الحصانة في القانون الديبلوماسي والقنصلي بين الإفلات وعدم الإفلات من العقاب

الحصانة في القانون الديبلوماسي والقنصلي

بين الإفلات وعدم الإفلات من العقاب

د.شفيق بوكرين

باحث في القانون الدولي والعلاقات الدولية

 

مقدمة:

إذا كان القانون الدبلوماسي والقنصلي هو في الحقيقة جزء من القانون الدولي العام، الذي يتناول الأحكام الخاصة بالتمثيل الدبلوماسي والمفاوضات بين الدول ويهدف إلى تنمية العلاقات الودية بين مكونات المجتمع الدولي، ورعاية المصالح الاقتصادية والتجارية للدولة ورعاياها المقيمين خارجها، فإن أهم غاياته تتمثل في حصانة فريق العمل الدبلوماسي والقنصلي، وحصانة البعثات الدبلوماسية والقنصلية ومقراتها.

ويقصد بالحصانة الدبلوماسية والقنصلية إعفاء بعض الأشخاص أو الهيئات الدبلوماسية والقنصلية من ولاية القضاء المحلي للدولة المستقبلة، وكذا من كل الإجراءات التي قد تمس بحرمة الوظيفة التي جاء من أجلها أعضاء البعثة الدبلوماسية أو القنصلية، أو بحرمة المراكز الدبلوماسية أو القنصلية.

وتأسيسا عليه، فإن الغاية من الحصانة الدبلوماسية هي تمكين أعضاء السلك الخارجي من تأدية أعمالهم في جو من الحرية والاستقرار بعيدا عن المعوّقات التي يمكن أن تلجأ إليها الدولة الموفدون لديها. لذلك تتنازل الدول عن سلطتها في معاقبة المبعوث الدبلوماسي المعتمد لديها مقابل ضمان حرية مبعوثيها لدى الدول الأخرى، استنادا إلى مبدأ المعاملة بالمثل، على أن يلتزم المبعوث الدبلوماسي بواجب احترام قوانين وأنظمة الدول المبعوث إليها، وأن يبقى لهذه الأخيرة الحق في أي وقت ومن دون بيان الأسباب أن تطلب من دولة المبعوث سحبه باعتباره شخصا غير مرغوب فيه.[1]

وتجدر الإشارة إلى أن الحصانة في القانون الدبلوماسي والقنصلي تختلف جذريا عن الامتيازات، ذلك أن الامتيازات لا تسمو بدورها إلى مرتبة الالتزام كما هو الشأن بالنسبة للحصانات الشخصية والقضائية. حيث أن الدولة المضيفة لها الحرية الكاملة في منح هذه الامتيازات من عدم منحها، فلا يحق للمبعوث الدبلوماسي أن يدعى حقا بخصوصها إلا إذا وجد هناك اتفاق بين دولته والدولة الموفد إليها.

ويمكن الخلوص عموما، إلى أن الحصانات الدبلوماسية هي حق تحميه قواعد القانون الدولي العام، وفي حالة مخالفة هذه القواعد يترتب عنها المسؤولية الدولية إزاء هذا الإهدار ولو كان على سبيل المعاملة بالمثل، أما الامتيازات الدبلوماسية فهي تلك القائمة على أساس المجاملة بدون التزام قانوني، فلا تترتب المسؤولية الدولية إزاء إهدارها فيما عدا اللجوء إلى مبدأ المعاملة بالمثل من طرف الدولة الأخرى.[2]

وتتمثل إشكالية موضوع هذا المقال، في أنه إذا كانت الحصانة الدبلوماسية خاصة في شقها القضائي تعني عدم خضوع المستفيد منها للولاية القضائية للقضاء المحلي فيما يتعلق بالقضايا الجنائية والمدنية والإدارية، فهل يعني ذلك الإفلات من العقاب في أكمل صوره ؟ لمحاولة المقارنة بين الحصانة في القانون الدبلوماسي والقنصلي والإفلات من العقاب سنحاول تناول الحصانة في القانون الدبلوماسي والقنصلي في مبحث أول، على أن تتم المقارنة في المبحث الثاني بين الحصانة الدبلوماسية والقنصلية في علاقتهما بالإفلات من العقاب.

 

المبحث الأول : الحصانة في القانون الدبلوماسي والقنصلي

تتميز الحصانة الدبلوماسية سواء في شقها المكاني أو الشخصي أو حتى القضائي بالشمولية {المطلب الأول}، مقارنة بنظيرتها القنصلية التي تتسم بضيق مجالها، ويرجع ذلك إلى مكانة المهمة الدبلوماسية  في العلاقات التي تربط بين مكونات المجتمع الدولي {المطلب الثاني}.

المطلب الأول: الحصانة في القانون الدبلوماسي

تتوزع الحصانة في القانون الدبلوماسي إلى حصانة خاصة بالمراكز الدبلوماسية {الفرع الأول } وأخرى خاصة بأعضاء البعثة الدبلوماسية {الفرع الثاني }.

الفرع الأول : الحصانة الخاصة بالمراكز الدبلوماسية

ويطلق عليها كذلك حصانة المكان التي تشمل مقر البعثة الدبلوماسية وجميع دوائرها ومبانيها، وتقر اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية للأماكن الخاصة بالبعثة حرمة مصونة، فلا يجوز لرجال السلطة العامة للدولة المعتمد لديها دخولها دون موافقة رئيس البعثة الدبلوماسية إلا في حالة الطوارئ، كحالة نشوب حريق بها يمكن أن يضر بالبنايات المجاورة، كما لا يجوز اقتحام الأماكن التابعة للبعثة أو الإضرار بها، أو الانتقاص من هيبة البعثة أو المساس بأمنها. كما أن الأماكن الخاصة بالبعثة وأثاثها والأشياء الأخرى التي توجد بها، وكذا وسائل المواصلات التابعة لها، لا يمكن أن تتعرض لأي إجراء من إجراءات التفتيش أو الحجز أو الاستيلاء .[3]

وباعتبار أن البعثة امتدادا لإقليم الدولة التي تمثل، فإن اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية ضمنت للدولة صاحبة البعثة رفع علمها فوق مبانيها.[4]

وتستمر حصانة المقرات الدبلوماسية حتى في حالة قطع العلاقات الدبلوماسية بين دولتين أو في حالة استدعاء البعثة نهائيا أو بصفة مؤقتة، حيث ألزمت اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية الدولة المستقبلة باحترام وحماية الأمكنة الخاصة بالبعثة والأموال الموجودة بها وكذا محفوظاتها.[5]

ويكشف لجوء أسانج “صاحب موقع ويكيليكس” إلى سفارة الإكوادور بلندن للاحتماء بها يوم 19 يونيو 2012 حتى لا يعتقل ويسلّم إلى السويد بعد اتهامه بالتحرش الجنسي، الحصانة التي تتمتع بها المقرات الدبلوماسية في الممارسة الدولية.

 

الفرع الثاني: الحصانة الخاصة بأعضاء الدبلوماسية

حتى يؤدي أعضاء البعثة الدبلوماسية وظيفتهم على أكمل وجه، كفلت إتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية حصانة لهم ولأفراد أسرهم. حيث تفرض الاتفاقية على الدولة المعتمدة لديها البعثة حماية شخص المبعوث الدبلوماسي، ومعاملته باحترام وأن تتخذ كافة الوسائل لمنع كل اعتداء على شخصه أو حريته أو كرامته،[6] سواء أكان الاعتداء صادرا من أحد موظفيها أو أحد مواطنيها أو أحد الأجانب المقيمين فيها كذلك .

كما يتمتع مسكن المبعوث الدبلوماسي الخاص بذات الحماية والحرمة التي يتمتع بهام مقر البعثة الدبلوماسية، وتتمتع وثائقه وكذا مراسلاته بالحصانة نفسها، باستثناء ما جاء في الفقرة الأولى والثانية والثالثة من المادة 31 من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية.[7]

وأضافت المادة 31 من هذه الاتفاقية أن المبعوث الدبلوماسي يتمتع بالحصانة القضائية في ما يتعلق بالقضاء الجنائي للدولة المعتمد لديها. وبناء على ذلك لا تجوز ملاحقة المبعوث الدبلوماسي أمام القضاء المحلي للدولة المستقبلة سواء تعلق الأمر بجريمة ارتكبها أثناء مزاولة عمله الدبلوماسي، أو أثناء مزاولته لحياته الخاصة. وتشمل هذه الحصانة القضاء: الجنائي، المدني والإداري للدولة المعتمد لديها.

فعدم خضوع المبعوث الدبلوماسي للقضاء الجنائي الإقليمي هو نتيجة للحصانة التي يتمتع بها، لذلك لا تجوز محاكمته جنائيا أمام القضاء الإقليمي للدولة المستقبلة على أي جريمة يرتكبها، وإعفاء الدبلوماسي من الاختصاص الجنائي للدولة المعتمد لديها مطلق لا يحتمل أي استثناء، إنما يكون لهذه الدولة في حالة ارتكابه لجريمة ما أن تطلب من دولته استدعاءه إليها ومحاكمته بمعرفتها.[8]

بالإضافة  إلى إعفائه من الخضوع للقضاء الجنائي، يعفى المبعوث الدبلوماسي كذلك من الخضوع للقضاء المدني في الدولة المبعوث لديها، إلا أن هذا الإعفاء ليس مطلقا بل يحتمل  بعض الاستثناءات تشمل الاستثناءات الحالات الآتية:

1ـ إذا  كانت الدعوى تتعلق بأموال عقارية يمتلكها المبعوث بصفة شخصية في إقليم الدولة المبعوث لديها.

2ـ إذا كانت الدعوى ناشئة عن أعمال تجارية أو ما يشابهها قام بها المبعوث لحسابه الخاص دون أن تكون لها علاقة بمهام وظيفته.

3ـ إذا كانت الدعوى متفرعة عن دعوة أصلية تقدم بها المبعوث بنفسه إلى قضاء الدولة باعتباره مدعيا.

4ـ إذا كانت الدعوى تتعلق بشركة يكون للمبعوث مصلحة أو نصيب فيها كأن يكون منفذا لوصية المُورث، أو وارث موصى إليه.[9]

وكانت الإعفاءات المالية من الامتيازات التي يتمتع بها المبعوث الدبلوماسي تدخل في نطاق المجاملة، وإعمال مبدأ المعاملة بالمثل، إلى أن كفلت له اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية الإعفاء من كل الضرائب والرسوم الشخصية والعينية.[10]

ويتبع اعفاء المبعوث الدبلوماسي من الخضوع للقضاء الإقليمي عدم جواز إكراهه على الحضور أمام هذا القضاء لأداء الشهادة عن واقعة جنائية أو عن أمر مدني.[11]

وتجدر الإشارة إلى أن الممثل الدبلوماسي الذي يكون من جنسية الدولة المعتمد لديها أو يكون محل إقامته الدائم بها لا يستفيد من الإعفاء القضائي أو من الحصانة الشخصية إلا بالنسبة للأعمال الرسمية التي يقوم بها خلال مباشرة مهامه، مالم تمنحه هذه الدولة مزايا وحصانات إضافية.[12]

ويجوز للدولة المعتمدة أن تتنازل عن الحصانة القضائية المقررة للمبعوثين الدبلوماسيين، وللأشخاص المستفيدين من هذه الحصانة ويجب في هذه الحالة أن يكون التنازل صريحا.[13]

المطلب الثاني : الحصانة في القانون القنصلي

تتوزع الحصانة في القانون القنصلي على المراكز القنصلية {الفرع الأول}، وكذا على أعضاء البعثة القنصلية  {الفرع الثاني }.

الفرع الأول : الحصانة الخاصة بالمراكز القنصلية

كفلت اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية لسنة 1963 للمراكز القنصلية التي يديرها القناصل المحترفون حصانات وامتيازات تشبه تلك الحصانات التي كفلتها اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لمراكز البعثات الدبلوماسية، وإن كان ذلك بشكل أضيق. كما أنها لم تكفل لمقار المراكز القنصلية التي يتولى القناصل الفخريون إدارتها الا القسط اليسير من الحصانات والامتيازات. وما يؤكد أن حصانة المراكز القنصلية التي يديرها القناصل المحترفون أضيق في نطاقها وعلى نحو واضح من الحرمة التي يكفلها القانون الدولي العام لمقار البعثات الدبلوماسية الدائمة أو الخاصة، انحصار هذه الحصانة على وجه الخصوص حسب إتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية[14] في عدم جواز دخول سلطات الدولة المضيفة إلى المقار القنصلية إلا بعد موافقة رئيسها أو ممثله. كما يجب على الدولة المضيفة اتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية المراكز القنصلية ومحتوياتها من الاعتداء والأضرار وكل ما يعكر صفوها وينال من كرامتها. كما تعفى دار البعثة القنصلية ومسكن رئيسها من كل الرسوم والضرائب.[15]

الفرع الثاني : الحصانة الخاصة بأعضاء البعثة القنصلية

إن مقتضيات معاهدة فيينا لا تعطي للقناصل الصفة التمثيلية التي يتمتع بها المبعوثون الدبلوماسيون، لذا فهم لا يتمتعون بالحصانات والمزايا الخاصة المقررة لهؤلاء. عند قيام القناصل بالأعمال المعهودة إليهم باسم دولتهم، وجب أن يتميزوا عن الأفراد العاديين من الأجانب المقيمين في الدولة التي يتولون فيها هذه الأعمال تمكينا لهم من أداء مهمتهم على وجه لائق ببعض المميزات.[16] وأولها تمتع القناصل بالحرمة الشخصية حيث لا يخضع الموظفون القنصليون للاعتقال أو التوقيف الاحتياطي بانتظار المحاكمة  إلا في حالة الجرم الخطير، وتنفيذا لقرار السلطة العدلية المختصة.[17]

وعدم التعرض لشخص القنصل بالمعنى المتقدم لا يحول دون خضوعه للقضاء الإقليمي، فهو يخضع أولا للقضاء الجنائي، ويجوز رفع دعوى عليه ومحاكمته من أجل ما قد يرتكبه من جرائم، وإن كانت أغلب المعاهدات القنصلية تحصر إمكانية المحاكمة الجنائية على الجرائم الخطيرة.[18]

أما الأعمال التي يأتيها القنصل أثناء أداء وظيفته أو بسببها وبصفته هذه فلا يجوز أن يتعرض لها القضاء الإقليمي، وإنما يكون النظر فيها من اختصاص السلطات الإدارية أو القضائية للدولة التابع لها.

كما أنه ليس هناك ما يمنع من طلب أي عضو من أعضاء البعثة القنصلية لأداء الشهادة في دعوى مدنية أو جنائية أمام قضاء الدولة المضيفة، شريطة أن يوجه هذا الطلب رسميا إلى البعثة القنصلية، ويتعين على العضو المطلوب الاستجابة والتوجه إلى الجهة المطلوب أمامها للإدلاء بشهادته.[19]

ويتمتع القناصل بجانب ما تقدم ببعض الحقوق الخاصة التي تتطلبها طبيعة مهمتهم. منها حق القنصل في وضع شعار دولته ورفع علمها على دار القنصلية وحق الاتصال بحكومته دون أن تتعرض لمراسلاته السلطات المحلية.

هذا وعلى خلاف ما هو مقرر بالنسبة للمبعوثين الدبلوماسيين، لا يشارك القناصل في امتيازاته المتقدمة أفراد أسرته أو أفراد حاشيته، بل يخضعون لكل ما يخضع له الأشخاص العاديين الذين يوجدون في إقليم الدولة التي يباشر فيها القنصل مهمته.

فإلى أي حد تشكل الحصانة الدبلوماسية وجها من أوجه الإفلات من العقاب من عدمه؟

 

المبحث الثاني : مقارنة الحصانة الدبلوماسية والقنصلية بالإفلات من العقاب

إذا نظرنا إلى طبيعة القانون الدبلوماسي والقنصلي يمكننا القول أن الحصانة الدبلوماسية والقنصلية ليست إفلاتا من العقاب {المطلب الأول }، لكن بالعودة لآراء بعض الباحثين في القانون الدولي لحقوق الإنسان، وكذا إلى بعض الوقائع والقضايا التى كان أحد أطرافها موظف دبلوماسي أو قنصلي يمكن أن نجزم بأن الحصانة الدبلوماسية هي إفلات من العقاب، ومساس بحقوق الضحايا {المطلب الثاني }.

المطلب الأول : الحصانة الدبلوماسية والقنصلية ليست إفلاتا من العقاب

إذا كان القانون الدبلوماسي والقنصلي قد كفل للدبلوماسي ومساعديه وأفراد أسرته، وللقنصل بشكل نسبي، حصانة قضائية من أجل تيسير أداء مهامه ووظيفته في الدولة المضيفة، فإنه من واجبه احترام قوانين الدولة المعتمد لديها وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.[20] كما أن الحصانة التي يتمتع بها المبعوث الدبلوماسي في الدولة المعتمد لديها لا تعفيه من الخضوع لقضاء الدولة المعتمدة،[21] ذلك أن لهذه الأخيرة ضوابط عديدة؛ فهي في الواقع ليست حصانة ضد القانون وبالتالي إفلات من العقاب، بل حصانة تحول دون محاكمة الفاعل أو إلقاء القبض عليه في الدولة المضيفة أو المستقبلة، ولا تحول دون محاكمته أو إلقاء القبض عليه في دولته. وبالتالي فهي لا تنزع صفة الجرم على الفعل المرتكب إذا توافرت فيه كافة العناصر،[22] ويمكن لدولته أن ترفع عنه الحصانة مجيزة بذلك محاكمته أمام قضاء الدولة المضيفة. مع العلم أن جواز اتباع الإجراءات أمام محاكم دولته يصبح بمثابة الإنابة أو الإحالة في التقاضي التي يمكن إجراؤها بناء على طلب الدولة التي ارتكبت الجريمة على أرضها من طرف المبعوث الدبلوماسي، فالإجراءات القانونية هي التي يتم توقيف العمل بها، أما الجريمة ذاتها فتبقى ماثلة، كما تبقى المسؤولية حيالها قائمة لحين عودة المبعوث إلى دولته.

هذا ويستند عدم خضوع المبعوث الدبلوماسي للقضاء في الدولة التي يقوم فيها بمهام وظيفته إلى اعتبارين، الأول أن إقامة المبعوث الدبلوماسي في الدولة المبعوث فيها لديها هي إقامة عارضة تفرض عليه مهام وظيفته، لذلك وجب اعتبار محل إقامته الثابت في بلده الأصلي. وأن تكون مقاضاته أمام محاكم هذا البلد. والثاني أن طبيعة عمله في الدولة المبعوث لديها وما تقتضيه من ضرورة احتفاظه باستقلاله في القيام بمهمته تتنافى مع جواز مقاضاته كأي فرد عادي أمام محاكم هذه الدولة. إنما ليس مؤدى هذا الإعفاء ضياع حقوق الأشخاص الذين قد يتعامل معهم المبعوث الدبلوماسي في البلد الأجنبي، ولهؤلاء الأشخاص أن يلجؤوا للمطالبة بحقوقهم إلى قضاء الدولة التي يتبعها المبعوث.[23]

كما أن الجرائم التي ترتكب داخل السفارة تخضع لقوانين الدولة الموجودة فيها السفارة، ما لم يكن المجرم متمتعا بالحصانة الدبلوماسية، إلا أنه لا يمكن للسلطات الأمنية أو القضائية الدخول إلى دار السفارة للتحقيق إلا بموافقة رئيس البعثة الدبلوماسية. وبديهي الأمر كذلك أنه لا يجوز للقنصل أن يأوي في دار القنصلية مجرما هاربا من السلطات المحلية، فإن فعل كان لهذه السلطات اقتحام القنصلية للقبض على المجرم، إنما يتعين في جميع الأحوال عدم التعرض إطلاقا لمحفوظات القنصلية وأوراقها الرسمية. أما دار القنصل الخاصة، فالثابت أنها لا تتمتع بأي امتياز.

لا يعني عدم التعرض لشخص القنصل تمتعه بالحصانة الواسعة، ولا يحول دون خضوعه للقضاء الإقليمي، فهو يخضع أولا للقضاء الجنائي ويجوز رفع الدعوى عليه ومحاكمته من أجل ما قد يرتكبه من جرائم، وإن كانت أغلب المعاهدات القنصلية تقصر إمكانية المحاكمة الجنائية على الجرائم التي من درجة جسامة معينة، كالجنايات والجنح الخطيرة دون الجنح البسيطة والمخالفات. وهو يخضع للقضاء المدني في كل التصرفات التي تقع منه بصفته الشخصية.[24]

وهناك قضايا في الواقع الدولي التي تبين بجلاء أن الحصانة التي يكفلها القانون الدبلوماسي والقنصلي لأعضاء البعثة لا تعني بأي حال من الأحوال الإفلات من العقاب. حيث عرض في سنة 1988 أمام المحاكم في التشيلي قضية مؤداها  ” هل يتم تفضيل الحصانات الدبلوماسية حتى ولو ثبت وجود انتهاك لحقوق الإنسان؟ وكان ذلك بمناسبة قضية رفعت ضد دبلوماسي تابع لألمانيا الاتحادية في التشيلي لاعتدائه على حق الحياة الخاصة. فدفعت السفارة الألمانية بالحصانة. وانتهت المحكمة إلى عدم اختصاصها لتمتع الشخص المذكور بالحصانة، إلا أن المحكمة العليا نقضت الحكم وقالت أن المحاكم الدنيا مختصة في النظر في موضوع الدعاوى الخاصة بحقوق الإنسان الأساسية وأن الحصانة الدبلوماسية لا يمكن أن تقف عائقا أمام حماية تلك الحقوق، لأن تلك الحصانات تغطي فقط الأعمال الرسمية المذكورة في المادة 3 من اتفاقية فيينا لسنة 1961. وعند بحث المحكمة للموضوع انصياعا لما قررته المحكمة العليا انتهت إلى أن إجراءات التنفيذ هي التي تشكل انتهاكا للحصانة الدبلوماسية، وأن هذه الأخيرة لا تعتبر عائقا في سبيل حماية حقوق الإنسان”.[25]

المطلب الثاني : الحصانة في القانون الدبلوماسي والقنصلي وجه من أوجه الإفلات من العقاب

مما لا شك فيه أن الحصانة القضائية خاصة في شقها الجنائي للمبعوث الدبلوماسي تعارض على الأقل من حيث الظاهر مسألة حقوق الإنسان، وتكرس ظاهرة الإفلات من العقاب للمبعوثين الجناة، ذلك أنه يترتب – كما رأينا في السابق- على  الحصانة الجنائية عدم إمكانية محاكمة من يتمتع بها جنائيا أمام المحاكم الوطنية عن الجرائم التي يرتكبها، فضلا عن عدم إمكانية مطالبته مدنيا في أحوال معينة بالحقوق المدنية الناجمة عن الفعل الذي ارتكبه. ومن أجل ذلك يرى المتضررون من أفعال ارتكبها أشخاص يتمتعون بالحصانة القضائية أمام القضاء الوطني بأن حقوق الإنسان يجب أن تحجب تلك الحصانة وتحتم وضعها في المقام الثاني، ولقد رفضت المحاكم في بعض الدول الاستجابة إلى ذلك لأن الاستجابة تتعارض مع ما التزمت به دوليا لكونها طرفا في معاهدتي فيينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961 والقنصلية سنة 1963. وما يزيد من إفلات المبعوثين من العقاب بسبب تمتعهم بالحصانة أن هذه الأخيرة تؤدي في غالب الأحيان إلى ضياع حقوق المتضررين خاصة الفقراء منهم من جراء أفعال الممثلين الدبلوماسيين، ذلك لأن اللجوء إلى قضاء الدولة المعتمدة لا يخلو من مشاكل وصعوبات تعوق اللجوء إليه، وخاصة المتعلقة منها بالتكاليف الباهظة التي يتكبدها الفرد العادي، والإجراءات البطيئة والنتائج غير المضمونة .

وفي مقال للأستاذة “ماليز بوشار” والمعنون بـ ” الحصانة الدبلوماسية في ظل حقوق الإنسان” عالجت فيه موضوع الحصانة الدبلوماسية التي أصبحت تعيق حقا من حقوق الإنسان الأساسية وهو الحق في الحياة، وتطرقت لقضية سفير الكونغو الديموقراطية بفرنسا الذي قام بقتل طفلين على حافة الطريق عندما كان متوجها بسرعة فائقة إلى إقامة الرئيس الكونغولي. وترى الأستاذة أن الحصانة القضائية للمبعوث الدبلوماسي يجب أن تكون مرتبطة بأعماله الرسمية ومن المفروض أنه بمجرد الانتهاء من أعماله ترفع عنه الحصانة بصفة مباشرة وتلقائية[26] كما يجب التمييز بين الجرائم المرتكبة عن قصد وتلك المرتكبة عن غير قصد من المبعوثين الدبلوماسيين.

فالمحكمة الجنائية عندما تعرض عليها مثل هذه القضايا تبقى عاجزة عن اتخاذ قرار عادل نتيجة تمسك المبعوث الدبلوماسي بالحصانة القضائية رغم ثبوت التهمة عليه.

لهذا من الواجب  النظر في القانون الدبلوماسي والقنصلي فيما يتعلق بالحصانة القضائية، ذلك أن مبدأ الالتزام بحقوق الإنسان الأساسية وحمايتها كما أكد على ذلك ميثاق الأمم المتحدة أسمى من أي التزام آخر،[27] بما فيه الالتزام بمراعاة الامتيازات والحصانات الدبلوماسية والقنصلية.

ولا شك بالتالي، بأن ضمان الحصانة القضائية للمبعوثين في القضاء الدبلوماسي والقنصلي لا يعني بتاتا عدم إمكانية خضوع هؤلاء لأي ولاية قضائية، حيث يبقون تحت الولاية القضائية لدولهم في كل ما يتعلق بأعمالهم المخالفة للقانون،  إلا أنها تضر في العديد من الحالات بحقوق المتضررين من تلك الأعمال، خاصة  مع ارتفاع تكاليف المقاضاة، وطول وتعقد الإجراءات القضائية وعدم ضمان نتائجها.

 

[1] نادر عبد العزيز شافي، الحصانة الدبلوماسية والقنصلية لا تلغي الواجبات، مجلة الجيش ( لبنان ) العدد 262 أبريل 2007، متوفر على الرابط التالي:

www.lEbramy.gov.lb/ar/new/?139703#.vhn3ajaz1Zs

[2] رحاب شادية، الحصانة الدبلوماسية للمبعوث الدبلوماسي وتأثيرها على حقوق الإنسان، مجلة جيل حقوق الإنسان، العدد 1، فبراير 2013 ص9.

[3] المادة 22 من إتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية

[4] المادة 20 من إتفاقيية فيينا للعلاقات الدبلوماسية

[5] المادة 45 من إتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية

[6] المادة 29 من إتفاقيية فينا للعلاقات الدبلوماسية

[7] جمال بركات، الدبلوماسية ماضيها وحاضريها ومستقبلها، مركز الأهرام للترجمة والنشر، طبعة 1991،  ص 111 وما بعدها

[8] على صادق أبو هيف ، القانون الدولي العام ، الطبعة الثانية عشرة، منشأة المعارف بالإسكندرية، ص 495

[9] المرجع نفسه ، ص 496

[10] المادة 34 من إتفاقيية فيينا للعلاقات الدبلوماسية

[11] علي صادق أبو هيف، مرجع سابق، ص 497

[12]  المادة 38 من إتفاقيية فيينا للعلاقات الدبلوماسية

[13] قاسم خضير عباس، المبادئ الأولية للقانون الدبلوماسي، مكتبة دار الرافدين، الطبعة الأولى 2009، ص 49

[14] المادة 31 من إتفاقيية فيينا للعلاقات الدبلوماسية

[15] المادة 32 من إتفاقيية فيينا للعلاقات الدبلوماسية

[16] على صادق أبو هيف ، مرجع سابق ، ص 511

[17] المادة 41 من اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية 1963

[18] على صادق أبو هيف ، مرجع سابق ، ص 512

[19] المادة 44 من إتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية

[20] المادة 41 من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية

[21] المادة 31 من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية

[22] رحاب شادية، مرجع سابق ص 17

[23] على صادق أبو هيف ، مرجع سابق ، ص 496

[24] المرجع نفسه، ص 512

[25] رحاب شادية، مرجع سابق ص 23

[26] رحاب شادية، مرجع سابق، ص 20

[27] المادة 103 من ميثاق الأمم المتحدة

إقرأ أيضاً

التأطير الدستوري لمقتضيات  الوظيفة العمومية على ضوء دستور 2011

التأطير الدستوري لمقتضيات  الوظيفة العمومية على ضوء دستور 2011 الوعبان لرباس  باحث في سلك الدكتوراه …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *