مظاهر انخراط المغرب في المنظومة الكونية لحقوق الإنسان
يوسف أديب
دكتور في الحقوق
كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكادير- جامعة ابن زهر-/
يوسف بوكيوت
باحث في صف الدكتوراه (القانون العام والعلوم السياسية)
جامعة القاضي عياض –مراكش-
مقدمة
شكل التدويل الفعلي لمسألة حماية حقوق الإنسان، خاصة بعد تبني ميثاق الأمم المتحدة الذي صيغ في مؤتمر سان فرانسيسكو 1945، – والذي أعربت من خلال ديباجته شعوب الأمم المتحدة عن تصميمها: “على تأكيد إيمانها من جديد بحقوق الإنسان الأساسية… “- فرصة لجعل الإنسان موضوع اهتمام عالمي بغض النظر عن الموقع الجغرافي للشخص أو الفصيل السياسي أو الفريق الاجتماعي الذي ينتمي إليه، إذ كل امرئ له حقوق إنسانية وعليه مسؤوليات حماية احترام هذه الحقوق [1]، ويكتسي هذا الاهتمام ظاهرتين أساسيتين:
الظاهرة الأولى: أن حقوق الإنسان وحرياته الفردية والجماعية قد غدت شأنا عالميا، بعد أن ظلت في القرن الماضي شأنا وطنيا محصورا إدراكه في فئة الثوريين أو عند قلة من المفكرين الإصلاحيين.
الظاهرة الثانية: أن العناية بهذه الحقوق قد انتقلت من ميدان المبادئ الأخلاقية والنظريات الفلسفية والإيديولوجيات السياسية -الاجتماعية إلى ميدان الممارسة الواقعية من جانب الأفراد والجماعات البشرية، وبات التساؤل ليس عن تقنين الحقوق وإكسابها الشرعية الدستورية فحسب، بل عن طلب الوسائل القانونية والشرعية لتطبيقها، وعن إنشاء آليات مناسبة لرقابة هذا التطبيق ولردع الانتهاك[2].
وأمام هذا الإيمان بحقوق الإنسان الأساسية من جانب دول العالم ووعيها بكون هذه المسألة لم تعد شأنا داخليا وميدانا مرتبطا بسيادة الدولة، بل أضحت تقتضي منها ضرورة العمل على صيانة وضمان مختلف الحقوق للجنس البشري على سطح الكوكب، فقد سارعت أغلب الدول إلى الإفصاح عن نيتها وعزمها ضمان هذه الحقوق، وذلك من خلال انخراطها في المواثيق المؤطرة لحقوق الإنسان، هذه الأخيرة التي تأخذ في معظمها شكل اتفاقيات دولية تتكون أطرافها من حكومات الدول، الشيء الذي أطر منظومة حقوق الإنسان بترسانة مهمة من المعاهدات والاتفاقيات الدولية والإقليمية مستمدة بذلك عالميتها وإلزاميتها من القانون الدولي[3].
ومن هذا المنطلق شهدت الساحة الدولية دينامية واسعة في الإقبال على منظومة حقوق الإنسان، وذلك عن طريق انخراط معظم الدول في المواثيق الضابطة لها، والحرص على التطبيق السليم لمقتضياتها.
والمغرب بدوره لم يشكل استثناء عن هذه القاعدة إذ سرعان ما أعلن تشبثه بالالتزامات الدولية في ضمان الحقوق الأساسية للأشخاص، والخضوع للفكرة المحورية لحقوق الإنسان وهي أن الدولة مسؤولة عن الوفاء بشروط معينة عند تعاملها مع شعوبها[4]. وذلك من خلال منهجية قوامها العمل على الانضمام والمصادقة على الاتفاقيات بادئ الأمر، علاوة على إعداد التقارير الدورية والانفتاح على الآليات الأممية لحقوق الإنسان، ووقوفا على جعل هذا التوجه جزء لا يتجزأ من المنظومة التشريعية للمملكة بدءا من التشريع الأسمى للبلاد مرورا بباقي القوانين، والحرص على خلق آليات وطنية تعنى بهذه الغاية.
وما دام الإجماع حاصلا بشأن المكانة المتميزة التي تحظى بها قيمة حقوق الإنسان في الممارسة الوطنية يترجمها استحضار البعد الحقوقي في مختلف سياسات الدولة الداخلية والخارجية، نتساءل حول مدى توفق المغرب من خلال انخراطه في المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، في بناء مغرب فاعل على مستوى المجتمع الدولي للدفع بعجلة السمو بكونية هذه المنظومة؟ وبتعبير آخر ما حدود ترجمة تسارع وثيرة إقبال المغرب على الانخراط في الصكوك الدولية الناظمة لحقوق الإنسان لتشبثه بهذه الحقوق كما هي متعارف عليها دوليا؟
للإجابة على هذه الإشكالية سنركز على العلاقة القائمة بين المغرب والمنظومة الأممية لحقوق الإنسان المعبر عنها من خلال مصادقة المملكة على الاتفاقيات الدولية وإعداد التقارير الدورية )أولا(، ثم تسليط الضوء على مكامن الوفاء باحترام وحماية حقوق الإنسان داخل الوثيقة الدستورية )ثانيا(.
المطلب الأول: انخراط المغرب في المنظومة الدولية لحقوق الإنسان، بين المصادقة على الاتفاقيات الدولية وإعداد التقارير الدورية
تشكل الاتفاقيات الدولية عموما أحد أهم المصادر الحقوقية على المستوى الدولي، من حيث التزام الدول صراحة عن طريق المصادقة عليها بضمان الحقوق والحريات الأساسية الواردة فيها، وكذا ملاءمة تشريعاتها الداخلية مع مقتضيات هذه الاتفاقيات، والعمل على إعداد تقارير بصفة دورية بهدف اطلاع المنتظم الدولي على التطور الحاصل في التعاطي مع هذه الحمولة الحقوقية الاتفاقية، والتفاعل مع التوصيات الصادرة عن الآليات الأممية المعنية، وهي أساليب تعكس مدى توفق الدولة في ضمان مختلف هذه الحقوق المكرسة داخل نصوص هذه الاتفاقيات للأفراد والجماعات.
الفقرة الأولى: المصادقة مدخل أساسي لانخراط المملكة في منظومة حقوق الإنسان
تقاس عالمية حقوق الإنسان من منظور قانوني، بمدى ضمان احترامها والالتزام بأحكامها من طرف المنظومات القانونية الداخلية للدول، وبالتصديق أو عدمه على الآليات الاتفاقية المتعلقة بها وكذا بالتحفظات أو عدمها اتجاه بعض مقتضياتها [5].
ولئن كانت المادة 11 من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات[6]، قد أقرت بصلاحية كل دولة في تنظيم واعتماد امكانات ووسائل للتعبير عن ارتضائها بالمعاهدات سواء تعلق الأمر بالتوقيع على الاتفاقية أو تبادل وثائق إنشائها أو التصديق عليها أو الموافقة عليها أو قبولها أو الانضمام إليها أو أية وسيلة أخرى متفق عليها، فإن الواقع يفرض طرح التساؤل حول الصيغة القانونية التي ارتضاها المغرب تعبيرا عن التزامه بمقتضيات الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان التي قبل بها وانخرط فيها؟
وكإجابة على هذا السؤال نلاحظ أن الممارسة المغربية دأبت منذ سنوات عديدة على جعل المصادقة الوسيلة القانونية الأكثر إقرارا من جانب المملكة بالأخذ بالمقتضيات الاتفاقية الدولية في ميدان حقوق الإنسان، كإجراء يأتي بعد التوقيع الذي لا يفرض أي التزامات قانونية على الدولة[7]، جاعلا من قيام هذه الالتزامات أمر متوقف على عملية المصادقة.
ومن هنا فالتصديق إجراء قانوني يصدر عن السلطة المختصة دستوريا تعبر بمقتضاه عن قبولها بالمعاهدة والتزامها بأحكامها ومضامينها بصفة نهائية. وبتعبير أخر فالتصديق هو تلك العملية التي يقوم بها غالبا رئيس الدولة باعتباره ممثلها الأسمى تعبيرا عن قبوله بالاتفاقية مراعيا عدم تعارضها مع المصلحة العليا للبلاد التي يتولى مسؤولية الحرص عليها.
وتجدر الإشارة في هذا الإطار إلى أن تحديد الجهاز المختص بالمصادقة على الاتفاقيات يختلف من دولة لأخرى حسب النظم الدستورية والسياسية المعمول بها، إذ من جهة تتولى السلطة التنفيذية في شخص رئيس الدولة إبرام المعاهدات والمصادقة عليها، ومن جهة ثانية تستأثر السلطة التشريعية بهذه الصلاحية، ومن جهة ثالثة يكون هذا الاختصاص مشتركا فيما بين الجهازين التشريعي والتنفيذي، هذا الأسلوب الأخير هو التوجه الذي سلكه المغرب، إذ يعهد بالمصادقة على الاتفاقيات إلى الملك والبرلمان طبقا لأحكام الفصل 55 من الدستور [8].
ولعله بتسليط الضوء على مقتضيات هذا الفصل يتضح أن المعاهدات والاتفاقيات المرتبطة بحقوق الإنسان أصبحت من الأهمية بمكان حتى جعلها المشرع الدستوري من بين الاتفاقيات التي تشترك في المصادقة عليها المؤسستان الملكية والتشريعية، خلافا لما كان معهودا في الدساتير السابقة لسنة2011، ومن خلال هذا التعديل الدستوري الذي قيد اختصاص الملك في مجال التصديق على المعاهدات وحدد قائمة بشأنها، ينضم المغرب إلى الدول التي أشركت دساتيرها المؤسسة التشريعية في تبني القانون الدولي[9]، سيما إذا علمنا أن كل ما يرتبط بحقوق وحريات المواطنين تعد من صميم اختصاص المؤسسة التشريعية طبقا لمقتضيات الفصل 71 من الدستور[10] .
إن عملية التصديق على الاتفاقيات الدولية هي خير دليل على الرغبة الملحة التي تحذو المملكة في القبول والتشبث بمنظومة حقوق الإنسان، وتأكيد كونها عضو نشيط ضمن المنتظم الدولي الذي لا يمكن اعتبار أي بلد جزء منه مساير للركب الأممي في مجال حقوق الإنسان، دون أن يرتبط هذا الوصف بقبول الدولة الارتباط بالمعاهدة المكرسة لهذه الحقوق، وهو ما يعبر عنه بالمصادقة عليها طبقا لمقتضيات المادة 14 من اتفاقية فيينا، وهذا التعبير يتم عن طريق تبادل الوثائق المؤسسة لها[11]، كدليل على الانخراط الفعلي فيها إذا تبت أن الدولة المشاركة في المفاوضات[12]، كانت متفقة على هذا القبول[13].
وعليه فإنه بمجرد إقدام الدولة على المصادقة على اتفاقية من اتفاقيات حقوق الإنسان تنعقد المسؤولية الدولية لها، مما يستوجب عليها احترام بنودها واتخاذ كافة التدابير التشريعية والإدارية والقضائية لملاءمتها مع القوانين الوضعية الداخلية[14]، ولا يجوز بأي حال من الأحوال للدولة عقب مصادقتها على الاتفاقية أن تستند على قوانينها الداخلية كحجة لتبرير التملص من تنفيذ المقتضى الاتفاقي الذي قبلت به[15].
وحري بنا التذكير في هذا المضمار أن حركية التصديق التي عرفها المغرب خلال فترة التسعينات من القرن الماضي مردها إلى اعتبارات خارجية، من خلال ضغوطات الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية على الدول للمصادقة على الاتفاقيات ذات المنحى الإنساني، فضلا عن الاعتبارات الداخلية المتمثلة في الانفتاح الحقوقي الذي عرفه المغرب خلال عقد التسعينيات من خلال تكريس حماية فضلى لحقوق الإنسان وإعطاء المصداقية لدولة الحق والقانون بما في ذلك التجاوب مع انتقادات المنظمات الحقوقية غير الحكومية الوطنية[16]، وهي حركية قائمة إلى اليوم.
الفقرة الثانية: إسهام آلية إعداد التقارير في دعم تشبث المغرب بالمنظومة الحقوقية العالمية
إذا ما تم التسليم بكون الدولة هي الضامن الأساس والفعلي للحقوق والحريات الأساسية التي يكفلها تشريعها، فإن المنطق يقتضي التساؤل حول طبيعة وأساس الوفاء بالتزامتها الدولية من خلال قبولها الانخراط في الاتفاقيات والمعاهدات ذات الصبغة الحقوقية؟
وهكذا يكون الجواب على هذا التساؤل هو المدخل لمعرفة أساليب وفاء المغرب بالتزاماته الدولية في مجال حقوق الإنسان، إذ يكاد يكون هناك إجماع دولي على أن المعاهدات والاتفاقية الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان لا تعدو أن تكون مجرد مبادئ منتفية القيمة في غياب آليات رصد وإشراف ورقابة دولية لضمان حسن تنفيذها.
وعليه يعد نظام التقارير الوسيلة الأكثر ذيوعا واعتمادا في رصد وتتبع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، والتحقق من مدى أخذ الدول المتعاقدة مأخذ الجد توصيات اللجان التي أنشأتها هي نفسها وقبلت الالتزام بأسلوب عملها[17].
وبالنظر لتعدد الاتفاقيات التي صادق عليها المغرب والتي تؤكد ضرورة تقديم الدول الأطراف لتقارير دورية، فقد عمد المغرب على الانخراط في دينامية إعداد التقارير الدورية، وقدم العديد من التقارير إلى الهيئات الأممية من بينها؛ تقارير متعلقة بإعمال اتفاقية القضاء على كل أشكال التمييز العنصري، وبإعمال اتفاقية حقوق الطفل، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، واتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملات أو العقوبات القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، واتفاقية حماية حقوق العمال المهاجرين وأفراد أسرهم، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ….، وإذا كان من الصعب الإحاطة بحيثيات مختلف هذه التقارير والتوصيات الصادرة بشأنها، فإننا سنقتصر داخل متن هذه الفقرة على الحديث عن آلية الاستعراض الدوري الشامل[18] باعتباره آلية جد فعالة في رصد مختلف الأنشطة الحقوقية والتطورات الحاصلة في بيئة الحقوق والحريات بالمغرب.
وتجدر الإشارة في هذا السياق أن المغرب قدم لحد الآن ثلاث تقارير دورية 2008 و 2012، وأخرها تقرير الاستعراض الدوري الشامل لسنة 2017 استعرض من خلال هذا الأخير أهم المنجزات والأوراش الحقوقية التي قام بها بين 2012 و2017، والتي همت جوانب من الحقوق المدنية، السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية والبيئية إضافة إلى حقوق الفئات، واختتم بإصدار الدول التي حضرت جلسة الاستعراض الدوري وتقديمها توصيات للمغرب بلغ تعدادها 252 تدعو فيه المغرب لمواصلة تعزيز حقوق الإنسان بالمغرب.
وعموما فإن آلية الاستعراض الدوري الشامل تهدف إلى النهوض بعالمية حقوق الإنسان وترابطها وعدم قابليتها للتجزيء والتفرقة، هذا بالإضافة إلى تتميمه مهام الميكانيزمات الأخرى المتعلقة بحقوق الإنسان، وليس فقط تكرار نفس مضامين التقارير ذات الصلة، وذلك وفق منهجية موضوعية وشفافة وغير انتقائية، تستبعد التسييس والمواجهة[19].
وعليه فقد دأبت مناقشة التقارير المقدمة من قبل المغرب على مدى سنوات من طرف الهيئات الأممية إلى تسجيل ملاحظات بعضها إيجابي والأخر سلبي، ولها أهميتها البالغة لاستجلاء ما تعرفه أوضاع حقوق الإنسان في المملكة من تطورات وما لحقها من تعثرات، تمخض عنها إصدار هذه اللجان للعديد من التوصيات تدعو المغرب إلى الأخذ بها، ولعل القواسم المشتركة بين مختلف هذه التوصيات تتجه صوب دعوة المملكة إلى القيام ب:
- مواصلة انخراطها في المنظومة الاتفاقية الدولية لحقوق الإنسان والبروتكولات الملحقة بها سواء بالانضمام أو بالتصديق على المعاهدات أو برفع التحفظات التي قدمتها بخصوص بعض مقتضيات الاتفاقيات التي التزمت بها.
- إدماج مقتضيات الاتفاقيات الدولية في القانون الوطني من خلال:
- تحيين القانون الوطني في مجال حقوق الإنسان؛
- تعزيز ملاءمة مقتضيات القانون الوطني مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان؛
- إعمال وإنفاذ مقتضيات الاتفاقيات الدولية من خلال تطبيق السلطات العمومية لالتزاماتها الدولية، وتوفير سبل الانتصاف في حالة انتهاك الحقوق أو الحريات المنصوص عليها في الاتفاقيات التي التزمت بها المملكة[20].
هذه الملاحظات والتوصيات الصادرة عن الهيئات الأممية التعاهدية وغير التعاهدية دفعت بالمغرب إلى تقديم جرعات قوية في المجال الحقوقي همت توالي إصلاح ترسانته القانونية والعمل على ملاءمتها مع المقتضيات الاتفاقية الحقوقية الدولية، التي صادق أو انضم إليها، واتخاذ إجراءات تشريعية ومؤسسية لتحسين احترام حقوق الإنسان.
باختصار فالمغزى من وضع ميكانيزمات توجيهية لنظام التقارير هو تكريس مصداقيتها وخلق تعاون أوثق بين الآليات المؤسسية للرصد والإشراف على الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان والدول المتعاقدة من خلال اعتماد مبدأ الحوار البناء وفحص ومعالجة التقارير الأولية والدورية والاستعراضية[21].
المطلب الثاني: مرتكزات انخراط المغرب في المنظومة الحقوقية داخل المتن الدستوري
لقد شكل تبني دستور جديد للملكة سنة 2011[22] قفزة نوعية في الميدان الحقوقي، حيث يعتبر ميثاقا حقيقيا للحقوق والحريات الأساسية، من خلال تأكيده على التزام المملكة بحقوق الإنسان وتشبثها بها كما هي متعارف عليها عالميا، أو من خلال تكريسه لمزيد من الضمانات الرامية إلى حماية حقوق الإنسان في كافة تجلياتها، المدنية والسياسية، والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية…، أو من خلال دسترة عدد من المؤسسات الوطنية المعنية بالحكامة الجيدة والتنمية البشرية والمستدامة والديمقراطية التشاركية وحقوق الإنسان.
وبالغوص في ثنايا الدستور نجده أعطى مكانة مهمة لمنظومة حقوق الإنسان على المستوى الكمي والنوعي، إذ تؤكد هذه الوثيقة انخراطها عمليا في إطار جيل دساتير الحقوق، والتي بالقدر الذي تنظم فيه السلط فإنها تفصل في مسألة الحقوق، حيث تم تخصيص باب كامل (الباب الثاني) الحريات والحقوق الأساسية تضمن 21 فصل، جاءت لتعزيز مبدأ المناصفة والمساواة، والحق في الحياة والسلامة الشخصية، وتجريم التعذيب وقرينة البراءة، والحق في المحاكمة العادلة، وحرية الفكر والرأي والتعبير والصحافة، والحق في الولوج إلى المعلومات، وحرية الاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي وتأسيس الجمعيات والإنتماء النقابي والسياسي، وحق الإضراب، وحق التصويت والترشح للانتخابات. كما تم إفراد نص خاص للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (الصحة، الحماية الاجتماعية، التعليم، السكن، الشغل…) مع تغيير “حاسم” في الصياغة يربط بين استفادة المواطنين من هذه الحقوق، وبين عمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية على تعبئة كل الوسائل لتحقيق ذلك. وبكثير من التدقيق تم التنصيص كذلك على حقوق فئوية تهم الأسرة والشباب والمعاقين[23].
وما طبع دستور 2011 من تطورات جعلت من فكرة حقوق الإنسان فكرة مهيكلة لكل مضامينه، انطلاقا من التوجهات الكبرى الواردة في تصديره وداخل كل الأبواب والمقتضيات المتعلقة بجميع المؤسسات، يجعلنا نتساءل عن الوسائل الدستورية المعتمدة من قبل المشرع الدستوري في تأكيد التزام المغرب بالانخراط في المنظومة الحقوقية الدولية؟
الفقرة الأولى: التكريس الدستوري لتشبث المملكة بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا
إن دينامية الإصلاحات الدستورية التي انخرط فيها المغرب بعد سنة 2011، تؤكد بروز معالم مرحلة مفعمة بتحولات جديدة على المستوى الحقوقي انسجاما مع سياق التحول السياسي والاجتماعي الديمقراطي الذي عرفه المحيط الإقليمي، وتفاعلا مع التطورات التي طبعت المسار الحقوقي المغربي، سيما بعد تجربة هيأة الإنصاف والمصالحة والرغبة الملحة في تعزيز منظومة الحقوق والحريات داخل البلاد، والإرتقاء بالمملكة إلى مصاف الدول الرائدة في مجال ضمان الحقوق والحريات الأساسية. ولأجرأة هذا الانخراط فقد خطا المشرع الدستوري خطوات مهمة من أجل بناء صرح حقوقي وطني بمعايير دولية، عبر عنها تصدير الدستور الذي جاء متضمنا لتأكيد تشبث المملكة بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا، والعمل على حماية منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني والإسهام في تطويرهما مع مراعاة الطابع الكوني لها وعدم قابليتها للتجزيء، وهو ما يؤكد أهمية هذا المقتضى في الترتيب الدستوري، إذ بعد تحديد الأسس المرجعية لهوية الدولة، تم التأكيد على التشبث الدولتي بالاتفاقيات ذات الصلة بحقوق الإنسان، من خلال التعهد بالالتزام بالمرتكزات الثلاثة ذات الصلة، وهي المبادئ والحقوق والواجبات[24].
صحيح أن التضمين الدستوري لتشبث المغرب بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا لم يكن مستجدا حقوقيا رأى النور مع دستور2011، وإنما جاء نتاج الانفراج الحقوقي الذي صاحب فترات التسعينيات من القرن الماضي، ومن خلال التعديل الدستوري لسنة 1992. إلا أنه وقتئذ لم يكن يترجم التشبث الفعلي والحقيقي بهذه المنظومة كما هو الشأن لمغرب ما بعد 2011 ، وذلك لاعتبارات عديدة أبرزها التطور الحاصل في الحقوق والحريات بالمغرب بعد ما اصطلح عليه بالربيع العربي –الديمقراطي- وحركة 20 فبراير، إلى جانب المحيط الدولي والإقليمي الذي بات يجعل من حقوق الإنسان العملة الأكثر تداولا على الصعيد الدولي، ناهيك عن المكانة التي أصبح يشغلها المغرب داخل المنظمات الدولية التي تعنى بحقوق الإنسان والتي تؤكد فعاليته ونشاطه في هذا المجال، أضف إلى ذلك توالي تقديم التقارير من جانبه بشكل يجعله لا يكاد يتوقف عن التعزيز من هذه الثقافة الحقوقية. ومعنى هذا أن المملكة التي اختارت طواعية الانخراط في العديد من الاتفاقيات الدولية، وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة والوكالات المتخصصة التابعة لها، ووقعت وصادقت على العديد من الاتفاقيات الصادرة عنها واحتضنت وشاركت في العديد من المؤتمرات الدولية المنظمة من قبلها، تلتزم باحترام مقتضيات الاتفاقيات الدولية، ومن بين هذه الاتفاقيات تلك المتعلقة بحقوق الإنسان، ومنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، واتفاقية حقوق الطفل، واتفاقية ذوي الإعاقة، وغيرها من الاتفاقيات الدولية والإعلانات الحقوقية التي تشكل في مجموعها القانون الدولي لحقوق الإنسان[25].
إن الإقرار بتشبث المملكة بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا، لا يمكن التأسيس له إلا من خلال إقدام المغرب على المصادقة على اتفاقيات حقوق الإنسان والبرتوكولات الملحقة بها، والحرص على ملاءمة التشريعات الوطنية مع مقتضياتها، وكفالة ممارستها للمواطنين بشكل أوسع على أرض الواقع وضمان حمايتها من كل أنواع الانتهاكات، والبحث عن الميكانيزمات والسبل الكفيلة بذلك وفي مقدمتها الحماية القضائية، هذا ناهيك عن تجنب أي تأويل لهذه الاتفاقيات بما من شأنه أن يشوه مقتضياتها ويؤدي إلى المساس بالحقوق والحريات المكفولة بمقتضاها ويقيد نطاق ممارستها والتمتع بها. وهو يعني كذلك الالتزام برفع التقارير الدورية المتعلقة بتطبيق مقتضيات العهود والمواثيق الدولية، وتطبيق التوصيات الصادرة عن مجلس حقوق الإنسان في إطار الاستعراض الدوري الشامل والتوصيات الواردة عن اللجان المختصة في إطار الآليات التعاهدية، وكذلك العمل على نشر قيم وثقافة حقوق الإنسان وتعزيز التعاون في هذا الصدد [26].
لئن كان دستور 2011 قد تضمن دسترة لمقتضيات تشبث المملكة بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا، فإن ذلك لا يخلو من إشكالات تعترض هذا التكريس وتتجسد في كيفية التوفيق بين معطى الحفاظ على الأمن والنظام العام، وضمان حقوق الإنسان وحرياته الأساسية[27]، فالتكريس الدستوري لحقوق الإنسان هو إقرار بوجود ثقافة حقوقية تنحو إلى تعبئة المجتمع على جميع الأصعدة وفي مقدمتها حقوق الإنسان.
لقد أصبحت قضية حقوق الإنسان في العصر الحديث تكتسي أهمية قصوى في الميدان الداخلي بعد أن تطور مفهومها على النطاق الدولي، وأخذت الدول تعمل جاهدة في سبيل إدماج هذه الحقوق في تشريعاتها الوطنية[28]، فضلا عن كونها غدت جزء لا يتجزأ من إشكالية الديمقراطية بالمغرب، ومن تم فلا مجال لحرمان الفرد من حقوقه الأساسية وحرياته العامة بحجة أن نظامه الدستوري لا يعترف له بتلك الحقوق أو بجزء منها. ذلك أن إعلانات الحقوق لها قيمة فوق دستورية حسب العميد Leon Duguit ، فأساس التزام المشرع الدستوري بحقوق الإنسان هو الالتزام الدولي على عاتق دولته بمراعاة أحكام الاتفاقيات ذات الصلة[29]. وهي جدلية تقودنا لطرح التساؤل حول إشكالية العلاقة القائمة بين الاتفاقيات الدولية والنصوص القانونية الوطنية في المادة الحقوقية؟ وكيف أطرها دستور 2011 ؟
الفقرة الثانية: دسترة سمو الاتفاقيات الدولية على التشريعات الوطنية
لا شك أن قانون حقوق الإنسان يمتاز بسموه على سائر القوانين الوطنية، فالقواعد الخاصة بحق الشعوب في تقرير مصيرها وعدم إبادة الجنس البشري وتحريم الاتجار بالرقيق والتمييز العنصري، وما يتصل بحياة الإنسان وسلامته والممارسات السالبة لحياته تعسفا أو الاعتداء التعذيبي لجسده، تعد جميعها من القواعد القانونية الدولية الآمرة التي لا يجوز الاتفاق على خلافها، أو النص داخليا على نقيضها، وهي حقوق تم تفعيلها وبيانها في عدد من المواثيق الدولية التي عملت على تقييد إرادة الدول دوليا وداخليا وإلزام حكومتها بالإطار الإنساني فيما تتعهد به وما تسنه من تشريعات دستورية وعادية على المستوى الوطني[30].
إن البحث في مسألة تعامل المغرب مع سمو المنظومة الأممية لحقوق الإنسان قبل دستور 2011 يقودنا لتأكيد صمت دستورانيي هذه الحقبة عن تحديد طبيعة العلاقة القائمة بين الاتفاقيات الدولية المصادق عليها والقوانين الوطنية والإشارة لسمو بعضها على البعض الأخر داخل النظام التشريعي المغربي، اللهم ذلك التنصيص المحتشم داخل ديباجة دستور 1992 التي جاءت كالأتي: “وإدراكا منها لضرورة إدراج عملها في إطار المنظمات الدولية، فإن المملكة المغربية، العضو العامل النشيط في هذه المنظمات، تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها من مبادئ وحقوق وواجبات وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا”. وهو مقتضى لا يؤكد لا من بعيد أو قريب قضية سمو الاتفاقيات الدولية على القوانين الوطنية من عدمه.
إلا أنه وبعد دستور 2011 تطورت مسألة التعاطي مع سمو منظومة حقوق الإنسان حيث نص تصدير الدستور على “جعل الاتفاقيات الدولية كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور وقوانين المملكة وهويتها الراسخة، تسمو فور نشرها على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات مع ما تتطلب تلك المصادقة“.
باستعمالنا لتحليل سطحي سيظهر ما لا يدع مجالا للشك بأن المشرع الدستوري قد تجاوز المأزق الذي رسمه في الدساتير السابقة، وحاول أن يسير في اتجاه الديمقراطيات الغربية في إقراره لمبدأ سمو الاتفاقيات الدولية[31].
والمراد بسمو القانون الدولي لحقوق الإنسان أن قواعده توجد في مرتبة عليا في مواجهة القوانين الداخلية للدول، ويترتب عن تبني هذا المبدأ أنه في حالة تعارض بين القاعدتين تعطى الأولوية في التطبيق للقاعدة الدولية، ويجد هذا المبدأ سنده في القانون الإطاري وفي العديد من الأحكام القضائية، فالمادة 27 من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات قطعت في الأمر، بأن أشارت إلى عدم إمكانية أن “يستند أحد الأطراف إلى مقتضيات قانونه الداخلي لتبرير عدم تنفيذ معاهدة معينة[32].
والواضح من التنصيص الدستوري على سمو الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان على التشريعات الوطنية، أنه يترجم رغبة المملكة الانفتاح على القاعدة الحقوقية الدولية وتكريسها بعد المصادقة عليها، لسموها على التشريعات الوطنية والتي من المفروض أن تلائم المقتضى الدولي، إلا أنه يبدو من الصياغة القانونية للفقرة أنها تطرح أكثر من ملاحظة، خاصة في ظل زج المشرع الدستوري لشروط تكبح هذا السمو في صلب الفقرة المذكورة وتفرغه من محتواه، سيما إذا علمنا أن هذا السمو رهين بمصادقة الدولة على هذا المقتضى الاتفاقي ونشره في الجريدة الرسمية، إلى جانب تبني الاتفاقية في نطاق أحكام الدستور وقوانين المملكة والهوية الوطنية، هذا المقتضى الأخير والذي على خلاف الشرطين السابقين اللذان يتطلبان فقط إجراءات شكلية في بعض جوانبهما، فإن هذا الشرط يبقى غامضا بالنظر لكون مفهوم الهوية الوطنية هو مفهوم ملتبس نوعا ما، بالرغم من محاولة التصدير عينه من خلال الفقرة الثانية ووضع العناصر المكونة له عن طريق تحديد مكونات الهوية الوطنية وروافدها، ودسترة تبوء الدين الإسلامي مكانة الصدارة.
ويتضح من خلال هذا التنصيص الدستوري أن التدرج المتعهد من قبل الدستور في مجال حماية حقوق الإنسان يتجلى أولا في الدستور تليه القوانين الداخلية وبعدها الهوية الوطنية، وعليه فإن أي حق منصوص عليه في المواثيق الدولية ويكون معارضا لما سبقت الإشارة إليه لن يعتمد، اللهم إن كان هذا المقتضى من الأهمية بمكان حتى تقتضي ضرورة اعتماده والأخذ به مراجعة الدستور، بما يمكن إدراج هذا المقتضى في صلبه أولا، ثم المصادقة على الاتفاقية أو المعاهدة التي تضمنته كخطوة ثانية، ومن تم العمل به. إلا أن السؤال المطروح في هذا السياق هو هل تشكل مصادقة المغرب على بعض بنود الاتفاقيات الدولية والمتعارضة مع الهوية الوطنية الزامية وأولية في التطبيق أخذا بصريح الفقرة الثالثة من تصدير الدستور التي يتعهد بموجبها المغرب بالتزام ما تقتضيه المواثيق الدولية، وأكد تشبثه بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا؟
نعتقد أنه وانسجاما مع التوجهات العامة التي ما فتئ المغرب يرسمها في سياسته وكذا مبادئ المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي الذي يتبناه المغرب وأيضا ما تقتضيه المواثيق الدولية الموقعة من طرفه، يدفع إلى القول بالأخذ بكونية حقوق الإنسان حتى لا نصير أمام استغلال بعض التأويلات والتفسيرات الشخصية للدين والهوية الثقافية لتهميش المواثيق الدولية والتي لا يوجد فيها ما يتعارض مع هوية المغاربة، إذ تبقى الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان مرجعا لا مفر منه لما تحتويه من مبادئ وقيم مشتركة بين الإنسانية جمعاء[33].
وفي هذا الاتجاه يلاحظ أن التمسك بالقول بالخصوصية إنما هو قول حق أريد به باطل، لأنه غالبا ما يكون مطية لإخفاء بعض أشكال القمع وعدم احترام حقوق الإنسان، كما يكون أحيانا مطية للتحلل من التزامات قانونية إنسانية[34].
وعموما، إن كانت مسألة سمو القانون الدولي على القانون الوطني تثير نقاشا فقهيا بين مختلف الباحثين، ولاسيما أولئك الذين يشتغلون في مجال القانون الدولي، فأنه بالرجوع إلى الدراسات التي تدور في فلك حقوق الإنسان يمكن التأكيد على وجود توجه عام في الديمقراطيات المتقدمة على أرجحية القاعدة الاتفاقية الدولية على القوانين الداخلية وخاصة منها المتعلقة بمجال حقوق الإنسان.
ومن هنا مادامت مسألة الإجماع حول وجود عناصر تؤكد سير المملكة في هذا الركب قائمة، تدل عليها الأهمية القصوى للتعهد الدستوري للمملكة بإدراج عملها في إطار المنظمات الدولية التي هي عضو حيوي ونشيط فيها، والتزامها بما تقتضيه مواثيقها من مبادئ وحقوق واجبات، وتشبثها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا، وإصدار تشريعات وطنية تقر صراحة بسمو الاتفاقيات الدولية المصادق عليها من طرف المغرب على القانون الداخلي منها القانون المتعلق بالجنسية )ظهير 6 شتنبر1958 (، ظهير 8 نونبر 1958 المتعلق بتسليم المجرمين إلى حكوماتهم[35]. إلا أن الغموض لا يزال يعتري مسألة سمو منظومة حقوق الإنسان الاتفاقية على التشريع الوطني من خلال الشروط التي وضعها المشرع الدستوري للتملص أو عرقلة -إن صح التعبير – مسألة السمو هذه وسحب البساط عنها.
خاتمة
يشكل الاهتمام الوطني بحقوق الإنسان والتي جاءت كنتيجة لمجموعة من المطالب التي فرضتها الساحة الدولية والحقوقية، خطوة جد متقدمة ترتقي بالمملكة إلى مصاف الدول المتقدمة في هذا المجال، عبرت عنها من خلال العديد من الممارسات والتوجهات على مدى سنوات وعقود، إن على المستوى الخارجي من خلال الإقبال على المنظومة الاتفاقية الدولية المؤطرة لحقوق الإنسان والالتزام بما تقتضيه من إعداد تقارير دورية تبيانا للوفاء بمضامينها، أو داخليا من خلال العمل على ترجمة الالتزامات الدولية تشريعا وممارسة وكفالة تمتيعها للأفراد، وهي خطوات في مجملها تؤكد التوجه العام للمملكة التي ما فتئت تضع لمسات جادة لمغرب مؤسس ومؤمن بعالمية حقوق الإنسان.
وعليه فلا خيار اليوم أمام المغرب في ظل قيادة جلالة الملك محمد السادس سوى تأكيد هذا التوجه وقطع أشواط متقدمة في سبيل تحقيقه، ووضع حد لكل ما من شأنه أن يعيق أو يعرقل توجه المغرب الحثيث نحو السمو بمنظومة الحقوق والحريات، وبلوغ مرتبة الدول المتقدمة حقوقيا: تشريعا وممارسة، سواء من خلال إسقاط اللبس عن المقتضيات التشريعية التي يمكن تأويلها تأويلا قد يؤدي إلى تسجيل علامات سلبية للمغرب في المجال الحقوقي، وذلك بالتنصيص بشكل صريح خال من أي لبس على سمو وأسبقية الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان على التشريعات الوطنية، والعمل على جعل الدستور ومعه القوانين الوطنية ملاءمة لمقتضياتها، أو من خلال توسيع دائرة تمتع المواطنين بالحقوق والحريات كما هي متعارف عليها أمميا، ليبقى الرهان المطروح ملقى على عاتق القاضي الوطني من أجل تحري إصدار أحكام وقرارات قضائية تقدس الحقوق والحريات الأساسية. وهو الشيء الذي سيطور بدون شك منظومة حقوق الإنسان والنهوض بها على غرار ما هو مقرر دوليا.
[1] – تشارز آر بيتز، فكرة حقوق الإنسان، منشورات سلسلة كتب عالم المعرفة، الكويت، سنة 2015، ص13.
[2] – مصطفى الفيلالي، نظرة تحليلية في حقوق الإنسان من خلال المواثيق الدولية وإعلان المنظمات، حقوق الإنسان الرؤى العالمية والإسلامية والعربية، سلسلة كتب عالم المستقبل العربي، عدد 41، الطبعة الأولى، بيروت، أبريل 2005، ص14.
[3] – عبد العزيز لعروسي، التشريع المغربي والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان: ملاءمات قانونية ودستورية، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية ، عدد 87 ، سنة 2014 ، ص 24.
[4] – تشارلز آر بيتز، مرجع سابق، ص 25.
[5] – عبد العزيز لعروسي، مرجع سابق، ص29.
[6] – حددت اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات الأحكام لمؤطرة لالتزامات الدول اتجاه بعضها البعض بمقتضى معاهدة، هي اتفاقية جماعية أبرمت في إطار الأمم المتحدة وعرضت للتوقيع في 23 ماي 1969 ودخلت حيز النفاد على الصعيد الدولي في 27 ماي 1980.
[7] – الأمم المتحدة، نظام معاهدات حقوق الإنسان، منشورات المفوضية السامية لحقوق الإنسان، 2012 ، ص65.
[8] – جاء في الفصل 55 من الدستور الفقرة الثانية: “يوقع الملك على المعاهدات ويصادق عليها، غير أنه لا يصادق على معاهدات السلم أو الاتحاد، أو التي تهم رسم الحدود، ومعاهدات التجارة، أو تلك التي تترتب عنها تكاليف تلزم مالية الدولة، أو يستلزم تطبيقها تدابير تشريعية، أو بحقوق وحريات المواطنات والمواطنين، العامة أو الخاصة، إلا بعد الموافقة عليها بقانون“.
وتجدر الإشارة أن هذا الفصل شكل تحولا عن الصيغة الثابتة التي كان عليها الفصل 31 من الدساتير السابقة 1962 إلى 1996، والتي ظلت مستقرة حصرت تدخل السلطة التشريعية وموافقتها على نوع واحد ووحيد من الاتفاقيات الدولية قبل مصادقة الملك عليها، وهي الاتفاقيات التي تترتب عليها تكاليف تلزم مالية الدولة دون أن تطال غيرها من الاتفاقيات.
[9] – أحمد بودراع، مركز القانون الدولي في دستور 2011، “دستور 2011 النص والبيئة السياسية”، سلسلة بدائل قانونية وسياسية، مطبعة المعارف الجديدة، الطبعة الأولى، الرباط، 2014، ص56.
[10] – نص الفصل 71 من الدستور على مجالات التشريع الذي يشمل كل ما يتعلق بحقوق الإنسان في كافة أبعادها، حيث صار بإمكان البرلمان المساهمة في حماية حقوق الإنسان والنهوض بها من خلال ممارسة وظيفته التشريعية.
[11] – المادة 13 من اتفاقيات فيينا لقانون المعاهدات لسنة 1969.
[12] – إذا لم تكن الدولة مشاركة في مفاوضات تبني اتفاقية ما، فإنه في حالة رغبتها الانخراط في هذه الاتفاقية وسريان أحكام هذه الأخيرة عليها، نكون أمام تعبير قانوني أخر يقابل المصادقة وهو الانضمام
[13] – المادة – 13 من اتفاقية فيينا.
[14] -سعد الركراكي، محاضرات في القانون العام، الطبعة الثانية، 1993 ، مراكش، ص212.
[15] – المادة 27 من اتفاقية فينا.
[16] – عبد العزيز لعروسي، مرجع سابق، ص96.
[17] -عبد العزيز لعروسي، نفس المرجع السابق، ص192.
[18] – الاستعراض الدوري هو الشامل آلية جديدة من آليات مجلس حقوق الإنسان منشأة بموجب القرار رقم 60 / 251الصادر بتاريخ 15 مارس 2006 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة والذي عوض لجنة حقوق الإنسان. وقد جاء إحداث هذه الآلية استكمالا لعمل الهيئات المنشأة بموجب المعاهدات. وتتوخى افتحاص وضعية حقوق الإنسان بمختلف الدول الأعضاء بالأمم المتحدة، هي جديدة بسبب طابعها الكوني على المستوى الجغرافي )افتحاص وضعية 192 دولة عضوا في الأمم المتحدة كل أربع سنوات بمعدل 48 دولة كل سنة، أي 16 دولة في كل دورة من الدورات الثلاث لمجموعة العمل )كل دورة تستمر أسبوعين)، وكذا المستوى الشمولي )افتحاص جميع حقوق الإنسان اعتمادا على= =جميع المصادر). والقيمة المضافة للاستعراض الدوري الشامل تنبثق من كونية عمله، حيث إن جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة توضع على قدم المساواة في هذا الاستعراض سواء كانت هذه الدول موقعة أم غير موقعة على جميع الصكوك الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان .ويرتكز الاستعراض على المعلومات الواردة في ثلاثة تقارير: تقرير وطني لا يتجاوز 20 صفحة تعده الدولة المعنية تبعا للمبادئ التوجيهية لمجلس حقوق الإنسان، وتقرير موجز من عشر صفحات تعده المفوضية السامية لحقوق الإنسان اعتمادا على المعلومات الواردة في تقارير الهيئات المنشأة بموجب معاهدات والإجراءات الخاصة ووثائق أخرى من وثائق الأمم المتحدة، وملخص من عشر صفحات تعده المفوضية السامية لحقوق الإنسان اعتمادا على معلومات ذات مصداقية صادرة عن فاعلين آخرين في الاستعراض الدوري الشامل )تدعى المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان والمنظمات غير الحكومية إلى تقديم تقارير لا تتجاوز 5 صفحات). وهكذا، وانطلاقا من هذه الوثائق الثلاث، يقوم مجلس حقوق الإنسان في شكل مجموعة عمل تتكون من 47 دولة ويرأسها رئيس المجلس باستعراض الوضعية في الدولة المعنية. ويجوز للدول الملاحظة أن تشارك في الاستعراض وفي الحوار التفاعلي مع الدولة المعنية.
وتتشكل مجموعة من ثلاثة مقررين )ترويكا( أعضاء بمجلس حقوق الإنسان يعينون بناء على القرعة ويمثلون مختلف المجموعات الإقليمية، وذلك بغية تسهيل الافتحاص وإعداد تقرير مجموعة العمل . ليتم في النهاية وعقب النقاشات التفاعلية تبني وثيقة نهائية تتخذ شكل تقرير يشمل ملخصا عن النقاشات، التوصيات والخلاصات والالتزامات الطوعية للدولة المعنية.
http://www.cndh.ma/ar/bulletin-d-information/mshrk-lmjls-fy-aly-lstrd-ldwry-lshml
[19] – عبد العزيز لعروسي، مرجع سابق، ص244.
[20] – محمد البزاز، حقوق الإنسان، مطبعة ووراقة الزيتون، مكناس، دون ذكر الطبعة، سنة 2011-2012، ص223-224.
[21] – محمد يوسف علوان ومحمد خليل الموسى، القانون الدولي لحقوق الإنسان: المصادر ووسائل الرقابة، الجزء الأول، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الأردن، 2005، ص 258.
[22] – صدر بالجريدة الرسمية عدد 5964 مكرر/ 30 يوليوز 2011 / الظهير رقم 1.11.91 ، الصادر بتاريخ 29 يوليوز 2011 بشأن تنفيذ نص الدستور، في ضوء قرار المجلس الدستوري رقم 815.2011 الصادر في 14 يوليوز 2011 المعلن عن نتائج الاستفتاء في شأن مشروع الدستور الذي أجري يوم الجمعة فاتح يولوز 2011.
[23] – حسن طارق، الربيع العربي والدستورانية قراء في تجارب : المغرب، تونس، مصر، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عدد 105 ، الطبعة الأولى، 2014، ص 32-33.
[24] – عبد العزيز لعروسي، مرجع سابق، ص65.
[25] – أحمد مفيد، ضمانات الحقوق الحريات الأساسية في دستور 2011، لمجلة المغربية للسياسات العمومية، سلسلة دفاتر حقوق الإنسان، 1، ص10-11.
[26] – أحمد مفيد، مرجع سابق، ص11.
[27] – Said Ihrai, les Droits de l’homme dans le projet de Constitution révisée 1992- Révision de la Constitution Marocaine (1992 analyses et commentaires, collection Edition d’un Etat moderne), Imprimerie Royale, 1992,p87 et suivantes.
[28] – سليمان العلوي، الحق الطبيعي والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، مجلة ديوان المظالم، العدد الأول، دجنبر 2004 ، ص 13.
[29] – عبد العزيز لعروسي، م.س.، ص65.
[30]محمد بشير الشافعي، قانون حقوق الإنسان: مصادره وتطبيقاته الوطنية والدولية، منشأة المعارف الإسكندرية، الطبعة الثالثة، 2004 ، ص38.
[31] – ميمون خراط، حقوق الإنسان في الدستور المغربي بين السمو الكوني والخصوصية الوطنية، مجلة الحقوق، سلسلة الأعداد الخاصة، عدد 5، سنة 2012، ص212.
[32] أحمد بودراع، مرجع سابق، ص 49.
[33] – ميمون خراط، مرجع سابق، ص212-213.
[34] – محمد نور فرحات، مبادئ حقوق الإنسان بين العالمية والخصوصية، المجلة العربية لحقوق الإنسان، العدد 1، سنة 1994، 26.
[35] -Hassan Ouzzani Chahidi, La pratique marocaine du droit des traités, LGDJ Paris, p558.