ثلاث دساتير لنظام سياسي واحد

ثلاث دساتير لنظام سياسي واحد

د. عبد اللطيف مستكفي

أستاذ القانون العام بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء

كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية – عين الشق.

 

         حظي موضوع الإصلاح السياسي والدستوري في المغرب -وما زال- باهتمامات الفاعلين السياسيين باختلاف مواقعهم واتجاهاتهم، حيث نظمت بشأنه العديد من الندوات والملتقيات العلمية وتناولته العديد من الدراسات وملئت به أعمدة الصحف الوطنية. كما شكّل خلال مرحلة تسعينيات القرن الماضي حجر الزاوية ضمن المذكرات المطلبية لأحزاب الكتلة الديمقراطية، ليشهد آخر تطور له من خلال مطالب حركة شباب 20 فبراير من سنة 2011، فتعددت الآراء بصدده، إذ أخذ كل واحد يدلي بدلوه في الموضوع، فاختلفت نظرة الاقتصادي عن وجهة نظر السياسي وتعددت تأويلات المثقفين وتباينت ردود فعل مكونات المجتمع، بين اتجاه يُقرّ بأننا نخطو خطوات صحيحة نحو الإصلاح واتجاه ينفي وجود أي مؤشر على الإصلاح واتجاه ثالث يُقرّ بوجود إصلاح، مع بعض التحفظ المبرَّر بعامل الزمن (إصلاح بطيء) أو بمجالات الإصلاح (إصلاح غير شامل) أو بمصدره (إصلاح من أعلى) أو بطبيعته (إصلاح مفروض) أو بكونه بقي حبيس الرغبة فيه (أي مجرد خطاب) دون تحققه واقعيا.

         إن موضوع الإصلاح السياسي والدستوري في المغرب يطرح قضية أساسية مرتبطة بماهية الإصلاح، فقد لا يجادلنا أحد في حقنا في التعبير عن إرادتنا في القيام بإصلاحات (بغض النظر عن طبيعتها، سواء كانت سياسية، اقتصادية أو دستورية…)، كمدخل للانخراط في مسلسل الانتقال الديمقراطي، لكننا نظل مجانبين للصواب عندما نعتقد أن كل مبادرة سياسية أو دستورية، سواء تعلق الأمر بتعديل الدستور أو إلغاء قانون كان معمولا به أو إقرار قانون جديد أو إقالة وزير وتعيين وزير آخر مكانه أو تنصيب حكومة برمتها هو في حد ذاته إصلاح.

لقد استنبط الفاعلون السياسيون فكرة مفادها أن كل مبادرة تتخذها الجهات الرسمية يجب إدراجها في خانة الإصلاح وفي تاريخ الإصلاحات التي شهدها النظام السياسي المغربي، ليتم استحضارها وتمجيدها في مختلف المناسبات.

وبغض النظر عن تباين آراء أو مكونات المجتمع المغربي بشأن موضوع الإصلاح، فإن للباحثين رأيهم الخاص، فمع بداية ثمانينيات القرن الماضي، انصبّ اهتمام باحثي علم السياسة وفقهاء القانون الدستوري على دراسة فصول الدستور المغربي، فلم تكن جميع فصول دستور 1996، البالغ عددها 108، موضوع تحليل ومناقشة بالقدر الذي حظيت فيه فصول أخرى باهتمام بالغ، كالفصل ال 19[1]، المنظم لإمارة أمير المؤمنين، والفصل ال24، المتعلق بأسلوب تعيين الوزير الأول والفصل ال46، الذي يحدد -على سبيل الحصر- قائمة المجالات التي يختص البرلمان بالتشريع فيها.

يفضي مضمون هذه الفصول وتأويلات الباحثين إلى القول إن مفهوم سمو الدستور، الذي يعني وجوب تطابق جميع النصوص القانونية مع نص الدستور، قد انضاف إليه مفهوم آخر هو سمو بعض فصول الدستور على فصول أخرى، فضلا على سمو المؤسسة الملكية، الذي يشكل القاعدة ضمن تراتبية هرم السلط وتراتبية القوانين والقرارات الصادرة عن هذه السلط. فالنظام السياسي المغربي يشتغل وفق ثلاث منظومات دستورية، مما يقودنا إلى الإقرار بتعايش ثلاثة دساتير:

– النوع الأول من هذه الدساتير يمكن وصفه بالدستور المعلن،

– النوع الثاني هو دستور داخل دستور،

– النوع الثالث، دستور خارج الدستور أو فوقه.

فإذا كان الفقه الدستوري قد حسم في مضمون دستورية القوانين، الذي يشكل ضمنها سمو الدستور مبدأ جوهريا، فإن النظام السياسي المغربي لم يحسم بعدُ في هذا الموضوع، ففي المغرب، لا يمكن الحديث عن سمو الدستور، بل عن تراتبية دستورية بين ثلاثة أنواع من الدساتير وفق التصنيف المشار إليع أعلاه وبحسب الهرمية الثالية:

 

-الدستور الفوقي، الذي يكرس سمو المؤسسة الملكية،

 

 

الدستور المضمَر الذي يتم الإعلان عنه بتحليل مضمون الفصول وإخضاعها للتأويل،

الدستور المعلن، الذي يقف عند القراءة النصية.

 

 

        والآن وبعد مرور ستة سنوات على إقرار دستور 2011 يطرح التساؤل التالي: هل استطاع المشرع الدستوري أن يتجاوز هذا الغموض على مستوى الوثيقة الدستورية ؟

 

أولا : ثلاث منظومات دستورية : تعكس الأحداث السياسية بالمغرب قدرة النظام السياسي

على السماح بتعايش ثلاث منظومات دستورية.

 

1- الدستور المعلن : هو ذلك الدستور الذي يتم تقديمه على أساس أنه الدستور المعمول به في البلاد، ويتم الرجوع إليه في القضايا العادية التي لا تطرح إشكالات كبرى، ويتميز بالخصائص التالية:

1- هو دستور مكتوب تتضمنه وثيقة واحدة؛

2- دستور يتميز بمبدأ النصية، أي يتم الرجوع إلى نصوصه كما هي مدونة، دون إخضاعة لسلطة التأويل؛

3- تحديده للاختصاصات والصلاحيات المخولة للأجهزة الأساسية، رئيس الدولة والبرلمان والحكومة والقضاء، مع تحديد مصدر السلط المخولة لكل جهاز؛

4- اكتفاؤة بالعموميات، مع الإحالة على القوانين التنظيمية المتضمنة للتفاصيل؛

5-  تنصيصه على مجموعة من المبادئ وتضمينه لمجموعة من الحقوق والحريات، مع ضمان ممارستها؛

6- الإشارة إلى بعض المؤسسات والهيآت التي تعتبر شريكا لباقي السلط في تسيير شؤون البلاد، كالمجلس الأعلى للحسابات والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي ؛

7- الإشارة إلى السلطة التأسيسية بشقيها الأصلية والفرعية.

        2- دستور داخل الدستور: ويمكن وصفه كذلك بالدستور «المضمر»، إذ يتم الإعلان عنه خلال فترات الأزمات السياسية، عندما تخضع فصول الدستور المعلن لسلطة التحليل الإستراتيجي لمالك السلط، المؤسسة الملكية. وفي هذا الإطار، شكل الفصل  19 [2] مفتاح استكناه جوهر النظام السياسي المغربي من خلال تحديده مركز المؤسسة الملكية في البناء الدستوري، وخاصة على عهد الملك الراحل الحسن الثاني، الذي جعل من هذا الفصل نواة الدستور المغربي، واستمرت هيمنة الفصل ال19 على باقي فصول الدستور على عهد خلفه الملك محمد السادس.

ويتميز هذا الفصل، رغم التنصيص عليه في صلب الدستور، بخضوعه لسلطة التأويل الملكية، نظرا إلى غنى معانيه وتعدد مضامينه، بل بإمكانه تعطيل جميع فصول الدستور، مما يجعله دائما في خدمة هيمنة المؤسسة الملكية على الحياة السياسية، فالفصل ال19 من دستور 1996، هو بمثابة صمام أمان لجميع السلط الدستورية ولجميع القرارات الملكية التي وُضعت من أجل توجيه الأزمات أو التحكم فيها، وخاصة ما ارتبط منها بعلاقة الحكومة بالبرلمان.

هكذا، فإن الفصل ال19 فرض حضوره النظري من خلال تحاليل الحقوقيين وعلماء السياسة وتزكيه الممارسة السياسية للمؤسسة الملكية، التي تجعل منه درعها الواقي، الذي يخول لها اتخاذ جميع المبادرات.

إن القاسم المشترك للدراسات والأبحاث، التي تم إنجازها حول النظام السياسي المغربي، هو إجماعها على هيمنة المؤسسة الملكية. هذه الهيمنة تجد ترجمة لها من خلال الفصل 19. ففي تحديده لعلاقة الفصل 19 بباقي فصول الدستور، يعتبر أحد الباحثين بأن باقي فصول الدستور اللاحقة على الفصل 19 تظهر كترجمة له أو مساطر لإنجازه، ويمثل لذلك بالفصل 23 من الدستور. وهكذا فإن نص الفصل 23، الذي ينص على أن «شخص الملك مقدس لا تنتهك حرمته» ليس إلا انعكاسا لشرفاوية وعصمة الإمام[3]. وتجد «قدسية» الملكية سندها المرجعي في الانتماء إلى آل البيت، الذي يشكل إحدى آليات تثبيت شرعية دولة العلويين.[4]

وتطلق باحثة أخرى على الفصل 19 مصطلح «الدستور الضمني» تمييزا له عن الدستور الصريح الذي يتشكل من باقي الفصول[5]. كما سبق لميشال كيبال أن ميز من خلال كتابه «السمو الدستوري بالمغرب» بين طبقتين في الدستور، فهناك من جهة الطبقة العليا، وتتعلق بالملك والأمة، وهي تستند إلى المشروعية الدستورية[6]. أما الطبقة الثانية فهي ترتبط بالقواعد التقنية، وهي تستند إلى الشرعية الدستورية وتنظم مثلا العلاقة بين الحكومة والبرلمان. ومن ثم فإن الفصل 19 يظل أفضل تعبير عن الطبقة العليا، في حين يرى باحث آخر أن الدستور المغربي مكون من جانب شكلي مدون، وهو ينظم العلاقة بين الملك والحكومة والبرلمان، والجانب الشكلي غير المدون، ويشكل هذا الأخير جوهر المشروعية أو الطبقة السامية من الدستور[7]. وعليه فإن النظر إلى الفصل 19 كنص مكتوب يسمح بإدراجه ضمن النظام الأساسي الشكلي، بينما يسمح تعدد التأويلات التي يحتملها بتصنيفه ضمن النظام الأساسي اللاشكلي.

وإذا كانت هذه القراءات تنظر إلى الفصل 19 انطلاقا من موقعه داخل الدستور (في قلب الهندسة الدستورية أو كجزء من الطابق العلوي…)، فإن أحد الباحثين يرى أن أهمية هذا الفصل توشي بضرورة قراءته كنص مستقل «خارج الدستور»، دافعه إلى هذا الاعتقاد هو أن سرعة الأحداث التي توجت العهد الاستعماري وبداية الاستقلال وحدة الصدامات المذهبية والإديولوجية، التي رافقتها على الساحة السياسية، لم يواكبها بالموازاة ما يؤسس -على المستوى النظري- لفكر سياسي متكامل حول منظومة الملكية. كما أن الدساتير المغربية كرست هذه الصيرورة عبر إعادة صياغة الفصل 19 دون أدنى تعديل[8].

إن المجالات السبعة[9] الواردة في الخطاب الملكي ل9 مارس 2011 والمشمولة بالتعديل لتشكل بحق الهندسة العامة للدستور المغربي، ولكن يبقى السؤال المطروح كالتالي: إلى أي حد ستسهم هذه التعديلات في «وحدة» الدستور المغربي وتنهي الجدل القائم حول ازدواجية الدستور المغربي، أي حول وجود دستور داخل دستور؟.

        3- دستور فوق الدستور : إن الباحث في النظام السياسي المغربي المتمعن في السلطات، التي يمارسها الملك والصلاحيات المخولة له، لا يسعه إلا أن يقر بأن هذه الصلاحيات والسلطات غير مستمدة من فصول الدستور بقدر ما هي مستمدة من مجموعة من الممارسات يمكن نعتها بالدعائم السياسية للمؤسسة الملكية، وكأننا أمام دستور فعلي يعلو على الدستور المعلن، ديباجته تؤكد على أن وجود الملكية سابق على وجود الدستور، كما أنها (أي المؤسسة الملكية) ضامنة لممارسة الحقوق والحريات الفردية والجماعية. أما العلاقة بين السلط، فإذا كانت تشهد فصلا فيما بينها فإن هذا الفصل غير موجود على مستوى المؤسسة الملكية. وفصول هذا الدستور تتضمن التنصيص على القرارات والتعليمات الملكية والخطاب والتحكيم والظهير الملكي.

-1 فالتحكيم الملكي مثلا كدعامة سياسية أساسية نجد له ترجمة من خلال اعتبار أن النظام السياسي المغربي يعمل بانسجام المؤسسات في ظل رقابة الملك الذي احتفظ له الدستور بدور الحكم وأشركه في ممارسة دواليب الحكم وعهد ببعض سلطاته التاريخية إلى مؤسستي البرلمان والحكومة مع استقلال السلطة القضائية عن هاتين السلطتين.[10]

وبغض النظر عن تضارب آراء الباحثين بشأن طبيعة التحكيم الملكي بين اتجاه يقر بحياده، واتجاه يؤكد جانبه البرغماتي، فإن الفاعلين السياسيين يرون في التحكيم الملكي ضمانة للحفاظ على مصالحهم المادية والمركزية. أما المؤسسة الملكية فترى في ذلك عاملا من عوامل تثبيت هيمنتها وسموها.

-2 أما الخطاب الملكي فيشكل المحدد الأساسي للحياة السياسية الوطنية، ويحيط الدستور المغربي الخطاب الملكي بحصانة تجد أساسها في صفة القداسة التي يتمتع بها العاهل المغربي كمخاطب (الفصل 23 من دستور 1996)، حيث ينص الفصل 28 من الدستور 1996 على أن «للملك أن يخاطب مجلس النواب والأمة ولا يمكن أن يكون مضمون خطابه موضوع أي نقاش» (اللهم تلك التحليلات الصحفية والآراء التي يعبر عنها الفاعلون السياسيون والجمعويون والباحثون، والتي تأتي بعد تلاوة الخطاب، والتي تجمع كلها على الإشادة بما جاء في الخطاب الملكي والتأكيد على أهميته). إن هذا الاقتناع بأهمية الخطاب الملكي لم يقتصر فقط على المنشغلين بالجانب السياسي، الذين جعلوا منه مرجعية أساسية لتصوراتهم السياسية، بل الأكثر من ذلك، فقد شكل الخطاب الملكي إطارا معرفيا لمجموعة من الباحثين المهتمين بحقل علم السياسة والقانون الدستوري، إذ لا يكاد يخلو مؤلف ولا بحث يهتم بدراسة النظام السياسي المغربي من الاستعانة في تحليله بالخطب الملكية.

ينبني على ذلك تمتع الخطب الملكية -إلى جانب الظهير والتحكيم والقرار الملكي- بقوتها الإلزامية، وبحصانة لا تقبل أي شكل من أشكال الطعن، كما أنها تعتبر بمثابة البرنامج العام الذي تتقيد به الحكومة.

فإلى أي حد ستسهم التعديلات الدستورية لسنة 2011 التي ستعزز مركز مؤسسة رئيس الحكومة والجهاز الحكومي برمته في تجاوز هذا الغموض على مستوى الوثيقة الدستورية؟.

 

ثانيا-  دستور 2011 : استمرارية أم قطعية

يعتبر  مجموعة من الباحثين أن دستور 2011 يشكل بحق استثناء بالنسبة للدساتير السابقة. وفي هذا الإطار يرى الأستاذ حسن طارق أنه على قصر التجربة الدستورية الحالية، فإنها تبقى بدون منازع التجربة الأكثر تميزا بتضخم الحديث عن “التأويل” إذ لا يكاد يتم الحديث عن دستور 2011، إلا مقترنا بالحاجة إلى “التأويل الديمقراطي”، سواء في خطابات الأحزاب أو الصحافة أو المجتمع المدني، بل وحتى داخل الخطاب السياسي للمؤسسة الملكية، حيث سبق لخطاب ملكي سابق، أن أكد على ضرورة اعتماد التأويل الديمقراطي للدستور.[11] في حين تنطلق الاستاذة رقية المصدق في تقييمها لدستور 2011 من البحث فـي طبيعة السلطــة التأسيسية لتؤكد ظهور فاعل جديد يتمثل في حركة 20 فبراير إذ لم نشهد خلال أي حلقة من حلقات إعداد الدستور ارتقاء مطلب حركة 20 فبراير بالجمعية التأسيسية المنتخبة، استنادا إلى المصدر الشعبي للسلطة السياسية، إلى دائرة التفعيل بحيث ظلت السلطة التأسيسية الفرعية، التي يعد الملك فعليا المالك الفعلي لها، وذلك منذ دستور 1970، هي المتحكمة في كل محطات إعداد الدستور إلى غاية نشره في الجريدة الرسمية نهاية يوليوز 2011.[12] لتخلص بأن مسلسل إعداد الدستور لم يتخلله انتقال السلطة التأسيسية ولو جزئيا إلى جهة أخرى غير المتمثلة في الملك. بيد أنها تحمل دلالة واضحة على أن طبيعة السلطة التأسيسية عرفت تحولا عميقا وجذريا حيث إن دستور  التاسع والعشرين يوليوز 2011 ليس بناجم عن سلطة تأسيسية فرعية، كما تم تفعيلها عندما انطلق مسلسل إعداد الدستور من طرف الملك في حدود قواعد الشرعية الدستورية. إنما عن ممارسة الملك لسلطة تأسيسية أصلية مكتسحة.[13]  وبالتالي إعادة إنتاج هيمنة الملكية على البنيان الدستوري.

ويحدد الأستاذ محمد الساسي عيوب دستور 2011 في عشر زوايا مقارنة بالمطلوب ديمقراطيا نذكر منها :

1- استمرار تحكم الملك في توجيه مسار السلطة التنفيذية ومضمون قراراتها؛

2- تراكم الرئاسات لدى الملك: (رئاسته الوزراء- السلطة القضائية-المجلس الأعلى…) ؛

3- تبعية الوزراء للملك؛

4- تمتيع الملك بصلاحيات دستورية جديدة؛

5- التنصيص على الحقوق مشفوعا بشروط تهدر جوهر هذه الحقوق؛

6- وجود تناقضات في منطق النص: لعل أبرز وجه للتناقض هو طريقة معالجة قضية حقوق الإنسان من خلال ديباجة الدستور.[14]

إن جل الملاحظات التي انصبت حول دستور 2011 تجمع على طابع الاستمرارية من خلال تكريس هيمنة المؤسسة الملكية بل منها من اعتبر هذا الدستور قد زاد من تأكيد مركزية ومحورية المؤسسة الملكية.

 

فهل يمتد طابع الاستمرارية ليشمل اشتغال النظام السياسي المغربي بثلاث دساتير ؟ سنقتصر في الإجابة عن هذا السؤال على الجانب المتعلق بإمارة أمير المؤمنين التي ينظر إليها كجهاز للتحكم في باقي فصول الدستور بالمعنى الدقيق لجهاز التحكم والذي بإمكانه تعطيل جميع فصول الدستور أو استحضارها بشكل بارز أو بشكل محتشم…

ولتجاوز هذا الالتباس ميز المشرع المغربي من خلال دستور 2011 بين حقلين كبيرين.

الحقل الديني : المرتبط بإمارة المؤمنين من خلال الفصل 41. [15]

الحقل الزمني : المرتبط بالملك كرئيس دولة من خلال الفصل 42. [16]

إن التمييز بين الحقلين كان مثار نقاش حول طبيعة هذا التمييز هل هو تمييز شكلي أم جوهري ؟ وبعبارة أوضح هل صفة أمير  المؤمنين تقيد اختصاصات الملك الدينية وصفه رئاسة الدولة تقيد اختصاصاته الدستورية المرتبطة مثلا بالبرلمان والحكومة!

نسوق في هذا الباب لرأيين مختلفين.

1- الرأي الأول : يؤكد على شكلية التمييز بين الحقلين الديني والزمني من خلال الفصلين 41 و42 ومن بين المدافعين عنه أستاذ عمر بندورو أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس الرباط حيث يعتبر أن دستور 2011 بصفة عامة ليس منتوجا جديدا لتضمنه عددا من التناقضات وأن الفصلين 41 و42 اللذين عوضا الفصل 19 أدخلا مقتضيات غامضة لم تكن في السابق وستكون مجالات لتأويلات مختلفة.

ومن خلال مقارنته بين دستوري 1962 و 2011 أشار الأستاذ بندورو إلى  أن “القاسم المشترك بينهما هو أنهما أقرا بما يسمى بالملكية الحاكمة أو الملكية التنفيذية في المفهوم الملكي… وعلى كل حال يمكن من باب المقارنة بين الدستورين، القول بانهما ساهما في ترسيخ الملكية الحاكمة (الملك يسود ويحكم) وجعل الملك محورا للمؤسسات السياسية، بل وروحها، فالمؤسسة الملكية في كلا الدستورين مهيمنة على الحياة السياسية والمؤسسات، بل أكثر من ذلك تقوت سلطات الملك بناء على الفصلين 41 و 42 بالمقارنة مع الفصل 19 في الدساتير السابقة”.[17]

2-الرأي الثاني: وبخلاف الرأي السابق الذي يؤكد على شكلية التمييز بين الحق الديني والحقل الزمني للملك، يبرز رأي الباحث حسن رشيق أستاذ الانتروبولوجيا بجامعة الحسن الثاني الدار البيضاء، فمن خلال دراسة انجزها الباحث بعنوان : “المشروعية السياسية والقدسية للملكية”

لجأ إلى المقارنة بين مختلف المحطات التاريخية ويحاول أن يلقي الضوء على العلاقة الملتبسة بين المشروعية السياسية وقدسية المؤسسة الملكية”.

المرحلة الأولى : مرحلة ما قبل الحماية: إذ يسجل في هذا الاطار طغيان المجال الديني

المقدس، كقاعدة أساسية تستمد منها  السلطة السياسية

قوتها، فالسلطان كان يعتبـر إمامـا وخليفـة وكـان عليـه

الحفاظ علـى ممارسـة الشعائـر الدينية وضمـان الأمن

والسلام.

المرحلة الثانية: على عهد السلطان محمد الخامس و يسميها بمرحلة العلمنة Sécularisation

فقد تميزت بالتحرر من سلطة السلطان الدينية بعد تحالف الملكية مع الحركة

الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي. وقد تعززت عملية العلمنة مع دستور 1962

الذي لم يأت على ذكر “بركة الملك” (كما هو الشأن في مشروع دستور

1908) ولا عبارة “الشريفة” ولا “البيعة” ولا “الخلافة” في المقابل أبقى على

“إمارة المؤمنين”.

هذا الوضع خلف ازدواجية واضحة بين الملك أمير المؤمنين الذي يتعالى ويتسامى على الدستور وعلى القانون الوضعي عموما، خصوصا أن إمارة المؤمنين، في معناها الديني هنا تسمح بتجنب الفراغ القانوني ومعاقبة الفاعلين السياسيين باسم التقليد الديني.

المرحلة الثالثة: مرحلة حكم الملك محمد السادس، هذه المرحلة ساد فيها بشكل أبـرز  مــا

يسميه رشيق “علمانية بلا صوت” والتي تميزت بتحجيم ما أمكن للمشروعية

الدينية التي لم يعد استعمالها يقتصر سوى على محطات استثنائية أو تحــت

ضغط الأحداث، عندما استعمل محمد السادس إمارة المؤمنين باعتبـارهـا

دورا دينيا، وذلك بهدف تسوية النزع السياسي داخل الشأن الديني.

يذكر رشيق أنه عند اعتلاء محمد السادس عرش البلاد بدأت مظاهر القداسة

الملكية تتعرض للانتقاد العلني… ويشرح رشيق أن الدستور الجديد، يوضــح

ويعزز الاقتراح القديم. ومن ثم، فقد قسـم الدستور الجديد هذا الفصل إلـى

فصلين إثنين يميزان بين السياق الديني، الـذي يسند للملك إمــارة المـؤمنين،

والسياق السياسي، الذي يسند للملك رئاسـة الدولـة (الفصــل 41 و 42 مــن

الدستور) مثيرا الانتباه إلى أن “عملية التضييق من مجال تدخل إمارة المؤمنين

يعني الاعتراف بوجود حقلين اثنين، حقل سياسي وحقل ديني، كــل حقــل

بفاعليه وقواعده[18].

ورغم وجاهة الرأي الآخر فإن الممارسة السياسية تؤكد تدبير السياسي بالديني تبرز أهم تجلياته من خلال ما اصطلح عليه بخطاب الزلزال السياسي. فطبقا للفصل 65 من دستور 2011 وأثناء ترأس الملك أمير المؤمنين لافتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية من الولاية التشريعية العاشرة. أكد الملك محمد السادس على أنه بصفته : “الضامن لدولة القانون والساهر على احترامه وأول من يطبقه، فإننا لا نتردد يوما، في محاسبة كل من تبث في حقه أي تقصير…” هذه الممارسة الدستورية للملك كرئيس لدولة حديثة لا تنهل فقط من الفصل 42 المكرس لدور الملك كرئيس لدولة حديثة. بل تجد ذاتها كذلك في الفصل 41 المجسد لإمارة المؤمنين من خلال الطقوس الدينية المتمثلة في ارتداء الزي التقليدي من طرف الملك أمير المؤمنين والنواب البرلمانيين وافتتاح الدورة البرلمانية بآيات من الذكر الحكيم. أي بالنظر إلى اختصاصاته على أنها وجهان لعملة واحدة فهو  بمقتضى الفصل 42 من الدستور رئيس دولة يخاطب أعضاء البرلمان وفي نفس الوقت أمير المؤمنين يحظى بتمثيلية أسمى من تمثيلية نواب الأمة الذين ينظر إليهم كجماعة للمسلمين المقيدين بواجب الطاعة والاحترام.

إن الصاق صفة المكتسحة (بفتح السين) بالسلطة التأسيسية الأصلية من قبل الباحثة رقية المصدق، لا يمتد إلى المتن الدستوري الذي كرس لمبدأ التغيير في ظل الاستمرارية.

[1] تجدر  الإشارة إلى أن الفصل 19 المتعلق بإمارة المؤمنين قد تضمنته دساتير 1962-1970-1972-1992-1996 أما من خلال دستور 2011 فقد خصص الفصل لمبدأ المناصفة. أما إمارة المؤمنين فقد أصبحت منظمة بمقتضى الفصل 41. إضافة إلى الفصل 42 وفصول أخرى المنضمة لاختصاصات الملك كرئيس دولة.

[2] ينص الفصل 19 من دستور 1996 على أن “الملك أمير المؤمنين والممثل الأسمى للأمة ورمز وحدتها وضامن دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي حمى الدين والساهر على احترام الدستور وله صياغة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات، وهو الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة”.

 

[3] محمد معتصم : النظام السياسي الدستوري المغربي : مؤسسة إيزيس للنشر، الدار البيضاء الطبعة الأولى مارس 1992

ص : 77.

 

[4] يونس برادة : طبيعة عمل أحزاب المعارضة الممثلة في البلرمان دراسة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون العام،

كلية الحقوق، الرباط 1984 ص : 86.

 

[5] رقية لمصدق: متطلبات تأسي الاجماع حول الدستور ضمن أعمال ندوة مراكش من 26 إلى 28 أكتوبر 1999 بعنوان :

الإصلاحات الدستورية في المغرب العربي، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 15 ص: 54.

[6]M- Guibal : La suprématie constitutionnelle au Maroc RIPIC 1978 page 892

[7] – Khalid NACIRI: Le droit politique dans l’ordonnancement de gouvernement au Maroc : thèse

Doctorat d’Etat Paris 1984, Pages 101 et 158.

 

[8] -محمد كلاوي: المجتمع والسلطة : دراسة إشكالية التكوين التاريخي والسياسي للمؤسسات والوقائع الاجتماعية ، الطبعة الأولى  مطبعة

النجاح الجديدة 1995 ص : 131 و133.

 

[9] تهم مجال : – التكريس الدستوري للطابع التعددي للهوية المغربية

– ترسيخ دولة الحق والمؤسسات

– الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة وتعميق صلاحيات المجلس الدستوري

– توطيد مبدأ فصل السلط.

– تعزيز الآليات الدستورية لتأطير المواطن

– تقوية آليات تخليق الحياة العامة

– دسترة هيأة الحكامة الجيدة، وحقوق الإنسان.

 

[10] عبد الهادي بوطالب : الدستور المغربي الثاني : المناهل عدد 41 السنة التاسعة عشر فبرار 1991 ص : 63

[11] حسن طارق: الدستور والديمقراطية : قراءة في التوترات المهيكلة لوثيقة 2011 منشورات سلسلة الحوار العمومي /4 الطبعة الأولى طوب بريس الرباط 2013 ص : 5.

[12] رقية مصدق : سلطة تأسيسية فرعية أم أصلية مكتسحة ؟ اعمال ندوة 18-19 أبريل 2013 بعنوان الدستور المغربي الجديد على محك الممارسة. تنسيق : عمر بندورو ورقية المصدق ومحمد مدني عن مجموعة البحث “القانون الدستوري وعلم السياسة” كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية- السويسي – الرباط منشورات : A. Retnani : les éditions la croisée des chemins page 9

[13] المرجع نفسه ص 34

 

[14] محمد الساسي: الملك يقدم الدستور: قراءة في العلاقة بين نص الخطاب الملكي لـ 17 يوليز 2011 ونص الدستور الجديد. دفاتر وجهة نظر العدد 24 السنة 2011 من صفحتها 16 إلى 22 ضمن ندوة الدستور الجديد ووهم التغيير المنظمة بكلية الحقوق السويسي الرباط يوم 28 يونيو 2011.

[15] ينص الفصل 41 من دستور 2011 على أن “الملك أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، الضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية، يرأس أمير المؤمنين المجلس العلمي الأعلى، الذي يتولى دراستة القضايا التي يعرضها عليه…”.

[16] ينص الفصل 42 على أن “الملك رئيس الدولة،وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستنرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة…”.

 

[17] -انظر نص الحوار في جريدة المساء 30-06-2011

[18] – هذه الدراسة صادرة عن “دائرة التحليل السياسي التابعة لمؤسسة عبد الرحيم بوعبيد

Hassan Rachik et Mohamed Sghir Janjar : Légitimité politique et sacralité royale. Les cahiers bleus n° 18

fondation Abderrahim Bouabid. Cercle d’analyse politique (cap)

2012.

انظر الموقع الالكتروني كود يوم 09/04/2013

إقرأ أيضاً

العمل لأجل المنفعة العامة للأحداث وفقا لمسودة مشروع القانون الجنائي ومشروع قانون المسطرة الجنائية

العمل لأجل المنفعة العامة للأحداث وفقا لمسودة مشروع القانون الجنائي ومشروع قانون المسطرة الجنائية Work …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *