الرقابة السابقة على دستورية القوانين في مملكة البحرين

 

الرقابة السابقة على دستورية القوانين

في مملكة البحرين

 

 

يقصد بالرقابة الدستورية السابقة على القوانين  أن تتم الرقابة على النصوص القانونية قبل إصدارها ودخولها حيز التطبيق، فالرقابة هنا رقابة على “مشروع قانون” بعد إقراره من البرلمان وقبل إصدارها والعمل به، وذلك بهدف التأكد من خلو النصوص القانونية من أية مخالفات دستورية قبل إصدارها وتطبيقها على المواطنين، بدلاً من تطبيق هذه النصوص ثم اكتشاف لاحقًا انطوائها على مخالفات لنصوص الدستور، وما قد يترتب على ذلك من الحكم بعدم دستوريتها وإحداث حالة من “الخلخلة” وعدم الاستقرار القانوني للعلاقات أو للمراكز القانونية التي أنشأتها هذه النصوص منذ بدء تطبيقها وحتى الحكم بعدم دستوريتها.

ويثير البحث في موضوع الرقابة السابقة على دستورية القوانين عدد من التساؤلات حول الجهة المنوط بها مباشرة هذه الرقابة، وهل هي سياسية أم قضائية، وما هي حدود هذه الرقابة وما هي حجية القرارات الصادرة عنها بشأن دستورية أوعدم دستورية قانون ما.

وللإجابة على هذه التساؤلات فإننا سنتناول الرقابة السابقة على دستورية القوانين وذلك من خلال مبحثين نخصص الأول منهما لبحث ماهية الرقابة السابقة على دستورية القوانين( مبحث أول)، أما الثاني فإننا سوف نتناول فيه وضع الرقابة السابقة على دستورية القوانين في مملكة البحرين (مبحث ثاني).

مع استخلاص للنتائج وتقديم بعض التوصيات التي نرى أنها تسهم في تفعيل أدوات الرقابة الدستورية.

لذلك سنتبع خطة البحث على النسق التالي:

 

المبحث الأول: ماهية الرقابة السابقة على دستورية القوانين:

 

يحتل الدستور قمة الهرم القانوني وذلك نظراً للأهمية التي تحتلها الدساتير في الأنظمة القانونية ومن هنا جاء الفقه الدستوري  بالمبدأ  المعروف  بسمو الدستور والذي يعني: “علو الدستور على سائر القواعد القانونية” لذلك فإذا ما تعارضت هذه القواعد  في روحها أو نصوصها مع الدستور كان  النص الدستوري  مرجحاً عليها.

وإذا كان مبدأ المشروعية يلزم الجميع – حكاما ًومحكومين- باحترام أحكام القانون، فإن مبدأ سمو الدستور يلزمهم من باب أولى باحترام أحكام الدستور باعتباره القانون الأسمى في الدولة([1]).

وينتج عن مبدأ سمو الدستور على القوانين العادية أن تلك الأخيرة يجب أن تصدر عن السلطة التشريعية في نطاق القواعد والأحكام التي تتضمنها القوانين الدستورية، ومن ثم لا يجوز للقوانين العادية أن تخالف أحكام القوانين الدستورية، إذ أنها تصبح غير دستورية فيما لو خالفت أحكام الدستور([2]).

 

وتختلف الدساتير في تحديد الهيئة التي تضطلع بمهمة الرقابة على دستورية القوانين. حيث أن منها ما يوكل هذه المهمة إلى هيئة سياسية بينما بعضها الآخر يسند هذه المهمة إلى هيئة قضائية تقوم بالتحقق من تطابق القانون مع أحكام الدستور.

وبناء على ذلك سوف ينقسم  هذه المبحث إلى مطلبين نتناول في الأول المقصود بالرقابة السابقة على دستورية القوانين( مطلب أول) وفي الثاني فسوف نخصصه لتناول أشكال الرقابة السابقة على دستورية القوانين ( مطلب ثان).

 

المطلب الأول: المقصود بالرقابة السابقة على دستورية القوانين:

 

نشأت فكرة الرقابة السابقة لأول مرة في فرنسا عام 1795م حيث تقدم الفقيه الفرنسي “سيس” بفكرة – أثناء التحضير لوضع دستور الجمهورية الثالثة مفادها إنشاء هيئة محلفين دستورية تكون مهمتها التحقق من مطابقة القوانين العادية للدستور، وهذه الهيئة هيئة سياسية، وليست قضائية تتكون من 108 عضواً تختارهم الجمعية التأسيسية لأول مرة، ثم تختار الجمعية أعضاءها بعد ذلك وقد رفض هذا الاقتراح في حينه للخشية من أن تصبح هذه الهيئة سلطة فوق السلطات([3]).

 

في ظل دستور 1958م -وهو المعمول به حالياً في فرنسا- أنشئ المجلس الدستوري الذي يباشر رقابة جدية على دستورية القوانين وهي رقابة سابقة ولكنها رقابة سياسية، والمجلس الدستوري الذي أنشئ بموجب دستور 1958 لحماية الدستور يتشكل من تسعة أعضاء تستمر عضويتهم لمدة تسع سنوات غير قابلة للتجديد، ويتجدد ثلث أعضائه كل ثلاث سنوات، ويعين منهم رئيس الجمهورية ثلاثة ورئيس الجمعية الوطنية ثلاثة، ورئيس مجلس الجمهورية ثلاثة، علاوة على أعضاء بحكم القانون مدى الحياة، وهم رؤساء الجمهورية السابقون، ويعين رئيس الجمهورية رئيس المجلس الذي يكون له صوت مرجح عند تساوي الأصوات.

 

وإذا كان هذا هو السياق التاريخي لفكرة الرقابة السابقة فإننا سوف نتناول في هذا المطلب تعريف الرقابة السابقة على دستورية القوانين ( فرع أول) ثم نتناول بحث خصائص الرقابة السابقة على دستورية القوانين (فرع ثان).

 

 

الفرع الأول: تعريف الرقابة السابقة على دستورية القوانين:

هي رقابة وقائية وسابقة على إصدار القانون, تتم ممارستها من قبل هيئة سياسية خاصة أنشأها الدستور([4]).

فهي سياسية لأنها تعهد عملية الرقابة على دستورية القوانين إلى هيئة سياسية حددها الدستور غير البرلمان أو الحكومة أو القضاء.

وهي وقائية:  لأنها تهدف إلى الحيلولة دون إصدار القوانين غير الدستورية, أو بمعنى أخر, اتقاء عدم دستورية القوانين قبل وقوعها، لان هذه الرقابة تمارس على القوانين المزمع إصدارها, أي على القوانين التي تم إقرارها من قبل البرلمان ولم يتم بعد إصدارها من قبل رئيس الدولة أو الملك.

ونرى بأن اشتراط تولى هيئة سياسية للرقابة السابقة إنما كان في إطار زمني مع نشوء فكرة الرقابة السابقة في فرنسا، حيث أن الدساتير المعاصرة في بعض الدول تضمنت النص على عرض الأمر على المحكمة الدستورية العليا، ومنها مملكة البحرين في الدستور الحالي 2002م والدستور المغربي 2011م.

وهذا لا يعني بالطبع حداثة نشأة الرقابة القضائية السابقة على دستورية القوانين، بل أن الرقابة القضائية السابقة على إصدار الدستور بدأت في العام 1973م، في الدستور الايرلندي الذي أعطى لرئيس الدولة وخلال سبعة أيام من تاريخ تقديم القانون إليه وبعد استشارة مجلس الدولة الحق في إحالة أي قانون إلى المحكمة العليا لفحص دستوريته، وعلى المحكمة العليا أن تصدر حكمها خلال مدة لا تتجاوز الستين يوماً من تاريخ إحالة القانون إليها، فإذا حكمت بعدم دستورية القانون امتنع رئيس الدولة عن إصداره وعاد كأن لم يكن، أما إذا حكمت بدستوريته وجب على رئيس الدولة إصداره([5]).

لذا فانا نعرف الرقابة السابقة على دستورية القوانين بأنها:” رقابة سابقة ووقائية على دستورية القوانين تتولاها جهة سياسية أو قضائية بحسب نص الدستور”.

 

الفرع الثاني: خصائص الرقابة السابقة على دستورية القوانين:

للرقابة السابقة على دستورية القوانين سمات وخصائص لازمة لها تتمثل في([6]):

 

أولاً: الرقابة السابقة تتم قبل إصدار القانون:-

فهي دائماً تسبق إصداره وتكون في الغالب الأعم في مرحلة ما بين سن القانون وإصداره، والذي يعتبره البعض مرحلة من مراحل التشريع، بينما يعتبره آخرون عمل خارج عن طبيعة التشريع، على اعتبار أنه إجراء يقوم به رئيس الدولة يعطي الشرعية والنفاذ لقانون مكتمل، إذ أن البعض يؤكد أن الرقابة السابقة محلها “القانون” وليس “مشروع القانون” على اعتبار أن المشروع بعد اكتماله وقبل إصداره يسمى “قانوناً” وفي هذا ما يميزها عن الرقابة اللاحقة التي تمارس على “قانون” صدر ونشر ونفذ.

 

ثانياً: الرقابة السابقة رقابة مجردة:-

ومعنى مجردة أنها مجردة عن الواقع، وعن أية تطبيقات واقعية أو قضائية، فهي رقابة تتم خارج نطاق أية خصومة دستورية أو موضوعية. وبالتالي لا يلزم عند مباشرة هذا النوع من الرقابة اتخاذ أي إجراء من إجراءات الخصومة أو المواجهة.

والرقابة هنا تتم على نصوص جامدة، لم يتم تفسيرها قضائياً، في حين أن الرقابة اللاحقة تتم دائماً في إطار خصومة دستورية، أو ربطاً بين خصومتين موضوعية ودستورية، يتم من خلالها التعرض للقانون وتفسيره تفسيراً قضائياً ومن منظور عملي، فهي تقيم تعايشاً بين كل من المحكمة الدستورية ومحكمة الموضوع في ضوء التطبيق القضائي للقانون محل الرقابة.

ثالثاً: الرقابة السابقة محلها مشروعات القوانين والمعاهدات الدولية:-

الرقابة السابقة على دستورية القوانين ينحصر محلها في مشروعات القوانين دون غيرها من القواعد القانونية الأخرى مما لا يسمح لها بالتحقق من شرعية مختلف أعمال الدولة وإن كانت بعض الدول تتيح الرقابة السابقة على دستورية المعاهدات الدولية والتي تتم بعد موافقة البرلمان عليها وقبل التصديق عليها من جانب رئيس الدولة استناداً إلى أن العلاقات الدولية سوف تتأثر إذا ما تعرض القاضي الدستوري للمعاهدة بإبطالها، أو إبطال أحد نصوصها ، الأمر الذي قد يثير المسئولية الدولية في مواجهة الدولة، فإن ذلك ليس كاف لحماية الشرعية الدستورية، في حين أن الرقابة اللاحقة يمكن أن تمتد إلى مختلف أعمال الدولة من تشريعات ولوائح وقرارات وأنظمة ومعاهدات، بل إن بعض الدول تمد نطاق الرقابة اللاحقة إلى الأحكام القضائية، إذا ما انتهكت الحقوق الأساسية للأفراد كما هو الحال في ألمانيا وأسبانيا والبرتغال والمجر والتشيك وسلوفاكيا وبولندا.

 

رابعاً: الرقابة السابقة تمارس في نطاق زمني ضيق:-

الرقابة السابقة سواء أكانت سياسية أو قضائية تباشرها الهيئة المنوطة بها خلال أمد زمني ضيق، بل قد يكون في بعض الأحيان ضيقاً جداً، فوقتها دائماً هو في الفترة ما بين السن والإصدار، والتجارب السابقة للرقابة السابقة كانت منح الهيئة أو اللجنة أو المجلس المختص بإجراء الرقابة مهلة تتراوح بين خمسة أيام وعشرة أيام وأقصاها مدة 30 يوماً وهي مدة أقلها وأكثرها لا تكفي إطلاقاً لبحث الموضوع المطلوب منها ومسألة الدستورية مسألة خطرة لا يصح أن يهون أمرها إلى هذا الحد.

 

 

المطلب الثاني: أشكال الرقابة السابقة على دستورية القوانين:

 

تعد الرقابة على دستورية القوانين من أنجح الوسائل التي ابتكرها العلم الدستوري لحماية سيادة القوانين، وعلى الرغم من اتفاق الفقهاء على وجوب إيجاد الرقابة على القوانين لضمان دستوريتها، الا أنهم اختلفوا في الهيئة التي يجب أن تمارس هذه الرقابة فبينما نجد أن البعض ذهب إلى إعطاء الهيئة السياسية تلك المهمة نجد أن البعض الآخر أعطى تلك المهمة لهيئة قضائية

بناء على ذلك  فسوف نتناول في هذا المطلب أسلوب الرقابة بواسطة هيئة سياسية ( فرع أول) ثم نتناول أسلوب الرقابة بواسطة هيئة قضائية (فرع ثان).

 

الفرع الأول: أسلوب الرقابة بواسطة هيئة سياسية:

الرقابة السياسية هي رقابة وقائية تسبق صدور القانون ومن ثم تحول دون صدوره إذا خالف نصا في الدستور وتقوم بها لجنة سياسية يتم اختيار أعضائها بواسطة السلطة التشريعية أو بالاشتراك مع السلطة التنفيذية، فالرقابة تمارس على مشروعات القوانين.

وتختلف الدساتير في تشكيل هذه الهيئة وذلك حسب ما يأتي به الدستور من تنظيم لذلك فقد يتم تشكيل هذه الهيئة بالتعين من جانب البرلمان أو من جانب السلطة التنفيذية، واما بطريق الانتخاب.ويعتبر النموذج البارز للرقابة السياسية هو النموذج الفرنسي، حيث ان فرنسا أخذت بالرقابة السياسية في دساتيرها([7]).

ولكن هناك دولا عربية تبنت فكرة الرقابة السياسية ومنها دول المغرب العربي، فالدستور المغربي 1996 أسند مهمة الرقابة على دستورية القوانين لمجلس دستوري، والدستور الجزائري 1996م تضمن النص  أيضا على ايجاد مجلس دستوري، والدستور التونسي 2014م نص على انشاء هيئة مراقبة دستورية القوانين  تتولى النظر في مشاريع القوانين التي يعرضها على رئيس الجمهورية من حيث مطابقتها للدستور([8]).

 

الفرع الثاني: أسلوب الرقابة بواسطة هيئة قضائية:

الرقابة  القضائية  يقصد بها: أن يتولى القضاء فحص دستورية القوانين الصادرة عن البرلمان للتحقق من مطابقتها أو مخالفتها لقواعد الدستور([9]).

وتعتبر الرقابة القضائية بمثابة رقابة قانونية يقوم بها القاضي في مهمته القانونية المتمثلة في التحقق من تطابق القانون مع أحكام الدستور والتعرف على ما إذا كان البرلمان المنوط به التشريع قد التزم الحدود التي رسمها له الدستور أو جاوزها وخرج عن نطاقها([10]).

 

 

المبحث الثاني: الرقابة السابقة على دستورية القوانين في مملكة البحرين:

تناولنا في المبحث السابق التعريف بالرقابة السابقة على دستورية القوانين وخصائصها المميزة لها عن غيرها من أساليب الرقابة، ونتناول في هذا المبحث الرقابة السابقة على دستورية القوانين في مملكة البحرين، والذي سوف نقسمه إلى مطلبين نتناول في الأول الجهة المنوط بها أعمال الرقابة السابقة على دستورية القوانين (مطلب أول) وفي الثاني فسوف نخصصه لتناول طبيعة الرقابة السابقة للمحكمة الدستورية العليا وحجية قراراتها(مطلب ثان).

 

المطلب الأول: الجهة المنوط بها إعمال الرقابة السابقة على دستورية القوانين:

 

أورد الدستور البحريني في المادة (106) من النص على أن: ” للملك أن يحيل إلى المحكمة ما يراه من مشروعات القوانين قبل إصدارها لتقرير مدى مطابقتها للدستور”

وتشكّل هذه المادة الأساس الدستوري للرقابة السابقة التي تنصرف إلى مشروعات القوانين – دون اللوائح – التي يملك الملك صلاحية إحالتها إلى المحكمة الدستورية للبت في مدى دستوريتها.

وعلى ذلك فإن مملكة البحرين تأخذ بأسلوب الرقابة القضائية لا السياسية في تقرير مدى دستورية مشروعات القوانين.

بناء على ذلك فسوف نتناول في هذا المطلب المحكمة الدستورية العليا في مملكة البحرين( فرع أول) ثم حدود اختصاص المحكمة الدستورية العليا في إعمال الرقابة السابقة (فرع ثان).

 

الفرع الأول: المحكمة الدستورية العليا في مملكة البحرين:

 

أنشأت المحكمة الدستورية في مملكة البحرين بموجب القانون رقم 27 لسنة 2002م، والذي تضمن القواعد والإجراءات المنظمة لعمل المحكمة، حيث نصت المادة (107) على أن:” تنشأ محكمة دستورية، من رئيس وستة أعضاء يعينون بأمر ملكي لمدة يحددها القانون وتختص بمراقبة دستورية القوانين واللوائح…”

وقد حدد الدستور المعَدّل لمملكة البحرين الصادر في 14 فبراير 2002، اختصاص المحكمة الدستورية في المادة (106) التي جاء فيها:” تنشأ محكمة دستورية… وتختص بمراقبة دستورية القوانين واللوائح”.

كما نصّ قانون إنشاء المحكمة الدستورية الصادر بالمرسوم بقانون رقم (27) لسنة 2002 في المادة (16) على أن ” تختص المحكمة الدستورية دون غيرها بالفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين واللوائح”.

ومَناط هذين النصّيْن أن اختصاص المحكمة يتمثل في أعمال الرقابة على دستورية القوانين واللوائح أي أن رقابتها تنصرف إلى السلطة التشريعية من حيث التحقق من التزامها في سن القوانين بالحدود الواردة بالدستور، كما يشمل اختصاصها أيضا أعمال الرقابة على السلطة التنفيذية عند وضعها للوائح والبت في مدى التزامها بالضوابط الدستورية بهذا الشأن.

 

الفرع الثاني: حدود اختصاص المحكمة الدستورية العليا في إعمال الرقابة السابقة:

حددت المحكمة الدستورية في مملكة البحرين اختصاصها فيما يتعلق بالرقابة السابقة على مشروعات القوانين في احدى قراراتها والتي ورد فيها ([11]):

“أن الرقابة التي تباشرها المحكمة وعلى ما جرى عليه قضاؤها أن تحدد للنصوص القانونية المطعون فيها أو المطلوب تقرير مدى مطابقتها للدستور، مضامينها ومراميها قبل أن تقابلها بأحكام الدستور تحرياً لتطابقها معها أو خروجها عليها، فلا يكون تحديدها لنطاق النصوص القانونية المخالفة للدستور سواء في معناها أو مغزاها إلا عملا ًمبدئياً سابقاً على خوضها في منازعتها، ومن ثم ينحسر عن اختصاص المحكمة بالرقابة السابقة على النص المعروض ما يلي:

  1. مراجعة الصياغة القانونية للمشروع.
  2. النظر في أي تناقض بين نصوص المشروع بعضها ببعض أو تعارضها من أية نصوص قانونية أخرى.
  3. تقرير مدى ملائمة بعض الأحكام التي حواها المشروع باعتبار أن ذلك أمر يدخل في نطاق السلطة التقديرية للمشرع.

المطلب الثاني: طبيعة الرقابة السابقة للمحكمة الدستورية العليا وحجية قراراتها:

والسؤال الذي يتبادل للذهن هل تعد الإحالة الملكية لمشروعات القوانين تحصيناً لها بحيث يمتنع ابتداءً الطعن على أي نص ورد بها بعدم الدستورية؟

أم أنه يمكن الطعن بعدم دستورية نص أو مشروع قانون سبق أن أبدت المحكمة الدستورية رأيها بدستورية القانون الذي تضمنه؟

إن الإجابة على هذا التساؤل تقتضي ابتداء تعريف المقصود بالرقابة على دستورية القوانين، وبحث طبيعة القرار الصادر عن المحكمة الدستورية، وما هى حجية القرار الصادر عن المحكمة الدستورية بدستورية أو عدم دستورية نص قانوني أو مشروع القانون المعروض عليها؟

بناء على ذلك فسوف نتناول في هذا المطلب طبيعة الرقابة السابقة على دستورية القوانين ( فرع أول) ومدى حجة القرار الصادر عن المحكمة الدستورية في مشروعات القوانين (فرع ثان) ثم تقيم مبدأ الرقابة القضائية السابقة على مشروعات القوانين (فرع ثالث).

 

الفرع الأول: طبيعة الرقابة السابقة على دستورية القوانين:

ان الطبيعة القانونية للقرار الصادر عن المحكمة الدستورية بشأن مشروعات القوانين ذات طبيعة عينية، بمعنى ان الخصومة فيها توجه إلى النصوص الطعينة سواء انتهى التقرير إلى مطابقة مشروع القانون المطعون فيه للدستور بحيث يمتنع على الكافة إعادة الطعن عليه لسابقة الفصل في مدى دستوريته، أو انتهى إلى تقرير عدم دستوريته بحيث يمتنع على الملك إصداره  قبل أن يزيل البرلمان أوجه عدم الدستورية العالقة به على ضوء تقرير المحكمة الدستورية ([12]):

 

فالتقرير الصادر عن المحكمة الدستورية في حالات الرقابة السابقة على مشروعات القوانين ملزم لسلطات الدولة وللكافة ومن ثم يحوز حجية مطلقة، وهو ما أكدت عليه المادة (31) من قانون المحكمة الدستورية بنصها على أن:”  أحكام المحكمة الدستورية وقراراتها الصادرة في المسائل الدستورية تكون ملزمة لجميع سلطات الدولة وللكافة. ويكون للحكم الصادر بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة في جميع الأحوال أثر مباشر ويمتنع تطبيق النص المقضي بعدم دستوريته من اليوم التالي لنشر الحكم ما لم تحدد المحكمة تاريخا لاحقا لذلك. فإذا كان الحكم بعدم الدستورية متعلقا بنص جنائي، تعتبر الأحكام التي صدرت بالإدانة استنادا إلى ذلك النص كأن لم تكن. ويقوم الأمين العام بتبليغ المدعي العام بالحكم فور النطق به لتنفيذ ما يقتضيه “.

 

وهو ما أكدته المذكرة التفسيرية للدستور من أن:”الطعن بعدم دستورية قانون لا يمنع من تطبيقه إلى أن تقضي المحكمة بعدم دستوريته، مما يؤدي إلى أن يستمر نفاذ القانون المخالف للدستور فترة تطول أو تقصر….”.

 

فقد خول نص المادة (106) الحق للملك في أن يحيل إلى المحكمة ما يراه من مشروعات القوانين التي يوافق عليها مجلسا الشورى والنواب، قبل أن يصدرها، لتقرير مدى مطابقتها للدستور، بحيث إذا رأت المحكمة أن القانون غير مطابق للدستور امتنع على الملك إصداره. ولا تنفي هذه الموافقة حق الملك في رد القانون إلى المجلسين لإعادة النظر فيه لأسباب أخرى يقدرها لا تتعلق بمطابقته للدستور أو عدم مطابقته له.

 

الفرع الثاني: حجة القرار الصادر عن المحكمة الدستورية في مشروعات القوانين:

أن قرار المحكمة الدستورية بشأن مدى دستورية مشروعات القوانين التي تُحال إليها من الملك قبل إصدارها تحوز الحجية المطلقة في مواجهة الكافة إعمالاً لنص الفقرة الأخيرة من نص المادة (106) من الدستور، والمادة (30) من قانون المحكمة الدستورية التي تنص على أن:” أحكام المحكمة وقراراتها نهائية وغير قابلة للطعن ” وكذلك الفقرة الأولى من المادة (31) من القانون نفسه التي أوردت النص على أن ” أحكام المحكمة وقراراتها الصادرة في المسائل الدستورية تكون ملزمة لجميع سلطات الدولة وللكافة…”

وبالتالي فإن صدور قرار المحكمة الدستورية العليا بدستورية مشروع قانون يمنع ابتداءً الطعن عليه بعد تصديقه وإصداره كقانون لسابقة الفصل فيه.

 

الفرع الثالث:  تقيم مبدأ الرقابة القضائية السابقة على مشروعات القوانين:

مما لا شك فيه أن مبدأ الرقابة القضائية السابقة يحقق العديد من المزايا لعل أهمها استقرار المراكز القانونية التي تنشئها القوانين، وترسيخ مبدأ المشروعية، وتفادي العديد من مثالب الرقابة اللاحقة التي قد تهدد المراكز القانونية التي استقرت خلال الفترة ما بين إصدار القانون والقضاء بعدم دستوريته.

كما أنها تخرج العديد من القوانين والتشريعات من نطاق الرقابة اللاحقة للمحكمة الدستورية كالتشريعات المالية التي يغلب عليها الطبيعة الإدارية التي تتوجه بخطابها للسلطة العامة ولا يطبقها القضاء في نزاع بين الخصوم، وكذلك المعاهدات الدولية التي يجد القاضي حرجاً في القضاء بعدم دستوريتها بعد دخولها في التطبيق والتزام الدولة بأحكامها، بالرغم من كونها قد تخالف دستور الدولة.

إلا أن حجية القرار الصادر عن المحكمة الدستورية بدستورية مشروع قانون وكونه قراراً ملزم لجميع سلطات الدولة وللكافة، يثير بعض الإشكاليات فيما لو تبين من خلال التطبيق العملي للقانون المقضي بدستوريته أنه مخالف للقواعد الأساسية للمجتمع.

إضافة إلى أنه يمس مبدأ الفصل بين السلطات التشريعية والقضائية حيث تكون للسلطة القضائية من خلال الرقابة السابقة على دستورية مشروع قانون رقابة على السلطة التشريعية.

ألا يحوز القرار الصادر عن المحكمة الدستورية بدستورية مشروع قانون الحجية المطلقة ويجوز لكل ذي مصلحة الطعن بعدم الدستورية في نصوص القانون التي لم يشملها التقرير أو شملها التقرير ولم تبحث أو تناقش مناقشة فعلية تؤكد مطابقة القانون للدستور، أي أن المناقشة الإجمالية للقانون من قبل المحكمة الدستورية لا تمنع الطعن بعدم الدستورية إذا كان هناك مقتضى.

 

لذا فإنني أرى الأتي:

أولا:ً أن تقتصر الإحالة الملكية للمحكمة الدستورية على المعاهدات الدولية والتشريعات المالية التي يغلب عليها الطبيعة الإدارية التي تتوجه بخطابها للسلطة العامة ولا يطبقها القضاء في نزاع بين الخصوم.

ثانياً:  تعديل نص المادة (31) من قانون المحكمة الدستورية العليا فيما يتعلق بحجية القرارات الصادرة بشأن مشروعات القوانين بالنص على استثناء القرارات الصادرة في مشروعات القوانين من نطاق الحجية الملزمة لعدم إغلاق الباب أمام الطعن عليها أمام المحكمة الدستورية إذا ما أفرزت الممارسات القانونية لتعارض مشروع القانون أو نص فيه للقواعد الأساسية للمجتمع.

ثالثاً:  تفعيل آليات الرقابة السابقة على القوانين كاللجان التشريعية بمجلس النواب، وهيئة التشريع والإفتاء القانوني، إضافة إلى حق الملك الدستوري في الاعتراض على مشروعات القوانين قبل إصدارها وإعادتها للمجلس لإعادة النظر([13]).

 

 

([1]) د. عبد الحميد متولى، القانون الدستوري والأنظمة السياسية، الجزء الأول، جامعة الإسكندرية، 1964م، ص9.

([2])  د. عبد الغني بسيوني عبد الله، القانون الدستوري، جامعة الإسكندرية وبيروت العربية، 1987م، ص186

 

([3])  د. عبد العزيز محمد سلمان، رقابة دستورية القوانين “دراسة مقارنة” ، رسالة دكتوراه كلية الحقوق، جامعة عين شمس، مصر، 1994م، ص191 وما بعدها.

([4])  د. منذر الشاوي، نظرية الدستور, منشورات مركز البحوث القانونية، العدد الرابع، بغداد، 1981م, ص9.

([5])  د. عمر العبدالله، الرقابة على دستورية القوانين”دراسة مقارنة” مجلة جامعة دمشق، المجلد السابع عشر، العدد الثاني، دمشق، 2001، ص20.

([6])  د. عبد العزيز محمد سلمان، الرقابة السابقة في الدستور الجديد، مجلة الدستورية، العدد الثالث والعشرون، مصر،2012م منشور على الموقع الإلكتروني للمحكمة الدستورية العليا: http://hccourt.gov.eg

([7])  د. عبدالعزيز محمد سلمان، رقابة دستورية القوانين،  الطبعة الأولى،  1995م، ص 69.

([8])  د. رمزي الشاعر، القضاء الدستوري في مملكة البحرين، دراسة مقارنه، مملكة البحرين 2003م، ص20.

([9])  د. محمد رفعت عبدالوهاب، و د. ابراهيم عبدالعزيز شيحا، النظم السياسية  والقانون  الدستوري، دار المطبوعات الجامعية، الاسكندرية، 1998م، ص522

([10])  د. سعيد بوشعير، القانون الدستوري والنظم السياسية المقارنة، الجزء الأول، النظرية العامة للدولة والدستور، ديوان المطبوعات الجامعية، 1992م، ص201.

 

([11])  يراجع قرار المحكمة الدستورية العليا في البحرين رقم (إ.ج.م/1/09) لسنة (7) الصادر بتاريخ 25/07/2009م.

([12])  يراجع المذكرة التفسيرية للدستور المعَدّل لسنة 2002 م.

([13])  المادة (35/ج) من دستور مملكة البحرين

إقرأ أيضاً

العمل لأجل المنفعة العامة للأحداث وفقا لمسودة مشروع القانون الجنائي ومشروع قانون المسطرة الجنائية

العمل لأجل المنفعة العامة للأحداث وفقا لمسودة مشروع القانون الجنائي ومشروع قانون المسطرة الجنائية Work …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *