الحدث المنحرف نتيجة سوء المعاملة
نورة البوهالي
باحثة بسلك الدكتوراه بجامعة محمد الخامس الرباط
كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية – سلا-
مقدمة:
إن جنوح الأحداث في العالم أصبح يشكل ظاهرة خطيرة، وهي تمثل بحق تهديدا متناميا لأمن المجتمع، واستقراره، وخططه التنموية، وبنائه الأسري بصفة خاصة. وعلى اعتبار أن مجتمعنا العربي اليوم يعاني من تحديات ثقافية واقتصادية وسياسية، أفرزتها التغيرات الاقتصادية والثقافية التي لحقت بكيان ووظائف المؤسسات الاجتماعية العاملة في مجال الضبط الاجتماعي؛ كالأسرة والمدرسة والمجتمع المحلي. وعلى ما يبدو فإن جنوح الأحداث أو انحراف الصغار أو إجرام الناشئة قد يكون هو الآخر نتاجا لبعض التغيرات التي أصابت عمق القيم والمعايير الاجتماعية السائدة في المجتمع ، فقد عجزت غالبية الأسر والمؤسسات التعليمية والاقتصادية والثقافية في الوفاء بالتزاماتها بتوفير حياة طبيعية للصغار، كما فشلت في المحافظة على أداء رسالتها التقليدية وبالتالي تزعزعت الصورة التقليدية للسلطة وترك الصغار في حيرة وقلق وتيه لاختيار السلوك المناسب والتصرف الملائم على ضوء المعايير السائدة وتحقيق الحد المقبول لديهم من التوافق الاجتماعي المطلوب .
وعلى هذا الأساس فإن ظاهرة انحراف الأحداث من المواضيع الهامة التي أصبحت تشكل منذ فترة طويلة، ظاهرة تستدعي المزيد من البحث والدراسة عن عوامل حدوثها وكيفية معالجتها والحد منها. فهي إذن من المشاكل الاجتماعية التي تعاني منها الدول المتقدمة والمتخلفة على حد سواء، مع اختلاف حدة هذه المعاناة ومداها بحسب خصوصية كل مجتمع .
وإيمانا منا بالخطورة الكبيرة لسلوكيات إساءة معاملة الحدث الضحية، فإن القول بمجرد الاكتفاء بدراسة الظاهرة لاستجلاء أسبابها وانعكاساتها على الحدث والأسرة والمجتمع يعد أمرا غير مجد ما لم نتطرق لدور الشرطة في الوقاية من انحراف الأحداث باعتبارها أولى خطوات إصلاحه وتقويمه.
ونظرا لأهمية الموضوع وتشعب أفكاره وارتباط بعضها ببعض، فإن محاولة دراسته تطرح إشكالية رئيسية يمكن بلورتها على الشكل التالي:
• ما هي الأسباب والعوامل المؤثرة على الأحداث و التي تدفع بهم للانحراف؟
• كيف يتم إصلاح الحدث الذي هو ضحية سوء المعاملة؟
• ما مدى كفاية دور الشرطة في علاج انحراف الأحداث؟
• ما الضمانات المقررة للحدث خلال مرحلة البحث التمهيدي ومرحلة المحاكمة؟
• وما هي التدابير المقررة لحماية الحدث الضحية؟
إذن هذه التساؤلات الفرعية تقضي بنا إلى تقسيم هذا المقال إلى فصلين:
الفصل الأول: العوامل المؤدية لجنوح الأحداث
الفصل الثاني: الضمانات المسطرية المقررة للحدث خلال مرحلة البحث التمهيدي ومرحلة المحاكمة.
الفصل الأول: العوامل المؤدية لجنوح الأحداث
إن مشكلة جنوح الأحداث كانت ولا تزال على مر الستين مثار جدل مستمر وخلاف حاد بين الباحثين في مختلف فروع العلوم الإنسانية والاجتماعية والقانونية وغيرها، وهو ما يعكس مدى ضخامة الظاهرة وحجمها الذي أصبح يستقطب العديد من الباحثين والدارسين.
والملاحظ أن معظم الدراسات والأبحاث كان محورها الأساسي يدور حول تحديد مفهوم واقعي وقانوني للحدث الجانح، حيث نشب اختلاف بين الدارسين في تقييم الحدث، فمنهم من ركن إلى حالة نمو وتطور الحدث البيولوجي من حيث السرعة أو البطء، ومنهم من اتخذ من أحلام اليقظة أساسا له في تقييم مراحل عمر الحدث، ومنهم من ركن إلى الغريزة الجنسية كمعيار لتحديد مراحل العمر .
ومن الجدير بالذكر أن نشير إلى أن الباحثين في مجال العلوم الإنسانية والقانونية أولوا اهتمامهم بدراسة البيئة والأوساط الخارجية المحيطة بالحدث، سواء في نطاق الأسرة أو المدرسة أو العمل على أساس أن الحصيلة التربوية تلعب دورا مهما في تكوين شخصية الحدث وخاصة أثناء طفولته .
وإذا كانت الجهود الفكرية والأبحاث الجادة قد كشفت الغطاء، وأصبحت الحقيقة واضحة فإن الخلاصة التي وصلت إليها هذه البحوث هي أن الحدث إنما يشكل في غالب الأمر ضحية ظروف اجتماعية فاسدة.
وبما أن المجتمع هو المسؤول الأول عن تفاقم حجم المشكلة فما هي إذن العوامل المؤدية لجنوح الأحداث ؟ (المبحث الأول) وكذا أساليب إصلاحها؟ ( المبحث الثاني) .
المبحث الأول: العوامل الداخلية والخارجية لانحراف الأحداث
لقد أظهرت العلوم الإنسانية أن تصرف الإنسان هو نتاج سلسلة من العوامل الداخلية (مهيجات Stimulie بيولوجية ونفسية) وعوامل خارجية (أسرية- اجتماعية أخلاقية) فالمهيجات الخارجية تلعب دورا رئيسيا في تكوين السلوك الإجرامي المرتكب على الضحية وتدل الدراسات العلمية حول الجانحين في مختلف المجتمعات على أن الظروف المباشرة المؤدية للجنوح ليست واحدة فهي تختلف من بيئة لأخرى ومن جانح لآخر ورغم تعدد التقسيمات التي وضعها الباحثون لتحديد عوامل الظاهرة، فإنها عموما تصب في فلك واحد، لأن إجرام الأحداث لا يخرج عن كونه وليد عوامل أو عدة عوامل نجد بعضها داخلي خاص بذات الحدث (مطلب أول) وبعضها الآخر خارجي يتعلق بالوسط الذي يعيش فيه الحدث (مطلب ثاني).
المطلب الأول: العوامل الداخلية أو الذاتية
تعتبر العوامل الداخلية ذات أهمية يجب الوقوف على جوانبها لمعرفة تأثيرها على سلوك الفرد، فالعوامل الذاتية باعتبارها كلما يتصل بالحدث عضويا ونفسيا، ويمكن تصنيف هذه العوامل إلى عضوية جسدية (فقرة أولى ) وعوامل نفسية (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى: العوامل العضوية الجسدية:
تعتبر الأمراض والإصابات واضطرابات النمو والعاهات والأمراض البدنية بمثابة الحافز الأول للانحراف، حيث تنعكس هذه الأعراض على تصرفات المصاب وسلوكه، فلا يستطيع التكيف مع الأجواء الاجتماعية.
ومن بين هذه الأمراض هناك:
أولا: اعتلال الجسد
إن شعور الطفل بضعف صحته سببا قويا في تكوين النقص لديه، وذلك لاختلافه عن أقرانه من الأطفال ويرى بورت Burt أن 70% من الأحداث موضوع دراسة كانوا يشتكون من بعض الأمراض الجسدية والضعف الجسدي، وإن 50% منهم كانوا بحاجة ماسة إلى علاج طبي، وأن 17% منهم نشأت انحرافاتهم بصورة رئيسية ونتيجة أمراض وعلل جسدية .
ثانيا: الضعف العقلي والعصبي
يقصد بالضعف العقلي ذلك الخلل في القدرة العقلية الناجم عن سوء تكوين خلقي كالتوقف في النمو العقلي أو في التأخر في نمو الملكات العملية.
فإذا كانت الإعاقة الذهنية تعني حالة توقف النمو العقلي أو عدم اكتمال هذا النمو، فإن ضعاف العقل يعوزهم بعد النظر لمعرفة وجه الخطأ والصواب في تصرفاتهم ويكونون عاجزين عن تقدير النتائج المترتبة عن أعمالهم غير المشروعة، مما ينتج عنها ردود فعل غير طبيعية، كتأثر الجهاز العصبي والصرع والالتهاب السباتي مما يؤدي إلى عدم القدرة على التفكير ونقص نضجه الشخصي .
الفقرة الثانية: العوامل النفسية
إن العوامل النفسية للانحراق لا يمكن فصلها عن العوامل الأخرى، فهي ترتبط ارتباطا وثيقا، ولا شك أن جميع العوامل سواء أكانت عوامل جسمية أو عقلية أو بدنية لا يكون ثمة خطر إلا بارتباطها بالعامل النفسي الذي يدفع ويوجه إلى سلوك معين، ويتعين علينا حتى ندرك خطر العوامل النفسية في السلوك أن نتعرف على حقيقة السلوك الإنساني سواء أكان سلوكا سويا أم سلوكا منحرفا ليس إلا محاولة نفسية حيوية تسعى إلى تحقيق تلاؤم الفرد مع مقتضيات الحياة .
ومن الواضح أن العناية بتقصي العوامل النفسية التي أدت إلى السلوك المنحرف أنما تحقق فهما حقيقيا، بحيث يبدو حينئذ متوقعا، بل وضروريا لتوفير التلاؤم الحيوي للفرد وهذا الفهم هو الذي يوصلنا إلى علاج الانحراف.
وقد أصبحت العوامل النفسية لا تعني علماء النفس وحدهم وإنما اتجه إليه علم الإجرام مثلا وهو العلم الذي يقوم على تقصي أسباب الجريمة فنشأ بذلك “علم النفس الجنائي” وهو العلم الذي يبحث عن الدوافع النفسية للجريمة .
ومن الأمراض النفسية التي تصيب الأحداث وتنعكس على سلوكاتهم نذكر منها:
أولا: القلق والوسواس والنورستانيا
وتنشأ هذه الأعراض نتيجة للتربية الفاسدة والمعاملة السيئة التي يلقاها الحدث في المنزل، ويرى علماء النفس أن هذا القلق والوسواس يرجع إلى كبت الغريزة الجنسية، ومن مظاهر هذه الأعراض الخوف الدائم، وعدم الاطمئنان، والتخيلات الفكرية المقلقة، والانفعال السريع، وهذه الأعراض تقود بسهولة الحدث إلى ارتكاب بعض الأفعال المخالفة للقانون.
أما النورستانيا فالأحداث المصابون بهذا المرض يشتكون عادة من ضعف في القوى المعنوية ويشعرون بالعياء والتعب لأقل مجهود عقلي أو جسماني، مما يؤدي بهم إلى الاكتئاب واليأس والتشاؤم. وهذه المشاعر قد تؤدي بالمريض إلى ارتكاب بعض الأفعال الإجرامية.
ثانيا: الحدث السيكوباتي والدهان
يتصف الشخص السيكوباتي عادة بعجزه عن ضبط غرائزه وعدم تلاؤم شخصيته مع القيم الاجتماعية
والملاحظ حسب مدرسة التحليل النفسي أن الطفل يعبر عن حاجاته تعبيرا أنانيا ساذجا ساعيا للحصول على هذه الحاجات على أساس الحصول على اللذة وتجنب الألم، دون النظر إلى المعايير والقيم الأخلاقية السائدة في المجتمع.
أما الدهان فهو مرض عقلي تكون أعراضه على شكل عزلة أو بعض أعمال العنف واضطرابات في التواصل وعدم القدرة على تحمل المسؤولية البسيطة، وهذا المرض يصعب علاجه بالنسبة للطفل المراهق نظرا لكونهما لا يستطيعان الالتزام بتعاليم وأوقات العلاج وهو ما يجعل المرض يؤثر على نفسية الطفل فيقوم بأعمال لا اجتماعية.
المطلب الثاني: العوامل الخارجية البيئية
والمقصود به الوسط الذي يتواجد به الحدث ويتربى فيه، بحيث أن هذا الوسط ينسج جميع أفعاله وسلوكه، أي أن الحدث يتأثر بسلوك من حوله وعلى أساسه يقرر الصواب من أعماله أو الخطأ فيها، فالصواب ما يأتيه الحدث من أفعال حتى لو كانت غير قانونية أو سيئة ، ولتبيان ذلك سنتناول هذه العوامل من خلال الوقوف على عوامل البيئة الاجتماعية (كفقرة أولى) ثم العوامل الاقتصادية (كفقرة ثانية) .
الفقرة الأولى: عوامل البيئة الاجتماعية
سنقف هنا على أهم عوامل البيئة الاجتماعية وذلك من خلال البيئة العائلية والفشل في المدرسة والعمل.
أولا: البيئة العائلية أو الوسط العائلي
الأسرة هي نواة المجتمع بل المجتمع الصغير الذي يحتك به الطفل، وبالتالي فهي أقوى العناصر تأثيرا في تنشئته بأي سلوك ، من هنا تأتي أهمية دور الأسرة في صياغة عواطف الطفل وتنمية إحساساته وتكوين ثقافته الأولى.
فالتربية حق أساسي للطفل من طرف والديه، وهي من العوامل الهامة التي قد تنجي الطفل من الانحراف رغم الفقر والجهل .
فمعظم الجانحين يعيشون تحت ظروف أسرية سيئة لا يتلقون تربية سليمة، حيث تعاني العائلة من الطلاق أو وفاة أحد الوالدين أو كلاهما أو زواج الأب أو العكس، وعادة ما تؤدي هذه التغيرات الكبيرة التي تطرأ على الأنساق الأسرية إلى زيادة في الإخفاق في أداء الأدوار الأسرية وغالبا ما يلاحظ أن الوالدين يعوزهما التمكن من المهارات اللازمة للحلول الفعالة لتلك المشكلات، كما تعوزهما مهارات الوالدين الفعالة بل ربما يعانون من اضطرابات نفسية ، فبعد الأسرة عن الحدث قد تقود به إلى عدم الاستقرار الذي قد يؤدي به إلى التشرد والسلوك المنحرف فيولد لديه الرغبة في الانتقام.
ثانيا: الفشل في بيئة المدرسة والعمل
تعتبر المدرسة المجتمع الخارجي الأول الذي يصادف الحدث بعد خروجه من الوسط العائلي، كما يمثل المجتمع الغريب الذي يندمج فيه الحدث، فهي الساعات الأطول الذي يقضي فيها الحدث وقته خارج الوسط الأسري مما يتطلب عنه أن يؤقلم نفسه لذلك الوسط الجديد، لكي يتفاعل معه إلا أن هذا الوسط التعليمي التربوي قد يعتريه الخلل في التربية مما يؤدي إلى جنوح الأحداث .
من كل ما ذكر فإن للوسط المدرسي عدة عوامل تساعد على هذا الانحراف من بينها:
*عدم كفاءة المعلم وعدم وجود الخلق القويم لديه؛
*عدم الاهتمام بالكفاءة العقلية المتفاوتة لكل حدث أثناء تلقي علومه؛
*عدم تناسب المناهج العلمية المدرسة في بعض الأحيان مع سن الحدث .
وإذا كانت البيئة المدرسية غير ملائمة قد تشكل عاملا من عوامل الانحراف فإن البيئة المهنية قد تكون هي أيضا محفزا على الانحراف. حيث ظروف العمل بالنسبة للطفل في سن مبكرة تحرمه من طفولته وكثيرا ما يصادف الطفل في هذه البيئة مشاق المهنة حيث لا تتناسب وقدراته الجسمية أو الذهنية، وغالبا ما يكون الأجر زهيدا إضافة لسلوك رب العمل الذي قد يكون سيئا فيجد الحدث نفسه مضطرا إلى الانحراف .
الفقرة الثانية: العوامل الاقتصادية
سنحاول دراسة هذه العوامل من خلال الوقوف على الفقر والبطالة ثم السكن غير اللائق كأهم العوامل الاقتصادية المؤدية للانحراف.
أولا: الفقر والبطالة
قد يكون الفقر والبطالة حافزا على النبوغ والإمتياز والتفوق إذ اقترن بالتربية الحسنة، ولكن هاتين الآفتين غالبا ما تكون من المحفزات على الجنوح والجريمة، نظرا لاقترانهما بسوء التغذية والجوع والعرى، مما يترتب معه تفكك الروابط العائلية والقلق واليأس، وكل ذلك يكون له تأثير على الحدث وأحواله الصحية والنفسية والتربوية وبالتالي الوقوع في بؤرة الانحراف وقد أجرى الباحث الإنجليزي سيزيل بيرت S. BURT دراسة للتعرف على أثر الفقر في جنوح الأحداث، وخلص منها أن الأحياء الفقيرة تنتشر فيها أنماط سلوك الجانح عند الأحداث بشكل أكثر وضوحا من الأحياء الأخرى ، وعلى كل حال فالظروف الاقتصادية التي تعيشها الأسرة تلعب دورا هاما في مدى شعورها بالأمن والاستقرار، أو بالقلق أو الاضطراب. وفي بعض الأبحاث التي أجريت في الولايات المتحدة على 6400 من الأحداث الجانحين يتبين أن 70% منهم ينتمون إلى عائلات فقيرة جدا وأن 23% منهم ينتمون إلى عائلات فقيرة وتلجأ العديد من الأسر إلى تشغيل أبنائها لتحقيق مردودية أكبر محاولة للربح منه ويبذل جهدا يفوق طاقته معرضا صحته بل حياته للخطر .
ثانيا: السكن غير اللائق
يقول M Breyee ” إن المكان الذي يسكن فيه الفرد يعد أمرا حيويا في تكوين شخصيتة وعامل مؤثر على صحته النفسية والجسدية والاجتماعية” .
فكثيرا ما تلجأ العديد من الأسر إلى السكن القصديري أو العشوائي في أماكن غير صحية بسبب عجزها المادي، كما قد تشغل الأسرة الكبيرة مسكنا صغيرا، مما يجعل شروط الراحة والصحة والاطمئنان منعدمة، فيضطر الأولاد لترك المنازل ويتخذون الشارع ملجأ لهم، حيث يصادفون رفاق السوء الذين يجرونهم إلى الرذيلة والجنوح، وظاهرة أطفال الشوارع في المغرب لم تعد من الطابوهات، بل أصبحت محط اهتمام العديد من الجمعيات العاملة في هذا المجال والمهتمة بالطفولة، حيث تم خلق مراكز الاستقبال والاستماع إلى هؤلاء الأطفال قصد إعادة إدماجهم .
المبحث الثاني: كيفية إصلاح الحدث
إن الدعوة إلى إصلاح الحدث لا يمكن تحقيقها ما لم يشعر هذا الأخير بوجوده داخل أسرة تكون هي المحور الأساسي في تكوين شخصيته، فيشعر داخلها بالأمن والدفيء والحب و الحنان والحماية، باعتبارها أهم المؤسسات التربوية المسؤولة عن تربيته فهي تحتل المرتبة الأولى من عمليات التنشئة الاجتماعية والثقافية ومن هذا المنطلق فإن بناء علاقة وطيدة بين الأسرة والمؤسسات الأمنية تقوم على التفاهم والتعاون، تعد مطلبا أساسيا لتحقيق أهداف التوعية الأمنية بين أفراد المجتمع .
وعلى هذا الأساس سنقوم بدراسة هذا المبحث من خلال التطرق إلى الأسرة ودورها في التوعية الأمنية “كمطلب أول”، ومؤسسات المجتمع المدني ودورها في مكافحة جنوح الأحداث ومدى تدخل العدالة الاقتصادية والاجتماعية في إصلاحه “كمطلب ثاني”.
المطلب الأول: الأسرة ودورها في التوعية الأمنية
سنحاول التطرق من خلال هذا المطلب إلى الأسرة: مفهومها، أهميتها “كفقرة أولى”، ودور الأسرة في التوعية الأمنية “كفقرة ثانية”
الفقرة الأولى الأسرة: مفهومها وأهميتها
الأسرة هي البيئة الأولى التي تحتضن الإنسان وتتعهده بالرعاية والعناية فهي خلية اجتماعية تتفاعل داخلها علاقات إنسانية معقدة على قدر كبير من الأهمية وتنطلق الأسرة عادة من تعاقد قانوني بين رجل وامرأة، موضوعه تأسيس أسرة يقومان معا برعايتها.
وداخل الأسرة يتم إنجاب الأطفال عادة يتربون ويتهيئون ليقوموا بذلك كاملا داخل المجتمع فيساهمون بذلك في تقدم هذا المجتمع.
وفي الوقت الحالي فإن القانون هو الذي يحكم أوضاع الأسرة تأسيسا وآثارا، أي حقوقا والتزامات، سواء بين الأزواج أو فيما بينهم وبين أبنائهم .
فالأسرة إذن هي جماعة اجتماعية أساسية ودائمة ونظام اجتماعي رئيسي وهي ليست أساس وجود المجتمع فحسب بل هي مصدر الأخلاق والدعامة الأولى لضبط السلوك، والإطار الذي يتلقى فيه الإنسان أول دروس الحياة الاجتماعية .
وقد أكد بعض الباحثين أن الأسرة هي أهم المؤسسات التربوية المسؤولة عن تربية الأنباء ، فهي دائما المرتبة الأولى في عمليات التنشئة الاجتماعية والثقافية ، ويقع على عاتقها دور أكيد في هذا المجال لأنها الخلية الأولى و المحضن الأول التي يتعامل معها الإنسان مند ولادته ، فإذا ما اضطربت هذه الأسرة في شخــصية أحد الوالـــدين فبلا شك سينعكس ذلك سلبا على نفسيته عاجلا أم آجلا، كما يذكر لنا الباحثون بعض الأنماط الجانحة التي يتأثر بها الطفل وهي الكحول، الجريمة، السلوك الجنسي الشاذ، الرذائل والسرقة .
وهناك عدد من العوامل الأسرية التي تؤثر في تشكيل شخصية الطفل، كحجم الأسرة- الحالة الاجتماعية والاقتصادية – سلوك الوالدين وعمرهما – العلاقة بين الأبناء والوالدين و المستوى التعليمي لهما ، لاسيما أن التربية بكل جوانبها لا يمكن تحقيقها إلا الزوجة الصالحة المتعلمة القادرة على مواكبة التطور مع بالاحتفاظ بالقيم الدينية والمجتمعية الراسخة، الذي على أساسه تحقيق الأمني في المجتمع ، وهذا ما سنحاول التطرق إليه في الفقرة الثانية بعنوان دور الأسرة في التوعية الأمنية.
الفقرة الثانية: دور الأسرة في التوعية الأمنية:
إن التوعية الأمنية تبدأ بتحقيق السلامة داخل الأسرة والمحافظة على أفرادها إذا ما تم مراعاة الكثير من الجوانب الدينية، النفسية والتربوية.
هذا ما سنحاول دراسته من خلال التطرق إلى تشبت الأسرة بالأخلاق الحميدة “أولا” بتوفير الأجواء التربوية لتنشئة الطفل “ثانيا”.
أولا : التشبت بالأخلاق الحميدة
تفسر العديد من الشعوب أن السلوك السيء للطفل (أو جنوح الأحداث) بأنه ناتج عن ضعف الأخلاق لذا مرتكبي هذه السلوكات، بحيث لا توجد قوى داخلية تردع الفرد عند ارتكابها وهذا الضعف ناتج عن عدة عوامل ومتغيرات تتعلق بضعف خبرات الفرد ونقص في عوامل التنشئة الدينية، هذه الأخيرة تهدف إلى إيقاظ الضمير وإحداث الصحوة الإيجابية لدى الفرد، وبعث الإيمان من جديد للشخص المنحرف أو الجانح.
إنه يهدف إلى إعادة تشكيل نظام القيم الدينية بحيث تصبح هي القيم المركزية لدى بناء الفرد الفردي النفسي.
وعلى هذا الأساس، فالطفل بدون أخلاق هو كالبناية التي تفقد القواعد الثابتة في جوف الأرض وبالتالي تكون مهددة بالانهيار والتحطم. وبنفس المعادلة فالمبدأ أو القانون الذي لا يمتلك قواعد وأسس ثابتة في النفوس يكون معرضا دائما للمخالفة والانحراف.
ثانيا: توفير الأجواء التربوية لتنشئة الطفل
لاشك أن الأسرة باعتبارها أهم مؤسسات التنشئة الاجتماعية والتربوية يمكنها أن تسهم بدور فاعل في مجال التوعية الأمنية.
ومن خلال دراسة ميدانية في هذا الصدد، يوضح أحد الباحثين أن الأسرة يمكنها في الوقت الراهن زيادة الوعي الأمني التربوي، من خلال التركيز على الآتي:
*تنشئة الطفل اجتماعيا على الأخلاق والآداب الفاضلة؛
*تنشئة الطفل نفسيا بغرس الثقة في نفسه وحمايته من كل ما يشعره بالنقص؛
*تنشئة الطفل فكريا بما يتيج له القدرة على التفكير السليم ، ووضع الأمور في نصابها الصحيح.
وقد أوضح الباحث أن استجابات عينة الدراسة- فيما يتعلق بهذه الأدوار- قد كانت بدرجة “أوافق بشدة”
هذه النتائج تؤكد عليها العديد من الدراسات السابقة التي تعرضت لدور الأسرة؛ فتشير إحدى الدراسات إلى أن الأسرة يمكنها أن تقوم بدور فعال في التوعية الأمنية من خلال العلاقة الوطيدة بينها وبين المؤسسات الأمنية، ممثلة في التنشئة الاجتماعية السليمة للفرد على القيم الفاضلة .
المطلب الثاني: مؤسسات المجتمع المدني ودورها في مكافحة جنوح الأحداث ومدى تدخل العدالة الاقتصادية والاجتماعية في إصلاحه
سنحاول دراسة هذا المطلب من خلال الوقوف على مؤسسات المجتمع المدني ودورها في مكافحة جنوح الأحداث “كفقرة أولى” ثم العدالة الاقتصادية والاجتماعية وأثرها في إصلاح الحدث “كفقرة ثانية”.
الفقرة الأولى: مؤسسات المجتمع المدني ودورها في مكافحة جنوح الأحداث
على الرغم من الدور الأساسي الذي يجب على الدولة القيام به من خلال مؤسساتها ذات العلاقة بظاهرة جنوح الأحداث وأطفال الشوارع، خاصة من حيث وضع السياسات والخطط والتنسيق بين الفاعلين، فإن مؤسسات المجتمع المدني تعتبر هي الفاعل المؤهل للتعامل مباشرة مع هذه الظاهرة أي على مستوى تنفيذ البرامج والمشروعات الخاصة بحماية وتأهيل الحدث.
وذلك لأن طبيعة هذه المؤسسات هي الأقرب إلى نبض المواطنين، وأقدر على الوعي بمشاكل الأحداث والتواصل معهم، كما أن الطبيعة التطوعية للعمل فيها تجعل العاملين في حل المشاكل أكثر إنسانية وأكثر قدرة على تبني الرؤية الإيجابية نحو الأحداث خاصة إن حصلوا على التدريب المناسب.
كذلك يمكن أن تقوم بالتوعية، وبتغيير الرؤية السلبية نحو هؤلاء الأحداث، كما أنها أكثر قدرة على توفير التمويل وجمع التبرعات من أجل إقامة مراكز الاستقبال والإيواء المؤقت أو الدائم، ومن تم التصدي لمعالجة جذور هذه المشكلة التي تسبب في دفع الأحداث إلى الشارع .
الفقرة الثانية: العدالة الاقتصادية والاجتماعية وأثرها في إصلاح الحدث
يعاني الأطفال الفقراء من ربط المجتمع بين الفقر والجريمة في سن مبكرة، فالعديد منهم يتورطون مع الشرطة والجهاز القضائي لأنهم بمنتهى البساطة يبدون فقراء أو غير مرغوب فيهم اجتماعيا، أو لأنهم يبدون خطيرين، وليس لأنهم خالفوا أي قانون.
على ضوء الدراسة الميدانية التي قامت بها مراكز حماية الطفولة سنة 1991 ، وانطلاقا من الزيارات التفقدية المتعددة التي أجريت بمركز تمارة ، لم تكن الحاجة إلى الغوص بعيدا في خلفية أولئك النزلاء الذين شاءت بهم الأقدار إلى أن وصلوا وحلوا بالمؤسسة، فالقاسم المشترك بينهم هو الفقر.
ومما يجدر ذكره ونحن بصدد تناول العدالة الاقتصادية فهذه الأخيرة احتلت مرتبة سامية وجوهرية في المشروع المجتمعي في الإسلام. ولقد لعبت مؤسسة المسجد حاليا دورا رياديا في بناء مجتمع الكفاية والعدل، مجتمع الديمقراطية والمساواة، وكانت فضاء فياضا بالاستبصار بأمور الدنيا والدين.
وفي نفس السياق، لا يجوز فصل معضلة الأمية ومدى تأثيرها السلبي على تنمية الشعوب والأمم، ومن أهم المؤشرات للتنمية البشريةindicateur développement humain (IDH) التي يعتمدها برنامج الأمم المتحدة للتنمية (PNMD) وهو نسبة الأمية.
فالمملكة المغربية يقظة وواعية بأهمية وخطورة قضية الجهل، هذه الظاهرة المركبة والمتشابكة التي لازالت جاثمة بحملها الثقيل على المجتمع معرقلة في طريقها عجلة التنمية، ومعطلة كذلك مسألة الديمقراطية .
على هذا الأساس ، جاء المسجد كشكل من أشكال التجمع الاجتماعي الذي يقي المجتمع من الإنحراف، نظرا لكون أن الفرد في الإسلام هو اللبنة الأولى لبناء هذا المجتمع.
ولعل استثمار هذا المسجد كفضاء أرحب لمحو الأمية من جهة، ومكافحة الانحراف من جهة ثانية، يساعد أكثر على التغلب على هاتين الظاهرتين .
وفي نفس المنظور التكاملي والتكافلي للمجتمع المسلم، أعلن جلالة الملك تشكيل مؤسسة محمد السادس لإدماج نزلاء المؤسسات السجنية ومراكز الإصلاح والتهذيب للأحداث الجانحين وحماية الطفولة، وذلك يوم الثلاثاء 15 دجنبر 2001 بمدينة طنجة، والتي أبى إلا أن يخصها برئاسة جلالته الفعلية ويطلق اسمه المولوي الشريف عليها يعد تجسيدا للحرص الملكي السامي على ضمان حقوق رعاية جلالته الأوفياء بمن فيهم السجناء منهم .
الفصل الثاني: الضمانات المسطرية المقررة للحدث خلال مرحلتي البحث التمهيدي ومرحلة المحاكمة
إذا كان اختلاف جنوح الأحداث عن إجرام الرشداء قد بات أمرا مؤكدا فإنه لا مناص من وجوب قيام معاملة خاصة بالأحداث الجانحين على أسس وضمانات تختلف عن تلك التي تقوم عليها معاملة الرشداء الذين يرتكبون ذات الجرائم التي يقترفها الأحداث – وما ذلك الاختلاف إلا مظهر من مظاهر تفريد الجنائية الموضوعية والإجرائية الذي غدا أحد أهم الضمانات الحمائية التي تشكل عصب التشريع الجنائي الحديث سواء خلال مرحلتي البحث التمهيدي (المبحث الأول) والمحاكمة (المبحث الثاني).
المبحث الأول: حماية الأحداث أثناء البحث التمهيدي
تعد مرحلة البحث التمهيدي مرحلة تمهيدية قبل تحريك الدعوى العمومية ضد الحدث وفيها تتم عملية جمع الأدلة المثبتة لوقوع الجريمة والبحث عن مرتكبيها ونظرا لخطورة هذه المرحلة على الحريات الشخصية للأفراد بصفة عامة والأحداث بصفة خاصة كان من الضروري إحداث شرطة قضائية مكلفة بالأحداث (المطلب الأول) ووضع قواعد وضمانات خاصة لمعاملتهم خلال هذه المرحلة (المطلب الثاني).
المطلب الأول: خصوصية البحث التمهيدي في قضايا الأحداث
إن خصوصية البحث التمهيدي في قضايا الأحداث الجانحين تتجلى من خلال اختلاف الجهة التي تتولى البحث مع الأحداث الجانحين (الفقرة الأولى) كما أنها تتجلى أيضا من خلال طبيعة البحث التي تتسم بها هذه القضايا التي يكون فيها مرتكب الفعل الإجرامي حدثا (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: من حيث الضابطة القضائية المشرفة على البحث
تأكيدا على أهمية الأحداث ومراعاة لخصوصيتهم وما تستوجبه من ضرورة إسناد شؤونهم إلى جهات متخصصة استحدث المشرع المغربي في المادة 19 من قانون المسطرة الجنائية صنفا جديدا من أصناف ضباط الشرطة القضائية وهو الصنف المتخصص في شؤون الأحداث عهد إليه بالتثبت من ارتكاب جرائم الأحداث والهدف من ذلك هو الفصل التام بين الرشداء والأحداث في مراكز الشرطة القضائية .
وإحداث منصب ضباط الشرطة القضائية الخاص بالأحداث يعود أو يرجع عموما إلى سببين أساسيين:
السبب الأول: يتجلى في مراعاة الطبيعة النفسية والجسدية للحدث، وذلك لن يتأتى إلا بوجود شرطة تحسن التعامل مع الحدث بعيدا عن خروجها على المشروعية التي تؤدي إلى نتائج عكسية؛
السبب الثاني: يرجع إلى أن الحدث عندما يوجد في حالة جنوح أو في وضعية صعبة فإن الشرطة القضائية للأحداث هي أول جهة رسمية يتصل بها، فإذا ما فقد ثقة الحدث في من يتولى أمره للمرة الأولى أو التخوف منه أو استشعاره الظلم أو القوة على يديه يؤدي إلى عزوف الحدث عن الاستجابة له ، وبالتالي نفور الحدث عن كل سلطة تتولى أمره بعد ذلك، لذلك فمن الضروري على ضباط الشرطة القضائية أن يتعاملوا مع الحدث بأسلوب يحترم كرامته ويجعله يطمئن لهم ويكسب ثقتهم ويتأكد من صدقهم في مساعدته، وبالتالي يكون خطوة أولى في سبيل إصلاحه وتقويم سلوكه بعيدا عن كل قسوة في المعاملة من باب ما جاءت به الفقرة الأولى من المادة 40 من اتفاقية حقوق الطفل والمبدأ 58 من مبادئ الرياضية التوجيهية والمادة 12 من قواعد بكين . وتحقيقا للمصلحة الفضلى للأحداث والغاية من وراء إحداث ضباط الشرطة القضائية المكلفين بالأحداث، نرى ضرورة خضوع هؤلاء لدورات تكوينية مستمرة تؤهلهم لهذه المهمة وتسمح لهم بممارستها على الوجه الذي ينسجم وخصوصية الأحداث، كما ينبغي أيضا أن تستقل الشرطة القضائية المكلفة بالأحداث في تكوينها واختصاصها ومقر عملها عن أجهزة الشرطة العادية وأن تدعم بالعنصر النسائي الذي من شأنه أن يقوم بدور إيجابي، في هذا المجال، إضافة إلى التعاون بينها وبين مختلف المؤسسات التي تعنى بالأحداث.
الفقرة الثانية: من حيث طبيعة البحث
إن التحقيق الأولي الذي تتولاه الشرطة في شأن الأحداث الجانحين، لا يستهدف فقط مجرد إثبات التهمة، ولكن يستهدف في المرتبة الأولى إظهار العوامل والظروف ذات الصلة بالجناح؛ ومقتضى ذلك أن تحقيقات الشرطة في شأن الأحداث تختلف تماما عن تحقيقاتها في شأن الرشداء، ومن هنا كان واجبا على شرطة الأحداث أن تولي موضوع جمع البيانات عن ظروف الحدث وعوامل جناحه عناية خاصة؛ وحين توليها ذلك، لا يجوز لها أن تذهب إلى أكثر مما يدخل في دوراتها واختصاصها الشامل لحالة الحدث إذ أن هذا البحث تتولاه الباحثات الاجتماعيات و الهيآت أو الجهات المعهود لها ذلك قانونا بمقتضى المادة 474 من قانون المسطرة الجنائية، والتي يفترض فيها عناصر وقدرات خاصة تتيح لها إجادة هذا العمل.
غير أن قيام شرطة الأحداث بجمع البيانات الأولية عن أسرة الحدث وبيئته وظروفه والعوامل التي يحتمل أنها دفعته إلى الجنوح أو إلى التعرض للانحراف ، تعتبر من المعلومات العاجلة إيجابية في إظهار مدى خطورة الجانح على المجتمع وعلى مستقبله، وهي معلومات تصلح كأساس لكل معلومة تالية ولاحقة لها؛ ثم إن العبرة ليست بصفة من يجمع المعلومات وإنما بمدى دقتها وواقعيتها في الكشف عن حالة الخطورة الإجرامية الكامنة في نفس الحدث .
ولضابط الشرطة المكلف بالأحداث في سبيل بلوغ هذه الغاية يمكنه أن يستعين بكل الوسائل المشروعة وأن يستفيد من كل المصادر للحصول على المعلومات اللازمة، كسجلات الشرطة؛ وسجلات المدرسة؛ و الهيآت الاجتماعية العامة والخاصة؛ ومقابلة والدي الحدث وأقربائه والمجني عليه والجيران والزملاء، وأي من الأشخاص سواهم يمكن أن تكون لديهم معلومات عن حالة الحدث الاجتماعية والأسرية والبيئية بصفة عامة.
وليس هناك من شك في أن مثل هذه الأمور، تعتبر أساسا واعيا يمد سلطة التحقيق بالعناصر التي تتيح لها اتخاذ قرارها في شأن الحدث .
ووفق للمبدأ القائل بأن: “القاعدة العامة تتضمن القاعدة الخاصة وتفسرها”، نستشف من المادة 87 من قانون المسطرة الجنائية أن المشرع المغربي يجيز لضابط الشرطة القضائية المكلف بالأحداث إجراء بحث حول شخصية الحدث المتهم وحالته العائلية والاجتماعية، وله أن يقوم أيضا بإجراء بحث حول التدابير الكفيلة بتسهيل إعادة إدماجه في المجتمع، ويترتب عن هذا البحث تكوين ملف خاص يضاف إلى المسطرة.
وفي باريس أنشأ منذ سنة 1943 مكتب للأحداث داخل رئاسة الشرطة يضم رجال ونساء، يختص أساسا بالتحريات والبحوث المتعلقة بظروف أسرة الحدث وتقديمها للقضاء .
ليس من شك في أن البدء في دراسة شخصية الحدث يجب أن تكون بعد ثبوت التهمة الموجهة إليه وليس قبل ذلك، وهذا يعني استبعاد القيام بتلك الدراسة في مرحلة جمع الاستدلالات وذلك راجع إلى كون أن بعض متطلبات دراسة شخصية الحدث تتضمن المساس بحريته، وهذا بطبيعة الحال يخرج من اختصاص الضابطة القضائية المكلفة بالأحداث.
وبهذا ينحصر الخلاف الفقهي بين اتجاهين، يذهب الأول إلى وجوب إجراء الفحص في مرحلة التحقيق الإعدادي وذلك بعد أن تنتهي سلطة التحقيق من إجراءاتها، وتترجح لديها ثبوت التهمة الموجهة للحدث، حيث يكون الفحص هو الإجراء المتمم للتحقيق الابتدائي ، وحجة هذا الاتجاه، أن الخبير الذي يفحص الحدث فور وقوع الجنحة يستطيع أن يتصور الشخصية تصورا أكمل وأقرب إلى الواقع.
وتبنى المشرع الفرنسي هذا الاتجاه، وفي هذا المعنى تنص المادة 8 من قانون الطفولة الفرنسي على أنه يجب على قاضي التحقيق وقاضي الأطفال اتخاذ كافة الفحوص والتحريات المفيدة عن شخصية الحدث”. أما الاتجاه الثاني، فيذهب إلى أن دراسة شخصية الحدث يجب أن تتم خلال مرحلة المحاكمة، لأنه في هذه المرحلة وحدها يتم التحقق والتثبت من حقيقة السلوك المنسوب للحدث على نحو قاطع.
وحجة هذا الاتجاه، أن الفحص الشامل لشخصية الحدث بما يقتضيه من بحوث وتحريات اجتماعية وطبية يجب أن تكون خلال مرحلة المحاكمة، وذلك رغبة في أن لا تؤدي تلك الفحوص إلى المساس بحقوق الأحداث وحرياتهم الفردية. كما أن الحدث في مرحلة التحقيق الإعدادي مازال في حكم البريء، وقد يتعرض المجهود المبذول في الفحص للضياع إذا ما حفظت الدعوى، بالإضافة إلى أن هذا الإجراء يشكل خطرا على حقوق الدفاع.
والرأي الراجح في هذا الصدد هو الذي يرى أن الوقت الأمثل لإجراء الفحص الشامل لشخصية الحدث يكون في مرحلة البحث والتحقيق الإعدادي، وليس قبله أو بعده، لاسيما فيما يتعلق بالجوانب التي يجب أن يتطرق إليها البحث الاجتماعي أو الفحص الطبي وذلك حسب ما تشير إليه التحقيقات الجنائية، فالدعوى حيث ترفع إلى محكمة الأحداث يجب أن تتضمن إجراءات التحقيق وكذلك البحث الاجتماعي، بمعنى أن الدعوى الجنائية التي ترفع ضد الحدث، يجب أن تكون مستوفية لكافة إجراءاتها، وتصبح مهمة محكمة الأحداث منحصرة في الفصل فيما بعد دراسة التحقيقات الجنائية والاجتماعية والطبية .
المطلب الثاني: ضمانات الحدث الجانح أثناء مرحلة البحث التمهيدي
ينطوي البحث التمهيدي على عدة مخاطر فيما لو أسيء استعمال السلطة التقديرية المخولة لضباط الشرطة القضائية، لذلك أحاط المشرع المغربي هذه المرحلة بمجموعة من الضمانات تتمثل أساسا في إشعار ولي الحدث وتخويله الاتصال بالمحامي (الفقرة الأولى) بالإضافة إلى حماية الحدث إذا ما تم الاحتفاظ به أو إخضاعه لنظام الحراسة المؤقتة (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: إشعار ولي الحدث والاتصال بالمحامي
استلزم المشرع المغربي ضرورة إشعار ولي الحدث بخصوص الإجراءات المتخذة بشأنه وذلك من خلال ما نص عليه في الفقرة الرابعة من المادة 460 من قانون المسطرة الجنائية، حيث جاء فيها: “يجب في كافة الأحوال إشعار ولي الحدث أو المقدم عليه أو وصيه أو كافله أو حاضنة أو الشخص أو المؤسسة المعهود إليها برعايته بالإجراء المتخذ تحت مراقبة ضابط الشرطة القضائية……”، وهذا المقتضى ينسجم مع قواعد بكين التي تنص على هذا الإخطار من خلال المادتين 10 و 15 ، لكن من الملاحظ أن المشرع لم يرتب أي جزاء في حالة الإخلال بهذا المقتضى.
إضافة إلى الإشعار فقد سمح المشرع المغربي بمقتضى المادة 460 من قانون المسطرة الجنائية أن يؤازر الحدث بمحام وهذا ينسجم مع المبدأ 17 من المبادئ المتعلقة بحماية جميع الأشخاص الذين يتعرضون لأي شكل من أشكال الاحتجاز أو السجن والتي جاء فيها: “ويحق للشخص المحتجز أن يحصل على مساعدة محام، وتقوم السلطة المختصة بإبلاغه بحقه هذا فور إلقاء القبض عليه….” هذا وقد سمحت الفقرة الخامسة من نفس المادة لمحامي الحدث الاتصال به أثناء فترة البحث التمهيدي، ويعد حضوره إلى جانبه في هذه المرحلة ذو أهمية خاصة حيث يبعث الاطمئنان في نفسه أثناء سؤاله، وحتى لا يدلي بأقوال قد تضر بمصلحته نتيجة إحساسه بالخوف .
الفقرة الثانية: الاحتفاظ بالحدث وإخضاعه لنظام الحراسة المؤقتة
يعتبر الاحتفاظ بالحدث أخطر إجراء يمكن أن يتخذ في حقه في مرحلة البحث التمهيدي، ذلك لما له من آثار نفسية آنية ومستقبلية، لذلك حاولت المادة 460 من ق .م.ج إحاطته بمجموعة من القيود استلهمها المشرع المغربي من الاتفاقيات الدولية والقوانين المقارنة .
وما يجب التنبيه إليه في البداية، هو أن المشرع المغربي استعمل كلمة” الاحتفاظ بالحدث” التي اقتبسها من نظيره الفرنسي وهذا يعني أن الحدث لا يمكن وضعه تحت الحراسة النظرية التي لها شروط تختلف عن الاحتفاظ أهمها: عدم وضع الحدث في الأماكن المخصصة للرشداء، ذلك أنه يجب وضع الحدث في مكان خاص بالأحداث بالمصالح أو المراكز التابعة للضابطة القضائية على ألا تتجاوز مدة الاحتفاظ تلك المحددة للحراسة النظرية وقد حددت المادة 66 من قانون م ج المغربي أمد الحراسة النظرية في مدة لا تتجاوز 48 ساعة تحتسب ابتداء من ساعة توقيف المشتبه فيهم ويجوز تمديدها لمدة 24 ساعة أخرى، بشرط الحصول على إذن من النيابة العامة.
وتجدر الإشارة إلى أن مدة الاحتفاظ وتمديدها تعتبر مدة طويلة نسبيا وقد تؤدي إلى نتائج عكسية، وأن عدم تمديدها من شأنه أن يحقق مصلحة الحدث، لأنه كلما قصرت المدة التي يحتفظ فيها به، كلما كان ذلك أفضل بالنظر إلى خصوصية الحدث وصغر سنه، لذلك ينبغي احترام المدة المحددة قانونا للحراسة النظرية والتي لم يرتب المشرع المغربي على الإخلال بها أي جزاء ، كما أن الاجتهاد القضائي المغربي لم يستقر على رأي واحد بهذا الخصوص .
ووعيا من المشرع بخطورة الاحتفاظ بالحدث خلال مرحلة البحث التمهيدي، فإنه تبنى إجراءا آخر يمكن الاستعاضة به عن الاحتفاظ، ويتعلق الأمر بإمكانية إخضاعه لنظام الحراسة المؤقتة المنصوص عليه في المادة 471 من قانون المسطرة الجنائية، على ألا تتجاوز مدة التدبير المأمور به 15 يوما ، ويمكن استغلال هذه المدة في دراسة الوضعية الاجتماعية والنفسية للحدث وتهيئ تقرير أولي قد يساعد القاضي عند اتخاذ الحراسة المؤقتة .
ويعتبر هذا المقتضى من أهم مستجدات قانون المسطرة الجنائية الجديد للحد من الآثار النفسية التي قد تضر بالحدث إذا ما بقي في مخافر الضابطة القضائية .
المبحث الثاني: الحدث ومرحلة المحاكمة
إن الاهتمام بمحاكمة الحدث الجانح يندرج في إطار نقاش قانوني حقوقي واجتماعي كبير يتسع مجاله يوما بعد يوم نظرا لأهميته من جهة ولخطورة فترة المحاكمة بالنظر لعواقبها المحتملة على شخصية الجانح من جهة أخرى.
فمحاكمة الحدث الجانح تقوم على فلسفة معينة وأهداف تميزها عن القواعد العامة، وقد ترتب عن ذلك إقرار قواعد إجرائية خاصة تلائم حالة وطبيعة الحدث الجانح، وهذه الضمانات في مجموعها ترتكز على توفير أكبر قدر ممكن من الحماية للحدث بما لا يمس كرامته أو يؤثر في شخصيته حتى تكون مرحلة المحاكمة فرصة لإصلاحه وتقويم سلوكه.
لذلك فالمهمة الأساسية المنوطة بقضاء الأحداث هي اتخاذ التدبير العلاجي بحق الحدث الذي ارتكب فعلا يعاقب عليه القانون، هذا التدبير يمكن أن يكون إصلاحيا بمعنى أن يعهد به إلى مؤسسة متخصصة لتأهيله مهنيا واجتماعيا ويمكن أن يكون مجرد تدبير حمائي يقصد منه وضع الحدث في محيط عائلي أو اجتماعي ، يضمن له جوا تربويا ملائما .
وللحديث عن قواعد و إجراءات المحاكمة العادلة ينبغي استحضار أسس ومبادئ تختلف في غالب الأحيان عن القواعد التي تقوم عليها محاكمة الرشداء، سواء على مستوى الهيآت التي تنظر في قضايا الأحداث ( المطلب الأول) وكذلك التدابير المؤقتة الممكن إخضاعهم لها في انتظار تجهيز الملف وحجزه للنطق بالحكم أو القرار(المطلب الثاني) .
المطلب الأول: التدابير المؤقتة المتخذة في حق الحدث الجانح
يختلف تدخل قضاء الأحداث في القضايا والأفعال المنسوبة للحدث بحسب حالته ووضعيته وكذلك المرحلة التي وصلت إليها المسطرة القضائية الخاصة بمعالجة جنوح الأحداث.
وهكذا فإنه بعد إحالة الملف على قضاء الأحداث وفي انتظار تجهيز القضية فإن الهيئة المكلفة بالبث في الملف تقرر بشأن نوع التدبير الممكن اتخاذه مؤقتا في حق الحدث (الفقرة الأولى)؛ غير أن اختيار التدبير الملائم والمناسب يبقى خاضعا لمجموعة من المعايير (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: أنواع التدابير الخاصة بالأحداث الجانحين
إن الغاية التي قصدها المشرع المغربي من إخضاع الحدث الجانح لتدابير إصلاحية أو وقائية هو إعادة إدماجه في المجتمع بعد تقويم سلوكه، خاصة إذا كان الفعل المرتكب لا يتسم بالخطورة البالغة، حيث غالبا ما يتم الاكتفاء في هذه الحالة باتخـــاذ تدبير من تدابيـــر الحريــة المحروسة المقــررة في إطار المادة 471 من ق م ج .
من الناحية العملية فإن القضاة المكلفون بقضايا الأحداث غالبا ما يجدون أنفسهم أمام إمكانية اتخاذ تدبيرين فقط من ضمن التدابير المحددة في المادة 471 من ق م ج ، وهما إما تسليم الحدث إلى أبويه وتركه رهن إشارتهما على أساس حضوره رفقة وليه خلال جلسات محاكمته (أولا) أو إيداعه بمركز حماية الطفولة (ثانيا).
أولا: تسليم الحدث إلى أبويه
يعتبر هذا التدبير من التدابير غير السالبة للحرية المنصوص عليها في إطار المادة 471 من ق م ج، حيث يقوم قاضي الأحداث بتسليم الحدث إلى أبويه وفي حالة عدم وجودهما إلى الوصي عليه أو المقدم عليه أو كافله أو إلى حاضنه أو إلى شخص جدير بالثقة ، ويمكن القول أن هذا التدبير فيه مراعاة لمصلحة الحدث حيث يبقى في محيطه الأسري ويتابع دراسته أو عمله وفي نفس الوقت فهو يخضع للتتبع التربوي من طرف مندوبي الحرية المحروسة، إن تدبير التسليم يستلزم القيام ببحث من طرف القاضي الذي أمر به قبل أن يحدد لمن يسلم الحدث خاصة إذا كان ذلك سيتم لغير الوالدين، لذلك يتعين تسليمه للشخص الذي تتوفر فيه الظروف التي من شأنها أن تساهم في إصلاحه والتي يبنها البحث المذكور، فحتى عبارة “جدير بالثقة” التي استعملها المشرع في المادة 471 السالفة الذكر تثير التساؤل عن المقصود بها وكيف يتم التأكد من أنه كذلك إذا لم يكن هناك بحث حول الشخص المسلم إليه؟
لذلك يبقى من المهم جدا التعامل مع هذا التدبير بنوع من الحذر خاصة إذا كان الحدث ينتمي إلى أسرة منحرفة.
ثانيا: الإيداع في مؤسسات حماية الطفولة
أسند المشرع المغربي لقطاع الشبيبة والرياضة الإشراف على مجال رعاية الأحداث الجانحين باعتبار أن هذا القطاع الحكومي يمكنه توفير الخدمات الأساسية من الناحية التربوية والاجتماعية للأحداث الجانحين.
وهكذا فإن مؤسسات حماية الطفولة تستقبل الأحداث الجانحين الصادرة في حقهم تدابير قضائية تربوية سواء كانت نهائية أو فقط مؤقتة في انتظار اتخاذ التدبير الملائم بعد دراسة حالة الحدث الاجتماعية والوقوف على الدوافع التي أدت به إلى الانحراف ، وبعد تحليل المعطيات المتوصل إليها يتم اقتراح التدبير الملائم وتضمينه بالتقرير النهائي المرفوع إلى السلطات القضائية لاتخاذ إحدى التدابير المنصوص عليها في إطار المادة 481 من ق م ج .
هذا، ويبقى الهدف الأساسي من إقرار تدابير خاصة لمعاملة الأحداث الجانحين هو بالدرجة الأولى إصلاحهم وعلاجهم إعادة إدماجهم في المجتمع، وفي هذا الإطار فقط تضمن المادة 471 من ق م ج مجموعة من التدابير التي يمكن إخضاع الحدث لها ريثما تصبح القضية جاهزة للحكم، على اعتبار أن مصلحة الحدث تختلف من حالة إلى أخرى،
وحتى تقوم هذه المراكز حماية الطفولة بمهمتها كاملة، يجب أن تكفل للحدث قدر الإمكان جوا وديا يسمح له بفرص تربوية وترفيهية ، مع العمل على وضع برنامج متنوع على مستوى التكوين فضلا عن إخضاعه لفحوص طبية للتأكد من سلامته عضويا ونفسيا وعقليا وتوفير العلاج المناسب له، وبذلك فهذه المؤسسات ليست وظيفة عقابية.
وعموما يمكن القول أن نظام الحرية المحروسة يحقق مميزات عديدة تتمثل أساسا في استبعاد العقوبة ومالها من آثار سلبية على نفسية الحدث، وفي عدم حرمانه من حريته وعزله عن بيئته الطبيعية، إلى جانب ما يوفر له من مساعدة على تقويم سلوكه المنحرف، غير أن اختيار التدبير المناسب يبقى خاضعا لمجموعة من المعايير.
الفقرة الثانية: معايير اختيار قاضي الأحداث للتدبير المناسب
لقد حدد المشرع المغربي مجموعة من التدابير الحمائية مراعيا في ذلك شدة وخطورة الفعل الإجرامي وأيضا سن الحدث، وبالتالي فالقاضي له السلطة التقديرية لاختيار ما يراه ملائما مع التزامه بمبدأ أساسي وهو الحرص على تحقيق المصلحة الفضلى للحدث.
هذا المبدأ نصت عليه القاعدة رقم 17 من قواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لإدارة شؤون قضاء الأحداث المعروفة بقواعد بكين، ويقصد به تحقيق الغاية التي يرمي إليها المشرع من سن القواعد الخاصة بالأحداث والمتمثلة في علاج الحدث وضمان نموه وإعادة تأهيله، فأي تدبير من شأنه أن يحقق هذه الغاية يكون هو التدبير الذي يراعي مصلحة الحدث الفضلى.
فبالرجوع إلى التشريع المغربي، نجد أن المشرع قد حسم الأمر بالنسبة للمخالفات، إذ لا يمكن لقاضي الأحداث سوى التوبيخ أو الغرامة المنصوص عليها قانونا وبالتالي يتم تسليم الحدث لأبويه ريثما يتم البث في الملف، نظرا لكون المخالفات ليست على درجة كبيرة من الخطورة ، في حين ترك للقضاء السلطة التقديرية لاختيار أي تدبير إذا تعلق الأمر بالجنح والجنايات، ذلك أن القاضي في إطار سلطته التقديرية يمكنه اتخاذ أي تدبير من التدابير المنصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية وتطبيقه على الحدث بغض النظر عن نوعية الجريمة التي اقترفها.
ولذلك فليس هناك ما يعيب قانونا الحكم القاضي بإخضاع حدث اقترف جناية لنظام الحرية المحروسة.
ومهما يكن فإن طبيعة الجريمة وحدها لا يمكن أن تبرر اعتماد تدبير دون آخر بل إن شخصية الجاني تحتل مركز الصدارة في تشكيل قناعته.
أيضا هناك معيار المحيط الاجتماعي ومدى مشاركة الأسرة في تفعيل التدبير،فإذا كانت أسرته تتميز بالاستقرار وتميل إلى الاهتمام به، فالقاضي يمكنه حتى وإن ارتكب الحدث جناية تطبيق هذا التدبير في حقه بدل إيداعه في مؤسسة سجنية، في حين إذا اتضح بأن الأسرة غير مؤهلة لذلك، فإنه من غير المعقول إخضاعه لنظام الحرية المحروسة.
هذا ويعتبر تعدد الجرائم والسوابق القضائية للحدث من بين المعايير التي يتم أيضا اعتمادها من طرف المحكمة عند تحديدها للتدبير المؤقت الذي سيخضع له.
من بين المعايير كذلك التي تتم مراعاتها من طرف المحكمة عند تحديدها للتدبير المناسب تلك الوسائل المستعملة في ارتكاب الجريمة، فإذا ما أقدم الحدث على استعمال وسائل خطيرة كالسلاح مثلا، فإن ذلك يعني قدرته على تهديد الأمن العام، مادام أن حيازته لهذه الوسائل أولا، واستعمالها ثانيا لا يترك مجالا للشك في خطورته.
إجمالا يمكن القول أن هذه بعض المعايير المحددة التي تستند عليها المحكمة في اختيار التدبير المناسب للحدث فماذا عن الهيآت المختصة في محاكمة الحدث.
المطلب الثاني: هيئات الحكم المتخصصة في قضايا الأحداث
وعليه سنحاول بداية التطرق إلى تنظيم هذه الهيئات على مستوى المحاكم الابتدائية (الفقرة الأولى) على أن نخصص (الفقرة الثانية) للحديث عن الهيئات المختصة للبث في قضايا الأحداث الجانحين على مستوى محكمة الاستئناف.
الفقرة الأولى: على مستوى المحكمة الابتدائية
أولا: قاضي الأحداث
يتم تعيين قاض أو أكثر من قضاة المحكمة الابتدائية للقيام بمهام قاضي الأحداث لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد بموجب قرار لوزير العدل بناء على اقتراح من رئيس المحكمة الابتدائية، وإذا حدث مانع لحضور قاضي الأحداث يعين رئيس المحكمة قاض آخر للقيام بالمهمة بصفة مؤقتة بعد استشارة وكيل الملك. ويختص قاضي الأحداث بالنظر في المخالفات والجنح التي تعادل عقوبتها أو تقل عن سنتين المنسوبة للأحداث، ويقوم بالتحقيق في الجنح إذا قرر وكيل الملك فتح تحقيق فيها.
ويمكن أن يتخذ في حق الحدث إحدى التدابير المؤقتة المنصوص عليها في الفصل 471 أو تدابير الحماية والتهذيب المنصوص عليها في الفصل 481 من ق .م.ج ، وبالنسبة للحدث أقل من 12 سنة لا يمكن أن يتخذ في حقه سوى التسليم للعائلة، وإذا كان أساس الأحكام الجنائية هو حرية القاضي الجنائي في تقدير الإثبات فإن هذه الحرية ليست مطلقة، فقاضي الأحداث أو المستشار المكلف بالأحداث يجب أن يستدل على صحة الاقتناع عند تعليل حكم بأدلة لا يشوبها خلل في الاستدلال أو نقصان أو تناقض2 كما لقاضي الأحداث أن يأمر بإجراء بحث اجتماعي أو فحص طبي أو عقلي، ويراعي كافة الضمانات الخاصة بالحدث من حضور المحامي والأسرة وسرية المحاكمة… وتجدر الإشارة إلى أن المبادئ المذكورة والتي تعتبر من مميزات قضاء الأحداث تنطبق على كافة القضايا التي يكون فيها حدث، مهما كانت الهيئة التي تنظر في القضية .
ثانيا : غرفة الأحداث لدى المحكمة الابتدائية
تتشكل غرفة الأحداث بالمحكمة الابتدائية من قاضي الأحداث بصفته رئيسا تحت طائلة البطلان ومن قاضيين اثنين بحضور ممثل النيابة العامة ومساعدة كاتب الضبط، وتنظر هذه الغرفة في الجنح التأديبية المرتكبة من طرف الأحداث، وتعقد جلساتها سريا وحضوريا وشفويا نظرا لخصوصية الحدث، كما يمكن لها أن تعفي الحدث من الحضور كليا أو جزئيا لمصلحته الفضلى، ويمكن للغرفة أن تعوض أو تكمل التدبير بعقوبة حبسية، ويمكن الطعن بالاستئناف في أحكامها، وإذا ظهر للغرفة أن الأفعال تكتسي صبغة جناية فإنها تصدر حكما بعدم الاختصاص وتبث في استمرار نظام الحراسة المؤقتة أو الإيداع بالسجن.
الفقرة الثانية: على مستوى محكمة الاستئناف
قبل أن نتطرق لأهم الغرف على مستوى محاكم الاستئناف لابد من الوقوف على دور المستشار المكلف بالأحداث بهذه المحاكم.
أولا: المستشار المكلف بالأحداث
يعين في كل محكمة استئناف مستشار أو أكثر مكلفا بالأحداث لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجنيد ويعفى من مهامه بنفس الطريقة ، ويختص بإجراء التحقيق في القضايا الجنائية المنسوبة للأحداث بناء على ملتمس من الوكيل العام للملك ويمكنه إخضاع الحدث لنظام الحراسة المؤقتة أو لواحد أو أكثر من تدابير الحماية والتهذيب، كما يمكنه أن يصدر أمر باعتقال الحدث مؤقتا، وتسري في هذه الحالة الأحكام المتعلقة بالاعتقال الاحتياطي.
وإذا ظهر للمستشار المكلف بالأحداث أن الأفعال ثابتة في حق الحدث وتشكل جناية فإنه يأمر بإحالة القضية على غرفة الجنايات للأحداث، وتقبل قراراته الطعن بالاستئناف أمام الغرفة الجنحية للأحداث.
ثانيا: الغرفة الجنحية للأحداث لدى محكمة الاستئناف
تتشكل هذه الغرفة من مستشار مكلف بالأحداث رئيسا تحت طائلة البطلان ومن مستشارين اثنين ، وتعقد جلساتها بحضور ممثل النيابة العامة وبمساعدة كاتب الضبط، ولم ينظم المشرع اختصاص هذه الغرفة في النص المنظم لها، بل جاءت اختصاصاتها موزعة في عدة نصوص5 وتختص هذه الغرفة في طلبات الإفراج المؤقت المقدم من طرف المتهم الحدث أو وليه، أو من طرف النيابة العامة وتبث في أجل 15 يوما (المادة 179 ) وفي الاستئناف المرفوع إليها ضد أوامر قاضي الأحداث أو المستشار المكلف بالأحداث عند قيامهم بالتحقيق (المادة 282 )، وفي بطلان إجراءات التحقيق المتعلقة بالحضور للاستنطاق الأولي إذا ثبت أن إجراءا مشوب بالبطلان قد اتخذ، وهنا تأمر الغرفة بإجراء بحث تكميلي.
ثالثا: غرفة الجنح الاستئنافية للأحداث
تتشكل تحت طائلة البطلان من مستشار مكلف بالأحداث رئيسا ومن مستشارين، وتعقد جلساتها بحضور ممثل النيابة العامة ومساعدة كاتب الضبط، وتختص بالنظر في استئناف الأحكام الصادرة عن قاضي الأحداث أو غرفة الأحداث لدى المحكمة الابتدائية، وتختص أيضا في البث في تنازع الاختصاص السلبي والإيجابي الذي يثار بين محكمتين تابعتين لها، وتختص بالنظر في الجرائم المرتكبة أثناء الجلسات، كما تراعي جميع الضمانات والحقوق المخولة للأحداث.
رابعا: غرفة الجنايات الاستئنافية للأحداث
إن من أهم مستجدات ق م ج الجديد هو إقرار مبدأ التقاضي على درجتين في القضايا الجنائية، وتتكون هذه الغرفة الجديدة على مستوى محاكم الاستئناف من مستشار مكلف بالأحداث رئيسا ومن أربعة مستشارين تحت طائلة البطلان، وتعقد جلساتها بحضور ممثل نيابة العامة، ومساعدة كاتب الضبط، ويتم تعيين المستشارين من طرف الجمعية العامة السنوية للمحكمة، كما تعين هذه الجمعية نائب الرئيس وعدة مستشارين إضافيين ليحلوا عند الاقتضاء محل الأعضاء الرسميين، وتختص هذه الغرفة بالنظر في الطعون بالاستئناف في القرارات الصادرة عن غرفة الجنايات الابتدائية للأحداث، كما تنظر في طلبات رد المحجوزات وفي النزاعات العارضة المتعلقة بالتنفيذ، ويقدم الاستئناف من طرف الحدث أو ممثلة القانوني أو النيابة العامة أو الطرف المدني .
خاتمــة:
الجانح اليوم هو مجرم الغد إن لم نتدارك إصلاحه وتهذيبه ولاشك أن فئة الأحداث بحاجة إلى الرعاية والإصلاح، أكثر من حاجتها إلى الردع والعقوبة، وهذا ما يطلق عليه الرعاية اللاحقة، أي الرعاية التي تتم بعد رجوع الحدث الجانح إلى بيئته الطبيعية، بمتابعته متابعة منظمة وحديثة.
وعلى هذا الأساس، لا يمكن الوصول إلى هذه الأهداف دون اعتماد مقاربة شمولية يشترك فيها كل الفاعلين في مجال الطفولة لإرساء إستراتيجية شاملة، متكاملة وعملية للتصدي للظاهرة، تستقي مضامينها من تجارب الدول السابقة في المجال ومن دراسات الباحثين والمهتمين، إستراتيجية تتلاءم وخصوصيات واقعنا الاجتماعي والثقافي وتراعي الإمكانيات المادية والبشرية المتاحة حتى يمكن تطبيقها بجدية واستعجال.