الأوجه المختلفة لمشكلة تسليم مرتكبي الجرائم الإرهابية
نجلاء حمينة
تسليم المجرمين هو إجراء بمقتضاه تتخلى الدولة عن شخص يوجد تحت حمايتها وفي إقليمها لسلطات دولة أخرى تطالب بمحاكمته عن جريمة اقترفها على إقليمها، أو لتنفيذ حكم قضائي صدر في حقه يقضي بتطبيق عقوبة جنائية، ولذلك فالهدف من تسليم المجرمين هو الحيلولة دون إفلات هؤلاء من العقاب في حالة ما إذا كان القانون الداخلي للدولة التي يتواجد على إقليمها المجرم أو المتهم لا يسمح لها بمحاكمته عن جريمته[1].
التسليم بهذا المعنى له أهمية خاصة في مكافحة الإرهاب بسبب اتساع رقعة الإرهاب وتفاقم خطورته، ولأن الفعل الإرهابي أصبح يتجاوز الترسانة القانونية الموجودة من جهة، ويتخطى الخصائص التقليدية للإرهاب من جهة ثانية، ويثير من جهة ثالثة مسألة التشابه بين الأفعال الإرهابية وبين الأفعال غير المشروعة الأخرى كالجريمة المنظمة[2].
ويمكن القول بأن تسليم مرتكبي الجرائم الإرهابية يثير ملاحظتين عامتين :
الملاحظة الأولى : وهي أنه لا يوجد لحد الآن نظام قانوني خاص بتسليم مرتكبي الجرائم الإرهابية. فتسليم مرتكبي هذه الأفعال لا زال يخضع في مجمله للقواعد العامة المتعلقة بتسليم المجرمين التي تضمنتها الاتفاقيات والمعاهدات الدولية وكرسها العرف الدولي.
والملاحظة الثانية : هي أن تسليم مرتكبي الجرائم الإرهابية يواجه العديد من الصعوبات، فبعض الدول تتمسك باعتبار هذه الجرائم من الجرائم السياسية التي لا يجوز فيها التسليم. والبعض الآخر يتمسك بمبدأ عدم تسليم الرعايا، بينما ترفض دول أخرى التسليم بدعوى عدم وجود معاهدة التسليم المتبادل.
وبناء على هاتين الملاحظتين يتبين أن مشكلة تسليم مرتكبي الأفعال الإرهابية لها أوجه متعددة يمكن إرجاعها إلى أصلين :
الأصل الأول : هو إخضاع مرتكبي الجرائم الإرهابية للقواعد العامة المتعلقة بتسليم المجرمين في القانون الدولي.
والأصل الثاني : هو الصعوبات التي تواجه تسليم مرتكبي الجرائم الإرهابية من وجهة نظر القانون الدولي.
أولا : إخضاع مرتكبي الجرائم الإرهابية للقواعد العامة المتعلقة بتسليم المجرمين في
القانون الدولي.
تسليم مرتكبي الأعمال الإرهابية يخضع للقواعد العامة لتسليم المجرمين. لكن التسليم في حالة الإرهاب يصطدم بقاعدتين هامتين في القانون الدولي هما قاعدة عدم جواز تسليم المجرمين السياسيين، وقاعدة عدم جواز تسليم الرعايا.
أ- تسليم مرتكبي الجرائم الإرهابية وقاعدة عدم جواز تسليم المجرمين السياسيين :
الدولة يقع عليها واجب الالتزام بمعاقبة شخص ارتكبت جريمة خارج حدودها، ويترتب على ذلك إما محاكمته من قبل محاكمها الوطنية وتطبيق العقوبة المقررة، وإما تسليمه غلى سلطات الدولة التي ارتكبت الجريمة على إقليمها مخالفة لقوانينها الوطنية. ولا يجوز لدولة أن تتستر أو تحمي مجرما فارا من العدالة، فعليها واجب محاكمته أو تسليمه حماية للمصلحة المشتركة لمختلف الشعوب والدول، وتطبيقا لمبدأ التضامن لمكافحة الجريمة الذي تلتزم بموجبه جميع الدول بتبادل المساعدة والتعاون المشترك لمكافحة الجريمة على الصعيد العالمي، وهذا المبدأ استقر في القانون الدولي منذ القرن 19.
في الوقت الحاضر أصبح مبدأ عدم تسليم المجرمين السياسيين من القواعد المستقرة في القانون الدولي، إذ نصت عليها عدة اتفاقيات دولية ثنائية وجماعية، إقليمية وعالمية. على سبيل المثال نذكر المادة 4 من اتفاقية 1952 المتعلقة بتسليم المجرمين بين الدول العربية حيث استثنت هذه المادة صراحة تسليم المجرمين السياسيين. وكذلك الاتفاقية الأوربية لعام 1957 حول تسليم المجرمين والتي استثنت مادتها الثالثة تسليم المتهمين بارتكاب جرائم ذات طابع سياسي.
كما نصت على هذه القاعدة غالبية دساتير الدول أو كرستها في تشريعاتها وقوانينها الوطنية إلى أن غدت القاعدة مبدأ من المبادئ المسلم بها في القانون الداخلي باعتباره قاعدة من القانون العرفي والقانون المكتوب ملزمة لمختلف الدول.
من المؤكد أن الفقه الدولي المعاصر رغم اتجاهه إلى الاعتراف بمبدأ عدم التسليم في الجرائم السياسية باعتباره مبدأ مستقرا في القانون الدولي والوطني، فإن الفقهاء اختلوا حول مفهوم الجريمة السياسية وحول خصائصها والأفعال المنشئة لها، خاصة وأن الاتفاقيات الدولية التي أبرما في مجال اللجوء السياسي لا تتعرض لتك المواضيع بالدقة والتفصيل. وهكذا انقسم الفقه إلى ثلاثة اتجاهات:
– الاتجاه الأول، موضوعي، يستند إلى طبيعة الحق محل الاعتداء. فالجرائم السياسية في نظره هي الأفعال الموجهة ضد النظام السياسي للدولة أي تلك الأفعال الأساسية… وبهذا المفهوم تشمل الجرائم السياسية الأفعال الماسة بأمن الدولة الداخلي والخارجي والأفعال المتعلقة بخرق قوانين الحريات العامة كالتجمهر والانتخابات والأحزاب…
– الاتجاه الثاني، شخصي، ويركز على الظروف التي تحيط بمرتكب الجريمة، وعلى الباعث الذي أوحى بارتكاب تلك الجريمة. فإذا الباعث سياسيا، أي من أجل تحقيق أهداف سياسية، تكون الجريمة سياسية. وإذا كان الباعث غير سياسي، تنتفي صفة الجريمة السياسية على الفعل المرتكب.
– الاتجاه الثالث، يأخذ بفكرة العنصر الغالب في الجريمة، معتبرا أنه من النادر أن توجد جرائم سياسية محضة. فغالبا ما تكون الجرائم المرتكبة ذات طبيعة مختلطة ومركبة، بمعنى أنها تكون قد شكلت مسا بحقين في آن واحد: مس بحق سياسي ومس بحق غير سياسي، مثل أعمال العنف والتخريب التي ترتكب أثناء الثورات والاضطرابات كقتل الأشخاص وتدمير الممتلكات العامة وتعريض حياة الناس للخطر. في هذه الحالات يؤكد أنصار هذا الاتجاه على البحث على العنصر الغالب، فإذا تبين أن هذا العنصر يرتبط بجرائم عادية كالقتل والتعذيب. فإن الجريمة غير سياسية. أما إذا تبين العنصر الغالب يرتبط بجرائم مناهضة السلطة وعصيان الأوامر، فغن الجريمة سياسية لا محالة.
تجدر الإشارة في الأخير إلى عدم تسليم المجرمين السياسيين لا يعني حتما منح الملجأ القانوني للاجئ السياسي. فلكي يستفيد هذا الأخير من الحماية المقررة للاجئين ويمنح له وضع اللاجئ القانوني يجب أن يثبت أنه معرض للاضطهاد بسبب رأيه السياسي. وهذا السبب يعتبر من أسباب الاضطهاد التي عددتها الاتفاقيات الدولية المعنية باللاجئين التي تبرر منح الحماية وتوفير الأمن لمن فر إلى دولة أخرى خوفا على حياته أو حريته. فالمادة الأولى من اتفاقية 1951 تقول بان لفظة لاجئ تنطبق على: كل من وجد… بسبب خوف له ما يبرره من التعرض للاضطهاد بسبب عرقه أو دينه أو بسبب آرائه السياسية[3].
ساير العرف الدولي هذا الاتجاه، حيث على الأخذ بمبدأ عدم التسليم في الجرائم السياسية استنادا إلى أن عنصر الإجرام في تلك الجرائم يعد ضئيلا بالقياس إلى الجرائم العادية، فضلا عن أن الدولة طالبة التسليم قد لا تستطيع محاكمة خصومها السياسيين وفقا لقواعد الحق والعدالة، بل إنها غالبا ما تلجأ إلى الانتقام منهم والتنكيل بهم.
جدير بالذكر أن مبدأ عدم جواز التسلم في الجرائم السياسية قد ارتبط ارتباطا وثيقا بحق الملجأ أو حق اللجوء الإقليمي في القانون الدولي، الذي تبنته منظمة الأمم المتحدة، حيث نصت المادة 14 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه لكل فرد الحق في أن يلجأ إلى بلدان أخرى هربا من الاضطهاد، على ألا ينتفع بهذا من قدم للمحاكمة بسبب ارتكابه جريمة غير سياسية أو اقترافه لأعمال تناقض مقاصد وأهداف الأمم المتحدة[4].
معظم الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، وكذلك التشريعات الوطنية قد استقرت على استبعاد كافة الجرائم الإرهابية من نطاق الجرائم السياسية، حتى ولو كان الباعث على ارتكابها سياسيا، ومن ثم فإنه يجوز تسليم مرتكبي جرائم الإرهاب على أساس تلك الجرائم تعد من قبيل الجرائم الدولية العادية،ولا يجوز للدولة المطلوب إليها التسليم التذرع بالصفة السياسية لتنك الجرائم[5].
ب- تسليم مرتكبي الجرائم الإرهابية وقاعدم عدم جواز تتسلم الرعايا :
تلعب الجنسية دورا هاما في تسليم أو عدم تسليم المطلوبين فالعرف الدولي وما يجرى عليه عمل الدول هو أنه إذا كان الشخص المطلوب تسليمه مواطنا من رعايا الدولة فلا يجوز تسليمه مطلقا إلا إذا كانت هناك اتفاقية خاصة لتبادل المطلوبين- بين الدولة طالبة التسليم وبين الدولة التي يكون الفاعل المفترض أحد رعاياها- تنص على جواز ذلك. كل دول العالم تنص على ذلك ومنها الدستور المصري والليبي والفرنسي والألماني وغير ذلك كثير مثل اليونان ورومانيا ويوغسلافيا السابقة وأسبانيا وجميع دول أمريكا الجنوبية[6]، وقد رفضت ألمانيا تسليم فرنسا الجنرال لاماردينج المحاكمته عن جرائم أثناء الحرب العالمية الثانية مستندة في ذلك على القاعدة العرفية الدولية وهي عدم جواز تسليم المواطنين[7].
وتأخذ معظم الدول الأوربية ودول أمريكا اللاتينية والدول العربية بمبدأ عدم تسليم الدولة لرعاياها في حالة ارتكابهم جريمة في دولة أخرى وفرارهم إلى وطنهم، على أساس أن ارتكاب مواطنيها لجريمة خارج وطنهم يشكل انتهاكا لقوانينها الخاصة بقدر ما يشكل انتهاكا لقوانين الدولة التي ارتكبت فيها الجريمة، وتحتفظ تلك الدولة بحق محاكمة المجرم ومعاقبته فور وقوعه في قبضتها.. ونتيجة لذلك فقد قامت اغلب الدول بتبنى مبدأ المعاملة بالمثل في هذا المضمار، وتضمنت العديد من معاهدات التسليم النص صراحة على ألا يسلم أي من الطرفين مواطنيه إلى الطرف الآخر بشرط أن تلتزم كل دولة بمحاكمة ومعاقبة مواطنيها المتورطين في ارتكاب أية جريمة في إقليم الطرف الآخر.
وساق أنصار هذا المبدأ- تأييدا لوجهة نظرهم- العديد من المبررات أهمها:
1- أن الدولة مدينة لرعاياها بالحماية التي توفرها قوانينها.
2- ينبغي ألا يسحب المتهم من قاضيه الطبيعي، حتى يتمتع بالضمانات التي كفلتها له قوانين دولته، والقول بغير ذلك يعد تنازلا عن السيادة.
3- أن الثقة في القضاء الأجنبي وخاصة عندما يحاكم أمامه شخص أجنبي محل تساؤل من حيث الضمانات المتاحة.
4- أن محاكمة شخص بقانون دولة قد يجهل لغتها يحرمه من التواصل مع لقاضى الأجنبي، ومن حق الدفاع عن نفسه.
بينما اتجهت بعض الدول ومن بينها بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية إلى تسليم رعاياها، حيث تأخذ هذه الدول بمذهب الاختصاص الإقليمي في قانون العقوبات، الذي يقضى بخضوع الجريمة لقضاء الدولة التي ارتكبت فيها بغض النظر عن جنسية الفاعل، وبناء عليه فإذا ارتكب احد رعايا الدولة جريمة في النظر عن جنسية الفاعل، وبناء عليه فإذا ارتكب أحد رعايا الدولة جريمة في دولة أخرى ثم عاد إلى موطنه، وطالبت الدولة التي ارتكبت الجريمة على إقليمها بتسليمه، فإن الدولة المطلوب إليها لن نجد مانعا من تسليمه رغم كونه من رعاياها[8].
واستند أنصار هذا الاتجاه- تأييدا لمذهبهم- غلى المبررات التالية:
1- أن تسليم الدولة لرعاياها لا ينتقص من سيادة الدولة وهيبتها، طالما تعتمد الدولة الطالبة بتوفير الضمانات الكافية لمحاكمة قانونية عادلة.
2- أن التسليم في مثل هذه الحالات يؤدى إلى إقناع المجرم بأنه لا ملاذ له من العقاب الأمر الذي يدفعه إلى التفكير مرارا قبل الإقدام على ارتكاب جريمته.
3- أن القول بإمكانية محاكمة المجرم عن الجريمة التي ارتكبها في الخارج أمام قضاء دولته بالضرورة إلى عرقلة سير العدالة، نظرا لصعوبة جمع الأدلة وسؤال الشهود والمعاينة وغيرها من إجراءات الاتهام والتحقيق.
4- إن عدم تسليم الدولة لرعاياها يؤدى إلى إفلات المجرم من العقاب إذا كانت هذه الدولة تأخذ بمذهب الاختصاص الإقليمي، لأن الجريمة لم تقع داخل إقليمها.
بيد أن الممارسة الدولية قد أثبتت أن الدول التي تأخذ بهذا الاتجاه الأخير قد جنحت في عدد غير قليل من الحالات إلى عدم تسليم رعاياها، مما يشير إلى أن هذه الدولة لا تأخذ بمبدأ تسليم رعاياها على إطلاقه[9].
لكن مبدأ عدم تسليم الرعايا يقف حائلا دون تسليم مرتكبى جرائم الإرهاب حيث إن الدول التي تأخذ بهذا المبدأ سوف تمتنع عن التسليم في هذه الجرائم خاصة إذا كانت متورطة في ارتكابها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، أي إن كافة الدول التي ترتكب أو تساهم في ارتكاب جرائم إرهابية الدولة وتأوي منفذي هذه الجرائم من مواطنيها، سوف تمتنع تمتمت عن تسليمهم بذريعة مبدأ عدم تسليم الرعايا أو أي ذرائع أخرى، وذلك حرصا منها على عدم كشف دورها وتوجيه الاتهام إليها، وتجنبا للنتائج المترتبة على ذلك من ملاحقة لكبار قادتها ومسئوليها المسئولية المدنية والجنائية تجاهها.
ثانيا : معيقات تسليم مرتكبي الجرائم الإرهابية :
أ- حالة عدم وجود معاهدة خاصة بالتسليم.
ب- الامتناع عن التسليم : قضية لوكربي نموذجا.
تسليم مرتكبي الجرائم الإرهابية يثير صعوبات هامة يمكن تصنيفها إلى نوعين من الصعوبات : صعوبات تتصل بحالة عدم وجود معاهدة خاصة بالتسليم، وصعوبات تتصل بالامتناع عن التسليم.
أ- حالة عدم وجود معاهدة للتسليم:
مع انتشار ظاهرة الإجرام الدولي وتزايد حالات هروب الجناة خارج إقليم الدولة التي ارتكبوا فيها جرائمهم، اتجهت العديد من الدول نحو إبرام معاهدات ثنائية ومتعددة الأطراف لتسليم المجرمين بما يتفق مع هذه المعاهدات، ولا تثور مشكلة من التزامات دولية.. بينما يثور التساؤل عن مدى إمكانية تسليم المجرمين في حالة عدم وجود معاهدة للتسليم بين الدولة الطالبة والدولة المطلوب إليها. ففي مثل هذه الحالة، مجد أن التشريعات الوطنية قد استقرت على أن تسليم المجرمين عمل منفرد متروك لتقدير الدولة المطلوب إليها التسليم، فلها أن توافق على التسليم ولها أن ترفض، ولا معقب عليها في هذا الشأن.. وتختلف الدول في الأخذ بقاعدة تسليم المجرمين في حالة على أساس المعاملة بالمثل، بينما لا تسمح الدول الانجلوسكسونية وبعض الدول الأخرى بالتسليم في حالة عدم وجود معاهدة في هذا الشأن[10].
يبد أن العرف الدولي قد استقر على الأخذ بمبدأ التسليم أو المحاكمة الذي يقضى بأنه في حالة رفض الدولة تسليم المتهم للدولة الطالبة لأي سبب من الأسباب، فإن عليها واجب إحالته إلى المحاكمة فورا أمام محاكمها المختصة ووفقا لقوانينها الوطنية كما لو أن الجريمة قد ارتكبت فوق أرضيها[11]. وقد أخذت معظم اتفاقيات تسليم المجرمين بهذا المبدأ[12].
بناء على ذلك، فإن الدولة التي ندعم الإرهاب وتأوي منفذي الأعمال الإرهابية غالبا ما تمتنع عن تسليم المتهمين بارتكاب هذه الأعمال لدولة الطالبة التي وقعت الجريمة الإرهابية على أراضيها أو أضرت بمصالحها، وذلك في حالة عدم وجود معاهدة خاصة بتسليم المجرمين بينها وبين الدولة الطالبة، وقد تلجأ هذه الدولة إلى التستر على الجناة وإخفاء أدلة الجريمة، حتى إذا ما تم محاكمة هؤلاء الجناة أمام قضائها الوطني- وفقا لمبدأ التسليم أو المحاكمة- كان من الصعب إثبات إدانتهم.
للتغلب على تلك الصعوبات التي تواجه تسليم مرتكبى الجرائم الإرهابية يمكن عقد مؤتمر دولى تحت إشراف الأمم المتحدة لصياغة معاهدة دولية لتسليم المجرمين تلتزم الدول من خلالها بتسليم المجرمين المتواجدين على أراضيها بغض النظر عن جنسيتهم أو نوع الجريمة المرتكبة، على أن تتم محاكمتهم أمام القضاء الجنائي الوطني المختص أو المحكمة الجنائية الدولية، مع ضمان توافر كافة الضمانات القانونية اللازمة لإجراء محاكمة عادلة.
ب- الامتناع عن تسليم مرتكبي الجرائم الإرهابية :
قضية لوكربي كنموذج :
أثارت قضية لوكربي أزمة كبرى في العلاقات الدولية، فقد سقطت فوق لوكربي، وهي مدينة صغيرة تقع في اسكوتلندا بشمال بريطانيا، طائرة ركاب أمريكية بعد أن انفجرت فيها قنبلة يوم 21 ديسمبر 1988. وقد بدأت هذه الأزمة بتسليم ليبيا مذكرة مرسلة في نفس الوقت إلى مجلس الأمن في 27 نونبر 1991، تطالب فيها الدول الغربية الثلاث وهي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا من ليبيا تسليم اثنين من مواطنيها مشتبه في تورطهما في حادث التفجير فوق لوكربي من أجل محاكمتهما أمام القضاء الأمريكي أو البريطاني، وبسبب رفض ليبيا تسليم المواطنين الليبيين، تبنى مجلس الأمن وجهة نظر الدول الغربية الثلاث بالقرارات الصادرة في عامي 1992 و1993 (731 و748 و883) والتي فرضت جزاءات على ليبيا من أجل إرغامها على تسليم المواطنين المشتبه فيهما والتدليل على نبذ ليبيا للإرهاب الدولي[13].
مجلس الأمن أعرب في القرار 731 المؤرخ في 21 يناير 1992 عن استيائه لعدم استجابة السلطات الليبية لطلب تسليم المتهمين بتفجير الطائرة الأمريكية فوق لوكربي عام 1988. وفي 31 مارس 1992 أصدر مجلس الأمن القرار رقم 748 الذي نص على اتخاذ عقوبات محددة ضد ليبيا ابتداء من 15 أبريل 1992 إذا تقاعست عن تنفيذ القرار 731.
لكن ليبيا سارعت في 3 مارس 1992 إلى رفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية ضد كل من بريطانيا والولايات المتحدة بشأن النزاع حول المسائل المتعلقة بتفسير وتطبيق اتفاقية مونترال لعام 1971 الناشئ عن الحادثة الجوية في لوكربي، ملتمسة في ذات الوقت من المحكمة إصدار إجراءات مؤقتة (تحفظية) وذلك بتوجيه أمر إلى الدول الغربية الثلاث بشكل عاجل قصد الامتناع عن الضغط على ليبيا لتسليم مواطنيها استنادا إلى أن النزاع حول محاكمة المشتبه فيهما هو نزاع قانوني تختص محكمة العدل الدولية بالنظر فيه تطبيقا لمقتضيات اتفاقية مونتريال لعام 1971 وأن الإدرار على تسليم المشتبه… دون وجود اتفاقية تسليم يعد انتهاكا لأحكام القانون الدولي مما يعني أن استجابة مجلس الأمن لمطالب الدول الغربية الثلاث بفرض جزاءات دولية على ليبيا هي خروج على قواعد الشرعية الدولية.
محكمة العدل الدولية أصدرت حكمين تمهيديين في هذه القضية.
الحكم التمهيدي الأول أصدرته المحكمة في 14 أبريل 1972 يقضي برفض طلب ليبيا إلى المحكمة باتخاذ إجراءات مؤقتة ومستعجلة في النزاع المطروح أمامها بشأن المسائل المتعلقة بتفسير وتطبيق اتفاقية مونتريال لعام 1971، الناشئ عن الحادثة الجوية في لوكربي[14] وهكذا فإن محكمة العدل الدولية رفضت بهذا القرار القضائي وقف تنفيذ الجزاءات المفروضة على ليبيا طبقا للباب السابع من ميثاق الأمم المتحدة بمقتضى القرارين الصادرين عن مجلس الأمن تحت رقم 731 و748[15].
أما الحكم التمهيدي الثاني فقد أصدرته محكمة العدل الدولية في 28 فبراير 1998 حيث أعانت المحكمة في هذا الحكم بأنها مختصة للنظر في النزاع القائم بين ليبيا وكل من بريطانيا والولايات المتحدة حول تفسير وتطبيق اتفاقية مونتريال لعام 1971، وذلك استنادا إلى الفقرة الأولى من المادة 14 من هذه الاتفاقية.
ويعد هذا القرار انتصارا لوجهة نظر ليبيا التي تمسكت منذ البداية بأن محكمة العدل الدولية هي الجهة المختصة في بحث هذه المشكلة القانونية وليس مجلس الأمن، لكن التطورات تسارعت عقب إعلان محكمة العدل الدولية عن اختصاصها لبحث النزاع[16]، إذ تم الاتفاق بين ليبيا وكل من بريطانيا والولايات المتحدة على محاكمة المشتبه فيهما أمام محكمة اسكتلندية تقام في هولندا، وقد تم توثيق هذا الاتفاق بقرار مجلس الأمن رقم 1192 الصادر في 27 غشت 1998. وتم بالفعل تسليم المتهمين في 5 أبريل 1999 بعد أخذ ورد حول ترتيبات التسليم وضمانات المحاكمة[17] وبعد 22 شهرا من تسليم المتهمين أصدرت المحكمة الاسكتلندية في زيست بهولندا (يناير 2001) حكمها بإدانة المقرحي بالسجن المؤبد لارتكابه جريمة القتل وبراءة المتهم التالي فحيمة. وقد تم تأكيد هذا الحكم في المرحلة الاستئنافية (مارس 2002).
وهكذا فإن أحكام محكمة العدل الدولية بالإضافة إلى النصوص القانونية الدولية الأخرى تسمح باستخلاص ملاحظتين :
الملاحظة الأولى : وهي أن جميع النصوص الدولية على كثرتها وحداثة بعضها لم تصل بعد إلى درجة وضع إطار قانوني متناسق ومتفق عليه، ولم تضع مدونة ملزمة تتعلق بالتصدي لظاهرة الإرهاب الدولي عن طريق وضع معايير دقيقة وضوابط عادلة وهو ما يستدعي وجود تعريف للإرهاب متفق عليه عالميا.
والملاحظة الثانية : وهي أن النصوص القانونية الدولية تكشف في الواقع عن مجموعة من مبادئ القانون الدولي سواء على مستوى إدانة وتجريم الأفعال الإرهابية الدولية أو على مستوى مكافحة هذه الأفعال من أجل إزالتها والقضاء عليها، وهذا ما يطرح التساؤل عن مضمون المبادئ القانونية الدولية المتعلقة بالإرهاب.
الخاتـمة
من كل ما تقدم، تتبين أهمية تسليم مرتكبي الجرائم الإرهابية، فمشكلة التسليم لها أوجه عديدة وتفرض التعرض للقواعد العامة لتسليم المجرمين مع بيان أهمية هذا التسليم وطبيعته القانونية والأحكام المتعلقة به. وقد تبين لنا أن التسليم في الجرائم الإرهابية يواجه العديد من العوائق والصعوبات التي تتمثل في تمسك بعض الدول باعتبار هذه الجرائم من قبيل الجرائم السياسية التي يجوز فيها التسليم وتمسك البعض الآخر بمبدأ عدم تسليم الرعايا ورفض دول أخرى للتسليم بدعوى عدم وجود معاهدة للتسليم المتبادل.
وفي هذا الإطار، كان من الضروري استعراض دور المؤسسات الدولية (مجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية)، في مكافحة الإرهاب وبلورة نظام قانوني خاص بالتسليم في الجرائم الإرهابية وهو دور لم يرق بعد إلى مستوى الطموحات الدولية والآمال المعقودة على تلك المؤسسات فيما يخص مكافحة الإرهاب عامة، وتسليم مرتكبي الجرائم الإرهابية خاصة.
[1] – انظر د. عبد الواحد محمد الغار، الجرائم الدولية وسلطة العقاب عليها، دار النهضة العربية،
[2] – انظر د. عبد الواحد الناصر، الإرهاب وعدم المشروعية في العلاقات الدولية، الرباط 2002، ص 109 وما يليها.
[3] – انظر زهرة الهياض، الحماية الدولية للاجئين، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة كلية الحقوق أكدال، 2006.
[4] – د. عبد الواحد محمد الفار، الجرائم الدولية وسلطة العقاب عليها، ص 59.
[5] – انظر د. سامي جاد واصل : إرهاب الدولة في إطار القانون الدولي العام، منشورات منشأة المعارف بالإسكندرية، 2003.
[6] – راجع جيرهارد جلان: القانون بين الأمم، ترجمة عباس العمر، بيروت، دار الأفاق الجديدة ص 271.
[7] – هناك أمثلة عديدة على رفض تسليم الدول لرعاياها، انظر د. علي ابراهيم، القانون الدولي العام، الطبعة الأولى 1995، منشورات دار النهضة العربية، ص 952 وما يليها.
[8] – إلهام العاقل، مبدأ عدم جواز تسليم المجرمين في الجرائم السياسية، ص 142.
[9] – د.عبد الغني محمود، تسليم المجرمين على أساس المعاملة بالمثل ص 15.
[10] – د. سالم الأوجلى، أحكام المسئولية الجنائية عن الجرائم عن الجرائم الدولية في التشريعات الوطنية ص 442.
[11] – د. أحمد جلال عز الدين، مكافحة الإرهاب، مطابع دار الشعب القاهرة 1987 ص 161 وما بعدها.
[12] – د. عائشة هالة محمد طلس، الإرهاب الدولي والحصانة الدبلوماسية ص 606 ما بعدها.
[13] – انظر د. عبد الواحد الناصر، الإرهاب وعدم المشروعية في العلاقات الدولية، المرجع السابق، ص 129-130.
[14] – حول التحليل النقدي لمضمون هذا الأمر القضائي الصادر عن محكمة العدل الدولية انظر :
– Abdelkader El Kadiri, « L’affaire de Locherbie et la cour International de Justice : Considérations sur l’ordonnance du14 avril 1992, centre d’études stratégiques, Annales 1990-92, n° 4-5, p 209-216. Sorel J.m « Les ordonnances de la CIJ. Du 14 Avril 1992 dans l’affaire relative à des questions d’interprétation et d’application de la convention de Montréal de 1971 résultant de … aérien de Lockerbie. RGDIP, Tome 97, 1993/3.
وانظر أيضا : د. عبد العزيز مخيمر عبد الهادي، قضية لوكربي أمام محكمة العدل الدولية: حول الأمر الصادر من محكمة العدل الدولية.. التأشير بالتدابير المؤقتة في نزاع لوكربي، الجماهيرية الليبية ضد الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، مجلة الحقوق، الكويت، مارس 1994، ص11.
[15] – انظر د. عبد العزيز سرحان، العودة لممارسة القانون الدولي الأوربي المسيحي، دار النهضة العربية، القاهرة 1995، ص 310.30 والجدير بالملاحظة أن القرار 748 دخل حيز التنفيذ ابتداء من 15 أبريل 1992 أي بعد يوم واحد من صدور قرار محكمة العدل الدولية بشأن الإجراءات التحفظية المطلوبة من قبل ليبيا. وقد تم تجميد تطبيق هذه الجزاءات بعد تسليم المتهمين إلى هولندا يوم 5 أبريل 1999 من أجل محاكمتها أمام قضاة اسكتلنديين.
[16] – انظر في هذا الشأن، عبد الله صالح، قضية لوكربي وتحول المواقف الغربية، مجلة السياسة الدولية، العدد 136ـ أكتوبر 1998، ص 198-201.
[17] – انظر د. عبد الله الأشعل، أزمة لوكربي من الشرعية الدولية إلى العدالة البريطانية، مجلة السياسة الدولية، العدد 137، يوليوز 1999، ص 197-199.