أحمـــد ملوكي
طالب باحث في سلك الدكتوراة القانون العام والعلوم السياسية الأنظمة القانونية والقضائية المقارنة فريق البحث :البيئة والتعمير كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بسلا |
واجــب التحفـــظ في الوظيــــــفة العموميــــــــة
رغم أن تطبيقاته تهم جميـع المهن، فقد اقترن واجب التحفظ ومنذ ظهوره بالوظيـفة العموميـة. كما ارتبـط بحريـة الرأي وبشكل التعبير عنها. فالموظف مواطن اعترفت له المواثيق الدولية والقوانين الوطنيـة بالحق في حريـة التعبـير والرأي ، وباعتباره موظفا فهو في مركـز متميز ويخضـع ، علاوة على القواعد العامـة التي تحكم موضـوع حريـة الرأي لدى سـائر المواطنين ، لقواعــد خاصــة مرتبطة بالتنازع الحتمــي بيــن حريته في الرأي أولا وطبيعة علاقتــــه مع الإدارة ثانيــا والمواطنيــن ثالثا. فإذا كانت حرية الرأي لدى الموظف تتطلب ، بعــد الاعتراف القانـوني بهـا ، ضمـانات قويــة ، فإن للدولـــة الحــق فــي حــد أدنى من انضباط موظفيها ، كما للمواطن الحــق في حيــــاد الإدارة.[1]
إن الاعتراف بحرية الرأي لدى الموظف، ليس كالاعتراف بها لسائر المواطنين، لأن الإدارة التي ينتمي إليها تسعى إلى تحقيق المصلحة العامة. وينتج عن ذلك خضوعه لحدود لعل أهمها واجب التحفـظ. فحريــة الرأي وواجب التحفــظ يوجدان على طرفي نقيض فلا يمكن لمجال أحدهما أن يتسع إلا على حساب المجال الآخر.[2] وهذا لا يعني أن واجب التحفظ يلغي حرية الرأي لدى الموظف بل يقتضي ضرورة التزامه باحترام توجهات الدولة بصفة عامة ، وتجنب كل ما من شأنه أن يمس فاعلية النشاط الإداري بصفة خاصة، وهكذا يمنع عليه أي تعبير علني لرأي جريء لأنه قد يشكك في حياد الإدارة العموميــة سواء تم ذلك داخــل المصلحـة التي يمـارس بها أو خارجها.[3]
والتحفظ لغة معناه التحرز والصيانة[4] ، وفي الاصطلاح فقد عرفه الفقيه “ريني شابيس” بأنه واجب الاعتدال في التعبير العلني عن الآراء الشخصية وكذا السياسية”[5] . كما عرفته المحكمة الإدارية التونسية في إحدى القضايا بما يلي:” وحيث أن نظام الوظيفــة العموميــة أخضـــع المـــوظف إلى جمــلة من الواجبــات التي يتعيــن عليــه احترامــها . و أن من ضمــن هــذه الواجبــات ، واجــب التحفــظ الذي يفرض عليـه تجنــب كل ما من شأنه المســاس من سمعــة الإدارة أو هيبتـــــها أو توجيــه الانتقادات”[6] . كما أن الفقيه “فرونسوا ريكو” عرفه بأنه “واجب الامتناع عن بعض السلوكات التي لا تتنــاسب وطبيعــة الوظيفــة أو المهنـــة”[7] . من هذه التعريفات تظهر بعض العناصر التي أوردتها التعاريف السابقة : أولها، يعنى واجب التحفظ بشكل التعبير عن الرأي ومضمونه، و ثانيها، أنه يمنع الموظف من التصرفات التي تترك شبهات على حياده والسير العادي للمرافق العمومية. وثالثها ، أنه يلزم الموظف بالاعتدال في التعبير العلني كان شخصيا أو سياسيا، تجنب الأعمال التي تمس بسمعة الإدارة ومنها الانتقاد الحاد.
انطلاقا مما سبق يتبين أن واجب التحفظ موضوع شاسع ، سيم الاقتصار في هذا المقال بالحديث عن واجب التحفظ عند الموظف العمومي ورجال القضاء. فإذا كانت دراسة هذا الواجب عند رجال القضاء تبررها مكانة القاضي في المجتمع وكذا، باعتباره الميدان الذي ظهر فيه واجب التحفظ قانونيا في كل من المغرب وفرنسا. فإنها تكتسي أهمية بالغة عند الموظف باعتباره من يسهر على تنفيذ السياسات الحكومية، وعلى اعتبار آخر كونه واجب من بناء الاجتهاد القضائي ، غير معرف ، و غير منصوص عليه في النظام الأساسي العام الذي يعتبر دستور الموظف العمومي. و الحديث عن الموظف العمومي يتطلب منا أولا توضيح عن أي مفهوم للموظف العمومي نتحدث؟ هل المفهوم الضيق ونقصد به المفهوم النظامي ؟ أم المفهوم الواسع وهو المفهوم الجنائي ؟ وسيتم إقصاء المفهوم الجنائي من هذا البحث والاحتفاظ بالمفهوم النظامي والضيق للموظف العمومي، والذي نستشفه من الفصل الثاني من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية والذي ينص على ما يلي: « يعد موظفا كل شخص يعين في وظيفة قارة ويرسم في إحدى رتب السلم الخاص بأسلاك الإدارة التابعة للدولة». [8] إذ يشترط المشرع ثلاث عناصر أساسية لاعتبار الشخص موظفا [9] : التعيين في وظيفة عمومية، و دوام هذه الوظيفة و الترسيم.
تكتسي دراسة واجب التحفظ أهمية تتجلى في توضيح أحد المفاهيم الأكثر غموضا في الوظيفة العمومية ، فإذا كانت مسألة تعريفه صعبة للغاية فعلى الأقل تكوين فكرة واضحة عنه تسمح للموظف العمومي ، ومن خلال مضمونه و عناصر الإخلال به ، محاولة عدم الإخلال به تفاديا لكل متابعة تأديبية. لأنه وكما يقول “ألبر كامي” “أكبر عذاب لإنسان أن يتم الحكم عليه بدون قانون” [10] .
وهكذا تبدو مسألة تعريفه والإحاطة ليست بالأمر اليسير، لذا سيحاول هذا المقال تقريب هذا المفهوم من خلال خصائصه (أولا) ومضمونه (ثانيا).
أولا : خصائص واجب التحفظ.
يتميز واجب التحفظ ببعض الخصائص الكفيلة بتوضيح بعض الجوانب من الطبيعة الغامضة التي يتميز بها. فهو أولا واجب عام مفروض على كافة فئات الموظفين العاملين في مختلف مرافق الدولة . كما أنه واجب مستمر يبدأ قبل إلتحاق الموظف بسلك الوظيفة العمومية ، ويلازمه أثناء القيام بعمله ولا ينتهي بحصول الموظف على تقاعده.
- واجب التحفظ واجب عام :
إن واجب القيام بالوظيفة وعدم مزاولة ، بصفة مهنية، أي نشاط حر أو تابع للقطاع الخاص يدر على الموظف دخلا كيفما كانت طبيعته، يظل من الواجبات المفروضة عليه طبقا للفصل 15 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية [11]، مع وجود استثناءات من إنجاز الأعمال العلمية والأدبية والفنية، والرياضية شريطة ألا يطغى عليها الطابع التجاري… . كما أن واجب الطاعة يجد محدوديته أمام الأمر الغير الشرعي، وواجب الإقامة لا يخص إلا فئة من الموظفين. أما واجب التحفظ فليس له أي عنصر انتقائي، إذ يمتد مجال تطبيقه ليشمل كافة الموظفين وجميع وسائل التعبير المستخدمة.[12] فالتحفظ مطلوب من جميع أفراد الإدارة، مركزية كانت أو محلية. إنه قاعدة من قواعد القانون العام[13] صالحة حتى وإن لم يتم التنصيص عليها صراحة في الأنظمة الأساسية الخاصة لبعض الفئات من الموظفين. كما أن الموظف مطالب باحترام واجب التحفظ حتى في إجازته السنوية أو عندما يستفيد من رخصة مرضية أو استثنائية أو في وضعية إلحاق بوظيفة أخرى، أي عندما يكون في وضعية نظامية. كما أن لبعض الحالات من الموظفين معايير مخففة، لا تعفيه تماما من الالتزام بواجب التحفظ، بل كل ما في الأمر أن هناك تسامح من قبل القاضي الإداري إزاء بعض الحالات من الموظفين[14]. وتتمثل أولا في ممارسة الحق النقابي حيث يمثل الحق النقابي ضمانة دستورية لفائدة الموظفين، فهو أداة ضرورية للدفاع عن حقوقهم المهنية ومطالبهم المشروعة. وبهذا يتميز الموظف العمومي المباشر للعمل النقابي عن غيره بضرورة الاعتراف له بقدر من الحرية في التعبير عن الأهداف التي يتولى الدفاع عنها [15]. كما أن العلاقة بين العمل النقابي وواجب الموظف بالاعتدال كانت دائما موضوع جدال. وهذا ما دفع مفوض الحكومة الفرنسي “هومن” في قضية “بودائيغت” لسنة 1956، للتوضيح على أن العمل النقابي، والذي يعتبر الإضراب أهم أسلحته، هو بمثابة معركة. أما واجب التحفظ المفروض على الموظف فيترجم التراتبية، وهنا يتساءل أليست المعركة للدفاع عن الحقوق والتراتبية شيآن متضادان؟ واقترح المفوض كحل والذي تبناه مجلس الدولة الفرنسي[16] على أن المسؤول لنقابة الموظفين لا يخضع للواجبات بنفس الحدة التي يخضع لها الموظف. وهذا ما ترجمه مجلس الدولة في العديد من الأحكام نذكر بعضها على سبيل المثال : عندما أقر بوجود خرق لواجب التحفظ من قبل موظف قام بتوزيع منشورات يدعو فيها الموظفين إلى المشاركة في إضراب منعته الإدارة.[17] في حين أن قيام الموظف الذي يتولى مهام نقابية بالدخول إلى موقع المرفق وحث العاملين فيه على عقد اجتماع غير مرخص تمهيدا للإعلان عن الإضراب، هو عمل لا يستوجب التأديب لعدم تضمنه خرقا لواجب التحفظ.[18]
الوجه الثاني للحالات التي يستفيد منها الموظف من المعايير المخففة في علاقة بالتحفظ على رأيه تتجلى في وظيفة الأستاذ الجامعي، حيث يحظى هذا الأخير على خلاف باقي أساتذة التعليم الثانوي والإعدادي والابتدائي بحرية واسعة في التعبير عن آرائه، سواء في محاضراته أو كتاباته. إن طبيعة التدريس الجامعي التي تعتمد على شخصية الأستاذ تعفي الإدارة من تحمل مسؤولية الموضوعات التي تدرس. إذ يستطيع أستاذ جامعي، على سبيل المثال، أن يعقد ندوة صحفية يتناول فيها مسألة عامة أدبية، أو علمية، أو قانونية، ولكن ذلك لا يعني بطبيعة الحال أن يتعرض لوظيفة الإدارة في الجهة التي يعمل فيها أو يعلن عن أعمال اللجان التي يشارك في عضويتها.[19] ويرى البعض أن حرية التعبير للأساتذة الجامعيين لا يمكن أن تكون غير محدودة، إذ يجب أن تجد حدها الطبيعي في الآراء التي تبدو كنتيجة طبيعية لمهمة التدريس التي يتولونها، أو كتدعيم ضروري لشرح المسائل التي يتناولونها.[20]
أما بالنسبة لوسائل التعبير المستعملة فإن واجب التحفظ لا يميز بينها ، بل يعتبرها في خانة واحدة ، لا يمنع بعضها ولا يحمي البعض الآخر. فالاعتراف للموظف بحرية التعبير ينتج عنه التسليم بالوسائل التي ستمكنه من ممارستها أي القنوات التي ستتيح له ممارسة هذا الحق. ففي النظام القانوني الفرنسي يتمتع العون العمومي بحرية واسعة للتعبير عن رأيه وفي مختلف المواضيع، ويتوفر على مجموعة من الوسائل الفردية للقيام بذلك:[21] التصويت ،الانخراط في الأحزاب السياسية والنقابات، المشاركة في التظاهرات الثقافية، الرسم ، المشاركة في الملتقيات والاجتماعات، إصدار مراجع، كتابات منشورات وكتيبات، ندوات ،تصريحات إذاعية و تلفزية… فكما أن واجب التحفظ لا يحمي أي نوع من وسائل التعبير فإنه لا يمارس المنع على أية وسائل معينة. ولكن من الناحية العملية فبعض وسائل التعبير يعرضون أصحابها أكثر لخطر تجاوز ومخالفة الاعتدال في التعبير، وهذا ما ينطبق على التصريحات الصحفية. [22] فالخطاب الشفوي يستهدف فئة عريضة أغلبيتها أمية، له بالتالي تأثير كبير على الرأي العام. فلا داعي للاستغراب في هذه الحالة، إذا ما لاحظنا أن انتقادات شفوية بسيطة تنعكس سلبيا على الموظف وعن وظيفته.[23]
- واجب التحفظ واجب مستمر.
يصنف الفقه مجموع واجبات الموظف إلى قسمين :واجبات تطبق على الموظف داخل الوظيفة والمرفق العمومي وأخرى تقيده خارجه، فلا يخضع واجب التحفظ لهذا التصنيف حيث يندرج ضمن القسمين معا وفي نفس الوقت. أي أنه واجب مطبق على الموظف داخل المرفق وخارجه.[24] كما أن هذا الواجب يتميز بخاصية أخرى ،إذ إن جميع الواجبات مقرونة بالوظيفة: تنشأ مع دخول الموظف لأسلاك الوظيفة وتنتهي مع حصول الموظف على تقاعده ،أو مغادرته لها لسبب أو لآخر. بينما واجب التحفظ يبدأ قبل الولوج للوظيفة العمومية ولا يتوقف عند التقاعد، لذا يمكن القول ان هذا الواجب خطي ومستمر في الزمان.[25]
لقد أقر الاجتهاد القضائي الفرنسي للإدارة المنظمة لمباراة التوظيف السلطة، عند تحديد لوائح المترشحين، لإقصاء أي مترشح لا يتوفر على الضمانات الكافية لممارسة المهنة المطلوبة ، ومن بين هذه الضمانات الأخلاق والتحفظ.[26] وقد استند مجلس الدولة الفرنسي صراحة في حكم ” سيلينياك ” ، على واجب التحفظ المطلوب في موظفي المهن القضائية بفس الكيفية بين الرسميين والمترشحين لهذه الوظائف.[27] كما أنه في سنة 1912 ، أكد مفوض الحكومة “إلبروني ” في خلاصاته حول حكم ” أبي بوطاير ” ان الأفكار والآراء التي تظهر أو ظهرت قبل الترشح للوظيفة العمومية، بفعل تصرف فردي أو جماعي، والتي بطبيعتها غير متوافقة و ممارسة الوظيفة المطلوبة. فالأمر يعود للجهة التي لها حق التسمية في إبعاد أي مترشح قام بهذا التصرف .[28] وتعود تفاصيل هذه القضية عندما قرر الأب” بوطاير ” تقديم طلب الالتحاق للتدريس بالتعليم الثانوي، لكن الوزير قرر استبعاده من المشاركة في المباراة بدعوى أنه كان قد انخرط في سلك الرهبنة. فقام الطاعن بتقديم طلب لإلغاء القرار أمام مجلس الدولة، بدعوى أنه يمثل اعتداء على حرية اعتناق الآراء والمعتقدات الدينية. وقد ساند المجلس هذا الاتجاه عندما أخذ برأي مفوض الحكومة في هذه القضية، والذي ذهب إلى أن الوزير لا يجوز له أن يستند الى الآراء الدينية أو الأفكار السياسية للمرشح للوظيفة من أجل استبعاده من الترشيح. لأن الأفكار والآراء ليست خاضعة لرقابة جهة الإدارة التي تتولى التعيين. وأن أي ابعاد بسبب هذا الدين أو ذاك، او بسبب معتقدات فكرية او سياسية انما تكون مساس بحريات التعبير التي كفلها الدستور. ولكن الأمر على خلاف ذلك ،خصوصا اذا كان التعبير عن هذه الآراء والأفكار يتم بشكل علني، وبطريقة تتنافى ومقتضيات الوظيفة العمومية. ويبقى من حق الإدارة، في هذه الحالة، ان تستبعد من الترشيح، من صدر عنه مثل هذا التصرف أو السلوك. وقد انتهى مفوض الحكومة في تقريره الذي أخذ به مجلس الدولة، إلى الإقرار بمشروعية قرار الوزير باستبعاد الأب “بوطاير” من المشاركة في المباراة ،لأنه لا يمكن التسليم أن بإمكانه أن يلتزم الحياد الديني عند تدريسه بالسلك الثانوي. هذا الاستبعاد من الترشيح بسبب الآراء قبل الالتحاق بالوظيفة يثير إشكالية رجعية واجب التحفظ، إذ أن القاعدة القانونية تتسم بعدم الرجعية ، فنكون امام استثناء للقاعدة إذ نطبق هذا الواجب على مواطن لم يكتسب بعد صفة الموظف. كما قرار الإدارة الاستغناء عن المترشح بعد قبوله والتحاقه بالتكوين أو العمل ،لسبب أو لآخر، يطرح إشكال الحقوق المكتسبة. ويعد في بعض الوظائف أمرا معمولا به كمرفق الأمن. ففي قضية” محمد حموش”[29] ضد المدير العام للأمن الوطني والتي تعود وقائعها إلى 30 يناير 2013 تاريخ التحاق المعني بالأمر بمدرسة الشرطة بأبو القنادل كحارس أمن متدرب، وبعد قضائه مدة أربعة أشهر بالمدرسة المذكورة بلغ شفويا من طرف الإدارة بقرار الإيقاف من التدريب دون تعليل . الشيء الذي دفع بالطاعن إلى رفع دعوى للمحكمة الإدارية طالبا إلغاء القرار الإداري مع ترتيب كافة الآثار القانونية على ذلك. وحيث أن القاعدة والتي استندت عليها المحكمة تنص على أن طبيعة المهام الموكولة لرجال الأمن تقتضي من الإدارة انتقاء الأشخاص ذوي المروءة والمؤهلين بدنيا ونفسيا لتولي تلك المهمة، ويكون لها في هذا الصدد سلطة تقديرية للتبين من مدى استعداد المتدربين لشغل المناصب الأمنية موضوع التدريب من خلال المشرفين على التدريب واللجان الطبية المتخصصة ،ما لم يثبت انحرافها في تلك السلطة، علما أن مراقبة سلوك المتدربين ووضعيتهم الصحية لا يقتصر فقط على مرحلة الولوج إلى معاهد التكوين وإنما يمتد خلال فترة التدريب. وفي هذا الباب فقد بنت الإدارة قرارها بكون الطاعن مريض وغير أهل من الناحية الصحية لتولي الوظيفة ، ويبقى للإدارة الحق في الاستغناء عنه مادام في فترة التدريب. ولكن الطاعن تمسك بكونه خضع لفحص طبي قبل الولوج إلى المعهد ولم يتم الاعتراض على حالته الصحية من طرف اللجنة الطبية، وبالتالي يبقى موضوع مرضه موضع تساءل: كيف يعقل أنه بعد أربعة أشهر من ولوجه المعهد تكتشف اللجنة الطبية التابعة للمعهد مرضا في الطاعن لا يسمح له بممارسة المهنة المطلوبة؟ هنا لا يتم مناقشة قرار الإدارة في التخلي عن المتمرن ، بل سبب هذا القرار . إذ على القاضي الإداري البحث في جوهر الأشياء وعدم الاكتفاء بظاهرها. فغالب الظن أن القرار وراءه سلوك الطاعن والذي لا يتماشى والمطلوب في شاغل مهنة حارس الأمن ، لأن الانتماء لمرفق الأمن يتطلب شروطا خاصة تضمن للدولة الأمن والاستقرار. هنا كان يمكن للمحكمة استدعاء واجب التحفظ والإخلال به من طرف الطاعن قبل الالتحاق بالمعهد إذا توفرت لها معلومات تؤكد ذلك، أو أثناء التدريب سواء تعلق الأمر بأفعال أو أقوال إزاء الرؤساء أو إزاء المرفق. ويأتي إدراج هذا الحكم للتأكيد على أنه كان للقاضي الإداري المغربي غير ما مرة فرصة إدراج الإخلال بواجب التحفظ في حيثيات الحكم، ولكنه لم يفعل.
كما أن الموظف ملزم بالاعتدال في سلوكه وتصرفاته سواء في حياته الخاصة أو أثناء مزاولته لعمله ، فالفقيه “ريني شابيس” يؤكد أن تفسير سلوك الموظف في نظر واجب التحفظ ليس دائما بالأمر السهل. وعلى العكس من ذلك ، يكون يسيرا عندما يدخل هذا السلوك أو التصرف دائرة القانون الجنائي كالقذف أو السب، أو المشاركة في تظاهرة ممنوعة أو إهانة رئيس الدولة.[30] وهنا ذهب بعض الفقهاء إلى التميز بين سلوك وتصرفات الموظف أثناء أوقات عمله وخارجها. فهناك من لا يتصور وجود التحفظ أثناء ساعات العمل لأن تصرفات الموظف تحكمها القوانين والأنظمة الوظيفية، كما أن الموظف لا يمارس خلالها حرية التعبير، وبالتالي هو ملزم بواجب الحياد أثناء العمل. أما واجب التحفظ لا يلتزم به إلا حين يمارس حرية التعبير والتي لا تكون إلا خارج الوظيفة العامة.[31] وقد صار الأستاذ ” بيردو” في نفس الاتجاه إذ ميز بين واجب حياد الموظف داخل المرفق ، وبين التحفظ كواجب عام على الموظف خارج المرفق. كما يؤكد على أن هذا التميز لا يعطينا معيارا واضحا، ففي الحالة الأولى كما الثانية يبقى الموظف خاضع لواجب التحفظ والذي يتغير بحسب وجود الموظف داخل أو خارج المرفق.[32] وهناك من يرى أن الموظف العام مادام يعبّر عن أرائه فهو يخضع لواجب التحفظ، سواء تم ذلك داخل المرفق، أو خارجه، وهو ما ذهب إليه الأستاذ ”بورد نكل” ويعتبر أن الموظف لا يقطع صلته بالإدارة بمجرد غلق باب مكتبه، بل يبقى ملتزما بالواجبات التي تفرضها عليه وظيفته بما في ذلك واجب التحفظ. [33] فخارج عمله اليومي ،الموظف ملزم بالاعتدال في آراءه وتصرفاته وسلوكه. فعند التعبير وخصوصا إذا كان موضوع هذا التعبير له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالمرفق الذي يشتغل فيه أو كافة مرافق الدولة، او له علاقة برؤسائه، فالحيطة في استعمال العبارات المناسبة مطلوبة بما يتناسب مع احترام وظيفته ورؤسائه التسلسليين، لأن احترامهما من احترام سلطة الدولة المنصوص عليها في الفصل 13من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية. وأثناء عمله فبالإضافة إلى واجب الطاعة (طاعة أوامر الرئيس)، وواجب كتمان السر المهني، وواجب الحياد فالموظف مجبر بالتحفظ في خطابه مع زملائه ومع رؤسائه وهنا يجد واجب التحفظ مكانا له أثناء ممارسة الوظيفة. كما أن القاضي الإداري لا يعطي أهمية كبرى لوجود الموظف داخل أو خارج المرفق، بل يسعى للتحقق من أن تجاوز الموظف حدود المقبول في التعبير يتناسب وواجب التحفظ المفروض من طرف ووظيفته المهنية أم لا؟ بغض النظر هل تم ذلك أثناء قيام الموظف بعمله أو بعد ذلك. كما أن مجلس الدولة الفرنسي ومن خلال بعض الأحكام تنكر إلى التميز الفقهي ، حيث نجد في بعض الأحكام” مثل هذا العون الذي أخل بواجب التحفظ رغم أنه استسلم لسلوكيات خارج أوقات عمله…”[34] .وفي أحكام أخرى قدر مجلس الدولة الالتزام أو الاخلال بالتحفظ في وقائع أحداثها وقعت بالمرفق العمومي ،ومثال ذلك ما وقع بمكتب العمدة وبحضوره حين أهين من طرف موظف بالبلدية بنبرة حادة، فأقر مجلس الدولة بأن الموظف أخل بواجب التحفظ حين تلفظ بإهانات في حق رئيسه.[35] من خلال هذه الأحكام وأحكام أخرى يتضح لنا الأهمية التي تعطى لتصرفات وسلوكات الموظف بغض النظر عن تواجده أثناء ساعات العمل أو خارجها.
ولكن الموظف الذي تقاعد ولم تعد تجمعه اية علاقة بالمرفق الذي كان يشتغل فيه، هل يظل هو الأخر ملزم بالاعتدال في الإدلاء برأيه؟ يبدو للوهلة الأولى أنه من المنطقي وبما أن المتقاعد لم تعد تربطه اية علاقات مع وظيفته السابقة، فلا يخضع بالتالي لواجب التحفظ. ولكن الواقع يؤكد أن العلاقة بينه وبين الإدارة لازالت قائمة، فالدولة تستمر في تعويضه من المال العام على شكل معاش ،ويمكنها منحه منصب شرفي إما في رتبته أو في الرتبة التي تليه.[36] يتعلق الأمر هنا باعتراف عمومي بكرامة وسمعة الموظف عن الخدمة التي أداها بشرف والتي تستحق الإعلان عنها رسميا.[37] وأي رأي منه كموظف سابق وحاصل على المنصب الشرفي ،يكون له الوقع الأكبر على العموم، خصوصا مع مصداقيته. كما عليه أن يحافظ على هذا التشريف بالاعتدال والتحفظ ، وكمقابل لهذا الامتياز الاستثنائي .[38] ولعل مايؤكد هذه الفكرة ما ورد في القانون التنظيمي رقم 13-100 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، المادة 11 الفقرة الثانية:” يلتزم الأعضاء بواجب التحفظ والكتمان فيما يخص مداولات المجلس و مقرراته، و كذا المعلومات والوثائق التي يطلعون عليها خلال مزاولتهم لمهامهم. ويبقى هذا الالتزام ساريا ولو بعد انتهاء مدة عضويتهم بالمجلس” [39] وهذا يدل على أن أعضاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية ملزمون بواجب التحفظ فيما يخص مداولات المجلس ومقرراته، أي أنهم ملزمون بالتحفظ عند التعبير عن أراءهم في كل ما يخص مداولات المجلس ، كعدم التعليق على مداولات سابقة أو الإدلاء بأي رأي بخصوص قضية قيد المداولة، بالنظر لطبيعة المهام الموكولة للمجلس والذي يسهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة ،ولاسيما فيما يخص استقلالهم وتعينهم وترقيتهم وتقاعدهم وتأديبهم.[40] الأمر الثاني الذي نستنتجه من المادة السالفة الذكر، هو أن واجب التحفظ المفروض على أعضاء المجلس يبقى ساريا حتى بعد انتهاء مدة عضويتهم به.
مما سبق ذكره يمكن القول أن واجب التحفظ واجب مفروض على جميع الموظفين بدون استثناء، كما أنه واجب يصاحبهم طيلة حياتهم المهنية ، بل أنه يلازمهم حتى بعد احالتهم على التقاعد ،وهذا ما يميز هذا الواجب عن باقي الواجبات الأخرى والتي تنقطع بانقطاع الموظف عن أداء الوظيفة. كما أنه حاضر في مرحلة لم يكتسب فيها الموظف بعد صفة الموظف، اي انه مجرد مواطن قد يلج سلك الوظيفة العمومية يوما ما. لهذا فواجب التحفظ واجب عام ومستمر.
ثانيا : مضمون واجب التحفظ
إن غاية واجب التحفظ ضمان مصلحة المرفق الذي ينتمي إليه الموظف مع ضمان لهذا الأخير ممارسة حقوقه وحرياته، لأن فكرة التحفظ تقتضي ممارسة هذه الحريات داخل إطار خطوطه البارزة: الإعتدال وضبط النفس . خصوصا عندما يتعلق الأمر بحرية الرأي. فيمكن تقريب مضمون هذا المفهوم الغامض بكونه غياب الاعتدال في التعبير عن الرأي لدى الموظف شكلا ومضمونا.
- غياب الاعتدال في الرأي شكلا
من بين الحريات العامة، تعتبر حرية الرأي بدون شك هي التي تثير أصعب المشاكل عندما يتعلق الأمر بتطبيقها في مجال الوظيفة العمومية.[41] باعتبار الموظف العمومي يقع في تقاطع دائرتين: فهو من جهة مواطن ، وقد اعترفت له المواثيق الدولية والوطنية بالحق في التعبير عن رأيه كم تنص على ذلك المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان[42]: ” لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير. ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية.” كما ضمن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية هو الأخر هذا الحق بتنصيصه على حق كل شخص في اتخاذ الآراء دون تدخل، والحق في التعبير والذي يشمل حق البحث عن المعلومات أو الأفكار وتسلمها ونقلها بأي وسيلة يختارها.[43] أما الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان فنصت على أن لكل فرد الحق في حرية التعبير ويشمل هذا الحق تبني الآراء ونقل المعلومات والأفكار دون تدخل من قبل المصلحة العامة.[44] كما تطرق الميثاق الإفريقي لهذا الحق على أنه حق كل فرد في التعبير ونشر آرائه وفقا للقانون.[45] كما أن الدساتير المغربية ضمنت هذا الحق وحرية التعبير وذلك منذ أول دستور في 1962[46] إلى دستور 2011[47]، من خلال الفصل 25 والذي ينص:” حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها…”
من هنا تتضح مكانة حرية الرأي والتعبير في المواثيق الدولية والوطنية باعتبارها من الحقوق الأساسية ، فلم تكتفي هذه النصوص بضمان الحق فقط ،بل كذلك طريقة التعبير عنه. ومن جهة ثانية ، تعتبر حرية الرأي عند الموظف مؤطرة بمسألة حياد المرفق العمومي.[48] فالتعبير دون إعتدال من حيث الشكل ،والذي يؤدي إلى عدم احترام التحفظ، يتمحور حول المصطلحات المستعملة وطريقة إشهار الرأي. من حيث المصطلحات المستعملة وبالاطلاع على الإجتهاد القضائي الموجود[49] يتضح ان التحفظ يتعارض والكذب ،و الإهانة ، والشتم والقذف[50] ، والعنف والتهديد[51] ، وعدم احترام وتقدير الرئيس التسلسلي[52]. واجب التحفظ يستوجب التميز بين المصطلح والنبرة ويلزم الاحترام والاعتدال على هذين المستويين[53] . فإذا كان التجاوز في استعمال الكلمات (من قبيل الشتم والإهانة) يؤدي إلى خرق واجب التحفظ ، فإن الاستعمال المقبول والمتداول لها لا يؤدي بالضرورة إلى احترام هذا الواجب مادام هناك خلل في الطريقة والنبرة( فضاضة التعبير أو انتقاد أو أسلوب ينم عن عدم الاحترام)[54]. كما أن النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية ينص في الباب الثالث المتعلق بحقوق وواجبات الموظف على أنه :”يجب على الموظف في جميع الأحوال أن يحترم سلطة الدولة ويعمل على احترامها”.[55] وهنا إشارة صريحة على أن الموظف ملزم باحترام سلطة الدولة وبالتالي ملزم باحترام المرفق العمومي ورؤسائه لأنهم امتداد لهذه السلطة ، ويتضمن هذا الإحترام إضافة إلى تنفيذ الأوامر وأداء المهام الموكولة إليه ،اللباقة في التعامل والتحفظ في استعمال المصطلحات . أما من ناحية إشهار الرأي فإن واجب التحفظ يلزم كذلك التحفظ في الإعلان عنه[56].لأن إشهار الرأي يمكن ان يشكل أحد العناصر المخلة بواجب التحفظ، بل العنصر الأساسي الذي يعتمده القضاء الإداري في تحديده للعناصر المخلة بهذا الواجب. لذا ولتفادي متابعته بالإخلال بالتحفظ وجب على الموظف توجيه رأيه حول تنظيم أو سير المرفق إلى مسؤوليه وألا يعمد إلى إعلامه للعموم. ولكن وأمام الإسرار حول عدم إشهار أراء الموظف السلبية حول الوظيفة التي يشغلها أو رؤساءه ألا نكون أمام الانتقال من التحفظ إلى واجب الصمت المطلق على اعتبار أن أي إشهار لرأي الموظف حول المرفق قد يكون موضوع متابعة؟[57] . لذا يجب عدم التركيز على مسألة إشهار الرأي لأنها وفي غياب اقترانها بعدم الاعتدال في المصطلحات والنبرة المستعملة تظل في دائرة حرية التعبير والرأي المكفولة للموظف . ثم لماذا لم يتم لحد كتابة هذه السطور متابعة أي موظف عند التعبير العلني الإيجابي عن المرفق العمومي أو أحد رؤسائه التسلسلين؟ خصوصا عندما يكون الرأي يحمل مبالغات ومغالطات في حق المرفق أو الشخص. فالرأي هنا كذلك لا يحترم الاعتدال والتحفظ. أم أن الإدارة لا يهمها إلا أن تبدو صورتها جيدة كيفما كان وضعها الحقيقي؟
- غياب الاعتدال في الرأي مضمونا
لا أحد يجادل في أن كل الحريات لها حدود، وحرية التعبير (عند الموظف وغيره) لا تمثل الاستثناء. المشكلة تكمن في وضع حدود لها دون محقها.[58] هذه الحدود لا يمكن تصورها على الحرية في حد ذاتها بل على الشكل الذي تظهر فيه ومضمونها أي المواضيع التي يمكن التطرق إليها. وهذا ما يهدف إليه واجب التحفظ جعل الموظف وعند ممارسة الحرية السالفة الذكر، أكثر تحفظا من المواطنين العاديين الذين لا تربطهم علاقة بالمرفق العمومي. حيث إن التطرق لبعض المواضيع بحكم طبيعتها يمكن اعتباره اخلالا بواجب التحفظ. وعلى الموظف أن يتفادى الخوض فيها، وهذا ما ينطبق عن المبادئ الأساسية والاختيارات الكبرى وراء التنظيم السياسي والاجتماعي لبلدنا.[59] فلا يجوز مثلا الحديث عن الإسلام باعتباره دين الدولة المغربية بالسوء أو بعبارات تنم عن عدم الاحترام الواجب للدين الإسلامي، لأنه يعتبر من ثوابت الأمة وهذا ما دفع المشرع الدستوري إلى التنصيص عليه في تصدير نص الدستور ، وفي الفصل 3 حيث ينص: “الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية”[60] ، من هنا كان كل رأي يعكس اي انتقاد لأحكامه أو أركانه يعرض صاحبه للمتابعة بسبب المس بمقدسات الأمة ،خصوصا إذا كان الرأي صادر عن موظف عمومي. الأمر هنا قد لا يتوقف عند متابعة الموظف بعقوبات تأديبية بل قد تصل إلى عقوبات ومتابعات جنائية ،خصوصا إذا كان الرأي المعبر عنه يهدف إلى زعزعة عقيدة مسلم ، وهذا ما ينص عليه القانون الجنائي المغربي في الفصل 220 فقرة 2على أنه:” يعاقب بنفس العقوبة(الحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وغرامة من مائتين درهم إلى خمسمائة) كل من استعمل وسائل الإغراء لزعزعة عقيدة مسلم أو تحويله إلى ديانة أخرى…”[61]. نفس الأمر ينطبق على الوحدة الترابية وقضية الصحراء. حيث إن أي رأي يهدف إلى النيل من الوحدة الترابية ويساند بطريقة صريحة أو ضمنية فكرة الانفصاليين يكون قد أخل بواجب التحفظ وكذا أساء إلى ثابت من ثوابت الأمة. ويمكن استنتاج ذلك من خلال القراءة العميقة لروح الدستور ، حيث ينص الفصل 28: “حرية الصحافة مضمونة… للجميع الحق في التعبير، ونشر الأخبار و الأفكار والآراء، بكل حرية ، ومن غير قيد، ماعدا ما ينص عليه القانون صراحة… “[62] من هذا الفصل نفهم على أن حرية التعبير بكل معناها الواسع :الحق في نشر الأخبار والأفكار والآراء مضمونة للجميع ، بما فيهم الموظفون، ماعدا ما وضع له حدا القانون صراحة. وبالرجوع للفصل 19 والذي ينص على ما يلي: “يتمتع الرجل والمرأة ، على قدم المساواة ، بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، الواردة في هذا الباب من الدستور، وفي مقتضياته الأخرى وكذا في الاتفاقيات والمواثيق الدولية، كما صادق عليها المغرب، وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها……” [63]فصحيح ان الفصل يتحدث عن المساواة بين الرجل والمرأة ولكن ما يهمنا في هذا الفصل ولربطه بما ورد بالفصل السابق هو ما ورد في الجملة الأخيرة من الفقرة الأولى “وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها” وعبارة “كل ذلك” تحيلنا إلى ما ورد في أول الفقرة من نفس الفصل أي الاستفادة من الحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، والتي لا يمكن تصورها إلا في إطار ثوابت المملكة والتي تم ذكرها سابقا الدين الإسلامي والوحدة الترابية. وهنا قيد صريح على الرأي الذي يستهدف ثوابت الأمة.
والثابت الثالث الذي لا يجوز الخوض فيه وإبداء أراء سلبية حوله هو النظام الملكي أو أن يكون مضمون الرأي الإساءة لشخص الملك وذلك لأن الدساتير المغربية منذ أول دستور سنة 1962 مرورا بدستور 1970ودستور 1972 ودستور 1992 ودستور 1996 أكدت على قدسية شخصية الملك ، حيث ورد الفصل 23 في جميع الدساتير المذكورة بنفس الأسلوب” شخص الملك مقدس لا تنتهك حرمته” والقدسية تتطلب الاحترام المطلق فلا يجوز التطاول عليه ولا قذف شخصيته ، كما لا يجوز المس أو إهانة أحد أفراد عائلته. عوض هذا الفصل في دستور 2011 بالفصل 46 والذي ينص :” شخص الملك لا تنتهك حرمته ، وللملك واجب التوقير والاحترام”[64] رغم أن صفة القدسية لم تذكر في دستور 2011 إلا أن عدم انتهاك حرمة شخصية الملك لازالت حاضرة وبقوة. من كل هذا يتضح نية المشرع الدستوري بإبعاد كل ما من شأنه انتهاك حرمة شخص الملك وأن تتسم جميع الآراء التي يكون مضمونها الملك بالاحترام والتوقير الازمين. في هذا الباب كذلك يمكن متابعة الموظف جنائيا وعدم الإكتفاء بالعقوبات التأديبية، كما ينص الفصل 179 من القانون الجنائي .[65] من هنا تتجلى خطورة الخوض في هذه المواضيع وخصوصا إذا تعلق الأمر بآراء ذات حمولة سلبية.
كما أن بعض المواضيع يمكن للموظف أن يدلي فيها برأيه دون تحفظ أي دون إجباره على الإعتدال ويتعلق الأمر بالنظام الإداري أو السياسات المعتمدة في بعض المجالات كالبيروقراطية ،وطول وتعقيد المساطر الإدارية، والرشوة ، والعدالة الاجتماعية……[66] .
خاتمة:
يتبين مما قيل أن الاجتهاد القضائي الفرنسي كان له الفضل في ظهور واجب التحفظ ، من خلال الأحكام المتنوعة وبالأخص تلك التي أصدرها مجلس الدولة، وذلك بالعمل على الاعتراف بحرية التعبير وحرية إبداء الرأي للموظف العمومي باعتباره مواطن، والعمل على حمايتها من كل تعسف. وتقيدها لأنها ليست مطلقة ولكن محاطة بضوابط تفرضها طبيعة الوظيفة التي يشغلها. ولأجل احترام المرفق العمومي وحياده، يلتزم الموظف بالتحفظ الازم أثناء التعبير عن أراءه وسلوكياته سواء داخل المرفق أو خارجه. تحفظ يجعله ملزما على اختيار العبارات والكلمات المناسبة والتي تليق به كموظف، وكذا بالمرفق العمومي الذي تبقى غايته الأولى والأخيرة خدمة المصلحة العامة. فرغم توضيح ملامحه ومعالمه ، يبقى واجب التحفظ من الواجبات المطاطية التي تحتاج إلى مزيد من البحث والتدقيق .
[1] عبد الرحمان المكادمي، حرية الرأي لدى الموظف العمومي بالمغرب، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون العام،جامعة محمد الخامس، كلية العلوم القانونية والإقتصادية والإجتماعية، الرباط، السنة الجامعية 2000/1999،ص.3.
[2] عبد الرحمان المكادمي، م.س، ص.98.
[3] Michel Rousset , Droit administrtif marocain, éd.la porte , 2ème éd.1975,p.300.
أورده عزيز إدريس، إشكالية الشفافية داخل الإدارة العمومية، ىمذكرة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون العام، جامعة محمد الخامس، كلية العلوم القانونية والإقتصادية ، الرباط،1996/1995 ، ص.58.
[4] المنجد في اللغة والإعلام، دار المشرق ،بيروت، الطبعة الأربعون ،2003.
[5] René Chapus, droit administratif général, tome 2, 6e éd. montchrestien, p.205.
[6] قضية عدد 14734 ، حكم بتاريخ 14 يوليوز 1998، مانسة الجبالي ضد وزير الداخلية، المجموعة ، ص.516.
أورده محمد الدريدي، واجب التحفظ في الوظيفة العمومية ، المجلة التونسية للإدارة العمومية ، عدد 37،السنة 2004.ص.46.
[7] François Rigoux, la protection de la vie privée et des autres biens de la personnalité , éd.Brylant et L.G.D.J.,Bruxelles-paris,1990,p.491.Cité par Pierre Lambert , le devoir de réserve et les notions voisines :le secret professionnel et l’obligation de discrétion ,le devoir de réserve : l’expression censurée ?,acte du table ronde du 17 octobre 2003 tenue à la maison du barreau de bruxelles,Bruylant,2004, p.15 .
[8] النظام الأساسي العام للوظيفة العموميةّ، الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.58.008 بتاريخ 4شعبان 1377(24 فبراير 1958) ج.ر رقم 2372 بتاريخ 21 رمضان 1377(11أبريل 1958) ص.914.
[9] يراجع. عبد القادر باينة، الموظفون العموميون في المغرب، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر2002.
[10] Albert Camus, la Chute,éd.Gallimard,1956 ,p.123.
[11] الفصل 15 من النظام الأساسي العام للوظيفة العموميةّ.
[12] Jean Yve Vincents , l’obligation de réserve des agents publics1 ,la revue administrative ,presses universitaires de France ,26e annee,no 152, mars-avril 1973, P. 146.
[13] Idem.
[14] محمد الدريدي، مرجع سابق ،ًص.54.
[15] محمد الدريدي، مرجع سابق ،ًص.54.
[16] Cf . Heumann, concl. sur C.E, 18 mai 1956, Boddaert, RFDA 1956, chron., p. 106. Cité par Haïtham Sakr, les droits et libertés du fonctionnaire dans les jurisprudences du conseil d’Etat
libanais et du conseil d’Etat français, op.cit. P. 296.
[17] C .E.,12 octobre 1956 ,Delle Coquand ,rec,p.362.
أورده عادل الطبطبائي، عادل الطبطبائي ، واجب الموظف بالتحفظ في سلوكه العام،مجلة الحقوق ،السنة العاشرة ، العدد 4، ديسمبر 1987 ، ص 195.
[18] C .E.,28 mars 1963 ,Administration générale de l’assistance ,Delle puttland ,rec,p.222.
أورده عادل الطبطبائي،م.س.ص.195.
[19] عادل الطبطبائي ، م.س.ص199.
[20] Rene Bourdoncle, fonction publique et liberté d’opinion en droit positif français,paris,p.104.
أورده عادل الطبطبائي ، م.س.ص199.
[21] Jean Yve Vincents , l’obligation de réserve des agents publics ,op.cit. P. 148.
[22] Idem.
[23] Amal MECHERFI ,le devoir de réserve des fonctionnaires, REMALD ,numéro double44-45,Mai-Août 2002,,p.42.
[24] Jean Yves Vincents , l’obligation de réserve des agents publics 2 ,op.cit.,p.272.
[25] Ibidem.
[26] Ibidem.
[27] C.E du 31-03-1950 , Sélignac, rec,p .206.,cité par jean yves vincents ,op.cit.p.272.
[28] M.Helbronner,concl sur C.E du 10-05-1912, Abbé Bouteyer,rec ,p.553.cité par Jean Yves Vincets, op.cit.p.272.
[29] حكم رقم 39، ملف عدد 477-7110-2013، بين محمد حموش و المدير العام للأمن الوطني، المحكمة الإدارية بالرباط، بتاريخ 09 يناير 2014.
[30] René Chapus, Droit administratif général, tome 2 ,6e éd ,montchrestien,1992,p.206.
[31] Cf., Jean-Marie Auby, Jean Bernard Auby, Didier Jean-Pierre et Antony Taillefait , Droit de la fonction publique Etat ,Collectivités locales , Hôpitaux . édition Dalloz,5e édition,2005,p.90-91.
[32] G.Burdeau, les libertés publiques,L.G.D.J.,1962,p.239.
[33] René Bourdoncle ,de l’obligation de réserve qui s’impose aux fonctionnaires français, recueil Dalloz,1960,p.237. أورده عادل الطبطبائي، مرجع سابق ،ص.176.
[34] C .E.,Delle coquand,12-10-1968 ,rec,p.362.,cité par Jean Yves Vincents ,op.cit.,p.274.
[35] C.E.,Pouzenc, 9-7-1965,A.J.D.A.,année 1966,p.179.,cité par par Jean Yves Vincents ,op.cit.,p.274.
[36] الفصل 86 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية.
[37] G.jeze, statut des anciens fonctionnaaires admis à l’honorariat, 1931,p.586. cité par Amal MECHERFI , op .cit.,p.41.
[38] par Amal MECHERFI , op .cit.,p.41.
[39] القانون التنظيمي رقم 13-100 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 40-16-1 صادر في 14 من جمادى الآخرة 1437 (24 مارس 2016)، ج.ر 6456.
[40] الفصل 113 من الدستور المغربي، الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.11.91 صادر في 27 من شعبان 1432 (29 يوليو 2011) ، منشور بالجريدة الرسمية عدد 5964 مكرر بتاريخ 30 يوليوز 2011، ص.3600.
[41] André De Laubadère , Traité de Droit Administratif,8 éd par Jean-Claude Venezia et Yves Gaudemet,paris L.G.D.J , 1986, p.88.
[42] الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هو إعلان تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة في العاشر من دجنبر 1948 بباريس واعتمد بموجب قرار الجمعية العامة 217 أ (د-3). يوضح الإعلان رؤية المنظمة عن حقوق الإنسان المكفولة لكافة البشر.
[43] المادة 19 من العهد الدولي لحقوق الإنسان المدنية والسياسية.
[44] المادة 10 من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان.
[45] المادة 9 من الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب.
[46] دستور المملكة المغربية لسنة 1962، الصادر بالأمر التنفيذي يوم الجمعة سابع عشر رجب 1382 موافق رابع عشر دجنبر 1962 . من خلال الفصل 9:« يضمن الدستور لجميع المواطنين:
– حرية الرأي وحرية التعبير بجميع أشكاله وحرية الاجتماع؛
– …»
[47] الدستور المغربي، الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.11.91 صادر في 27 من شعبان 1432 (29 يوليو 2011) ، منشور بالجريدة الرسمية عدد 5964 مكرر بتاريخ 30 يوليوز 2011، ص.3600.
[48] Haïtham Sakr, les droits et libertés du fonctionnaire dans les jurisprudences du conseil d’état
libanais et du conseil d’état français, thèse pour le doctorat en droit, université de poitiers, faculté de droit et des sciences sociales, présentée et soutenue publiquement le 5 novembre 2008.p.26
[49] Amal MECHERFI , op .cit.,p.29 .
[50] C.S.no7 du 26 janvier 1968 , Ben Smaqui Larbi,JCS,no6,p.102.cité Amal MECHERFI , op .cit.,p.29 .
[51] C.S.no9 du 26 janvier 1968 ,Bekhakhe Mohamed,,JCS,no7,p.103. par Amal MECHERFI , op .cit.,p.29 .
[52] C.S.no104 du 24 mai1972 ,El Idrissi El Hassani,,JCS,no26,p.189. par Amal MECHERFI , op .cit.,p.29 .
[53]Amal MECHERFI , op .cit.,p.30 .
[54] Ibidem.
[55] الفصل 13 من النظام الأساسي العام للوظيفة العموميةّ،م.س.
[56] Jean Yve Vincents , l’obligation de réserve des agents publics1 ,la revue administrative ,presses universitaires de France ,26e annee,no 152, mars-avril 1973, p. 145.
[57] Amal MECHERFI , op .cit.,p.31 .
[58] Foulek RINGELHEIM ,les limites du commentaire et de la polémique,le devoir de réserve : l’expression censurée ?,acte du table ronde du 17 octobre 2003 tenue à la maison du barreau de bruxelles,Bruylant,2004, p.119 .
[59] Amal MECHERFI , op .cit.,p.32 .
[60] الفصل 3 من الدستور المغربي ل2011.
[61] القانون الجنائي ، الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.59.413 صادر في 28 جمادى الثانية 1382(26 نونبر 1962)، ج.ر، رقم 2640 مكرر بتاريخ 12 محرم 1383 ( 5 يونيو 1963)، ص.1253.
[62] الفصل 28 من الدستور المغربي ل2011.
[63] الفصل 19 من الدستور المغربي ل2011.
[64] ا الفصل 46 من الدستور المغربي ل2011.
[65] ينص الفصل 179 من القانون الجنائي المغربي على على أنه :”…. يعاقب:
1-بالحبس من سنة واحدة إلى خمس سنوات وبغرامة من مائتين إلى ألف درهم من ارتكب إهانة موجهة إلى شخص الملك أو إلى شخص ولي العهد.
2 – بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين وبغرامة من مائة وعشرين إلى خمسمائة درهم من ارتكب إهانة موجهة إلى أعضاء الأسرة المالكة المشار إليهم في الفصل 168.”
[66] Amal MECHERFI , op .cit.,p.33 .