دور السياسات العامة في تحقيق دولة الرفاه

دور السياسات العامة في تحقيق دولة الرفاه

The role of public policies in achieving the welfare state

جاسم محمد السويدي JASIM MOHAMMAD ALSUWAIDI

كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية –السويسي-

جامعة محمد الخامس –الرباط-

الإمارات العربية المتحدة

ملخص:

لا شك أن الحديث عن السياسات العامة سيجرنا إلى الحديث عن دورها البارز في تغيير المجتمع، خاصة في تحقيق دولة الرفاه، السياسة الجديدة التي باتت تبعها الدول المتقدمة بغية إخراج شعوبها من حالة الفوضى إلى تحقيق التنمية والازدهار.

تهدف هذه الورقة إلى البحث في السياسات العامة باعتبارها وسيلة لتحقيق دولة الرفاه، من خلال مجموعة من الإجراءات التي تساهم في تنمية الإنسان على جميع المستويات، خاصة ما يتعلق بتنمية الإنسان وتحسين وضعه الاجتماعي عن طريق السياسات العامة للدول.

الكلمات المفاتيح: السياسات العامة- دولة الرفاه- التنمية

Abstract :

Undoubtedly, talking about public policies will lead us to talk about their prominent role in changing society, especially in achieving the welfare state, the new policy that developed countries have followed in order to get their people out of chaos to achieve development and prosperity.

This paper aims to research public policies as a means to achieve a welfare state, through a set of measures that contribute to human development at all levels, especially with regard to human development and improving social status through state public policies

.Keywords: public policies, welfare state, development

تقديم:

كثيرا ما كانت السياسات العامة فاعلا أساسيا في تغيير المجتمع، عبر ما تقدمه من خدمات للمجتمع ولأفراد الأسرة، وذلك عن طريق محاربة الفقر مثلا الذي غالبا ما يكون نتيجة لسوء التنظيم في مجتمعاتنا وعدم تطبيق مبدأ العدالة الاجتماعية، مثلما يكون نتيجة لثقافة الفقر، التي تهيمن وتسود في معظم المجتمعات العربية.

إن تقبل الوضع القائم بالنسبة لبناء المجتمع وما ينشأ عنه بالضرورة من مظاهر عدم المساواة وغياب العدالة الاجتماعية ثم غياب حماية حقوق الأفراد، يأتي هذا القبول من خلال الاعتقاد بأن البناء القائم مرغوب فيه. كما أن المشكلات الاجتماعية هي عيوب في الناس أنفسهم غير الراغبين في التوافق مع معايير المجتمع، كما تنسب إلى بعض العيوب البسيطة في تنظيم المجتمع. أما حل هذه المشكلات، فإنه يرتكز أساسا على كل ما من شأنه أن يجعل الناس أكثر قدرة أو أكثر رغبة في الالتزام بالمعايير السائدة في المجتمع؛ فيما يشير الاتجاه الثاني، فإنه لا يقبل بالوضع القائم لبناء المجتمع وبالتالي فالمشكلات الاجتماعية والأسرية، هي عيوب في النظام السياسي وفي بناء المجتمع ثم يبقى الحل الوحيد هو تغيير هذا البناء وتغيير النظم السياسية القائمة.

تهدف هذه الورقة العلمية إلى البحث في السياسات العامة باعتبارها وسيلة لتحقيق دولة الرفاه من خلال مجموعة من الإجراءات التي تساهم في تنمية الإنسان على جميع المستويات.

  • فما المقصود بدولة الرفاه؟
  • وإلى أي حد ارتبط هذا المفهوم بالمجال الاقتصادي؟
  • وكيف تساهم السياسات العامة للدول في تحسين ظروف عيش الأفراد داخل المجتمع؟
  • تحديد المفهوم:

من المعلوم جدا أن مفهوم الرفاهية يتم تناوله ضمن أدبيات العلوم الاقتصادية والسياسية والقانونية والسوسيولوجية، لقد أخذ هذا المفهوم أبعادا عديدة حسب الحقول العلمية. مثلما تميل يختلف تناول هذا المفهوم من علم لآخر، فمثلا العلوم الاقتصادية تتناولها من منظور الإنتاج وزيادته مما يسهل زيادة العرض وبالتالي إلى انخفاض الأسعار وزيادة درجات الإشباع إيجابا عن طريق الاستهلاك. أما القانون فيتناوله بكونه حق من حقوق الإنسان في التمتع بالرفاهية وإشباع حاجات الإنسان المتعددة. فيما تذهب العلوم الاجتماعية إلى تناول هذا المفهوم من منطلق حق الفرد في الرفاهية وانه يعمل ويكد كي يحصل على كفايته من إشباع الرغبات، كل هذه المفاهيم تصب في مفهوم موحد إلا وهو الرفاهية حق من حقوق الفرد الأساسية بالتمتع بإشباع حاجاته الإنسانية المتعددة.

* الرفاهية اقتصاديا : يعني اقتصاد الرفاهية بالنتائج الاجتماعية التي يمكن قياسها موضوعيا وتناولها في النظرية الاقتصادية، فالدخل القومي, أي تدفق السلع والخدمات يقترن اقترانا مباشرا بالرفاهية وكلما ازداد الدخل القومي وازدادت المساواة في توزيعه عظمت رفاهية المجتمع الاقتصادية, كما يعني اقتصاد الرفاهية بدراسة وتقييم الكفاءة الاقتصادية والنظم المتعلقة في توزيع الموارد بما يؤدي إلى تحقيق أكبر قدر من المنفعة الاجتماعية وتوفير الظروف التي يمكن عن طريقها تقوم السياسات الاقتصادية في تحقيق الرفاهية للمجتمع وتستدعي هذه السياسات التدخل لتشجيع المشروعات المنتجة وعدالة التوزيع عن طريق الضرائب ما يزيد من الإنتاج ومن إشباع الحاجات.

* دولة الرفاهية: دولة الرفاهية هي ما يفترضه المجتمع في الدولة التي تتحمل مسؤولية رسمية وواضحة نحو تحقيق الرفاهية الأساسية لمواطنيها، وتوفير الخدمات الاجتماعية المتنوعة حتى يتسنى زيادة الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع ويظهر مثل هذه الحالة إذا أصبح المجتمع أو الذين يتولون أمورهم مقتنعين بأن رفاهية الفرد بجانب حفظ النظام والأمن القومي من الأهمية بمكان، حتى أنه لا يمكن تركها للتقاليد أو التنظيمات غير الرسمية والمشروعات الخاصة، بل هي مسؤولية الحكومة. وينطلق التزام دولة الرفاهية بتحقيق الرفاهية الأساسية لأعضاء المجتمع من قناعة الدولة أو الشعب بالحقيقة التي تؤكد على الدور الهام لرفاهية الفرد في حفظ النظام والأمن القومي.

ويقابل دولة الرفاهية التي تقوم بأداء الخدمات التي يتطلبها المجتمع الدولة الحارسة (Gendarme State ) وهي التي تقتصر وظيفتها على وضع القواعد لصيانة النظام في المجتمع.[1] هناك تعريف آخر يطلق على دولة الرفاهية اسم الدولة الرعوية وهي: ” إن الدولة الرعوية هي هيئة تسلطية تدعي الحق في إخضاع الفرد وحقوقه إخضاعا كاملا لمصلحتها, وتزعم بأنها المقاول أو رب العمل الرئيسي ومزود المجتمع بالخدمات التي يحتاجها في آن, وبكلمات أخرى, فإن الدولة الرعوية تستحوذ على مهمات اقتصادية شاملة وتسهر على مصلحة المواطنين بتزويدهم بالخدمات الأساسية كالصحية منها والتربوية والإسكانية[2].

ويعرف البعض دولة الرفاهية كالآتي: ” مصطلح يشير إلى قيام الدولة بتقديم… خدمات وتأمينات اجتماعية ومعونات إلى أفراد المجتمع بما يحقق ارتفاع مستوى المعيشة أو ضمان حد أدنى لها. وينطلق هذا المفهوم من: حق كل إنسان في الحياة الكريمة، ومن نظرة اجتماعية وإنسانية قوامها وجود رابطة قوية بين رفاهية ( طيب العيش ) الأفراد ورفاهية المجتمع, وتشمل الخدمات والتأمينات في دولة الرفاهية .. التعليم، الصحة، ومستوى من الدخل وتوفير العمل والتأمين ضد العجز والشيخوخة على سبيل المثال لا الحصر ولا تعتبر دولة الرفاهية اشتراكية بالضرورة على الرغم من وجود سمات مشتركة[3]. فالتعريف المتقدم يصف دولة الرفاهية بالدولة التي تقدم إلى أفراد المجتمع خدمات وتأمينات ومعونات، وذلك إما لتحقيق ارتفاع مستوى المعيشة أو لضمان حد أدنى للمعيشة وينطلق التزام دولة الرفاهية بتقديم تلك الخدمات والتأمينات والمعونات من حق كل إنسان في الحياة الكريمة، ومن نظرة اجتماعية وإنسانية تقوم على أساس وجود علاقة قوية بين رفاهية الأفراد والمجتمع. كما يذكر التعريف بعض الأمثلة لتلك الخدمات والتأمينات والمعونات مما يؤكد على اختلاف كم ونوع ومجال الخدمات والتأمينات والمعونات من دولة رفاه معينة إلى دولة رفاه أخرى، وينبه التعريف إلى أن دولة الرفاهية لا تعتبر اشتراكية بالضرورة على الرغم من وجود بعض السمات المشتركة بين الدولة الاشتراكية ودولة الرفاهية والتي تكاد تتلخص في أصل التزام الدولتين بتقديم الخدمات والتأمينات والمعونات المذكورة لكن من منطلقات وتفسيرات متباينة وتمويلات مختلفة لتلك الخدمات والمعونات ونظام اقتصادي مختلف.

هناك من يربط بين دولة الرفاه من جهة والاشتراكية أو الديمقراطية الاجتماعية أو اليسار أو اليسار الوسط أو اليسار الجديد أو الوسط أو الطريق الثالث آو الرأسمالية الخيرة أو الليبرالية أو النيوليبرالية اليسارية أو زيادة الضرائب أو حزب العمال في المملكة المتحدة أو الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة الأمريكية من جهة ثانية, ويقابله من يربط بين الدولة الحارسة من جهة والرأسمالية أو اليمين أو  النيوليبرالية اليمينية أو المحافظين الجدد أو تخفيض الضرائب أو الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة الأمريكية أو حزب المحافظين في المملكة المتحدة من جهة ثانية. يبدو أن ذلك الربط على إطلاقه ليس بصحيح كما هو واضح من المصادر المذكورة إضافة إلى انه لا توجد دولة رفاهية مطلقة كما لا توجد دولة حارسة بالشكل المطلق للدولة الحارسة [4]

إن من الضروري وضع مفهوم لمصطلح ” دولة الرفاهية ” فلا يمكن مطلقا مناقشة محور دولة الرفاهية في الواقع الاجتماعي من دون أن نعرف ماذا تعني بالتحديد كلمة ” دولة الرفاهية ” والتي تعني العديد من المفاهيم حتى في الفكر المعرفي الغربي. تحديد مفهوم المصطلح سيسمح بلإيغال في موضوعة دولة الرفاهية التي تختلف صدقيتها من دولة إلى أخرى، فالتجربة السويدية غير التجربة الفرنسية وهذه الأخيرة في نمطيتها غير التجربة الدنماركية. كما أن هذه التجارب تختلف عن التجربة الخليجية.

دولة الرفاهية هي ليست تركيبة اجتماعية وتاريخية في كل من مضمونها المادي والتأويلي فحسب، لأن من شأن ذلك أن يلمح ضمنا إنها موجودة خارج أزمة رأس المال العالمية, وأنها حل مستدام للتناقضات الطبقية الداخلية وتقف فوق سماء التناقضات الطبقية الدولية الواضحة من خلال العلاقات الدولية, دولة الرفاهية هي نتاج التاريخ أولا وصانعته ثانيا, والسياق والتمييز مهمان بقدر ما تعزز دولة الرفاهية التطور المتدرج لثقافة نزعة إنسانية من جهة، وبقدر ماهية جوهريا خاضعة على نحو أوضح لقاعدة حكم رأس المال كعلاقة اجتماعية, من جهة أخرى. من هنا فإنها باستثناء دول الرفاهية الحيادية الصغيرة الإسكندنافية، ديمقراطية اجتماعية ترشو طبقاتها العاملة لتخصصها أو لتذهب بها في نهاية الأمر الى الحرب كما فعلت كثيرا منذ الحرب العالمية الاولى[5].

لكي تكون دولة رفاهية، لابد أولا من دولة ولا أي دولة، كأن تكون بلدية أو إمبراطورية لا مركزية، بل ينبغي أن تكون دولة أمة. وكتقليب لنموذج الدولة القديمة، فإن الدولة الأمة شكل خاص من التنظيم الاجتماعي متشابك مع نهوض مرحلة تاريخية محددة جدا من مراحل الرأسمالية. ولذلك ليست الدولة الأمة شيئا خارجيا بالنسبة إلى ارتباط رأس المال، إنها مظهر أساسي لوجود الطبقات في المجتمعات الصناعية الحديثة، إنها تركيبة حقوق وسلطة معتمدة على درجة الأزمة وميزان القوى بين الطبقات فيها. ولئن كان موضوع الرأسمالية حكم رأس المال، فلا يمكن للدولة الأمة أن تكون مستقلة عن رأس المال، إذ حتى عندما تطيح الطبقة العاملة البورجوازيات الحاكمة، فإن رأس المال كارتباط اجتماعي يبقى ما دامت الدولة تصون الإكراه الناشئ من عملية العمل الرأسمالي ونظام الأجور. والدولة الأمة؛ وهي كذلك حقا عند هذا المستوى من التجريد؛ هي إما بورجوازية بالوكالة وإما بورجوازية مجسدة في جسد جديد[6].

في أوائل القرن التاسع عشر دفق المزيد من التعليقات المحابية للحقوق, أي ما زاد عن التعليقات المؤيدة لطبيعة سلطة الدولة، وكانت الدولة الامة على الاغلب “تحقيق الروح” أو “الوجود الفعلي للفكرة الأخلاقية”[7].

وفي ذروة زمن المقاربة القائمة على الحقوق أواسط القرن التاسع عشر، أصبحت ” دولة مستقلة, دولة تكون سلطة قوانينها في إرادة الشعب في تلك الدولة” [8].

كان العصر العالمي زمنا كان فيه العمل المؤثر الذي كتبه ” إيسبنغ – أندرسون ” وهو العوالم الثلاثة ( رأسمالية الرفاهية ) يقسم عالم الرفاهية الى عناقيد في محاولة لربطها في الخلفية بالحقيقة الحاسمة في النهاية عن محاسبة كبرى وتوزيع الدخل[9]. يقدم غورنيك وجاكوبس وصفا لهذا العمل :[10] تتضمن طوبولوجيا إيسبنغ – أندرسون: دولة الرفاهية الاجتماعية الديمقراطية, التي تضم مبدئيا بلدان الشمال، دول الرفاهية المحافظة (أو ذات النزعة الاندماجية ) التي تهيمن عليها بلدان القارة الأوروبية ( تمثلها : بلجيكا وألمانيا وهولندا ) ودول الرفاهية الليبرالية ( أو الباقية ) ( وتمثلها : كندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة ) وفي نظام الحكم الديمقراطي الاجتماعي، تقوم الاستحقاقات على مبدأ الحقوق الكلية للمواطنة الاجتماعية وفي نظام الحكم المحافظ تقوم الاستحقاقات على أداء العمل وفي البلدان الليبرالية تستمد الاستحقاقات بصفة أولية من تقديرات حاجة الفرد.

إن مفهوم دولة الرفاه يختلف عن مفهوم الدولة التدخلية في الاقتصاد، لان الدولة يمكن ان تتدخل في الاقتصاد من دون ان تتمكن أو ترغب في إقامة دولة رفاه، تطور هذا النموذج في سياق المشكلات الاجتماعية التي واجهتها النظم الرأسمالية ورغبتها في تفادي أن يؤدي الصراع الطبقي الى حل على النمط السوفياتي أو باستلهام الفكر الماركسي التقليدي. الواقع ان الاهتمام بالمشكلة الاجتماعية أثير على المستويين المحلي والدولي؛ فمثلا منظمة العمل الدولية التي نشأت أيضا في أعقاب الحرب العالمية الأولى وكانت معنية ببلورة نموذج للتعاون بين أطراف عملية الإنتاج، أي العمال وأرباب الأعمال وبمشاركة الدولة وأثمر هذا التعاون مجموعة ضخمة جدا من الاتفاقات الدولية المتعلقة بحماية العمل والعمال ورعايتهم اجتماعيا وصحيا. لقد ولجت الى هذا الموضوع إما من مدخل حقوق الإنسان وعلى الأخص الحقوق الاقتصادية والاجتماعية أو مدخل السلم والأمن الدوليين على أعتبار أن الصراع الطبقي قد يؤدي الى الاضرار بالسلم الدولي[11]

  • الرفاه الاقتصادي والاجتماعي:

إن الحديث عن تاريخ وتطور دولة الرفاه، يفرض علينا أن نتطرق إلى زمن نشوء دويلات المدن أو الإمبراطوريات قبل الميلاد، بمعنى نطرح السؤال هل فكرت تلك الدول في تحقيق الرفاهية لشعوبها؟ لقد شهدت العصور قبل الميلاد تطاحنات وصراعات على الأرض والثروة، بين دويلات المدن والإمبراطوريات، بدءا بأول إمبراطورية عرفتها الإنسانية. ألا وهي الإمبراطورية الأكيدة- (سرجون الاكدي) فهل كانت نظرة الحكام آنذاك أن تحقيق الرفاهية يتأتى من ضم الأراضي والاستحواذ على الثروات لإشباع الحاجات الفردية والمجتمع؟ أذا كانت الحروب هي جوهر وفحوى الرفاهية.

 إن الفوز في الحروب ولو لفترة قصيرة كان يعني جلب الرفاهية للمجتمع المتحكم آنذاك، لذا نرى بوضوح سيطرة الحروب بين المجتمعات وقبلها بين الأفراد. لم يكن للاقتصاد أي دور في تحقيق رفاهية الدولة. لأنه كان اقتصادا بطيئا، لكن هذا النوع من رفاهية الدولة هي أنانية وسلبية، لذا لم تحقق الرفاهية لشعوب تلك الفترة. غير انه وبحلول نهاية القرن التاسع عشر لم يعد مهندسو النظريات الاقتصادية من ذوي الاتجاه السائد ينظرون إلى حقلهم هذا في المعرفة على انه متعلق بالثروة المادية، فهم بدلا من ذلك قاموا بتركيز اهتمامهم على الحس الذاتي وغير الموضوعي بالرفاه حيث يأمل الإنسان أن يصله نصيبه من الثروات المحققة وكذا التوصل بنصيبه من الأنشطة الاقتصادية، وهو الأمر الذي أدى بهم خاصة في انكلترا إلى النظر إلى علم الاقتصاد وكأنه يتعلق بشكل أساسي بالرفاه. ثم قاموا في وقت قريب جدا بالحديث عن علم اقتصاد الرفاه ( وهو العنوان الجديد لكتاب ايه سي بيجو الصادر في العام 1902 والذي كان هو نفس كتاب الطبعة الثانية الصادر في العام 1912 المعنون بالثروة والرفاه) وللنظر إلى علم الاقتصاد باعتباره علم قادر على ترويج الرخاء الاقتصادي قد بدا وكأنه مجرد خطوة صغيرة غير ضارة, فقد تم في الغالب بالنسبة لكثير من سنوات النصف الأول من القرن العشرين التسليم بصحة القول على إن عالم الاقتصاد هو ذلك العالم الخبير الذي يقوم بصياغة سياسات يتم تنفيذها بغرض ترويج رفاه اقتصادي كلي غير فردي. لقد بدا بكل وضوح على إن لدى علماء الاقتصاد واجب مهني ألا وهو الدفاع عن السياسات التي تعمل حسب اعتقادهم على تعزيز الرفاهية من الناحية العلمية[12].

وتعتبر هذه الفترة هي الفترة التي شرع بها علماء الاقتصاد بالبدء في إيجاد فرص وفيرة للتوظيف في الحكومة. وبما أن المد الذي أصاب الرأي العام قد تحول بشكل حاسم (خلال الربع الثاني من القرن) إلى جانب التدخل الحكومي الشامل في اقتصاد السوق، نظر علماء الاقتصاد بشكل متزايد إلى حقلهم هذا في المعرفة وكأنه قادر على استحداث وخلق سياسات محددة جدا خاصة بحكومات يتم تنويرها بحيث تقوم بأتباع هذه السياسات. كما قام علماء الاقتصاد بوضع علمهم (خصوصا بفرع علم اقتصاد الرفاه) في خدمة الأحزاب السياسية. وقد تبين بأن أي برنامج سياسي أو آية فرضية خاصة بالتشريع الاقتصادي بإمكانهما أن يجد علماء اقتصاد لديهم الاستعداد بأن يعطوا حجة علمية تعمل على دعمهما.

في التسعينيات من القرن الماضي، ومع مطلع الألفية الثالثة، شكلان عصر ازدهار الرأسمالية، حيث شهد الاقتصاد العالمي ما سمي بالاقتصاد الجديد أو اقتصاد المعلومات ثم وجود نظم متطورة في مجال الاتصالات صاحبتها حركة غير عادية من الاستحواذ في شركات الإنتاج ومؤسسات الخدمات على السواء، تسبب ذلك في حركة نشطة غير مسبوقة في أسواق المال. لقد واكب هذه الطفرة من الازدهار للرأسمالية حدث تاريخي مهم، تمثل في سقوط الاتحاد السوفياتي، وانهيار الاشتراكية. لقد كان الجميع واثقا، بأن خط المسيرة الرأسمالية لن يكون غير المضي قدما وحث الخطى نحو مصاف أعلى، ومع أن هذا الاعتقاد ليس إلا ضلالا أثبتت الأيام زيفه، فإن بني البشر يستسلمون له تمامًا، كما استسلموا للاقتصاد الجديد. كما استشهد الكثير بالاعتقاد السائد بازدهار الرأسمالية بمقولة الرئيس الأميركي الأسبق “نحن قادة العالم بلا منازع.[13]

  • فاعلية السياسات الاجتماعية في تحقيق التوازن الاجتماعي:

         تتطور النظرية الاجتماعية باتجاهاتها الفلسفية كمهد للممارسة الاجتماعية، وتتطور التنظيمات الاقتصادية والسياسية للطبقات الاجتماعية المختلفة، وبخاصة في شكل الاحزاب السياسية والتنظيمات النقابية العمالية واتحادات الصناعات والتنظيمات النقابية المهنية، في إطار تطور الدولة القومية لتصبح الشكل التاريخي السائد للتنظيم السياسي للمجتمعات، ونكون هنا بصدد الدولة الرأسمالية في ظل أشكال تنظيمية قانونية مختلفة، وتتصارع الدول الغربية من أجل السيطرة على الأجزاء الأخرى من العالم والهيمنة على الأسواق الدولية، صراعا يجعل من الحرب شكلا رئيسيا للصراع، مع تغير مستمر في أشكالها وأهدافها ووسائلها، في اتجاه عولمة حقيقية لهذه الظاهرة في أحضان التكوين الاجتماعي الرأسمالي.[14]

تكاد تكون السياسة الاجتماعية أحد أهم ركائز التوازن والعدالة الاجتماعية في مجتمعات عالمنا المعاصر، فهذه السياسة كما تحددها الأمم المتحدة تمثل آلية فعالة لبناء مجتمعات تسودها العدالة والاستقرار وتتوفر لها مقومات الاستدامة، ولذلك تقع في نطاق اهتمام صانعي سياسات التنمية الوطنية العامة، والهدف النهائي لهذه السياسة هو تخفيف حدة الفقر والإقصاء الاجتماعي وإخماد بؤر التوتر الاجتماعي، وتحسين الرفاه العام لجميع المواطنين على اختلاف فئاتهم.

ويبدو أن السياسة الاجتماعية في الكثير من الدول طبقاً لهذا التصور تواجه تحديا كبيراً يتمثل في مدى قدرتها على تحقيق ذلك في ظل اختلال الإرادة السياسية للدول وغياب التخطيط العلمي والواقعي، وهشاشة الأطر التنظيمية والمفاهيمية للسياسة الاجتماعية وعدم وضوحها، فضلاً عن متغيرات الواقع الجديد التي فرضت إشكالية أو جدلية تمثلت بصعوبة الاختيار بين أنموذج التدخل الدولتي الذي تراجع مردوده الفعلي في كثير من بلدان العالم، وبين اقتصاد السوق الذي فرض منطقه وشروطه على أغلب المجتمعات الإنسانية، بين أنموذج دولة الرفاه (دولة الرعاية) وبين مشاريع الخصخصة و متطلبات النمو والإصلاح الاقتصادي.

إن متطلبات السياسة الاجتماعية في العصر الحاضر باتت تمثل أحد أهم محاور التنمية المستدامة، ومن دون هذه السياسة لا يمكن تحقيق أي نجاح اقتصادي سواء في مؤشراته الكمية أم النوعية وطبقاً لهذا التصور ينبغي في ظل اقتصاد السوق وجود تعاون وتنسيق ما بين القطاع العام والقطاع الخاص من حيث الأهداف والبرامج وفقاً لاحتياجات المجتمع الحقيقية، لأن الهدف الحقيقي يفترض أن لا تكون المؤشرات الاقتصادية بحد ذاتها، بل الوصول عن طريقها إلى أحسن المؤشرات الاجتماعية قدر الإمكان، وإذا كانت السياسة الاجتماعية تحاصرها اليوم قضايا خطيرة على رأسها قضيتي الفقر والعدالة الاجتماعية، فأن نجاح هذه السياسة ليس رهيناً باستيعاب حركة المجتمع الدولي والمتغيرات السياسية والاقتصادية الدولية فحسب، بل إنه يتوقف قبل كل شيء على الإرادة وضرورة المشاركة الفاعلة في تحقيق التنمية وتعزيز فرص العدالة الاجتماعية التي من دونها لا تتحقق التنمية .

         إن الحاجة الى البحث عن توجه اقتصادي يحفظ استقرار الاقتصاد الرأسمالي وكذلك الحاجة إلى خلق جهاز رفاهية يحفظ الحد الأدنى من البقاء لمن لا يستطيعون العمل رغما عنهم ولدت دولة الرفاه.  بالفعل مع نهاية الثلاثينات وضعت أسس دولة الرفاه في عدة دول، إما على هيئة برنامج ” نيو ديل ” الذي بادر اليه فرانكلين روزفات في الولايات المتحدة الامريكية, أو على هيئة إطار مفهوم ” بيت الشعب ” في السويد أو على هيئة قوانين الرفاه المختلفة التي تم اعتمادها في دول أخرى[15].

         لا شك أن الحديث عن السياسات الاجتماعية له دور فعال في إيجاد تنظيم أسس دولة مؤمنة بالرفاه الاقتصادي أولا وثانيا وجود مجتمع عامل يتفاعل مع الرفاهية وهذين العاملين لن نجد لهما طريقا في العصور القديمة. لكن بعد التطور الكبير في تعلم الانسان الزراعة وتطويرها، ثم الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر حدا بالمجتمعات تناول الرفاهية كجزء أساسي في برنامجها الاقتصادي والابتعاد عن الانتكاسات الاقتصادية الحادة.

تهدف السياسات العامة إلى تصحيح المسار الاجتماعي بين كل من الدولة والمجتمع، التي عرفت اختلالا على مستويات عدة، الأمر الذي يقتضي معه وضع عقد اجتماعي صريح يستوعب جميع الفاعلين في الدولة بما في ذلك السوق والمجتمع المدني في ظل عولمة اقتصاد السوق، ولهذا فلابد إذا من عقد اجتماعي ينطوي على التجانس والتوافق في العمل وتوزيع الصلاحيات والسلطة بين الأطراف الثلاثة من أجل حماية المجتمع وقمع السوق المتوحش في ظل دولة قوية تسعى لتحقيق الرفاه والأمن للمجتمع.

         هناك من ذهب إلى القول بأن قوى السوق قادرة على تحقيق الاستغلال الأمثل للموارد وتحقيق الرفاه الاجتماعي، وبالتالي فلابد من تقليص دور الدولة عبر خصخصة المؤسسات التي تملكها والحد من الدعم بمختلف صوره الاقتصادية والاجتماعية، ويبدو أن هذه المنطق بات هو السائد في كثير من الدول بحكم الضغوطات التي فرضتها المتغيرات السياسة والاقتصادية التي يشهدها العالم، فالظروف الموضوعية التي فرضت التحول في طبيعة وفلسفة النظام القائم في دول الرفاه من النظام المركزي القائم على هيمنة الدولة إلى نظام يتبنى فلسفة الحرية الاقتصادية ويؤمن بقوى السوق وآلياته قد ساهمت إلى حد كبير في تزايد الجدل حول طبيعة دور الدولة في ظل حرية السوق، لأن الهدف الرئيس لهذه السياسة هو تحقيق مزيداً من عدالة التوزيع والقضاء على أشكال عدم المساواة في المجتمع، فضلاً عن ضمان الحقوق الاجتماعية كافة.

خاتمة:

عموما يمكن القول إن تحقيق دولة الرفاه غير مقتصر على الدولة فقط، وإنما يتعداه إلى شرائح المجتمع خاصة الطبقة المثقفة من خلال بلورة المشاكل الاجتماعية التي يعانيها المواطنون، وتناول كل ما يهم العمل والعمال، والأوضاع النفسية للمجتمع، والصحة الاجتماعية، والثقافة الشعبية، ومسألة الإسكان، والقضايا الاجتماعية العامة، والمسألة النسوية، والاشتراكية، والضرائب، والجمعيات التعاونية الاستهلاكية.

وتهدف هذه السياسات إلى تقليل التفاوت فيما بين فئات المجتمع ومحاربة الفقر وتحقيق درجة معينة من العدالة الاجتماعية. لكن، تتباين النظم والمؤسسات والوسائل في هذا الميدان. كما إن الآثار الاجتماعية والسياسية تتباين هي الأخرى.

المصادر والمراجع المعتمدة:

  • احمد زكي بدوي، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، مكتبة لبنان، 2011.
  • جورج نايمهانز، تاريخ النظرية الاقتصادية، الإسهامات الكلاسيكية، ترجمة، صقر، حمد صقر، المكتبة الأكاديمية، 1997.
  • حسن نافعة، دولة الرفاهية الاجتماعية، الندوة الفكرية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.
  • القادري، علي. أ, دولة الرفاهية الاجتماعية , مركز دراسات الوحدة العربية, بيروت 2006.
  • عامر رشيد مبيض، موسوعة الثقافة السياسية والاجتماعية والاقتصادي والعسكرية، مصطلحات ومفاهيم.

– Henry E. Allison, Kants Theory of Freedom ( Cambridge, UK; New York: Cambridge University Press, 1990).

– Gosta Esping – Andersen, The Three Worlds of Welfare capitalism ( Princeton, NJ: Princeton University Press, 1990).

– Georg Wilhelm Friedrich Hegel, The Philosophy of Right, Oxford University Press, 1952.

– Janet C. Gornick and Jerry A. Jacobs, “ Gender, the Welfare State, and Public Employment: A Comparative Study of Seven Industrialized Countries” American Sociological Review, vol. 63, no.5. 1998.


[1]   احمد زكي بدوي، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، ص 446

[2]  عامر رشيد مبيض، موسوعة الثقافة السياسية والاجتماعية والاقتصادي والعسكرية، مصطلحات ومفاهيم، ص 720

[3] عبد الوهاب الكيلاني. كتاب موسوعة السياسة- الجزء الثاني ص 713

[4] فؤاد عباس، الإسلام مع الدولة الحارسة أم مع دولة الرفاهية؟

[5]– القادري، علي. أ, دولة الرفاهية الاجتماعية , مركز دراسات الوحدة العربية, بيروت 2006

-[6] نفس المصدر

[7] – Georg Wilhelm Friedrich Hegel, The Philosophy of Right, Oxford University Press, 1952.

[8]– Henry E. Allison, Kants Theory of Freedom ( Cambridge, UK; New York: Cambridge University Press, 1990).

[9] – Gosta Esping – Andersen, The Three Worlds of Welfare capitalism ( Princeton, NJ: Princeton University Press, 1990).

[10]– Janet C. Gornick and Jerry A. Jacobs, “ Gender, the Welfare State, and Public Employment: A Comparative Study of Seven Industrialized Countries” American Sociological Review, vol. 63, no.5. 1998, p. 692.

[11]– حسن نافعة، دولة الرفاهية الاجتماعية، الندوة الفكرية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت, 2006, ص139

[12]  جورج نايمهانز، تاريخ النظرية الاقتصادية، الإسهامات الكلاسيكية، ترجمة، صقر، حمد صقر، المكتبة الأكاديمية، 1997

[13] نفسه

[14] محمد دويدار، ندوة دولة الرفاهية الاجتماعية، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت, 2006

[15] – Pierson, C., Beyond the Welfare State. Cambridge: Polity, 1998.

دور القضاء الإداري في حماية حقوق الإنسان والحريات العامة

إقرأ أيضاً

الرقابة على الدستورية والأمن القانوني دراسة في ضوء الإجتهاد القضائي الدستوري المغربي

الرقابة على الدستورية والأمن القانوني دراسة في ضوء الإجتهاد القضائي الدستوري المغربي Constitutional control and …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *