على برنامج التنمية الجهوي مواكبة التوجهات الاستراتيجيات  لسياسة الدولة وأن يعمل على بلورتها على المستوى الجهوي[18].

وعلى نفس المنوال، نص المشرع في المادة 88 من ذات القانون التنظيمي الخاص بالجهات على انسجام التصميم الجهوي لإعداد التراب وفق القوانين الجاري بها العمل في اطار سياسة الدولة في مجال اعداد التراب الوطني وبتشاور مع الجماعات الترابية الاخرى والادارات والمؤسسات العمومية وممثلي القطاع الخاص المعنين بتراب الجهة[19] .

المبحث الثاني: مسالك تفعيل السياسات العمومية الترابية

شكل موضوع السياسات العمومية الترابية جزءاً مهماً للحوار داخل هيئات الديموقراطية التشاركية، هذه الهيئات التي تعتبر مستجداً من مستجدات دستور 2011 والذي أعطى الحق والصلاحيات للمواطنين والمواطنات وتنظيمات المجتمع المدني في صياغة وتتبع وتنفيذ وتقييم السياسات العمومية. كما تقدم  الهيئات التشاورية والتشاركية المحددة في دستور 2011 ومواد القوانين التنظيمية للجماعات الترابية تجربة مغربية جنينية تترجم الارادة السياسية لتفعيل الديموقراطية التشاركية في الممارسة السياسية والتدبيرية بالمغرب.

المطلب الأول:المقاربة التشاركية في صنع السياسات العمومية الترابية

تبرز فلسفة المقاربة التشاركية[20] في صنع السياسات العمومية الترابية من خلال تفعيل الأدوار الدستورية الجديدة لتنظيمات المجتمع المدني، والتسريع من وثيرة عمل الهيئات التشاورية والتشاركية المنصوص عليها في الدستور والمحددة في القوانين التنظيمية للجماعات الترابية.

الفقرة الأولى: الأدوار الدستورية الجديدة لتنظيمات المجتمع المدني

حَقَقَ المجتمع  المدني جملة من المكتسبات والتراكمات في مجالات مختلفة ومتنوعة سواء تعلق الامر بالمرافعة أو الشراكة أو التشبيك والاقتراح أيضاً، وهو شريك مهم وقوة اقتراحية لا يمكن تجاوزها في اشكالات عديدة تعيق مسار التنمية بالمغرب. ووعياً من المشرع المغربي بأهمية المجتمع المدني كعنصر حيوي وديناميكي، خوله مكانةً هامةً وخَصَهُ بأدوار ومهام جديدة[21].

وقد خص دستور 2011 تنظيمات المجتمع المدني بأدوار وصلاحيات جديدة ذات الصلة بموضوع السياسات العمومية، فعندما يتعلق الأمر بتقديم العرائض والملتمسات نتحدث عن دور المجتمع المدني في ذلك استناداً الى الفصل (14 و 15) من الدستور. ناهيك عن دور المجتمع المدني في صياغة وتتبع وتنفيذ وتقييم السياسات العمومية انسجاماً مع مقتضيات (الفصل 13)[22]. وفي اطار تعزيز دور المجتمع المدني في تفعيلٍ سليمٍ للديموقراطية التشاركية نص (الفصل 139) على ضرورة وضع مجالس الجهات والجماعات الترابية الاخرى أليات تشاركية للتشاور والحوار لتيسير دور المواطنين والمواطنات والجمعيات من إعداد برامج التنمية وتتبعها. ناهيك عن تركيز الفصل ذاته على حق المواطنين والمواطنات والجمعيات في تقديم عرائض من شأنها مطالبة المجلس بإدراج نقطة تدخل في اختصاصاته ضمن جدول أعماله[23].

الفقرة الثانية: هيئات الديموقراطية التشاركية في الجماعات الترابية

إن تبني التجربة المغربية لفلسفة الهيئات الاستشارية في الجماعات الترابية هو تعبير صريح ينم بإرادة سياسية تبتغي اعادة ترتيب العلاقة بين الدولة والموطنين. ويعبر  إشراك المواطنين والمواطنات في تدبير شؤونهم الحياتية وإدماجهم في سيناريوهات صنع السياسات العمومية خاصة الترابية منها عن التزام وتعاقد جديد مبني على روح التشاور والتشارك في تدبير الشأن العام والمحلي، كما يترجم ارادة سياسية تدبرية تسعى الى تدشين منهاج استراتيجي محوري في بناء المجال الترابي واعادة الاعتبار لهذا المجال الذي يشكل بؤرة صوغ السياسات الترابية.

وقد نص دستور 2011 في الفصل 139 على وضع “مجالس الجهات والجماعات الترابية الأخرى، لأليات تشاركية للحوار والتشاور، لتيسير مساهمة المواطنين والمواطنات والجمعيات في اعداد برامج التنمية وتتبعها”[24].  وهو الأمر الذي نهجته القوانين التنظيمية للجماعات الترابية، فقد نص القانون التنظيمي رقم 111.13 المتعلق بالجهات في الباب الرابع المادة 116 في انسجامٍ تامٍ مع الهندسة الدستورية المتمثلة في مقتضيات الفصل 139، وتنص المادة ذاتها على “اليات تشاركية للحوار والتشاور تحدث بمجالس الجهة لتيسير مساهمة المواطنين والمواطنات والجمعيات في اعداد برامج التنمية وتتبعها طبق الكيفيات المحددة في النظام الداخلي للجهة”[25]. وقد حددت المادة 117 احداث ثلاث هيئات استشارية على مستوى الجهة من قبيل “الهيئة الاستشارية بشراكة مع فعاليات المجتمع المدني تختص بقضايا الجهوية المتعلقة بتفعيل مبادئ المساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع، الهيئة الاستشارية المختصة بدراسة قضايا الشباب، هيئة استشارية بشراكة مع الفاعلين الاقتصاديين بالجهة تهتم بدراسة القضايا الجهوية ذات الطابع الاقتصادي”[26].

وفيما يتعلق بالقانون التنظيمي رقم 112.13 المتعلق بالعمالات والأقاليم فنص بدوره على احداث المجلس الاقليمي لأليات تشاركية للحوار والتشاور تهدف الى تيسير مساهمة المواطنين والمواطنات والجمعيات في اعداد برنامج التنمية وتتبعها طبق الكيفيات المحددة في النظام الداخلي للأقاليم والعمالات.  وقد نص القانون التنظيمي ذاته على احداث هيئة استشارية لدى مجلس العمالة أو الاقليم بشراكة مع فعاليات المجتمع المدني تعنى بدراسة القضايا الاقليمية المتعلقة بتفعيل مبادئ المساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع، ويحدد النظام الداخلي للمجلس تسمية هاته الهيئة وكيفية تأليفها وتسييرها[27].

وفي نفس السياق، انسجم القانون التنظيمي للجماعات رقم 113.14 مع مقتضيات القانونين التنظيمين للجهات والعمالات والأقاليم. فقد نص في الباب الخامس على احداث مجالس الجماعات على اليات تشاورية وتشاركية تهدف الى تيسير مساهمة المواطنين والمواطنات والجمعيات في اعداد برنامج التنمية وتتبعها طبق الكيفيات المحددة في النظام الداخلي للجماعة. وقد حددت المادة 120 أن مجلس الجماعة يحدث هيئة استشارية بشراكة مع فعاليات المجتمع المدني تسمى بهيئة المساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع[28].

إذن يمكن القول في هذا المضمار، أن الهندسة الدستورية مكتملة مع مواد القوانين التنظيمية للجماعات الترابية أسست لتجربة جنينية وفتية في ذات الحال عندما يتعلق الأمر بترسيخ ركائز ثقافة الاستشارة والتشاور والحوار والتواصل في اطار التأهيل المؤسساتي والنموذجي لتدبير مجالي ترابي ناجع وفعال. لكن يبقى السؤال المطروح حول مدى تفعيل هذه الهيئات التشاورية في قضايا ومجالات متنوعة ومتعددة في علاقتها بقطاعات هذه القضايا؟

المطلب الثاني:مسالك تفعيل السياسات العمومية الترابية

أبانت الممارسة السياسية في مجال تفعيل السياسات العمومية عن مجموع اختلالات ونواقض في مجال تنزيل وتفعيل السياسات العمومية الترابية، ويرتبط ذلك أساساً بتعقد المساطر والاجراءات الادارية والقانونية التي فرضتها القوانين التنظيمية للجماعات الترابية والمراسيم التطبيقية المتعلقة بتقديم العرائض والملتمسات من طرف المواطنين والمواطنات وتنظيمات المجتمع المدني، وأيضاً من حيث مشاركة المواطنين والمواطنات والجمعيات في المسلسل التشاوري والحواري والتواصلي الذي تسعى الهيئات الاستشارية على مستوى الجماعات الترابية تحقيقه. ناهيك عن تعدد الفاعلين والمتدخلين في الفعل العمومي الترابي، مما ينتج عنه لا محال خلل في التدبير العمومي الترابي.

الفقرة الأولى: تقديم العرائض

تشوب عملية تقديم العرائض اشكالات عديدة، اذ حددت القوانين التنظيمية للجماعات الترابية  والمراسيم التطبيقية الشروط الشكلية والموضوعية للعريضة ليحظى بالقبول من طرف الجهات المختصة[29]. ولعل من أبرز الاشكالات التي تشوب هذه الألية التشاركية تكمن في الشروط ذاتها التي حددها القانون، والتي تتمثل بالأساس في اشتراط ممارسة موجه العريضة لأنشطة تجارية أو اقتصادية أو مهنية في الجهة ذاتها، وأن يكون مسجل في اللوائح الانتخابية، أن تضم العريضة توقيعات حدد المشرع التنظيمي في 300 توقيع بالنسبة للجهات التي يبلغ عدد سكانها أقل من مليون نسمة، 400 توقيع بالنسبة للجهات التي يتراوح عدد سكانها بين مليون وثلاثة ملايين نسمة، 500 توقيع بالنسبة للجهات التي لا يتجاوز عدد سكانها ثلاثة ملايين نسمة[30]. أما فيما يخص الجمعيات فقد حدد المشرع التنظيمي شروط يجب ان تتضمنها العريضة المقدمة، وفي ذلك حدد أن”تكون الجمعية معترفا بها ومؤسسة بالمغرب طبقا للتشريع  الجاري به العمل لمدة تزيد عن ثلاث سنوات، وتعمل طبقا للمبادئ الديموقراطية ولأنظمتها الأساسية،  أن تكون في وضعية  سليمة إزاء القوانين والأنظمة الجاري بها العمل، أن يكون مقرها وأحد فروعها واقعا بتراب الجهة المعنية بالعريضة،  أن يكون نشاطها مرتبطا بموضوع العريضة”[31].

من جانبه، حدد المشرع في القانون التنظيمي للعمالات والأقاليم مواد تنظيمية تسيير عملية تقديم العرائض. وتنص في هذا الشأن المادة 114 أن العريضة المقدمة من طرف المواطنين والمواطنات يجب أن تستوفي الشروط المتمثلة في “أن يكونوا من ساكنة العمالة أو الاقليم المعني او يمارسوا نشاطاً اقتصاديا او مهنيا أو تجارياً، أن تتوفر فيهم شروط التسجيل في اللوائح الانتخابية، أن تكون لهم مصلحة مشتركة في تقديم العريضة، أن لا يقل عدد الموقعين منهم عن ثلاثمائة مواطن أو مواطنة”[32]. أما شروط تقديم الجمعيات للعريضة فقد اشترط المشرع التنظيمي أن”تكون الجمعية معترفا بها ومؤسسة بالمغرب طبقا للتشريع  الجاري به العمل لمدة تزيد عن ثلاث سنوات، وتعمل طبقا للمبادئ الديموقراطية ولأنظمتها الأساسية،أن يكون عدد منخرطيها يفوق 100، أن تكون في وضعية  سليمة إزاء القوانين والأنظمة الجاري بها العمل، أن يكون مقرها وأحد فروعها واقعا بتراب العمالة أو الإقليم المعني بالعريضة، أن يكون نشاطها مرتبطا بموضوع العريضة”[33].

وفي السياق ذاته، وهذه المرة على مستوى الجماعة فقد أطر المشرع شروط وكيفية تقديم العرائض من طرف المواطنين والمواطنات  وحدد في المادة 121 أن يكونوا المواطنين والمواطنات المقدمين للعريضة  من ساكنة الجماعة المعنية أو يمارسوا بها نشاطا اقتصاديا او تجاريا او مهنيا، أن تتوفر فيهم شروط التسجيل في اللوائح الانتخابية، أن تكون لهم مصلحة مباشرة مشتركة في تقديم العريضة، أن لا يقل عدد الموقعين منهم عن 100 مواطن أو مواطنة فيما يخص الجماعات التي يقل عددها عن 35000 نسمة و200 مواطن أو مواطنة بالنسبة لغيرها من الجماعات، غير أنه يجب أن لا يقل عدد الموقعين عن 400 مواطن أو مواطنة بالنسبة للجماعات ذات نظام المقاطعات[34]. وفيما يتعلق بالجمعيات فقد سطرت شروط تقديم العريضة في “أن تكون الجمعية معترفا بها ومؤسسة بالمغرب طبقا للتشريع  الجاري به العمل لمدة تزيد عن ثلاث سنوات، وتعمل طبقا للمبادئ الديموقراطية ولأنظمتها الأساسية، أن تكون في وضعية  سليمة إزاء القوانين والأنظمة الجاري بها العمل، أن يكون مقرها وأحد فروعها واقعا بتراب الجماعة المعنية بالعريضة،  أن يكون نشاطها مرتبطا بموضوع العريضة”[35].

وهكذا، ومن خلال استقراء مضامين مواد القوانين التنظيمية والمراسيم التطبيقية المتعلقة بشروط وكيفيات تقديم العرائض من طرف المواطنين والمواطنات والجمعيات كحق دستوري من شأنه اشراك المواطنين والمواطنات والجمعيات في تدبير الشأن العام والترابي وفي صياغة  السياسات الترابية وتتبعها وتنفيذها وتقييمها. ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه هل تسطير هذه الشروط ستساهم في التشجيع على تقديم العرائض من طرف المواطنين والمواطنات والجمعيات أم من شأنها تعقيد العملية والحد من مردوديتها التدبيرية.

الفقرة الثانية: الحكامة الترابية كمدخل لتجويد الفعل العمومي الترابي

من المفترض أن تدبير المجال الترابي وبلورة الفعل العمومي الترابي يجب ان يتسم بالانسجام والتكامل في المكونات وكذلك في المتدخلين العمومين. ومن هذا المنطلق، تلعب الحكامة المحلية/الترابية[36] دوراً جوهرياً باعتبارها نمطاً تدبيرياً أو مجموعة أليات وتقنيات تدبيرية، تقوم على عناصر من قبيل توفر كل من “ترسانة قانونية متقدمة وعصرية، موارد بشرية مكونة ومؤهلة، تخطيط استراتيجي استباقي، رؤية مندمجة ومتكاملة، حضور فلسفة الالتقائية في وضع السياسات العمومية الترابية”[37].

وفي هذا الصدد، ساهم الاقرار القانوني والتنظيمي للحكامة الترابية التشاركية في تمكين المنتخبين والأطر المحلية من النصوص والمعلومات والبيانات الضرورية لممارسة صلاحياتهم وتكريس فعال وناجع لمبادئ الحكامة الجيدة في مستواها المحلي/الترابي. وقد حدد الاطار القانوني والتنظيمي للحكامة الترابية تعريفاً دقيقاً للمفهوم باعتبارها مجموعة ممارسات ذات صلة بتدبير الشؤون العمومية الترابية في إطار احترام الحقوق والحاجيات والمتطلبات التي تقدمها الساكنة المحلية وما يقدمهم المجال الترابي الذي يقطنون فيه من خدمات عمومية محلية/ترابية. وفي هذا المقام لابد من ربط الدور المحوري الذي يقدمه التكريس الناجع السليم لعناصر ومبادئ وأليات الحكامة الترابية في بعدها التشاركي[38] مع تحقيق التنمية الترابية المنشودة[39]، مستحضرين بذلك ما لهذا المفهوم من فضائل على تجويد الفعل العمومي الترابي، فجودة الفعل العمومي الترابي من شأنه تجويد القرار الترابي المتخذ، وعقلنة التدابير والاجراءات المتخذة، وترشيد الموارد والامكانات لتحقيق تنزيل سليم وأسلم للسياسات العمومية الترابية، وبذلك تقييم أثرها على الساكنة. ويكون ذلك بقياس أثرنتائج هذه السياسات الترابية على ساكنة الفضاء الترابي الذي استهدفته هذه السياسات العمومية الترابية.

خاتمة:

صفوة القول، تكمن في كون التجربة المغربية مع تدشينها لورش الجهوية الموسعة وتوجهها الى تنزيل وترسيخمسلسل اللامركزية، تبنت  براديغم السياسات العمومية الترابية، وأطرت فلسفته دستورياً وتنظيمياً.فقد جاءت الهندسة الدستورية لسنة 2011 مكملةً بمواد القوانين التنظيمية للجماعات الترابية لتبرز هذا المفهوم، وتُقَدِمَ في ذات الحال فاعلين جدد في مراحل صنع هذه السياسات سواء تعلق الأمر بالصياغة أو التتبع أو التنفيذ أو التقييم. نتحدث عن الأدوار الجديدة التي أنيطت لتنظيمات المجتمع المدني وللمواطنين والمواطنات في إطار تفعيل الديموقراطية التشاركية، من خلال إدماجهم في تدبير شؤونهم الحياتية وانخراطهم في العملية التدبيرية الترابية. وأيضاً اشراكهم في سيناريوهات صنع القرار العمومي الترابي في اطار التشاور والحوار والتواصل بينهم وبين السلطات العمومية على المستوى الترابي. ولعل المدخل السليم والأسلم لتفعيل السياسات العمومية الترابية يكمن في تفعيل ناجع للمقاربة الترابية وتفكير عميق بدور الفضاء الترابي في تشخيص المشكل العمومي، بلورة الحلول المناسبة وتحديد الفعل العمومي الترابي. ناهيك عن تَعَقُل في تطبيق مبادئ الحكامة المحلية/ الترابية وتيسير عملية تقديم العرائض وتقديم الدعم الكبير لمواطنين والمواطنات وتنظيمات المجتمع المدني لتشجيعهم على ممارسة حقهم في وضع، تتبع، تنفيذ وتقييم السياسات العمومية الترابية.

إقرأ أيضاً

التأطير الدستوري لمقتضيات  الوظيفة العمومية على ضوء دستور 2011

التأطير الدستوري لمقتضيات  الوظيفة العمومية على ضوء دستور 2011 الوعبان لرباس  باحث في سلك الدكتوراه …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *