التضامن الوطني كأساس حديث لمسؤولية الدولة

التضامن الوطني كأساس حديث لمسؤولية الدولة

أستاذ- علاء الدين تكتري

 باحث في العلوم القانونية

تقديم:

نظرا لتطور وتسارع وتضاعف نشاطات الدولة في مجالات تدخلاتها، على مجموعة من الأصعدة، نتج عنه ظهور العديد من الحالات الجديدة لمسؤولية الإدارية، خاصة بعدما أبانت الأسس الكلاسيكية لمسؤولية الإدارية، التي تعرضنا لها سابقا في هذا البحث عن عدم قدرتها لتعويض بعض الحالات التي تعرضت للأضرار، الشيء الذي أدى إلى البحث عن أسس جديدة من أجل تعويض هذه الفئة من الضحايا وعدم تركهم يعانون نتائج الأضرار لوحدهم.

فكان أول أساس تقوم عليه مسؤولية الدولة هو وجود عنصر الخطأ، ليتطور هذا الأخير الذي يشكل القاعدة العامة في إطار مسؤولية الدولة إلى ظهور المسؤولية بدون خطأ التي أصبحت تشكل استثناء بجانب الخطأ، وتقوم بدور تكميلي لها وذلك في الحالات التي يتعارض فيها اشتراط الخطأ مع فكرة العدالة تعارضا صارخا[1]، كنظرية المخاطر ومبدأ المساواة أمام الأعباء العامة وذلك في الحالات التي يكون فيها الضرر ناتجا عن عمل قانوني للإدارة كإصدار القوانين أو عدم تنفيذ الأحكام والقرارات القضائية لاعتبارات تتعلق بالصالح العام، إلا أن مسؤولية الإدارية لم تقف في تطورها إلى هذا الحد، بل توسعت أكثر فأكثر لتشمل أساسا آخر هو مبدأ التضامن الوطني.

لقد كان لتشريع والاجتهاد القضائي، دورا مهم في إرساء دعائم جديدة تحكم الإطار العام لمسؤولية الدولة في حدود معقولة تستجيب لمبادئ العدالة والإنصاف والتضامن والمساواة في تحمل الأعباء.

وتعتبر نظرية التضامن الوطني من الأفكار الحديثة التي وجد فيها الاجتهاد القضائي والمشرع ضالتهما المنشودة لتحميل الدولة مسؤولية التعويض عن بعض الأعمال والأنشطة التي لا توجد علاقة ربط بين الضرر الحاصل للضحية ونشاط الإدارة وهو نفس التوجه الذي نادى به فقهاء علم الضحايا من خلال مجموعة من المؤتمرات الدولية والإقليمية.

هكذا، فتعويض بعض الضحايا، لا يمكن انعقادها وتأسيسها على حساب الأسس والقواعد العامة للمسؤولية الإدارية، ذلك أن هذه القواعد أضحت عاجزة على تعويض بعض الضحايا كضحايا الجرائم وبعض المخاطر الطبية والكوارث الطبيعية.

ومن هنا نطرح التساؤل التالي:  ماهي مكانة مبدأ التضامن الوطني في مجالات المسؤولية التقليدية، سواء على أساس الخطأ أو بدون خطأ أو خارجها؟.

لقد ساعد على تطور وتغيير الأسس لمسؤولية الدولة، ازدياد الاهتمام العلمي لضحية خاصة مع ظهور علم الضحايا victimology  الذي اهتم بحماية حقوق الضحايا وضمان استيفائهم لحقوقهم وتعويضهم وإنصافهم، بغض النظر عن المتسبب في الضرر، حيث لم يعد ينظر إلى ضرورة ارتباط الضرر بالدولة بل يكفي فقط وجود ضرر، ووجوب على الدولة رفعه، مهما كان مصدره.

تعتبر نظرية التضامن الوطني أو القومي أو الاجتماعي، التي تختلف تسميتها من دولة لأخرى، من أقدم النظريات الاجتماعية التي تربط وتنظم علاقة الفرد فيما بينهم وفيما بين السلطة الحاكمة، وكذا هو من أهم المعايير لتطور الفرد داخل المجتمع.

فزيادة على العدالة القضائية التي يجب على السلطة القضائية تحقيقها عن طريق الحكم في النزاعات بالعدل والإنصاف، ليمتد ويتسع مضمونها ليشمل العدالة الاجتماعية في كافة مجالات الحياة الإنسانية عن طريق تكريس مبدأ أو نظرية التضامن الوطني أو الاجتماعي من أجل مواجهة الحوادث والمصائب والكوارث التي قد يتعرض لها الفرد داخل الجماعة.

لهذا، فقد أقرت بعض التشريعات المقارنة[2] والاجتهادات القضائية الوطنية مسؤولية الدولة بدون خطأ بناء على مبدأ التضامن الوطني، باعتباره أساسا حديثا ومكملا للأسس التقليدية لمسؤولية الدولة التي أثبتت عجزها وقصورها في إيجاد تبرير قانوني لمساءلة الدولة والتزامها بتعويض بعض الأصناف من الضحايا.

الفرع الأول: ماهية نظرية التضامن الوطني- الاجتماعي-

يقصد بالتضامن الاجتماعي الاعتماد المتبادل بين الأفراد والدولة في مواجهة تبعات الحياة ومستلزماتها، وبعبارة أخرى هو إشراك الكل في مواجهة المخاطر والكوارث التي قد يتعرض لها المجتمع، ويتحدون فيما بعض من أجل تجاوزها، ويتعاونون على تحقيق مصالح المجتمع[3].

لتعميق البحث في ماهية التضامن الوطني، سوف نقوم بوضع تعريفا لهذا المفهوم لغويا واصطلاحا وشرعيا.

فكلمة التضامن مصطلح يقابله باللغة الفرنسية كلمة  La solidarité، وباللغة الانجليزية Solidarity.

يقصد بالتضامن لغة: تضامن يتضامن، تضامنا فهو متضامن، تضامن القوم: التزم كل منهم أن يؤدي عن الآخر ما قد يقصر عن أدائه[4].

واصطلاحا يقصد بالتضامن الوطني الاعتماد المتبادل بين الأفراد، وتبادل الجهود في مواجهة تبعات الحياة ومستلزماتها، وهو أيضا ذلك الشعور الإنساني الذي يعبر عن ضمير الأمة، ويعد بمثابة المحور الرئيسي لكافة الإجراءات المتخذة من قبل الدولة بهدف تحقيق المصلحة القومية[5].

ويرتبط التضامن بالشعور بالانتماء للجماعة، بمعنى أنه يتعاظم في أوقات المحنة والشدة، حيث يظهر واضحا، ومن ثم تكون التضحية متوقعة.

وعليه، فالتضامن الوطني لا يقتصر على نوع معين من الضرر، وإنما يغطي كل ما يمكن أن يواجهه الفرد من مشاكل ومصائب يصعب دفعها كالمخاطر الطبيعية من زلازل وفيضانات، وأعاصير، وبراكين، وجفاف وأوبئة وغير ذلك، وأيضا المخاطر الاجتماعية كالجرائم والمخاطر الطبيعية.

ويرجع كذلك مرجعية ومكانة نظرية التضامن الوطني في الشريعة الإسلامية من خلال مجموعة من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، فمن قوله تعالى:”وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان[6].

وتعتبر الزكاة من أهم مصدر التضامن الوطني التي تدفع للفقراء والمحتاجين والمساكين لقوله تعالى:”إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليهم حكيم[7].

وقال أيضا عز وجل في سورة المعارج الآية 24 و 25:” والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم”، كما نجد صدى مبدأ التضامن الوطني أو الاجتماعي في السنة النبوية، كما رواه مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” من فرج عن أخيه كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر على أخيه المسلم في الدنيا ستر الله عز وجل يوم القيامة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه[8].

وفي نفس السياق، ورد عن النبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيها رواه عنه عبد الله بن عمر رضي الله عنه، أنه قال:” سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:” كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والرجل راع في مال أبيه ومسؤول عن رعيته، ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”، متفق عليه[9].

الفرع الثاني: أساس نظرية التضامن الوطني

لقد أصبح التعويض في مفهومه الحديث مسؤولية الدولة والمجتمع فمن واجبهما أن يتضامنا لحماية الضحايا.

فقد تغيرت الأسس التقليدية للمسؤولية الإدارية، وساعد على ذلك ازدياد الاهتمام العلمي للضحايا، فيما عرف بعلم الضحايا Victimology، الذي يهتم بدراسة المركز القانوني للضحية، وتحديد مركزه بالنسبة للدولة، بصرف النظر عن المتسبب في الضرر، وبالتالي إعطاء حقوق لذلك الضحية، بعيدا عن مبدأ المسؤولية الإدارية التقليدية، حيث لم يعد ينظر إلى الضرر على أنه مجرد عنصر أو ركن في المسؤولية، وإنما أصبح ينظر إلى وجوب رفعه على الضحية، بغض النظر عن مصدره، وهو ما ينطبق على ضحايا الكوارث والأوبئة والإرهاب.

وقد وصف الفقيه الفرنسي Truchet التطور الذي وصلت إليه المسؤولية الإدارية في هذا الشأن بأنه أصبح ” لكل ضرر تعويض A tout dommage réparation[10].

وقد شكلت فكرة تعويض الدولة للضحايا عن بعض الأضرار المجتمعية اختلافا في الرأي حول مدى التزام الدولة بتعويض الضحايا، فبعض الفقهاء يطالب بضرورة تدخل الدولة لتعويض هؤلاء الضحايا، بينما يعارض البعض الآخر ذلك.

أولا: أنصار الأساس القانوني

يذهب أنصار هذا الرأي إلى أنه يجب على الدولة أن تتدخل لتقديم التعويضات للضحايا على أساس التضامن الوطني هو حق وليس منة منها، فإن لم تلتزم بدفع التعويض للضحية فله الحق في مقاضاتها وإجبارها على دفع التعويض، بصرف النظر عن احتياجه إليه أم لا[11].

وقد أوصى مؤتمر بوداسبت بأن يدفع التعويض على أساس أنه حق وليس منحة، والمتال التشريعي على ذلك هو قانون ولاية ماساشوستس الأمريكية وعنوانه: Acte to provide the compensation of victims of violent crimes، هذه النظرية تنطلق من عدة اعتبارات أهمها فكرة العقد الاجتماعي التي تعتبر أن هناك عقدا ضمنيا تم إبرامه بين الفرد من جهة والدولة من جهة أخرى، يترتب عليه أنه لكل طرف من طرفي العقد حق وعليه واجب تجاه الطرف الآخر، فلا يجب الإخلال أي طرف بأي التزام عليه[12]، ومن بين الالتزامات التي تقع على كاهل كل فرد التنازل عن جزء من حريتهم وأموالهم مقابل حمايتهم من قبل الدولة، حيث التزم بمقتضاه الفرد بأداء الضرائب والتي تستخدم في المشروعات الكبرى التي لا يقوى الفرد عليها وتلتزم الدولة بالقيام بها.

وتأتي حماية الأفراد من المخاطر الاجتماعية من أهم المهام والأدوار التي وجب على الدولة أن تتدخل لحماية الأفراد منها، وأن التعويض الذي يصرف لضحايا هو بمثابة حقا قانونيا وليس منة.

ومن التبريرات أيضا على أنه من مقتضيات مبدأ المساواة الذي تقرره كل الدساتير، أن لا يترك بعض الضحايا الذي أصابهم كما هو الحال بالنسبة لضحايا الإرهاب والكوارث الطبيعية، ولذلك ينبغي على الدولة أن تتدخل وتقوم بأداء التعويض إلى الضحايا الذين تعذر حصولهم عليه، لأي سبب، تم تحل الدولة محلهم، في مواجهة المسؤول عن إحداث ذلك الضرر إن أمكن تحديده.

ويذهب بعض الفقه في تأكيده لهذا الاتجاه إلى القول أن الدولة مسؤولة عن اتخاذ كافة الاحتياطات الوقائية والكافية لحماية حقوق الأفراد وحرياتهم وأرواحهم، الأمر الذي يجعل مسؤولية الجماعة ممثلة في الإدارة التي تعمل لصالحها، مسؤولية قانونية، وليس التزاما أخلاقيا وأدبيا، فلو كان الذي يتحمل عبء المسؤولية هنا هو شخص عادي لأمكن مشاركة ومشاطرة الفقيه الفرنسي هورير الرأي والقول بأن: المسؤولية هنا هي مسؤولية أخلاقية وليست قانونية[13]، أما وأن الدولة هي التي تسأل وتتحمل عبء دفع التعويض من الخزينة العامة فمن المغالطة والمصادرة للحقيقة القول والتقرير بأن مسؤوليتها على أساس التضامن الوطني في هذه الحالة هي مسؤولية أخلاقية وأدبية أساسها الشفقة والرحمة ومضمونها المساعدة[14].

 كما يستطرد البعض الأخر بالقول بأن الفرد يلتزم بموجب عقد ضمني مبرم بينه من ناحية وبين الدولة، حيث يلتزم الفرد بأداء الضريبة المقرر عليه إلى الدولة، وأن عائدات هذه الضرائب يذهب لتغطية مصاريف المرافق العامة للدولة و إنجاز المشاريع…، في المقابل تلتزم الدولة بأمور يعجز الفرد لوحده القيام بها و ممارستها، مثل توفير الأمن وحماية حقوق الأفراد وحياتهم، وبالتالي عندما تفشل الدولة بحماية أفرادها ولم تتخد كافة الإجراءات التي من شأنها توفير الحماية الكافية للأفراد، فهي قد أخلت بالعقد القائم بينها وبين الأفراد.

وهكذا، فعندما يثبت مثلا فشل الدولة، أو إهمالها في القيام بواجبها في منع جريمة الإرهاب  مثلا، بعد أن أخذت على عتقها مسؤولية حفظ الأمن في المجتمع، تكون قد أخلت بالعقد الضمني، وذلك بتقصيرها في اتخاذ كافة التدابير التي من شأنها توفير الحماية للمواطنين، وتكون ملزمة بتعويض كل الأضرار الناتجة عن الجريمة الإرهابية ونتيجته، لهذا فإن المجني عليه له الحق في توجيه دعوى إدارية ضد الدولة لطلب التعويض على أساس التضامن الوطني بسبب إخفاق إدارة الدولة في مكافحة الجريمة الإرهابية، الذي هو التزام قانوني ضمني بين السلطة وأفراد المجتمع.

أما النتائج المترتبة على الاعتداء بالأساس القانوني هي أن التعويض حق للضحية وليس منحة من الدولة بصرف النظر عن مدى حاجة الضحية أو ورثته للتعويض أو بمستوى المعيشة التي كان يعيشها الضحية، وقد حرصت عدة مؤتمرات على تأكيد هذا المعنى، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، المؤتمر الدولي الأول للمجني عليه في لوس أنجلوس سنة 1968، حيث أوصى بأن التعويض الذي تمنحه الدولة لضحايا هو حقا لجميع المواطنين، كذلك الندوة الدولية المنعقدة في القدس سنة 1973 حيث جاء في التوصية الرابعة بشأن فكرة التعويض الذي تلتزم به الدولة:” وجوب أن يكون دفع التعويض على أساس أنه حق لضحايا الجرائم“، أثارت هذه النتيجة صدى في المؤتمر الدولي الحادي عشر لقانون العقوبات في بوداسبت سنة 1974 لمناقشة تعويض المجني عليهم، حيث جاء في التوصية الثالثة بأن:” التعويض يجب أن ينظر إليه على أساس أنه حق وليس منحة[15]، كما أكدته قلة من التشريعات المتعلقة بتعويض المجني عليهم[16]، كما يعتبر قانون ولاية ماساشوستسي الأمريكية نموذجا لهذا الأساس، حيث ثم تخويل المحاكم العادية في الولاية الحق في القضاء بالتعويض بناء على دستور الولاية الذي يقضي بأن من حق كل مواطن أن يجد علاجا لما يصيبه من أضرار[17]، كما تبنت فنلندا هذا الإتجاه عند إصدارها لقانون 1973-12-31 حول تعويض ضحايا الجريمة في جرائم العنف، إذ قررت أن لضحايا الجريمة الحق في التعويض دون النظر إلى مراكزهم المالية.

إضافة إلى ذلك تلتزم الدولة بتغطية جميع الأضرار أيا كان نوع هذا الضرر بلا تمييز، سواء كان ضرر جسماني أم مالي أم ضرر معنوي لأنه مجرد وقوع الضرر على الفرد معناه تقصير الدولة في الالتزام الملقى على عاقتها بضرورة حماية الأفراد وتوفير الأمن لهم.

ومن ناحية أخرى، لابد للفصل في موضوع التعويض أن يتم عن طريق جهة قضائية سواء أكانت مدنية أو جنائية أو إدارية، ذلك أن مخالفة الالتزام القانوني تقتضي المساءلة أمام المحاكم، وأن هذا النوع من التعويضات هي ذات طبيعة أصلية وليست احتياطية.

وهكذا فالرأي القائل بتأسيس مسؤولية الدولة عن تعويض الضحايا على أساس قانوني إلا بتأييد ضعيف، يكاد لا يذكر من جانب الفقه، على أن هذا الأساس وقوبل بعدة انتقادات، يصطدم مع قاعدة قانونية سائدة في كل القوانين بلا استثناء التي تنص على أن المسؤول عن تعويض الأضرار هو من صدر منه الفعل الضار المسبب له.

وأن اعتبار الأفراد يعملون بأداء الضريبة للخزينة العامة للدولة هو تنفيذ لواجب قانوني إلزامي حدده الدستور، يقوم على أساس التضامن الاجتماعي بين الدولة والأفراد وليس بناء على عقد ضمني، كما يذهب أصحاب هذا الرأي[18].

كما أن القول بتأسيس مسؤولية الدولة على أساس قانوني قد يؤدي إلى إطلاق مسؤولية الدولة بالنسبة لجميع الأخطار الاجتماعية وفي هذا ما يشكل عبئا كبيرا على خزينة الدولة تتوء عن حمله، يساهم في فشل نظام تعويض الدولة ككل[19].

ثانيا: أنصار الأساس الاجتماعي

   إن فحوى هذا الأساس هو أن التزام الدولة بتعويض الضحايا المبني على مبدأ التضامن الوطني هو أساس التكافل الاجتماعي، ويدفع التعويض بالقدر الذي تقرره الدولة لا بقدر الضرر الذي أصاب الضحية، فهو نوع من أنواع المساعدة الاجتماعية، ولكي تقوم الدولة بتقديم هذه المساعدات عليها إذا رأت ذلك، أن تنشئ صندوقا عاما لتعويض الضحايا، وهي حين تفعل ذلك لا تفعله بموجب مسؤولية قانونية، بل بمقتضى إحساسها الاجتماعي في مواجهة الأخطار الاجتماعية ومنها خطر الجريمة[20].

فالدولة ملزمة ببذل أقصى ما في وسعها للحيلولة دون وقوع المخاطر الاجتماعية، فإذا وقعت الجريمة مثلا، يجب عليها أن تعمل على معرفة الجاني ومحاكمته وإلزامه بتعويض الضحية من الجريمة، فإذا عجزت عن معرفته أو ظهر أنه معسر، لا يبقى عليها إلا التزام أدبيا بتعويض الضحية من منطلق وظيفتها الاجتماعية، وقد أكدت بعض التشريعات هذا المعنى صراحة[21].

ويؤسس أنصار هذا الاتجاه الفقهي مسؤولية الدولة على أساس مبدأ التضامن الوطني، إذ يرون أنها مسؤولية اجتماعية في مكافحة أي خطر قد يهدد الفرد في سلامته الجسدية أو المالية بكافة صوره وأثاره، فإذا أخفقت الدولة في رد الضرر، فإنها تكون ملزمة بواجب اجتماعي أساسه التضامن الوطني عن تعويض ضحايا هذا الخطر.

ومن أهم النتائج المترتبة على الاعتداد بالأساس الاجتماعي اعتبار التعويض منحة ومساعدة، أي لا تلتزم الدولة بالتعويض على أساس أنه حق بل تلتزم به أدبيا في صورة منحة تقدم لمن يحتاج إليها.

وقد أبرزت بعض التشريعات هذا المعنى صراحة منها القانون الإنجليزي الذي جاء في مشروع الحكومة البريطانية المقدم إلى مجلس العموم:” أن الدولة مسؤولة عن التعويض على أساس اجتماعي بحث وأن الحكومة لا تعتقد أن عليها واجبا مطلقا لحماية كل مواطن في كل وقت من الأوقات”[22]، كما  استعمل قانون ولاية كاليفورنيا كلمة مساعدة بدلا من كلمة تعويض ليضفي الطبيعة الاحتياطية والاجتماعية على التعويض من حيث كونه مساعدة أو إعانة وليس حقا مقررا لضحايا الجريمة، وقد أخد بهذا الاتجاه كذلك قانون نيويورك إذ ذكر أن تعويض ضحايا الجريمة هو بمثابة تبرع أو نوع من الإعانة، ولا يمنح إلا إذا أثبت الضحية أنه نشأت عن الجريمة ضائقة مالية خطيرة.

كذلك من نتائج هذا الاتجاه أن الدولة لها الحق في تحديد من يحتاج لتعويض، نظرا لاعتبار التعويض عند أنصار هذا الاتجاه نوع من المساعدة، لذا نجد معظم قوانين التعويض تنص على أن التعويض يمنح لمن وجد في ضائقة مالية شديدة أو أصيب بأضرار جسيمة مع وضع حد أقصى للمبلغ الواجب دفعه للضحية[23].

كما وجب أن يكون الجهة التي تقرر التعويض جهة إدارية طالما أن التعويض يعتبر مساعدة تقدم إلى من يحتاج إليها، فلا مانع من أن تقوم لجان إدارية تابعة للدولة بالإشراف على هذه المساعدات سواء بتحديد المبلغ المطلوب أو النظر في طلبات التعويض، وكذلك حسم النزاعات التي تنشأ عنه، حيث تقوم الدولة بتحديد أفراد هذه اللجان، وتوكل إليهم أعمالهم المراد قيامهم بها، وتحديد اختصاصات كل منهم، كما تحدد مكافأتهم وكيفية تعيينهم وعزلهم[24].

وأن هذا النوع من التعويض ذو طبيعة احتياطية، ويتميز هذا الأساس بالتأييد الكبير من الجانب الأغلب للدولة، لأنه يمثل الوضع الراهن للقوانين التي تنص على التعويض.

ومن أبرز التشريعات التي أخذت بهذا المعنى، ونصت صراحة على التزام الدولة بتعويض ضحايا الإرهاب مثلا، يأتي على أساس منحة للمجني عليه، حيث استعمل قانون ولاية كاليفورنيا مثلا كلمة المساعدة بدلا عن كلمة التعويض[25].

كما صار المشرع المغربي على نفس الاتجاه، حيث أصدر صاحب الجلالة ظهيرا[26] قضى بتخصيص تعويض ومساعدات مالية لضحايا الإرهاب وأسرهم، وذلك لوضع حد للآثار السلبية التي أفرزتها هاته الأحداث، ولسد الفراغ والعجز الذي تعرفه النصوص القانونية المطبقة والمنظمة للتعويض، لما يمكن أن تثيره من مشاكل في التطبيق، إذا ما تم ذلك على ضوء المبادئ العامة.

وقد تم تعويض لفائدة المستحقين من الأشخاص المتوفين في الاعتداءات الإرهابية الشنيعة التي تعرضت لها مدينة الرباط يوم 16 ماي 2003 منحة مالية إجمالية جزافية حددت في مبلغ 500.000 درهم عن كل ضحية من الضحايا، توزع على المستحقين وفقا للقواعد المنصوص عليها في المواد 11-12-13 من ظهير 2 أكتوبر 1984 المتعلق بتعويض المصابين في حوادث تسببت فيها عربات برية ذات محرك[27]، ونص هذا القانون على أن هاته المنح المالية تصرف من الميزانية العامة للدولة.

كما يمكن أن نضيف في هذا المجال ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي عرفها المغرب خلال سنوات الرصاص، حيث تم تخصيص مبلغ مهم كتعويض لضحايا الاضطهاد والقمع والاختفاء القسري والاعتقال التعسفي[28]، على ضوء تقرير المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان[29] المرفوع إلى صاحب الجلالة والذي حث على إصدار التوصيات الآتية:”إحداث لجنة خاصة يعهد إليها بإجراء تقييم شامل لمسلسل تسوية ملفات الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي، العمل على إيجاد حلول للضحايا، إعداد تقرير بمثابة وثيقة رسمية لهيئة الإنصاف والمصالحة المعهود لها بتقدير التعويض عن الأضرار المادية والمعنوية التي لحقت الضحايا.[30]

        بغض النظر من أساس تعويض الضحايا سواء أكان على سبيل المساعدة أو المنحة من الدولة كما يرى أصحاب الاتجاه القائل بمسؤولية الدولة الاجتماعية، أو العكس كما يرى أصحاب الاتجاه القائل بمسؤولية الدولة قانونيا نتيجة تقصيرها، هو أن تقتنع الدولة حقا بمسؤولياتها عن تعويض ضحايا المخاطر الاجتماعية، فأي دولة وظيفتها الأساسية الالتزام بكل ما يحقق مصالح الرغبة كلها، وعدم ترك الضحايا لوحدهم دون تعويض كيفما كان نوع الضرر ومصدره.

وأرى أيضا أن الحجج الموضوعة من بعض الفقهاء على اعتبار أن إلزام الدولة يمكن أن يشكل عبئا ماليا جديدا عليها إلى جانب أعبائها المالية الأخرى، مما يثقل كاهلها، فيمكن الرد عليه بأن ذلك العبئ المالي الجديد لا يقل أهمية وضرورة عن غيره من الأعباء المالية للدولة، كما أن للدولة مجموعة من الوسائل والمصادر التي ممكن للدولة التعويض عن طريقها الضحايا، سواء عن طريق الضرائب والغرامات والمصادرات.


[1] ـ ثورية لعيوني:” القضاء الإداري ورقابته على أعمال الإدارة، دراسة مقارنة” دار النشر، الجسور، الطبعة الأولى، 2005، ص: 213.

[2] ـ من ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حيث تنص المادة 22 منه على أنه لكل شخص بصفته عضوا في المجتمع الحق في الضمانة الاجتماعية وفي أن تحقق بوساطة المجهود القومي والتعاون الدولي وبما يتفق ونظم كل دولة ومواردها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والتربوية التي لا غنى عنها لكرامته وللنمو الحر لشخصيته، وهذا ما تم تأكيده سابقا في الدستور الفرنسي لعام 1946، فقد جاء في ديباجته على أن الفرنسيين متساوون ومتضامنون جميعا أمام الأعباء العامة الناجمة عن الكوارث الوطنية، وفي هذا الإطار أصدر المشرع العادي الفرنسي مجموعة من التشريعات تطبيقا للمبدأ الدستوري المتمثل في مبدأ التضامن الوطني منها:

+ قانون 21 مارس 1948 يمنح تعويضات إجمالية عن الكوارث التي أصابت الفرنسيين عام 1947.

+ قانون 3 أبريل سنة 1958 الذي يمنح تعويضات تتحملها الدولة للمتضررين من عاصفة ثلجية اجتاحت فرنسا.

+قانون 31 دجنبر سنة 1959 الذي يمنح تعويضات عاجلة لضحايا خزان مالبيست.

+ مرسوم 5 شتنبر 1960 الذي ينص على تخصيص مبالغ معينة لإغاثة ضحايا الكوارث العامة.

+ التشريعات الخاصة بالكوارث الطبيعية، وأخرى خاصة بالكوارث الزراعية لعام 1982.

+ التشريع الخص بمقاومة الإرهاب والاعتداء على امن الدولة 1986.

+  التشريع الخاص ببعض الأحكام الاجتماعية والذي يتضمن بعض النصوص المتعلق بتعويض ضحايا الإيدز 1991.

+ وأخيرا قانون حقوق المرض ونوعية النظام الصحي الصادر في 4 مارس 2002

[3] ـ لقد كتب Duguit بخصوص الحرب العالمية الأولى ما يلي:” إن الشعور العميق للتضامن الوطني الذي تركته  (الحرب) في جميع المخيلات سوف يترتب عنه عدة نتائج تنعكس على اتساع ميدان المسؤولية والتي ستعرض على الدولة، فقبل التصويت على قانون 17 أبريل 1919 بشأن التعويض عن الأضرار التي تسببت فيها الحرب، كان هناك شعور لاعتبار الدولة، أي الجماعة الوطنية، مسؤولة عن هذه الأضرار”.

لأكثر تفاصيل انظر لطيفة الخال:” مسؤولية الدولة عن تعويض أضرار الإرهاب، بحث لنيل الدكتوراه في الحقوق، جامعة محمد الخامس، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، الرباط، السنة الجامعية: 2012_2013، ص: 182.

[4] ـ معجم اللغة العربية المعاصرة، الموقع الالكتروني تم زيارته يوم 12 مارس 2017 الساعة 3 ظهرا www .magim. Com.

[5] ـ طارق فتح الله خضر:” فضاء التعويض” مسؤولية الدولة من أعمالها غير التعاقدية” دار النهضة العربية، 2006، ص: 291.

[6] ـ سورة المائدة، آية 2.

[7] ـ سورة التوبة، آية 60.

[8] ـ مصطفى محمد عمارة،”على رياض الصالحين للنووي:” دار الحديث بالقاهرة سنة 385هــ/1956م، ص: 17 وما بعدها.

[9] ـ نفس المرجع السابق، ص: 149.

[10] ـD. Truchet “  A propos et autour de la responsabilité hospitalière » Revue de droit sanitaire et social, janvier _ mars 1993, p : 1 et 3 .

[11] ـ  محمد أبو العلا عقيدة:” تعويض الدولة للمضرور عن الجريمة” دار الفكر العربي، 1988، ص: 24.

[12] ـ محمد عبد الهادي الشقنقيري:” محاضرات في تاريخ النظم القانونية والاجتماعية” دار النهضة العربية، 1994، الجزء الثاني، ص: 22.

[13] ـ  من هؤلاء الفقيه الفرنسي هوريو، انظر سعاد الشرقاوي:” المسؤولية الإدارية”، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية 1972، ص: 314.

[14] ـ د. يونس الشامخي، المرجع السابق، ص: 362.

[15] ـ عادل الفقي:” تعويض الدولة للمجني عليهم في جرائم الأشخاص” بحث بمجلة الأمن العام، عدد 110، 1985، ص: 276.

[16] ـ من ذلك قانون 21 دجنبر 1973 في فلندا حول تعويض المجني عليهم في جرائم العنف.

[17] -Stephen Schafer, »Compensation of victims of criminal offences » Paris,1973, P.122.

[18]  ـ راجع في المادة 1382 من القانون المدني الفرنسي، المادة 163 من القانون المدني المصري.

[19] ـ  راجع في ذلك انتقاد اللجنة العامة التي أنيطت بها مهمة وضع مشروع القانون الإنجليزية لتعويض المجني عليهم، حيث أشارت في تقريرها المقدم إلى البرلمان الإنجليزي سنة 1961، أن هذا الرأي مزعوم ووهمي وخطير في آن واحد، وكان النظام الإنجليزي أكثير صراحة من غيره من التشريعات الانجلو أمريكية، حيث أكد أن الحكومة لا تقبل الرأي القائل إن الدولة مسؤولية قانونيا عن التعويض.

[20] ــــ محمد أبو العلا عقيدة، المرجع السابق، ص: 32.

[21] ــــ كما فعلت بنيوز يلايدا وإنجليزا وولاية كاليفورنيا ونيويورك وغير ذلك من التشريعات.

_ انظر إلى : زكي زكي حسين زيدان:” حق المجني عليه في التعويض عن ضرر الشخص في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي” دار الفكر العربي، 2004، ص: 192.

[22] ـــــ محمد محمود مصطفى:” حقوق المجني عليه في القانون المقارن” دار النهضة العربية، 1975، ص: 131.

[23] ــــ محمد أبو العلا عقيدة، المرجع السابق، ص: 35.

[24] ـــــ أحمد عباس عبد البديع:” تدخل الدولة ومدى اتساع مجالات السلطة العامة” دار النهضة للنشر، 1999، ص: 105.

[25] ـ محمد يعقوب حياتي:” تعويض الدولة للمجني عليه في جرائم الأشخاص” رسالة دكتوراه، جامعة الإسكندرية، السنة الجامعية 1977/1978.

[26] ـ ظهير شريف رقم 1.03.178 صادر في 14 رجب 1424 الموافق ل 11 سبتمبر 2003 بتخصيص منحة مالية لفائدة المستحقين عن ضحايا الاعتداءات الإرهابية التي تعرضت لها مدينة الدار البيضاء يوم 16 ماي 2003، ج.ر، عدد 18/5143 بتاريخ 2003.09.15 ، ص: 3211.

[27] ـ ظهير شريف رقم 1.84.177 صادر في محرم 1405 (2 أكتوبر 1984) معتبر بمثابة قانون يتعلق بتعويض المصابين في حوادث تسبب فيها عربات برية ذات محرك، ج.ر، عدد 3753 بتاريخ 03/10/1984، ص: 930.

[28]_ إذا تم تحديد ما يقارب 84 مليون دولار كتعويض إجمالي لكافة الضحايا، للتوسع أكثر انظر:” أحمد شوقي بنيوب، هيئة التحكيم المستقلة _ مسار المقاربة المغربية لتسوية ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، المملكة المغربية، وزارة حقوق الإنسان، مركز التوثيق والإعلام والتكوين في مجال حقوق الإنسان، الطبعة الأولى، سنة 2004، ص: 8.

[29] _ وهي هيئة استشارية أسسها المغفور له الملك الحسن الثاني يوم 8 ماي 1990 الذي تمت إعادة تنظيمه بظهير الشريف 1.00.350 الصادر بتاريخ 15 محرم 1422 (10 أبريل 2001)، وتم استبدال المجلس الاستشاري بالمجلس الوطني لحقوق الإنسان بعد دستور 2011 بظهير شريف رقم 1.11.19.

[30] _ يونس الشامخي، المرجع السابق، ص: 360.

مدى رقابة القضاء الإداري على حجز وبيع العقارات من أجلتحصيل الديون العمومية.

إقرأ أيضاً

الرقابة على الدستورية والأمن القانوني دراسة في ضوء الإجتهاد القضائي الدستوري المغربي

الرقابة على الدستورية والأمن القانوني دراسة في ضوء الإجتهاد القضائي الدستوري المغربي Constitutional control and …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *