افتحاص الجماعات الترابية

افتحاص الجماعات الترابية

مصطفى الباهي

باحث بسلك الدكتوراه جامعة محمد الخامس الرباط

كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية السويسي

[email protected]

إن الدور الجديد الذي أصبحت تحتله الجماعات الترابية بحلول دستور 2011[1]باعتبارها دعامة أساسية لبلوغ التنمية المحلية المنشودة على كافة المستويات في ظل الجهوية المتقدمة، وما يتطلبه ذلك من موارد مالية مهمة، جعلت المغرب يكرس العمل بنظام اللامركزية كنظام لتوزيع الاختصاصات والموارد بين الدولة والجماعات الترابية، فأصبحت الجماعات الترابية تشكل إحدى المحددات الرئيسية للتدخلات العمومية في مختلف مظاهر الحياة العامة للدولة ، كما أنها تشكل فاعلا أساسيا في عملية التنمية المحلية ولم تأت هذه الأهمية بمحض الصدفة ولا من فراغ، بل كانت نتيجة طبيعية لتطورات وطنية ودولية أملتها ظروف ومعطيات معينة أفرزت لنا وحدات ترابية مبادرة، نشيطة، فعالة وساهرة على تدبير الشأن العام المحلي ومساهمة في القضايا الكبرى للبلاد. ومن جملة تلك الظروف المتحكمة في تنامي دور الجماعات المحلية، ما يتعلق بالعوامل الدولية والمتجلية أساسا في انتشار الفكر الديمقراطي والمشاركة السياسية ودعائم دولة الحق والقانون التي تدعو إلى إشراك الساكنة المحلية في جميع المبادرات التي تهم الشأن العام المحلي حتى تكون أكثر إسهاما في التعاطي مع الرهانات المطروحة عليها[2].هذه الوحدات الترابية تعمل على تسيير الشأن العام المحلي من خلال مجموعة من الموارد المالية والبشرية تمكنها من تلبية الحاجيات الأساسية لساكنة المحلية و من تحقيق التنمية في كافة أبعادها على المستوى المحلي .

ولعل تدبيرها وتصرفها في هذه الموارد أمر قد يتنافى أحيانا مع القانون و مع المصلحة العامة ، فإنه من المنطقي إخضاع هذا التدبير لمراقبة مجموع من الأجهزة الأخرى، خصوصا مع استفحال ظاهرة الفساد المالي في دواليب الإدارة المحلية .

   و تعمل هذه الأجهزة على افتحاص الجماعات الترابية ، وعموما يمكن تعريف الافتحاص على أنه كل عمل يستهدف تقويم بنيات المراقبة الداخلية وفق مرجعيات علمية ومهنية دقيقة، من أجل الوقوف على الخلل الذي تعاني منه الجماعة أو المؤسسة في شتى المجالات وذلك من أجل السيطرة عليها والتنبؤ بتطوراتها[3] بغرض تحديد إن كانت السياسات والمساطير قد اتبعت ، وإن كانت القواعد المطبقة قد تم مراعاتها أو تم تجاوزها، وإن كانت الموارد قد تم استعمالها استعمالا فعالا واقتصاديا وإن كانت أهداف الجماعة قد تم تحقيقها. فالافتحاص هو إدن الية لإرساء دعائم الحكامة الجيدة على مستوى الإدارة الجماعية

  وتتميز هذه الأجهزة بالتنوع في طبيعتها ، وهو معطى يستدعي منا دراسة مختلف الهيئات التي أناط بها المشرع مهمة الرقابة ، والدور الذي تقوم به ، خصوصا مع إختلاف توقيت وإجراءات رقابتها ، بحسب ما إذا كانت سابقة على تنفيذ الميزانية المحلية أو لاحقة على عملية التنفيذ ، وهو ما يفسر تنوع هذه الرقابة ، من خلال رقابة إدارية ( المطلب الأول) ورقابة قضائية (المطلب الثاني).

المطلب الأول : الرقابة الإدارية لمالية الجماعات الترابية

  يقصد بالرقابة الإدارية على المالية المحلية مجموع السلطات التي يمنحها المشرع للسلطة المركزية ، لتمكينها من الرقابة على النشاط المالي للجماعات الترابية بهدف حماية الصالح العام ، حيث يخول هذا الاختصاص عادة إلى الأجهزة الإدارية والمالية التابعتين لوزارة الداخلية و وزارة المالية [4].

الفقرة الأولى : رقابة وزارة الداخلية

 تمارس وزارة الداخلية مهامها الرقابية على المالية المحلية عامة وعلى تنفيذ ميزانتيها خصوصا، من خلال جهازين أساسيين هما : المفتشية العامة للإدارة الترابية و المفتشية العامة للمالية المحلية .

أولا ـ المفتشية العامة للإدارة الترابية

  تم إحداث هذا الجهاز بموجب مرسوم رقم 2.94.100 الخاص بالمفتشين العامين للإدارة الترابية بوزارة الداخلية ، وقد نصت المادة 2 من هذا المرسوم على أنه تناط بالمفتشية العامة للإدارة الترابية مهمة المراقبة والتحقق من التسيير الإداري والتقني والمحاسبي للمصالح التابعة لوزارة الداخلية والجماعات المحلية وهيئاتها، على أن تراعى في ذلك الإختصاصات المخولة للمفتشيات التابعة للوزارات الأخرى [5].

                و تزاول هذه المفتشية مهمتها إما في إطار برنامج عمل موضوع من قبل، و إما في إطار أعمال التفتيش الإستثنائية التي يقررها وزير الداخلية ، كما يمكن لكل وزير يعنيه الأمر أن يعرض قضية ما على المفتشية العامة للإدارة الترابية بناءا على طلب موجه لوزير الداخلية .

كما أن مرسوم رقم 2.94.100 أعطى للمفتشين إمكانية ان يطالبوا بجميع الوثائق التي تمكنهم من القيام بمأمورياتهم والتي تساعدهم في البحث والتحري الذي يرونه ضروري، وهو إجراء يزكي قوة هؤلاء المفتشين في ممارسة مهمتهم .

  وتتطلع المفتشية من خلال برنامجها لسنة 2012 ، القيام ب250 مهمة، تتوزع كما يلي: 170 مهمة تتعلق بتفتيش ومراقبة، و44 مهمة بحث، و36 مهمة تتعلق بميدان التعمير. 
وبالإضافة إلى الجانب التأطيري المرتبط بعمل المفتشية العامة للإدارة الترابية من خلال مهام الافتحاص والتدقيق الاعتيادية.

وتعمل هذه المفتشية على مساعدة الجماعات الترابية من أجل تجاوز مختلف الصعوبات التي تعترض مصالحها الإدارية، وتحسين أدائها في مختلف مجالات تسيير الشأن المحلي في ميادين التعمير، وصرف النفقات، والجبايات المحلية.

      وتعتزم المفتشية العامة من خلال برنامجها التوقعي في سنة 2012، القيام ب179مهمة إفتحاص، 83 مهمة افتحاص للحسابات الخصوصية للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، و20 مهمة تهدف إلى دعم ومساعدة جماعات حضرية صغيرة أو متوسطة في ميادين التعمير والمالية المحلية والجبايات، و10 مهمات لافتحاص وتقييم ملاءمة ومشروعية تسليم جوازات السفر البيومترية ، و5 مهمات افتحاص برنامج التأهيل الحضري، و10 مهمات افتحاص لمشاريع تعاني صعوبة في التنفيذ، و20 مهمة افتحاص الصفقات العمومية التي تفوق 5 ملايين درهم، و8 مهمات افتحاص تطوير وعصرنة مندوبيات الإنعاش الوطني، و23 مهمة مراقبة تهم تدبير المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في العمالات والأقاليم التي صودق على حساباتها بتحفظ [6].

   ويتميز عمل هذه المفتشية بطابع العمومية من حيث الإختصاص والمجال ، لأن دورها يشمل مراقبة مختلف أوجه التسيير الإداري والتقني والمحاسبي ،كما أن مجال عملها يشمل المصالح التابعة لوزارة الداخلية والجماعات الترابية ومجموعاتها ، إلا أن طابع العمومية هذا يسجل أن القانون لم يفصل في طريقة عملها والهدف من إقرارها ، كما أنه لم يتناول في ذات الوقت أموراً على جانب كبير من الأهمية ، ترتبط بالجزاءات التي يمكن إتخاذها في حالة إكتشاف المخالفات المالية سواء إتجاه الآمرين بالصرف أو إتجاه الموظفين والعاملين بالجماعات الترابية [7].

ثانيا ـ المفتشية العامة للمالية المحلية

   تنص المادة 20 من مرسوم رقم 2.97.176 المتعلق بإختصاصات و تنظيم وزارة الداخلية على أنه

تناط بمديرية المالية المحلية مهمة الإشراف على الأعمال المالية للجماعات المحلية في إطار ممارسة

الوصاية القانونية على تدبير شؤون مواردها البشرية والمالية[8]

وتشتمل مديرية المالية المحلية على :

–                قسم الموارد البشرية ؛

–                قسم الموارد المالية ؛

–                قسم الميزانيات والصفقات ؛

–                قسم المحفوظات والإحصائيات

 ويتحدد مجال رقابة المفتشية العامة للمالية المحلية على النشاط المالي للجماعات الترابية ومجموعاتها، في رقابة المشروعية و رقابة الملاءمة ، إلا أن هذا النوع الأخير من الرقابة ذو أهمية بالغة، لأن المفتشية تبحث في نوع الخدمات المقدمة والبضاعة المشتراة والخدمات المنجزة ، ومدى تطابقها مع خصوصية السوق ، وتصحيح أوعية الرسوم المحلية ونسب تحصيلها ، فهي تقوم بكل طرق المراقبة والتدقيق التي ساهمت في الكشف عن العديد من الإختلالات التي أحيل بموجبها العديد من الآمرين بالصرف على أنظار المجلس الأعلى للحسابات .

وعلى عكس المفتشية العامة للإدارة الترابية ذات الاختصاص العام فإن المفتشية العامة للمالية المحلية سوف تقتصر في عملها الرقابي على مجال محدد هو مالية الجماعات المحلية وهيآتها ورغم أن النصوص القانونية المنظمة لهذا الجهاز الرقابي لم تتوفر بعد فإن وثائق إدارية وزارية هي التي تعمل على تحديد مهامها

الفقرة الثانية : رقابة وزارة المالية

   تمارس وزارة المالية سلطتها الرقابية على مالية الجماعات الترابية من خلال جهازين أساسيين هما : المفتشية العامة للمالية والخزينة العامة للمملكة .

أولا ـ المفتشية العامة للمالية

   ينص الفصل 5 من مرسوم رقم 2.78.539 بشأن إختصاصات وتنظيم وزارة المالية على أنه يعهد إلى المفتشية العامة للمالية بمهمة مراقبة مالية الدولة والجماعات العامة طبقا للقوانين والأنظمة المعمول بها ولاسيما الظهير الشريف رقم 1.59.269  بشأن المفتشية العامة للمالية[9].

  وينص هذا الظهير رقم 1.59.269 المنظم للمفتشية العامة للمالية المحلية في فصله الثاني على أنه يعهد إلى هذه المفتشية من خلال مفتشيها الماليين بإجراء تحقيقات بخصوص مصالح الصندوق والمحاسبة والنقود والمواد وكذا المحاسبين العموميين وبصفة عامة مستخدمي الدولة والجماعات المحلية والمؤسسات العمومية، فهم يتحققون من التسيير الذي يقوم به هؤلاء المحاسبون ويتأكدون من صحة العمليات المدرجة في حسابات الآمرين بتسلم المداخيل ودفع المصاريف العمومية وكذا في حسابات جميع المتصرفين[10].

    إذن فهي تمارس مهمة مراقبة على مالية الجماعات الترابية على مستوى مصالح الصندوق والمحاسبة من خلال مختلف الأعمال المالية والمحاسبية للآمرين بالصرف خاصة تلك المتعلقة بالتنفيذ الإداري لمداخيل ونفقات الميزانية المحلية من جهة ، والمحاسبين العموميين المحليين خاصة في العمليات المتعلقة بالتنفيذ المحاسبي لعمليات مداخيل ونفقات ميزانية الجماعات الترابية من جهة أخرى [11].

   ولا يحق لمفتشي المالية اتخاذ المبادرة بإجراء هذه المهام إلا بعد حصولهم على أمر بالمأمورية يوقع عليه الوزير المكلف بقطاع المالية الذي يحدد بدقة موضوع المهمة.
وفي حالة ما إذا ثبت لديهم أي إخلال في التسيير يشعرون المفتش العام للمالية والسلطة المخول لها صلاحية تأديب المحاسب .

   وفي جميع الأحوال فإن التقارير التي يحررها المفتشون تحال على المعنيين بالأمر قصد الإجابة عليها كتابيا داخل أجل 15 يوما الموالية لتسلم التقرير، كما يحق للمفتشين تضمينها ملاحظاتهم ثم يرفعونها إلى المفتش العام الذي يرفعها بدوره مع ملاحظاته إن وجدت إلى وزير المالية وكذا إلى الوزير المعني. وبالتالي يبقى من صلاحية وزير المالية المطالبة بتحريك المتابعة الجنائية عن طريق طلب يوجهه إلى الوزير

الأول لكي يوجهه إلى وزير العدل أو اتخاذ قرار بالحفظ [12].

   يستخلص من الظهير المنظم للتفتيش العام للمالية ما يلي:

ـ إن التوظيف في إطار مفتش المالية يتم بناء على قرار لوزير المالية ؛

  • ـ إن القيام بهامهم منوط بصدور قرار بمأمورية يوقعه وزير المالية بناء على اقتراح المفتش العام للمالية.
  • ـ إن دور المفتش ينحصر في رفع تقرير إلى رئيسه التسلسلي المفتش العام للمالية الذي يبقى من صلاحياته رفعه إلى الوزير أو حفظه.
  • لا يحق لهيئة التفتيش تحريك المسطرة القانونية تجاه من ثبت إخلاله بالتزامه وإنما يدخل ذلك في اختصاص الهيئة السياسية المتمثلة في مؤسسة الوزير.

  وهذا يعني بكل وضوح أن هيئة مفتشي المالية هيئة لا إختصاص حقيقي لها في مراقبة المالية العامة، ذلك أن عمل المفتشين الماليين فيها منوط أولا بمدى إستجابة وزير المالية من عدمه إلى ممارستهم لأعمالهم .

  فحصيلة المهام الرقابية لهذه الهيأة التي قاربت على إكمال نصف قرن من إحداثها يعتبر مبررا كافيا للوقوف على الوضع الحقيقي للرقابة على المال العام والتدبير المالي العمومي والمحلي ولإعادة النظر في وضعيتها القانونية والمؤسساتية. فالمفتشية العامة للمالية تعرف عجزا بنيويا ووظيفيا يتجلى بالأساس في افتقادها لمخطط رقابي واضح يجعل عملها ذا طبيعة دائمة ومستمرة ويخولها سلطة التدخل التلقائي وفق رؤية مندمجة وبرمجة استراتيجية واضحة، كما أنها اختارت ومنذ إحداثها التركيز على تكوين أطرها وتخريج المفتشين أكثر مما اهتمت بتنويع آلياتها الرقابية وتطويرها وإرساء ثقافة الرقابة على المال العام.

    فالمطلوب آنيا وضع “مخطط استراتيجي لبرامج تدخلاتها في مجال التدقيق والمراقبة وتتبع تنفيذ السياسات العمومية”، كما تعبر مراجعة نظامها القانوني وتوضيح مجالات تدخلها وآثاره القانونية،وإحداث مفتشيات جهوية تابعة لها، أحد الأوراش الهامة التي يمكن من خلالها تفعيل دور

الرقابة العليا الإدارية على تدبير المالية العمومية[13].

ثانيا ـ الخزينة العامة للمملكة

    تتم مراقبة الخزينة العامة للمملكة على مالية الجماعات الترابية من خلال طريقتين مختلفتين،

لكنهما متكاملتين :

     تتجلى الأولى في المراقبة على الوثائق ، من خلال إطلاع الرئيس على أعمال مرؤوسيه بناء على التقارير والوثائق التي يرسلها له كافة المحاسبين المكلفين بالتحصيل، العاملين تحت رئاسته خصوصا عن طريق الوثائق الدورية التي تبين وضعية التحصيل، وكذا بيانات الباقي دون تحصيل .

   في حين تتجلى الثانية من خلال المراقبة من عين المكان ، تتم بواسطة زيارات تفتيشية ميدانية ذات صبغة فجائية ومباغتة ، بشكل لا يمكن المحاسب المكلف بالتحصيل من إخفاء الخروقات المرتكبة من لدنه . ويقوم بهذه المراقبة المفتشون المحققون للخزينة العامة الخاضعين للسلطة المباشرة للخازن العام [14].

   ونجد من خلال الفصل 7 من مرسوم رقم 2.78.539 بشأن إختصاصات وتنظيم وزارة المالية على أنه يعهد إلى الخزينة  العامة للمملكة مجموعة من الإختصاصات من بين هذه الإختصاصات المرتبطة بالجماعات الترابية هو أنه يعهد لها جمع عمليات محاسبي الدولة والجماعات المحلية ؛ ومراقبة محاسبي الدولة والجماعات المحلية ، و تصفية حسابات التسيير الخاصة بالجماعات المحلية وفقا للقوانين والأنظمة المعمول بها[15] .

    وعلى المستوى المحلي ، فهناك رقابة داخلية يقوم بها الخازن الجهوي تجاه القباض في إطار التسلسل الإداري لهؤلاء المحاسبين العموميين ، ويقوم بتأهيل حساباتهم قبل تقديمها إلى المجالس الجهوية للحسابات ، مع تحديد قيمة العجز الذي يمكن أن تعرفه محاسبة[16]

المطلب الثاني : الرقابة ذات الطبيعة القضائية

    إذا كانت مهمة القضاء العادي تنحصر في تطبيق حرفية النص القانوني والموقف عند نية

وقصد المشرع دون التوسع في ذلك، فإن القضاء المالي قضاء إنشائي يبتدع الحلول المناسبة في إطار بحثه الدائم عن نقطة التوازن بين الحفاظ على الأموال العمومية وبين صيانة الخاضعين لاختصاصاته وذلك في إطار مرونة تامة لا تؤدي إلى التضحية بالمال العام ولا إلى شل روح المبادرة لدى الآمرين بالصرف.

ويقصد بالقضاء المالي مجموعة من المؤسسات التي تتولى الرقابة العليا في البلاد على المالية العمومية و المحلية والتي بالنظر إلى طريقة تشكيلها وطريقة سير عملها تكتسي طابعا قضائيا وهو بهذا المعنى فإن القضاء المالي هو الذي يتولى المراقبة على تنفيذ قوانين المالية من خلال التحقق من عمليات الموارد والنفقات العمومية وفي المغرب تتحدد مؤسسات القضاء المالي في المجلس الأعلى للحسابات وفي المجالس الجهوية للحسابات[17].

  وفي دراستنا هاته سنقتصر على المجالس الجهوية للحسابات نظراُ لإرتباطها الأقوى بالجماعات الترابية ، ولكون أيضا أن العروض السابقة في المادة تناولت بنوع من التفصيل أكثر المجلس الأعلى للحسابات .

الفقرة الأولى  : الإطار القانوني للمجالس الجهوية للحسابات

   يأتي إحداث المحاكم المالية الجهوية في سياق عام يهدف إلى خلق شروط سياسية لتحول ديمقراطي يعتمد المدخل القانوني والمؤسساتي ، عبر إقدام دولة الحق والقانون من خلال تدعيم مبادئ المراقبة والمساءلة والمحاسبة والشفافية . وهكذا، يشكل خلق المجالس الجهوية للحسابات أحد المداخل الإصلاحية الهامة التي تستجيب لإرادة بناء شروط تحديث التدبير الجيد للشأن العمومي . وتهدف جهوية الرقابة القضائية المالية إلى عقلنة التسيير وتأهيل طرق التدبير المحلي بمختلف مستوياته المالية والمحاسبية ، وتجاوز القصور الذي عرفته كل الأجهزة الرقابية على المال العام المحلي ، وهو القصور الذي لا يعود فقط إلى ضعف تدخلات الأجهزة الرقابية المعروفة ، ولكنه يرتبط بطبيعة هذه التدخلات التي غالبا ما تقف عند الجوانب الشكلية للتصرفات المالية للأجهزة الموكول إليها تدبير المال العام المحلي[18].

      لقد أحدث الدستور المجالس الجهوية للحسابات لتتولى مراقبة حسابات الجماعات الترابية وكيفية قيامها بتدبير شؤونها ولتفعيل هذه المقتضيات أحال دستور سنة 2011 على القانون ليحدد اختصاصات المجلس الأعلى والمجالس الجهوية للحسابات وقواعد تنظيمها وطريقة سيرها وهو ما كان موضوع الكتاب الثاني من قانون 99-62 المتعلق بمدونة المحاكم المالية الصادر الأمر بتنفيذه بموجب الظهير الشريف رقم 124-02-1 بتاريخ ربيع الآخر 1423 هـ الموافق لـ 13 يونيو 2002  والذي تم تحيينه بمستجدات من أجل الرفع بمهمة رقابة المال العام من خلال الباب العاشر من الدستور 2011.

   و تتولى المجالس الجهوية للحسابات بالمغرب طبقا للفصل 149 من الدستور مراقبة حسابات الجماعات الترابية وهيئتها وكيفية قيامها بتدبير شؤونها.

     وتعاقب عند الإقتضاء، عن كل إخلال بالقواعد السارية على العمليات المذكورة .

  وتنص المادة 116 من قانون 62.99 المتعلق بمدونة المحاكم المالية على أنه يحدث مجلس جهوي للحسابات في كل جهة من جهات المملكة مع مراعاة المقتضيات الإنتقالية المنصوص عليها في المادة 164 من نفس القانون [19].

    أما من حيث تأليف المجلس الجهوي للحسابات نجد المادة 119 من نفس القانون على أنه يتألف من قضاة يسري عليهم النظام الأساسي الخاص المنصوص عليه في الكتاب الثالث من نفس القانون ، وهم :

  • ـ رئيس المجلس الجهوي ؛
  • ـ وكيل الملك ؛
  • ـ المستشارون ؛
  • ويتوفر المجلس الجهوي على كتابة عامة وعلى كتابة للضبط .

الفقرة الثانية : إختصاصات المجالس الجهوية للحسابات

    تنص المادة 118 من قانون 62.99 المتعلق بمدونة المحاكم المالية على أنه يمارس المجلس الجهوي الإختصاصات التالية في حدود دائرة إختصاصه :

1ـ البت في حسابات الجماعات المحلية وهيئاتها والمؤسسات العمومية الخاضعة لوصاية هذه الجماعات والهيئات ومراقبة تسييرها .

2ـ مراقبة تسيير المقاولات المخولة الإمتياز في مرفق عام محلي أو المعهود إليها بتسييره والشركات والمقاولات التي تملك فيها جماعات محلية أو هيئات أو مؤسسات عمومية خاضعة لوصاية هذه الجماعات الترابية وهيئاتها على إنفراد أو بصفة مشتركة بشكل مباشر أو غير مباشر أغلبية الأسهم في الرأسمال أو سلطة مرجحة في إتخاذ القرار .

3 ـ مراقبة إستخدام الأموال العمومية التي تتلقاها المقاولات غير تلك المذكورة أعلاه، أو جمعيات أو أجهزة أخرى تستفيد من مساهمة في رأس المال أو مساعدة كيفما كان شكلها تقدمها جماعة محلية أو هيئة أو أي جهاز آخر يخضع لمراقبة المجلس الجهوي .

4- ممارسة مهمة قضائية في ميدان التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية بالنسبة لكل مسؤول أو موظف أو مستخدم يعمل في :

ــ الجماعات الترابية وهيئاتها .

ــ المؤسسات العمومية الخاضعة لوصاية هذه الجماعات والهيئات .

ـ كل الشركات أو المقاولات التي تملك فيها الجماعات المحلية أو الهيئات على إنفراد أو بصفة مشتركة بشكل مباشر أو غير مباشر أغلبية الأسهم في الرأسمال أو سلطة مرجحة في إتخاذ القرار .

  و يخضع كل من الوالي والعامل لقضاء المجلس الجهوي في الحالات التي يعملان فيها بإعتبارهما آمرين بالصرف لجماعة ترابية أو هيئة ، وفي الحالات الأخرى تطبق عليهما مقتضيات الفصل الثاني من الكتاب الأول من نفس القانون.

5ـ المساهمة في مراقبة الإجراءات المتعلقة بتنفيذ ميزانيات الجماعات الترابية وهيئاتها[20].

   وتشمل الرقابة القضائية كذلك النظر في حسابات المحاسبين بحكم الواقع وكل شخص تبث في حقه التسيير بحكم الواقع كما حدده الاجتهاد القضائي المالي، والمقتضيات القانونية المنصوص عليها في المواد 131 إلى 133 من القانون. وهكذا تضطلع المجالس الجهوية للحسابات فيما يتعلق بالنظر في حسابات المحاسبين العموميين بنفس الصلاحيات القضائية التي يتمتع بها المجلس الأعلى للحسابات إلا أن اختصاصها في هذا المجال لا يتسع إلى كافة المحاسبين – على غرار المجلس – حيث يشمل فقط

المحاسبين الخاضعين لاختصاصها الترابي[21] .

    ومن جهته أسند القانون رقم 99-62 إلى المجالس الجهوية اختصاص مراقبة القرارات المتعلقة بميزانية الجماعات الترابية وهيئاتها لينضاف للمراقبة القبلية الممارسة من طرف العامل بكل من العمالة أو الإقليم.

   وحسب التنظيم المالي للجماعات المحلية يمكن بطلب من المجلس التداولي أو بمبادرة من الآمر بالصرف أو من وزير الداخلية ، أن يخضع تدبير الجماعات المحلية ومجموعاتها والمؤسسات العامة التابعة لها لعمليات تدقيق مالي . ونجد أن المجالس الجهوية للحسابات هي التي تقوم بعملية التدقيق هاته ، حيث لها مجموعة من الصلاحيات منها التحقيق والنظر في الحسابات و مستوى التسيير الفعلي [22].

   وتمارس المجالس الجهوية للحسابات أيضا رقابة التسيير إذ تشمل مسؤولية الآمرين بالصرف في ميدان التسيير مراقبة مشروعية وصدق العمليات المنجزة وكذا جوانب الفعالية والمردودية للمصالح التي يتولون إدارة شؤونها، وتبعا لذلك فإن المجلس الجهوي للحسابات بمناسبة مساءلة الآمرين بالصرف في ميدان التسيير يتبع مسطرة خاصة تجمع بين أساليب المراقبة وأساليب التقييم ، ويمكن إجمال هذه الأساليب في حق الاطلاع وحق الزيارة والاستشارة القانونية.

     ويعد إختصاص مراقبة التسيير اختصاصا إداريا محضا لأنه يستهدف مراقبة شاملة ومندمجة لجميع أوجه ومظاهر التدبير الترابي ،  ويهدف المجلس الجهوي للحسابات إلى تقويم مدى تحقيق الأهداف المحددة والنتائج المحققة وكذلك تكاليف وشروط اقتناء واستخدام الوسائل المستعملة[23].

    وتشمل مراقبة المجلس الجهوي للحسابات أيضا مشروعية وصدق العمليات المنجزة وكذا حقيقة الخدمات المقدمة والتوريدات المسلمة والأشغال المنجزة كما يتأكد المجلس الجهوي من أن الأنظمة والإجراءات المطبقة داخل الأجهزة الخاضعة لرقابته تضمن التسيير الأمثل لمواردها واستخداماتها وحماية ممتلكاتها وتسجيل كافة العمليات المنجزة.

   وفي ظل هذه المهام ، يشكل خلق المجالس الجهوية للحسابات وسيلة لتخفيف العبء على المجلس الأعلى للحسابات والضغط على موراده البشرية المحدودة بالنظر إلى الحقل الشاسع للرقابة على مالية الجماعات الترابية من جهة ، وإعتبارا للعامل الجغرافي ، فإن لا مركزية المراقبة القضائية ستؤدي إلى حل مشاكل الآجال التي يتطلبها نقل الوثائق المحاسبية والإدارية من الجماعات الترابية إلى الهيئة العليا للرقابة على الأموال العمومية من جهة ثانية . كما أن قرب المجالس الجهوية للحسابات من الواقع المحلي سيمكنها من القدرة على تشخيص المعوقات المحتملة للتدبير المالي في الوقت المناسب ، وبأقل تكلفة، وفي أقرب وقت، كما سيمكنها من التقييم والتقدير الموضوعيين للتدبير المالي للجماعات الترابية من ناحية ثالثة .


[1] – ظهير شريف رقم 1.11.91 الصادر في 27 من شعبان 1432 (29 يوليوز 2011) بتنفيذ نص الدستور، الجريدة الرسمية عدد 5964 مكرر، بتاريخ 28 من شعبان 1432 ( 30 يونيو 2011) ص: 3600-3627.

[2] سعيد الميري ، التدبير الإقتصادي للجماعات المحلية بالمغرب ، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون العام ، جامعة محمد الخامس السويسي ، كلية العلوم القانونية والإقتصادية والإجتماعية – الرباط ، ص 1

[3] محد حركات “التدبير الاستراتيجي و المنافسة ،رهانات الجودة الكلية بالمقاولات المغربية”،1997ص 107مقال منشور بالموقع الالكتروني www.presstetouan.com 

[4] د.كريم لحرش، تدبير مالية الجماعات المحلية بالمغرب ، طوب بريس- الرباط ، الطبعة الثانية ، 2011 ، ص 92

[5] _ مرسوم رقم 2.94.100 الصادر بتاريخ 16 يونيو 1994 يتعلق بالنظام الأساسي الخاص بالمفتشين العامين للإدارة الترابية بوزارة الدولة في الداخلية (المقتضيات المتعلقة باختصاصات المفتشية العامة للإدارة الترابية)

[6] _جريدة الصباح ، 250 مهمة تفتيش وإفتحاص تنتظر رؤساء الجماعات ، مقال منشور في  www.assabah.press.ma ، 18 أبريل 2012.

[7] د.كريم لحرش، تدبير مالية الجماعات المحلية بالمغرب ، مرجع سابق ، ص 93

[8] مرسوم رقم 2.97.176 صادر في 14 من شعبان 1418 (15 ديسمبر 1997) في شأن اختصاصات وتنظيم وزارة الداخلية

[9]  مرسوم رقم 2.78.539 بتاريخ 21 من ذي الحجة 1398 (2 نونبر 1978)  بشأن اختصاصات وتنظيم وزارة المالية

[10] ظهير شريف رقم 1.59.269 بشأن التفتيش العام للمالية

[11] _ د.كريم لحرش، تدبير مالية الجماعات المحلية بالمغرب ، مرجع سابق ، ص 93

[12] _ القانون المنظم للمفتشية العامة للمالية عرقلة أمام نجاعتها ، مقال منشور في موقع www.alalam.ma  ، 22 أبريل 2011

[13] د.عبد اللطيف بروحو ، أزمة مراقبة المال العام بالمغرب ، جريدة هسبريس الإلكترونية ، 18 دجنبر 2011

[14] _ د.كريم لحرش، تدبير مالية الجماعات المحلية بالمغرب ، مرجع سابق ، ص 94

[15] مرسوم رقم 2.78.539 بتاريخ 21 من ذي الحجة 1398 (2 نونبر 1978)  بشأن اختصاصات وتنظيم وزارة المالية

[16] _ د.كريم لحرش، تدبير مالية الجماعات المحلية بالمغرب ، مرجع سابق ، ص 94

 [17] الأحمدي صلاح الدين ، الرقابة القضائية على مالية الجماعات الترابية رقابة القضاء المالي -2

[18] _ د.كريم لحرش، تدبير مالية الجماعات المحلية بالمغرب ، مرجع سابق ، ص 94

[19] ظهير شريف رقم 1.02.124 صادر 13 يونيو 2002 ، بتنفيذ القانون رقم 62.99 المتعلق بمدونة المحاكم المالية

[20] ظهير شريف رقم 1.02.124 صادر 13 يونيو 2002 ، بتنفيذ القانون رقم 62.99 المتعلق بمدونة المحاكم المالية

[21] الأحمدي صلاح الدين ، الرقابة القضائية على مالية الجماعات الترابية رقابة القضاء المالي -2

 [22] خديجة طياري ، التدبير المالي للجماعات المحلية – دراسة حالة الجماعة الحضرية لطانطان ، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون العام، جامعة القاضي عياض – مراكش ، السنة الجامعية 2010-2011 ، ص 83

[23] الأحمدي صلاح الدين ، الرقابة القضائية على مالية الجماعات الترابية رقابة القضاء المالي -2

إقرأ أيضاً

التأطير الدستوري لمقتضيات  الوظيفة العمومية على ضوء دستور 2011

التأطير الدستوري لمقتضيات  الوظيفة العمومية على ضوء دستور 2011 الوعبان لرباس  باحث في سلك الدكتوراه …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *