رهانات التنمية البشرية المستدامة للمشاريع العمومية بالمغرب

رهانات التنمية البشرية المستدامة للمشاريع العمومية بالمغرب

نادية دوباج

باحثة بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية –أكدال-

جامعة محمد الخامس بالرباط

التخصص: القانون العام والعلوم السياسية

يندرج كسب رهان إدماج مبادئ وقواعد التنمية المستدامة في المشاريع التنموية للمملكة المغربية، في إطار تخليق النموذج الاقتصادي الوطني وتوجيهه نحو خدمة المصلحة العامة باعتبارها التزاما وقيدا أخلاقيا على الاقتصاد السوقي[1]، وهو ما يفرض على الدولة إدماج البعد المستدام ضمن المشاريع التي تطلقها، ولا سيما في شقه الاجتماعي، حيث تبقى التنمية البشرية من المؤشرات الكبرى لنجاعة المشاريع العمومية والاستراتيجيات القطاعية المتبناة.

ومن أجل تحقيق هذا الهدف، أطلقت الدولة “الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة 2030″، التي تضم سبعة رهانات أساسية، من أبرزها، دعم التنمية البشرية وتقليص الفوارق الاجتماعية، والتي سترتكز على استثمار مكتسبات المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في مجال محاربة الفقر، ودعم نظام الصحة واليقظة الصحية، وسد الخصاص في ميدان التعليم.

ولقد انطلقت هذه الاستراتيجية في صياغة رهاناتها السبعة من وجود إكراهات مرتبطة بحكامة الاستراتيجيات القطاعية، والمتمثلة في غياب التخطيط والتنسيق والالتقائية خلال مرحلة تنفيذ الاستراتيجيات، وتعقيد وطول المساطر، وتداخل الاختصاصات، وصعوبة تنفيذ النصوص على المستوى المحلي[2].

ويقتضي تحليل هذا الموضوع، التطرق إلى ثلاثة نقط أساسية، وهي:

أولا: التنمية البشرية كمدخل أساسي لتحقيق أهداف التنمية المستدامة؛

ثانيا: متطلبات ملاءمة المشاريع العمومية مع مؤشرات التنمية البشرية المستدامة؛

ثالثا: المسؤولية المجتمعية كآلية لتحقيق التنمية البشرية المستدامة.

أولا: التنمية البشرية كمدخل أساسي لتحقيق أهداف التنمية المستدامة

تعتبر التنمية البشرية إحدى الأهداف الرئيسية للتنمية المستدامة، ومؤشرا مرجعيا لقياس نجاعة المشاريع المهيكلة والاستراتيجيات القطاعية في تعزيز التضامن الاجتماعي ومحاربة الهشاشة والفقر، وهو ما حذا بالسلطات المغربية إلى استحضار البعد الاجتماعي في مجموعة من المشاريع والبرامج الاستثمارية التي تروم تحقيق التنمية المستدامة بالمغرب.

  1. مفهوم التنمية المستدامة

لقد استخدم مصطلح التنمية المستدامة لأول مرة في سنة 1988، وذلك في إطار تقرير ” Brundtland” الذي أسس مفهوم التنمية المستدامة نحو التعريف التالي: “أنه نمط من التنمية يسعى إلى تلبية احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها الخاصة”، وهو تعريف جديد للتنمية يتجاوز تحقيق هدف النمو ليشمل أهداف أخرى، والتي تتحدد فيما يلي:

  • التنمية التي تحافظ على البيئة؛
  • التنمية التي تأخذ بعين الاعتبار مفاهيم الفعالية الاقتصادية؛
  • التنمية التي تحترم العدالة الاجتماعية[3].

وعليه، فالتنمية المستدامة اجتماعيا تأخذ في الاعتبار أربعة عوامل، وهي: البيئة، والثقافة، والشأن الاجتماعي، والاقتصاد، كمرجعيات تمكن من وضع الإنسان في قلب تنميته، وهو نموذج يوفر إطارًا متماسكًا لتحليل علاقات الفرد مع الآخرين وبيئته، حيث يجب أن يحصل إجماع واسع على أن يجد كل شخص ضمانًا اجتماعيًا وماليًا وبيئيًا.

وبتاريخ  1 يناير 2016، أطلق العالم رسمياً خطة التنمية المستدامة لسنة 2030، وهي خطة عمل تحويلية ترتكز على 17 هدفًا للتنمية المستدامة، من أجل مواجهة التحديات العالمية الملحة  للسنوات الخمسة عشرة القادمة، حيث سيستفيد هذا البرنامج، من نجاح الأهداف الإنمائية للألفية، في أفق تحقيق تقدم اقتصادي واجتماعي مستدام في جميع أنحاء العالم، فهو برنامج لا يسعى فقط إلى القضاء على الفقر المدقع، بل يهدف إلى دمج وتحقيق التوازن بين الأبعاد الثلاثة للتنمية المستدامة – الاقتصادية والاجتماعية والبيئية – ضمن رؤية عالمية.

وعليه، تتحدد الأهداف 17 للتنمية المستدامة فيما يلي:

  • القضاء على الفقر حول العالم بجميع أشكاله؛
  • القضاء على الجوع وضمان الأمن الغذائي وتحسين التغذية وتعزيز الزراعة المستدامة؛
  • ضمان العيش بصحة جيدة وتعزيز الرفاه الاجتماعي بالنسبة لجميع الأفراد ولكل الأعمار؛
  • ضمان حصول الجميع على تعليم اجيد على قدم المساواة، وتعزيز فرص التعلم لمدى الحياة؛
  • تحقيق المساواة بين الجنسين وتمكين جميع النساء والفتيات من الاستقلالية؛
  • ضمان حصول الجميع على الماء والصرف الصحي وضمان الإدارة المستدامة للموارد المائية؛
  • ضمان حصول الجميع على خدمات طاقة مستدامة وحديثة وبتكلفة مناسبة؛
  • ﺗﻌزﯾز اﻟﻧﻣو اﻻﻗﺗﺻﺎدي اﻟﻣﺳﺗدام واﻟﻣﺷﺗرك وتحقيق اﻟﻌﻣﺎﻟﺔ اﻟﮐﺎﻣﻟﺔ واﻟﻣﻧﺗﺟﺔ وتوفير اﻟﻌﻣل اﻟﻼﺋق للجميع؛
  • بناء بنية تحتية مرنة، وتعزيز التصنيع المستدام الذي يفيد الجميع ويشجع على الابتكار؛
  • الحد من عدم المساواة بين البلدان ومن بلد إلى آخر؛
  • ضمان أن تكون المدن والمستوطنات البشرية شاملة وآمنة ومرنة ومستدامة؛
  • وضع أنماط للاستهلاك وللإنتاج مستدامة؛
  • اتخاذ إجراءات عاجلة للتصدي لتغير المناخ وآثاره؛
  • الحفظ والاستغلال المستدام للمحيطات والبحار والموارد البحرية من أجل التنمية المستدامة؛
  • الحفاظ على النظم الإيكولوجية الأرضية واستعادتها، وضمان الاستخدام المستدام، وإدارة الغابات على نحو مستدام، ومكافحة التصحر، وإيقاف وعكس عملية تدهور الأراضي وإنهاء فقدان التنوع البيولوجي؛
  • تعزيز المجتمعات السلمية والشاملة للتنمية المستدامة، وضمان الوصول إلى العدالة للجميع وبناء مؤسسات فعالة وخاضعة للمساءلة وشاملة للجميع على جميع المستويات؛
  • تعزيز وسائل تنفيذ وتنشيط الشراكة العالمية من أجل التنمية المستدامة[4].

وتتمحور أهداف التنمية المستدامة حول مجالات الاقتصاد والمجتمع والبيئة، وهي مجالات مرتبطة ببعضها البعض، بمعنى أن كل إجراء يتخذ في مجال ما سيكون له حتما عواقب على المجالين الاثنين الآخرين، وبالتالي لا يمكنن النظر تدبير أي مجال بشكل مستقل عن المجالات الأخرى الثلاثة[5].

وعليه، فأهداف التنمية المستدامة تسعى بشكل عام إلى إدماج قيم العدالة الاجتماعية والمشاركة والاقتصاد والتدبير الجيد للموارد والمسؤولية الفردية والجماعية في تدبير السياسات العمومية للدول، سواء الدول المتقدمة أو الدول السائرة في طريق النمو، وهي أهداف يتعين على السلطات العمومية المغربية أخذها بعين الاعتبار عند إعداد وتنفيذ أية استراتيجية تنموية.

  • محددات التنمية البشرية المستدامة

يمكن تعريف التنمية، على أنها مجموعة من التحولات المؤسساتية والنفسية والاجتماعية والعقلية التي تهدف إلى تحقيق نمو مستدام، والحد من عدم المساواة ، والحفاظ على ثقافات معينة، في إطار الحفاظ على البيئة، حيث يقول عالم الاجتماع “ميشيل فريتاج” في هذا الصدد: “يجب أن تظهر التنمية على أنها تحقيق مشروع جماعي تم التفكير فيه ومناقشته وإعداده سياسياً، وكذا تبريره والدفاع عليه بطريقة فلسفية، ثم نشره بين المواطنين من خلال المدرسة والثقافة[6].

وأمام تزايد الاحتياجات الاجتماعية للمواطنين، يتعين أن تكون الدولة ناجعة في تدخلاتها، وحاسمة لاتخاذ قرارات تجمع بين الجودة والمساواة والاستدامة والقدرة على التكيف، والتي تسمح بالتفكير في مستقبل الخدمات العامة بشكل يلبي احتياجات المرتفقين، من هنا ينبثق تصور “الدولة المطورة أو المنمية” “Etat Développeur” التي تضمن الخدمات العامة والمصلحة العامة لتسهيل الولوج العادل إلى عدد معين من السلع والخدمات في إطار ممارسة المواطنة الحديثة الكاملة[7].

ويعتبر تحقيق أهداف التنمية البشرية من الرهانات الكبرى للتنمية المستدامة، الأمر الذي يتطلب اعتماد حكامة اجتماعية على مستوى المشاريع والبرامج الاستثمارية للدولة، بشكل يساهم في تحقيق الرخاء الاجتماعي، والحد من المشكلات الاجتماعية المرتبطة بالفقر وتزايد معدلات البطالة، وضعف الولوج إلى الحقوق الأساسية من صحة وتعليم وسكن.

والتنمية البشرية هي ضمان الحريات بالنسبة للجميع، بشكل يتمكن كل إنسان من أن يختار الحياة التي يريد أن يعيشها، وهذه الحريات لها جانبان أساسيان هما: حرية الرفاهية، ممثلة في المهام والقدرات، وحرية الوكلاء الممثلة في التعبير والاستقلالية.

  يقصد بالمهام، ما يريده الشخص أن يكون أو يفعله، وعلى سبيل المثال، كأن يريد الشخص أن يكون سعيدًا، وأن يتغذى بشكل مناسب وبصحة جيدة، ولكن أيضًا، يريد أن يكون لديه احترام الذات والمشاركة في المجتمع.

ويقصد بالقدرات، مجموعات مختلفة من العمليات التي يمكن للشخص القيام بها.

أما حرية الوكلاء، فيقصد بها ما يستطيع الشخص القيام به وتحقيقيه فيما يتعلق بالأهداف أو القيم المهمة بالنسبة إليه[8].

وعليه، فالتنمية البشرية هي عملية تؤدي إلى توسيع الخيارات المتاحة لكل فرد، فهي عملية ونتيجة في نفس الوقت، تحتم على الأشخاص التأثير على العمليات التي تحدد مجرى حياتهم، ولهذا السبب، يعتبر النمو الاقتصادي عاملاً مهماً في التنمية البشرية، ولكن ليس هدفا في حد ذاته.

فمفهوم التنمية البشرية يشكل مرجعا لتنمية الأفراد من خلال خلق ودعم قدراتهم البشرية، وتأمين مشاركتهم النشيطة في العمليات التي تحدد حياتهم، وتحسين حياتهم، وهو منهج يتجاوز المناهج التقليدية للتنمية، ولا سيما فيما يخص الموارد البشرية، والاحتياجات الأساسية ورفاهية الإنسان.

ومؤشر التنمية البشرية (HDI) هو مؤشر مركب من ثلاثة أبعاد أساسية للتنمية البشرية، وهي: القدرة على عيش حياة طويلة وصحية، القدرة على اكتساب المعرفة، القدرة على الحصول على مستوى معيشي لائق.

ولقد قدم تقرير التنمية المستدامة لسنة 2016 حول التنمية للجميع، والذي تم نشره من طرف برنامج الأمم المتحدة للتنمية ” PNUD” خطة عمل تتكون من خمس خطوات لضمان التنمية البشرية للجميع، وهي خطة تضم الإجراءات التي يتعين اتخاذها في مجال السياسات العمومية والالتزامات العالمية، وهي كالتالي:

  • إجراء مسح خرائطي بالنسبة للأشخاص أو المناطق المقصية من التنمية البشرية، بشكل يمكن صناع القرار من صياغة وتنفيذ سياسات لتحسين رفاهية السكان المهمشين والمستضعفين؛
  • مراعاة التنوع والاختلاف في العوامل المحيطة بتنفيذ السياسات العامة سواء الداخلية منها أو الخارجية؛
  • إغلاق الفجوة بين الجنسين، حيث تعد المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة من استقلاليتها، إحدى الجوانب الأساسية للتنمية البشرية، وفي اجتماع تاريخي في سنة 2015 بنيويورك، التزم نحو 80 من زعماء العالم بإنهاء التمييز ضد المرأة بحلول عام 2030، وذلك من خلال اتخاذ إجراءات ملموسة وقابلة للقياس، من أجل تحقيق تغيير وطني سريع؛
  • تنفيذ أهداف التنمية المستدامة والاتفاقات العالمية الأخرى، حيث تعتبر أهداف التنمية المستدامة في حد ذاتها أهداف من أجل التنمية البشرية الشاملة، ولقد تعهدت البلدان المتقدمة والنامية من خلال اتفاقية باريس للمناخ، على بذل كل جهودها من أجل تعزيز التزاماتها في هذا السياق برسم السنوات القادمة؛
  • العمل لفائدة إصلاحات النظام العالمي، حيث ينبغي أن يركز برنامج الإصلاح المؤسسي العالمي على الأسواق الدولية وتنظيمها، وإدارة المؤسسات المتعددة الأطراف، وتعزيز المجتمع المدني العالمي.

يتضح من خلال ما سبق، أن التنمية البشرية باعتبارها أحد مكونات التنمية المستدامة، تشكل آلية وهدف تسعى جميع بلدان العالم إلى تحقيقه، باعتباره مؤشرا لقياس نجاعة السياسات العمومية المتخذة، والتي يتعين أن تجعل من الإنسان محورا وغاية لكل سياسة تنموية، فنجاح هذه الأخيرة، رهين بمدى استجابتها لاحتياجات الفرد وتحقيق رفاهيته المجتمعية وكرامته الإنسانية.

ثانيا: متطلبات ملاءمة المشاريع العمومية مع مؤشرات التنمية البشرية المستدامة

لضمان انخراطها الفعال في الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة، واستجابتها الكاملة لمتطلبات التنمية البشرية، بما يكفل إقامة اقتصاد وطني قوي ومندمج مجاليا ومجتمعيا، فإنه يتعين ملاءمة المشاريع العمومية للدولة مع مؤشرات التنمية البشرية المستدامة، من خلال استحضار وإدماج مؤشرات ومبادئ التنمية البشرية المستدامة طيلة عملية تصور وإعداد وتنفيذ المشاريع العمومية، توخيا للنجاعة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية لأي مشروع أو برنامج تنموي.

وعليه، سيتم التطرق في إطار هذا المحور، للتأطير القانوني والاستراتيجي لمؤشرات التنمية البشرية المستدامة، ولآليات إدماج مؤشرات التنمية البشرية المستدامة ضمن المشاريع العمومية للدولة.

  1. التأطير القانوني والاستراتيجي لمؤشرات التنمية البشرية المستدامة

تفعيلا للاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب في مجال حماية البيئة والتنمية المستدامة، ووعيا منها بأهمية إدماج مبادئ التنمية المستدامة على مستوى مجموع المشاريع العمومية والاستراتيجيات القطاعية، قامت السلطات العمومية بوضع القانون الإطار رقم   12-99 بمثابة ميثاق وطني للبيئة والتنمية المستدامة[9]، الذي يحدد الأهداف الأساسية لنشاط الدولة في مجال حماية البيئة والتنمية المستدامة.

وبعد صدور القانون الإطار السالف ذكره أعلاه، قامت السلطات الحكومية المعنية في أكتوبر 2016 بإعداد الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة 2030، وذلك بتوافق مع أهداف التنمية المستدامة للفترة 2015-2030 المصادق عليها من طرف منظمة الأمم المتحدة.

ولقد حددت هذه الاستراتيجية الوطنية سبعة رهانات تضم عدة محاور استراتيجية التي تروم تحقيق مجموعة من الأهداف، وإنجاز تدابير ومشاريع من شأنها تكريس مبادئ التنمية المستدامة ضمن المشاريع المهيكلة والاستراتيجيات القطاعية للدولة، وتتحدد هذه الرهانات فيما يلي:

  • تعزيز حكامة التنمية المستدامة من خلال تقوية الإطار القانوني والمؤسساتي للتنمية المستدامة، وتعزيز أداء الدولة وتطوير آلياتها الاقتصادية والمالية، ودعم ميكانيزمات وآليات المراقبة؛
  • إنجاح الانتقال نحو الاقتصاد الأخضر من خلال عصرنة القطاع الفلاحي وضمان حماية الموارد البحرية، وتسريع وثيرة تنفيذ الاستراتيجية الصناعية والطاقية ضمن مسار الاقتصاد الأخضر والتنمية المستدامة؛
  • تحسين تدبير وتثمين الموارد الطبيعية، ودعم المحافظة على التنوع البيولوجي من خلال تأمين التزويد بالماء وتدعيم التدبير المندمج للموارد المائية، وتطوير معرفة الضغوط الممارسة على التربة، وحماية التنوع البيولوجي وتقوية سياسات المحافظة عليه؛
  • تسريع تنفيذ سياسة وطنية لمحاربة التغيرات المناخية من خلال تحسين الحكامة المناخية، وضمان الانخراط الترابي في مسار مكافحة الاحتباس الحراري، واستغلال فرص تمويل البرامج المناخية؛
  • إيلاء عناية أكبر بالمجالات الترابية الهشة من خلال تحسين التدبير المستدام للساحل، وحماية وتثمين مناطق الواحات والمناطق الصحراوية، وتعزيز سياسات تدبير المناطق الجبلية؛
  • دعم التنمية البشرية وتقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية من خلال استثمار مكتسبات المبادرة الوطنية للتنمية البشرية لمحاربة الفقر، ودعم نظام الصحة واليقظة الصحية، وسد الخصاص في ميدان التعليم؛
  • النهوض بثقافة التنمية المستدامة من خلال تقوية المواطنة البيئية وجعل الابتكار والبحث رافعة للانتقال نحو التجسيد الفعلي للتنمية المستدامة، والارتقاء بالتكوين في المهن الخضراء، وتعزيز الارتقاء بالثقافة للانتقال نحو مجتمع مستدام[10].

يتضح إذن من خلال هذه الرهانات السبعة للاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة، أن التنمية البشرية تشكل رهانا أساسيا لتحقيق أهداف التنمية البشرية المستدامة ببعديها الوطني والعالمي، حيث تم تخصيص ثلاث محاور استراتيجية لها، والتي تتمثل في: استثمار مكتسبات المبادرة الوطنية للتنمية البشرية لمحاربة الفقر، ودعم نظام الصحة واليقظة الصحية، وسد الخصاص في ميدان التعليم، وهي محاور من شأن تفعيلها، تعزيز البرامج والتدابير المتخذة لدعم التنمية البشرية المستدامة بالبلاد، من قبيل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، مخطط المغرب الأخضر، برنامج النجاعة الطاقية… إلخ.

ومن أجل تعزيز جهود السلطات العمومية في مجال تحقيق أهداف التنمية المستدامة بشكل عام، والتنمية البشرية بشكل خاص، لا سيما فيما يخص تثمين مشاريع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية والرفع من فعاليتها ونجاعتها لترتقي إلى مبادئ التنمية المستدامة بمنظوريها الوطني والدولي، يقترح اتخاذ مجموعة من التدابير الكفيلة بدعم هذه المجهودات والمساهمة في سبل وطرق تعزيز مؤشرات التنمية البشرية على مستوى صناعة القرار العمومي، وبالأخص قرار الاستثمار العمومي الذي يعتبر أساس لكل تنمية منشودة، وهو ما سنتطرق إليه في النقطة التالية.

  • آليات إدماج مؤشرات التنمية البشرية المستدامة ضمن المشاريع العمومية للدولة

تعزيزا للمكتسبات القانونية والتنظيمية المؤطرة لمفاهيم التنمية البشرية والتنمية المستدامة، ومواصلة لتدخلات الدولة في مجال إنجاز مجموعة من المشاريع والبرامج المتصلة بالتنمية البشرية، لا سيما فيما يتعلق بالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وسعيا وراء تحسين تصنيف المغرب دوليا على مستوى مؤشرات التنمية المستدامة، حيث احتل المرتبة 64 بمعدل 61.6 على 100 من أصل 149 دولة التي شملتها الدراسة[11]، فإنه يتعين على السلطات العمومية تكثيف مجهوداتها لتفعيل وتسريع وثيرة إنجاز المحاور الاستراتيجية المتضمنة في الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة، وكذا توجيه وملاءمة مختلف السياسات العمومية والاستراتيجيات القطاعية مع متطلبات التنمية البشرية والتنمية المستدامة على حد السواء، وذلك من خلال:

  • وضع استراتيجية إرادية لتسريع وثيرة التنمية البشرية، من خلال وضع برامج لتطوير التنمية البشرية في مجالات التربية والتكوين والصحة والثقافة[12]؛
  • الحرص على إدراج برامج متصلة بأهداف التنمية البشرية المستدامة على مستوى المشاريع العمومية وبرمجة الميزانية، وذلك في مجالات كالصحة والتعليم والهجرة؛
  • دمج مفاهيم ومبادئ التنمية المستدامة في إدارة المنظمات العامة والخاصة الراغبة في التعاقد مع الدولة، وحتى تلك التي تتلقى الإعانات من الإدارة، فيجب عليها أن تحترم هذه المبادئ التي تدعو إلى حكامة استراتيجية أكثر احترامًا لجودة البيئة والعدالة الاجتماعية[13]؛
  • اقتراح آلية لدعم التنمية البشرية، من خلال التفكير في إحداث آليات لتمويل المشاريع الصغيرة والتضامنية ذات الطابع المستدام في الوسط القروي، وذلك في مجالات السقي والبنيات التحتية للنقل والصناعة، بالإضافة إلى إحداث مشاريع اجتماعية التي ستساعد على توفير دخل مستقر للساكنة القروية ، وهو الأمر الذي سيساهم في خلق طلب إضافي نحو القطاعات الأخرى، حيث من المنتظر أن تمكن هذه المقاربة من إعداد وتحيين بنك خاص من المشاريع الصغيرة في المجالات المعنية على مستوى كل جهة وبشكل دوري ودائم؛
  • إعطاء أولوية لتشغيل الشباب ومحاربة البطالة التي تمثل إحدى دعائم الميثاق الاجتماعي، عبر توجيه أفضل للادخار والاستثمار نحو قطاعات ذات قيمة مضافة عالية، وإحداث مسالك جديدة في التكوين منسجمة وملائمة مع متطلبات الاستراتيجيات القطاعية من الموارد البشرية المؤهلة والمتخصصة، وتطوير جسور فعالة بين الجامعة والمقاولة[14]؛
  • وضع معايير واضحة من أجل تدبير ناجع لصندوق التأهيل الاجتماعي للجهات تنبني على خريطة دقيقة للفوارق الجهوية في مجالا الصحة والثقافة والتعليم والبيئة؛
  • تعزيز الممارسة الديمقراطية التشاركية من خلال إرساء آليات المشاركة والحوار مع مختلف الفاعلين الحكوميين والمنتخبين والخواص ومنظمات المجتمع المدني، من أجل دعم التماسك الاجتماعي والمشاركة الحقيقية في تطبيق أهداف التنمية البشرية المستدامة والمندمجة للمجال الترابي[15]؛
  • ملاءمة التنمية الجهوية مع متطلبات التنمية المستدامة عبر تمكين الجهات المتأخرة من بلوغ المعدل الوطني لمؤشرات التنمية البشرية، ودعم هذه الأخيرة لترتقي ّإلى مبادئ وأهداف التنمية المستدامة، وجعل الجهة قطب حقيقي للتنمية والتنافسية، في أفق تفعيل تنمية جهوية مندمجة ومتضامنة ومستدامة؛
  • إعداد تقارير بشكل دوري ودائم عن نتائج البرامج الاجتماعية وآثار المشاريع الاقتصادية على تعزيز مؤشرات التنمية البشرية بصفة خاصة، والتنمية المستدامة بصفة عامة.

تشكل هذه المقترحات في مجملها حلولا تكميلية لمجموع الإجراءات والتدابير التي تتخذها الدولة لتعزيز التنمية البشرية في الأوساط الحضرية والشبه الحضرية والقروية والجبلية، والتي يجب تكثيفها وتطويرها وتعميمها على جميع جهات المملكة، وذلك بجعل العنصر البشري في صلب اهتمامات وانشغالات الدولة، والنواة الرئيسية لكل سياسة متبعة، بحيث يجب أن تتجه جميع المشاريع العمومية والاستراتيجيات القطاعية نحو خدمة التنمية البشرية، وتسهيل الحياة اليومية للمواطن.

ثالثا: المسؤولية المجتمعية كآلية لتحقيق التنمية البشرية المستدامة

يعتبر تخليق تدبير الشأن العام أحد المسؤوليات الاستراتيجية التي أصبحت ملقاة على عاتق السلطات العمومية اليوم، وذلك تماشيا مع المواثيق الدولية في مجال حماية حقوق الإنسان والحفاظ على البيئة، وتوخيا للنجاعة الشمولية بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وهو ما يفرض على المغرب اليوم، الانخراط في هذا التحول المجتمعي والمستجد العالمي، من خلال إقرار المسؤولية المجتمعية كأحد مظاهر التنمية المستدامة، وأحد متطلبات الحكامة الجيدة، ضمن آليات تدبيرها، سواء على مستوى الوزارات والقطاعات الحكومية المختلفة، أو على مستوى المؤسسات والمقاولات العمومية المتعاقدة مع الدولة، وذلك في إطار تكريس البعدين الاجتماعي والأخلاقي ضمن جل المشاريع العمومية للدولة.

  1. مفهوم المسؤولية المجتمعية

يقصد بالمسؤولية المجتمعية للمنظمات حسب تعريف المنظمة الدولية للمعايير، “مسؤولية المنظمة عن الآثار الناتجة عن قراراتها وأنشطتها على المجتمع والبيئة، وذلك من خلال سلوك أخلاقي يتسم بالشفافية، والذي من شأنه أن:

  • يساهم في التنمية المستدامة، من خلال تحسين المستوى الصحي للمجتمع، وتحقيق رخائه؛
  • يتماشى مع القوانين المطبقة ومع المعايير الدولية للسلوك؛
  • يدمج عبر المنظمة ويمارس من خلال علاقاتها”[16].

ومفهوم المسؤولية المجتمعية هو مفهوم ليس حديث النشأة، بل هم مفهوم ظهر قديما خلال القرن التاسع عشر من قبل المنشآت والحكومات خلال تلك الفترة أو قبلها، ثم ظهر ثانية خلال سنة 1950 بالولايات المتحدة الأمريكية إبان ظهور تيار “أخلاقيات العمل” الذي كان يدعو إلى المسؤولية الشخصية والأخلاقية للمسؤول المسير، ليبرز بوضوح خلال سبعينيات القرن الماضي موازاة مع تيار “الاستراتيجية النفعية” الذي يعتبر أن السلوك المسؤول يعمل على تحسين الأداء الاقتصادي للمقاولة[17].

ويرتبط ظهوره اليوم، مع تزايد المطالب بتبني فكرة “الاستدامة” على مستوى جميع المنشآت والمقاولات، وجعلها هدفا استراتيجيا ضمن خطط وبرامج عمل هذه المنشآت والمقاولات، وهي فكرة تتمحور حول دور المقاولة للمساهمة في التنمية المستدامة في إطار مقاربة طويلة المدى، تأخذ بعين الاعتبار حاجيات الأجيال القادمة.

والخاصية الرئيسية التي تتمتع بها المسؤولية المجتمعية، هو الطابع الإرادي للالتزام بها اتجاه الأطراف المعنية، والذي يتحدد في رغبة المنشأة في دمج وإدراج الموضوعات الاجتماعية والبيئية في عملية صنع قراراتها، وأن تكون مسؤولة عن تأثيرات أنشطتها وقراراتها على المجتمع والبيئة.

أما الخصائص الأخرى للمسؤولية المجتمعية فهي تتحدد فيما يلي:

  • احترام المعايير الدولية في مجال حماية البيئة واحترام حقوق الإنسان وقواعد الحكامة وأخلاقيات المهن، وتدبير سلسلة التوريد والإدارة والاستثمارات المسؤولة؛
  • المساهمة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة؛
  • الإنصات والحوار المفتوح والمنظم مع الأطراف المعنية؛
  • إنجاز تقارير منتظمة؛
  • السعي إلى التحسين المستمر، لا سيما من خلال تحديد المخاطر والتحكم فيها[18].

وترتكز المسؤولية المجتمعية حول سبعة مبادئ، حيث يتجلى الهدف الرئيسي من ممارسة المسؤولية المجتمعية هو زيادة مساهمتها في التنمية المستدامة، وذلك من خلال تطبيق المبادئ السبعة التالية:

القابلية للمساءلة: يقصد بهذا المبدأ، استجابة المنظمة للمساءلة عن الآثار الناتجة عن أنشطتها على المجتمع والبيئة، وقبولها لإجراء أي مراقبة أو تدقيق على أعمالها، وهو ما يفرض عليها القبول لأية مساءلة من قبل السلطات العمومية فيما يخص تطبيق القوانين والإجراءات التي اتخذتها لمنع تكرار الآثار السلبية غير المقصودة؛

الشفافية: يفرض هذا المبدأ على المنظمة أن تتحلى بالشفافية في اتخاذ قراراتها وأنشطتها التي تؤثر على المجتمع والبيئة، والتي يجب أن تكون واضحة ومفهومة ومتاحة للجميع ويسهل الوصول إليها من قبل الأشخاص المعنيين بها أو المتأثرين بها سواء بشكل مباشر أو غير مباشر؛

السلوك الأخلاقي: يقتضي هذا المبدأ، التزام المنظمة بأخلاقيات الأمانة والعدل والتكامل فيما يتعلق بالأشخاص والحيوانات والبيئة والالتزام بتناول مصالح الأطراف المعنية، وذلك من خلال وضع وتحديد قيمها ومبادئها الجوهرية، ووضع هياكل ذات حكامة التي تساعد على تعزيز السلوك الأخلاقي داخل المنظمة، وتحديد وتبني وتطبيق معايير السلوك الأخلاقية الملائمة لمهامها ولأنشطتها، وأيضا من خلال تشجيع وتعزيز الالتزام بمعايير السلوك الأخلاقي الخاص بها، وإنشاء آليات رقابية لمراقبة وتطبيق السلوك الأخلاقي، وآليات لتسهيل عملية تقديم التقارير حول المخالفات الخاصة بالسلوك الاخلاقي؛

احترام مصالح الأطراف المعنية: وهو ما يفرض على المنظمة احترام مصالح جميع الأفراد والجماعات الذين يمكن أن تكون لهم حقوق ومصالح مع المنظمة المعنية، والتي يجب مراعاتها وأخذها بعين الاعتبار قبل اتخاذ أي قرار أو مزاولة أي نشاط؛

احترام سيادة القانون: يعني هذا المبدأ أن توافق المنظمة بشكل إلزامي على احترام القوانين الجاري بها العمل، وهو ما يفرض عليها التأكد من أن علاقاتها وأنشطتها تمارس في إطار قانوني سليم، والإلمام المستمر بكافة المستجدات القانونية، وإجراء تقييم ذاتي وبشكل دوري لمدى استجابتها وخضوعها للقوانين المعمول بها؛

احترام المعايير الدولية للسلوك: ويقصد به، حرص المنظمة على احترام وتطبيق المعايير الدولية للسلوك مع الالتزام بمبدأ سيادة القانون، خاصة بالنسبة للدول التي تتعارض قوانينها بشكل كبير مع المعايير الدولية، في هذه الحالة، يتعين على المنظمة أن تبذل قصارى جهدها لاحترام هذه المعايير الدولية لحماية البيئة والمجتمع؛

احترام حقوق الإنسان: من خلال احترام وتعزيز الحقوق المتضمنة في الميثاق الدولي لحقوق الإنسان، انطلاقا من الإيمان بأن هذه الحقوق هي عالمية وعامة وجزء لا يتجزأ من الحقوق المطبقة في كافة الدول والثقافات والمواقف[19].

وتطبيق المسؤولية المجتمعية يفرض على المنظمة التطرق للمواضيع الجوهرية التالية:

  • الحوكمة المؤسسية؛
  • حقوق الإنسان؛
  • ممارسات العمل؛
  • البيئة؛
  • ممارسات التشغيل العادلة؛
  • قضايا المستهلك؛
  • مشاركة وتنمية المجتمع.

يتضح من خلال ما سبق، أن المسؤولية المجتمعية تجمع بين عدة قضايا ومواضيع مختلفة تلتقي حول مبادئ التنمية المستدامة وحول قواعد الحكامة الجيدة، فمن شأن الجمع والتوفيق بين متطلبات زيادة النمو الاقتصادي، وتحقيق العدالة والرفاه الاجتماعي، وضمان حقوق الإنسان، وحماية البيئة، وترسيخ قيم الشفافية والمسؤولية، إنجاح رهان تفعيل المسؤولية المجتمعية ضمن المشاريع العمومية للدولة، وهذا ما سنتطرق إليه في إطار الفرع الموالي.

  • إقرار المسؤولية المجتمعية ضمن المشاريع العمومية للدولة

يعتبر الارتقاء بمؤشرات التنمية البشرية مطلبا عالميا انخرطت في تحقيقه مجموعة من الدول المتقدمة والنامية الراغبة في تحسين ظروف عيش المواطنين، والحد من العوامل السلبية التي تحول دون تمتع عدد كبير من الأفراد من حقوقهم الأساسية المتمثلة في ضمان عيش كريم وصحة جيدة وتعليم راق وسكن لائق.. إلخ، وهي كلها حقوق يتعين على مؤسسات الدولة أخذها بعين الاعتبار عند إعداد وتنفيذ أية سياسة عمومية، وهو ما يتطلب أن تتحلى هذه المؤسسات بالمسؤولية المجتمعية التي تعتبر آلية لخدمة التنمية البشرية بصفة خاصة، والتنمية المستدامة بصفة عامة.

ووعيا منها بأهمية إقرار المسؤولية المجتمعية ضمن آليات التدبير الحديثة للسياسات العمومية، قامت الدولة بتكريس البعد الاجتماعي والمسؤولية الاجتماعية في إطار دستور 2011، وذلك من خلال تنصيصه على مجموعة من مبادئ الحكامة الجيدة كالشفافية والإنصاف ومحاربة الفساد والأخلاقيات وربط المسؤولية بالمحاسبة، وهي مبادئ تتوافق مع مبادئ التنمية المستدامة[20].

ولقد تمت ترجمة الإرادة السياسة نحو إرساء مبادئ التنمية المستدامة في التدبير العمومي، من خلال المصادقة على القانون الإطار رقم 99-12 بمثابة ميثاق وطني للبيئة والتنمية المستدامة، وإعداد الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة 2030 التي ترتكز على أربعة مبادئ أساسية:

  • التوافق مع مبادئ الاتفاقيات الدولية والإقليمية الكبرى في مجال البيئة والتنمية المستدامة؛
  • التطابق مع مبادئ القانون الإطار رقم 99-12 بمثابة ميثاق وطني للبيئة والتنمية المستدامة، المتمثلة في الاندماج والمجالية الترابية والتضامن والاحتياط والوقاية والمسؤولية والمشاركة؛
  • التزام الأطراف المعنية بأهداف وتدابير وإجراءات هذه الاستراتيجية، بهدف ملاءمة سلوكيات الإدارة مع مبادئ التنمية المستدامة؛
  • الطابع العملي للاستراتيجية، لكونها ترتكز على تدابير ملموسة وميدانية، وعلى استراتيجيات ومخططات وبرامج هي في طور التنفيذ، كما أنها لا تتعارض مع التوجهات التنموية للدولة[21].

وتعكس هذه التدابير القانونية والتنظيمية الإرادة السياسية للدولة في تغيير نمط التدبير العمومي، وتغيير سلوكيات مختلف الفاعلين في الشأن العام، وتنميطها وفق الممارسات الجيدة للحكامة، التي ترتكز على مبادئ النجاعة والفعالية والمسؤولية والمحاسبة الهادفة إلى تعزيز التنمية البشرية في أفق تحقيق تنمية مستدامة منسجمة ومتوازنة مجاليا.

ويعتبر ميثاق المسؤولية الاجتماعية للمقاولات وعلامة المسؤولية الاجتماعية للمقاولة اللذين أعدهما الاتحاد العام لمقاولات المغرب في سنة 2006، أول إجراء تطبيقي لمبدأ المسؤولية المجتمعية للمنظمات، حيث حازت 75 مقاولة على هذه العلامة[22]، كاعتراف على مساهمة هذه المقاولات في التفعيل الحقيقي لممارسات الحكامة الجيدة التي تعتبر المسؤولية الاجتماعية أحد أهم ممارساتها.

وفي مارس 2008، تم إصدار ميثاق الممارسات الجيدة في مجال حكامة المقاولات والمؤسسات العمومية من طرف اللجنة الوطنية لحكامة المقاولات، والذي يتضمن مجموعة من القواعد الهادفة إلى إرساء أفضل ممارسات الحكامة وترسيخ قيم ومبادئ الشفافية والتواصل والأخلاقيات والعدالة والمساءلة، وهي قيم ومبادئ تنسجم مع أهداف التنمية البشرية المستدامة.

وفي قراءة لمضامين القانون الإطار رقم 99-12 بمثابة ميثاق وطني للبيئة والتنمية المستدامة، نجد أن الباب الثالث لا ينص بصريح العبارة على تعزيز البعد الاجتماعي للتنمية المستدامة، ولذلك اقترح المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي المغربي في إطار رأيه حول مشروع القانون رقم 12-99 بمثابة الميثاق الوطني للبيئة والتنمية المستدامة، بضرورة التنصيص على ما يلي:

  • محاربة أشكال التفاوت البيئي والاجتماعي، مع تفادي أن تكون الفئات الأكثر هشاشة في مجالات الدخل والسكن والتجهيزات الاجتماعية هي الأكثر عرضة للمعاناة من أشكال التلوث البيئي أو التسبب فيها؛
  • ضرورة احترام المعايير الاجتماعية الجاري بها العمل؛
  • النهوض بالتماسك الاجتماعي واتضامن بين المجالات الترابية وبين الأجيال[23].

والملاحظ، أن هذه المقترحات لم يتم الأخذ بها أثناء المصادقة النهائية للقانون المذكور، والتي تعتبر اقتراحات من شأنها تثمين البعد الاجتماعي للتنمية المستدامة، وإعطاء العنصر البشري المكانة القانونية الحقيقية في عملية صنع وتنفيذ القرار السياسي.

ويمكن اعتبار التقرير الصادر عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي المغربي حول “من أجل ميثاق اجتماعي جديد: معايير يجب احترامها وأهداف ينبغي التعاقد بشأنها” مرجعا أساسيا لإقرار كل من التنمية البشرية المستدامة والمسؤولية المجتمعية في إعداد وتنفيذ السياسات التنموية، والتي تضم 39 مبدأ وحقا أساسيا ملزما، يتفرع منها 92 هدفا إجرائيا، يستند إلى 250 مؤشرا للتتبع وقياس التقدم، وقد تم تقديمها في إطار ستة محاور وهي:

  1. الولوج إلى الخدمات الأساسية والرفاه الاجتماعي؛
  2. المعارف والتكوين والتنمية الثقافية؛
  3. الإدماج وأشكال التضامن؛
  4. الحوار الاجتماعي والحوار المدني والتعاقدات المجددة؛
  5. حماية البيئة؛
  6. الحكامة المسؤولة والتنمية والأمن الاقتصادي والديمقراطية الاجتماعية[24].

وتشكل هذه المحاور الستة، مرجعيات لإقامة نموذج تنموي قوي اقتصاديا، ومتماسك اجتماعيا، في إطار التفعيل السليم للممارسات الحكامة الجيدة، والتنزيل الناجع لمبادئ التنمية البشرية المستدامة، حيث يعد هذا الميثاق آلية للتوفيق بين متطلبات النمو الاقتصادي ورهانات تعزيز حقوق الإنسان الضامنة لكرامته وعيشه في ظروف جيدة.

ولقد تم التطرق في إطار هذا الميثاق المعد من طرف المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي المغربي إلى مسألة المسؤولية الاجتماعية للمنظمات في إطار المحور الرابع منه تحت عنوان “الحوار الاجتماعي، والحوار المدني، والشراكات المجددة”، الذي أشار إلى أن الهدف من إقرار المسؤولية الاجتماعية للمنظمات، هو تشجيع الالتزامات وأداء الشركاء الاقتصاديين والاجتماعيين في مجال المسؤولية الاجتماعية، تنفيذا لأحكام الفصل 154 من الدستور، وانسجاما مع مضامين تقرير روجي إلى الأمين العام للأمم المتحدة في يونيو 2011، ووفقا لمعيار “إيزو” 26000 المتعلق بالمسؤولية الاجتماعية للمنظمات.

ولقد تم تخصيص في إطار الميثاق المذكور، خمسة (5) مؤشرات لقياس درجة تنفيذ هذا الهدف، والتي تتحدد فيما يلي:

  • المؤشرات المتعلقة بقياس مدى التقدم المحرز في إدماج معيار المسؤولية الاجتماعية والبيئية ومعيار الحكامة في منح الصفقات العمومية؛
  • المؤشرات المتعلقة بقياس مدى التقدم المحرز في إدماج معايير المسؤولية الاجتماعية والبيئية ومعيار الحكامة في قرارات تدبير الادخار في مؤسسات الضمان الاجتماعي العمومية أو شبه العمومية؛
  • التأسيس لمبدأ إلزامية نشر المقاولات المدرجة في البورصة والمقاولات الكبرى التي تضم أكثر من 500 أجير، تقرير عن أهدافها وتدبير انعكاساتها الاجتماعية والبيئية وانعكاساتها على الحكامة، معيار انتقاء المتعهدين، الوقاية من الرشوة… إلخ؛
  • عدد وحجم المقاولات المنخرطة في مجال المسؤولية الاجتماعية والحاصلة على اعتراف الاتحاد العام لمقاولات المغرب أو أي طرف ثالث في مجال المسؤولية الاجتماعية؛
  • مؤشرات حول التزامات تعاقدية للنقابات فيما يخص المسؤولية الاجتماعية[25].

والجدير بالذكر، أن عملية إدماج مقاربة المسؤولية المجتمعية للمنظمات هي عملية تتطلب التدرج في تفعيلها وتطبيقها، باعتبارها معطى جديد ويتداخل مع مجموعة من المفاهيم الجديدة للحكامة والتنمية، وهو ما يتطلب من الدولة باعتبارها المسؤول الأول على تدبير الشأن العام، المبادرة إلى القيام بحملة تحسيسية وتواصلية مع مختلف الفاعلين في التنمية، بأهمية تبني هذه المقاربة، وجعلها ركيزة أساسية لأية سياسة عمومية.

وعليه، فالتطبيق الناجع لهذه المقاربة يقتضي اتخاذ مجموعة من التدابير المتجانسة مع متطلبات الحكامة الجيدة، والتي تتمثل فيما يلي:

  • وضع إطار حكامة وطنية للمسؤولية المجتمعية للمنظمات، عبر إرساء مجموعة من القواعد والقيم الواجب الالتزام بها، من أجل تعزيز أسس التنمية البشرية المستدامة في جل القطاعات الوزارية والمؤسسات العمومية التابعة لها، وذلك تنفيذا لأحكام دستور 2011، الذي ينص في إطار الفصل 157 الذي نص على أن التزام المرافق العمومية باحترام المواطنين والمرتفقين يجب أن يتجسد في ميثاق للمرافق العمومية، الذي يضمن تطبيق قواعد الحكامة الجيدة والتنمية المستدامة، وتحسين أداء الإدارة وتحديثها، واحترام حقوق وكرامة المرتفق[26]؛
  • الإسراع في تنفيذ الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة 2030 التي تعتبر مدخلا أساسيا لإرساء مبادئ المسؤولية المجتمعية في تدبير مؤسسات الدولة، وبالتالي ضمان التفعيل الحقيقي لمبادئ التنمية البشرية المستدامة[27]؛
  • وضع ميثاق إرادي للإدارة المسؤولة اجتماعيا، الذي يعتبر آلية مهيكلة لتوجيه فاعلي الوظيفة العمومية وتؤطر عملهم من أجل تفعيل أنشطتهم وأجرأتها والإشراف عليها وتقديم الحساب بشأنها وفق مرتكزات التنمية المستدامة والمنسجمة مجاليا؛
  • حث الدولة على إدماج المسؤولية المجتمعية ضمن حكامتها ووسائل تدبيرها، وذلك من خلال ضمان وتقييم وتقديم الحساب عن كيفية تسيير هيآتها، وأيضا عبر احترام الحقوق الأساسية للأشخاص في مجال الشغل، وإدماج الأشخاص في وضعية إعاقة في عالم الشغل وضمان الاحتفاظ بهم واستقرارهم في مناصب عملهم؛
  • تشجيع مبادئ الاستثمار المسؤول اجتماعيا وهو ما يتطلب ملاءمة الآليات التنظيمية المرجعية مع الأطر المرجعية الدولية، لا سيما فيما يتعلق بالقطاعات المنتجة لفرص الشغل وللقيمة المشتركة، كما يتطلب كذلك تشجيع القطاع الخاص للانخراط في هذه المقاربة، من خلال تحفيزه وتحسسيه بأهميتها وبانعكاساتها الإيجابية على المقاولة وعلى المجتمع؛
  • إنشاء منتدى وطني للتنمية المستدامة والمسؤولية المجتمعية للمنظمات[28]، الذي سيشكل مناسبة للتواصل وتبادل الآراء بين مختلف الفاعلين الحكوميين والخواص والمجتمع المدني بشأن طرق وآليات تعزيز مبادئ التنمية المستدامة والمسؤولية المجتمعية في تدبير مختلف السياسات والمشاريع العمومية.

يتضح من خلال ما سبق، أن المسؤولية المجتمعية تشكل آلية لتعزيز مسؤولية المنظمات إزاء آثار أنشطتها على المجتمع والبيئة، فهي بمثابة أداة تحسيسية بأهمية استحضار الحقوق الإنسانية والاجتماعية للفرد في مجموع البرامج والمشاريع التي تقرها الدولة، انطلاقا من قناعة مفادها أن تحقيق العدالة الاجتماعية ومحاربة الفقر والهشاشة والإقصاء هي أولويات التي يجب أن ترتكز عليها أية سياسة تنموية، بهدف تحقيق التنمية البشرية المستدامة المنشودة.


[1]– أنطوني آنيت: استعادة الجانب الأخلاقي للاقتصاد، مجلة التمويل والتنمية، العدد 55، الرقم 1، مارس 2018، منشورات صندوق النقد الدولي، ص: 55.

[2]– الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة 2030، أكتوبر 2017، منشورات كتابة الدولة لدى وزير الطاقة والمعادن والتنمية المستدامة المكلفة بالتنمية المستدامة، ص: 17.

[3] – Serge Raynal : Gouvernance et Développement Durable, la revue des sciences de gestion, direction et gestion, 2009/5, n° 239-240, p : 22.

[4]– Rapport sur les objectifs de développement durable 2016, Nations Unies, New York, 2016.

[5] – Développement Durable : Qu’est-ce que c’est ? Développement Durable, Consommation, Population, Mondialisation, Impact Environnementaux, Empreinte Ecologique, Dossier Pédagogique 5, Langues, Géographie, Sciences Naturelles, Class Zero Emission, p :3.

[6]-Jeanne Simard, Marc-André Morency: Gouvernance et Développement: les approches législative canadienne et québécoise, Direction et Gestion (La RSG)، La Revue des Sciences de Gestion, 2009/5, n° 239-240, p: 71.

[7]– Jacqueline DONEDDU: Quelles Missions et Quelle Organisation de l’État dans les Territoires ?, Les éditions des Journaux Officiels, Conseil économique Social et Environnemental, République Française, Novembre 2011, Op, Cit, p :22.

[8] – Rapport sur le développement humain 2016 : le développement humain pour tous, Publié par le Programme des Nations Unies pour le développement (PNUD), p : 2.

[9]– ظهير شريف رقم 09-14-1 صادر في 4 جمادى الأولى 1435 (6 مارس 2014) بتنفيذ القانون- الإطار رقم 12-99 بمثابة ميثاق وطني للبيئة والتنمية المستدامة (ج- ر- عدد 6240 بتاريخ 18 جمادى الأولى 1435 – 20 مارس 2014).

[10]– الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة 2030، أكتوبر 2017، منشورات كتابة الدولة لدى وزير الطاقة والمعادن والتنمية المستدامة المكلفة بالتنمية المستدامة، مرجع سابق.

[11]– تقرير شامل حول مؤشر أهداف التنمية المستدامة ولوحات المعلومات، يوليوز 2016، نيويورك، مؤسسة برتلسمان وشبكة حلول التنمية المستدامة، ص: 16.

[12]– التقرير السنوي 2016، منشورات المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، ص: 108.

[13]-Jeanne Simard, Marc-André Morency : Gouvernance et Développement : les approches législative canadienne et québécoise, op, cit, p : 72.

[14]– تشغيل الشباب: رأي المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، إحالة ذاتية، رقم 2/2011، ص: 7.

وللمزيد من التعمق انظر التقرير المفصل الصادر عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حول تشغيل الشباب موضوع إحالته الذاتية تحت رقم 2/2011.

[15]– متطلبات الجهوية وتحديات اندماج السياسات القطاعية، تقرير صادر عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، مارس 2016، ص: 110.

[16]– المواصفة القياسية الدولية: أيزو 26000، دليل إرشادي حول المسؤولية المجتمعية، ISO 2010، الأمانة المركزية في جنيف، سويسرا، ص: 3.

[17]– المسؤولية المجتمعية للمنظمات: آليات الانتقال نحو تنمية مستدامة، منشورات المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، إحالة ذاتية رقم 26/2016، ص9.

[18]– المسؤولية المجتمعية للمنظمات: آليات الانتقال نحو تنمية مستدامة، المرجع السابق، ص 10.

[19]– المواصفة القياسية الدولية: أيزو 26000، دليل إرشادي حول المسؤولية المجتمعية، مرجع سابق، ص: 13.

[20]– المسؤولية المجتمعية للمنظمات: آليات الانتقال نحو تنمية مستدامة، مرجع سابق، ص 10.

[21]– الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة 2030، مرجع سابق، ص: 12.

[22]– المسؤولية المجتمعية للمنظمات: آليات الانتقال نحو تنمية مستدامة، مرجع سابق، ص 11.

[23]– رأي المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حول مشروع القانون الإطار رقم 12-99 بمثابة الميثاق الوطني للبيئة والتنمية المستدامة، إحالة رقم 1/2012، ص: 8.

[24]– من أجل ميثاق اجتماعي جديد: معايير يجب احترامها وأهداف ينبغي التعاقد بشأنها، منشورات المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، إحالة ذاتية رقم 1/2011، ص: 24.

[25]– من أجل ميثاق اجتماعي جديد: معايير يجب احترامها وأهداف ينبغي التعاقد بشأنها، المرجع السابق، ص: 47.

[26]– حكامة المرافق العمومية: تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، إحالة ذاتية رقم 13/2013، ص: 80.

[27]– المسؤولية المجتمعية للمنظمات: آليات الانتقال نحو تنمية مستدامة، مرجع سابق، ص 69.

[28]– المسؤولية المجتمعية للمنظمات: آليات الانتقال نحو تنمية مستدامة، مرجع سابق، ص 74.

إقرأ أيضاً

العمل لأجل المنفعة العامة للأحداث وفقا لمسودة مشروع القانون الجنائي ومشروع قانون المسطرة الجنائية

العمل لأجل المنفعة العامة للأحداث وفقا لمسودة مشروع القانون الجنائي ومشروع قانون المسطرة الجنائية Work …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *