التحقيق الإعدادي في ظل مسودة المشروع
وقانون المسطرة الجنائية الحالية
تراجع في الحقوق أم مزيد من الضمانات؟.
ذ. محمد الزهري
طالب باحث في سلك الدكتوراه .
جامعة عبد المالك السعدي،كلية الحقوق طنجة
تنقسم المحاكمة الجنائية إلى مرحلتين أساسيتين، مرحلة ما قبل المحاكمة (البحث التمهيدي والتحقيق الإعدادي) ومرحلة المحاكمة فمرحلة ما قبل المحاكمة تمتاز بالطابع التفتيشي حيث تتقلص ضمانات المتهم (وإن كان المتهم يتمتع ببعض الضمانات أثناء التحقيق الإعدادي)، ومرحلة المحاكمة تمتاز بالطابع الإتهامي بما يوفره للمتهم من ضمانات لإثبات براءته[1].
والتحقيق الإعدادي باعتباره من مراحل ما قبل المحاكمة كما يصفه البعض[2] مرحلة وسطى، بحيث يتوسط مرحلة البحث التمهيدي الذي تباشره الشرطة القضائية، والمحاكمة الجنائية[3]، والهدف منه التحقيق الإعدادي هو تمحيص الأدلة من قبل جهات التحقيق، وتقديرها من أجل اتخاذ القرار المناسب[4].
ولا تخفى أهمية هذه المرحلة الدقيقة وفائدتها[5]، فهذه المرحلة مهمة لا بالنسبة للجهاز القضائي، ولا بالنسبة إلى المتهم، فهي مهمة بالنسبة للمحكمة لكونها تشكل أداة غربلة القضايا والاقتصار على القضايا المهمة فقط حيث تكون أدلة الإدانة قوية في حق المتهم، وهي مهمة جدا بالنسبة للمتهم[6] في حفظ كرامته وتجنيبه مشقة سوقه إلى ساحة المحاكمة ما دامت أدلة الإدانة غير كافية في حقه.[7]
وبالرجوع إلى قانون المسطرة الجنائية الحالية [8] نجد أن المشرع المغربي قد عالج مؤسسة التحقيق الإعدادي في القسم الثالث من الكتاب الأول المواد من 83 إلى 230، حيث قسم هذا القسم إلى خمسة عشر بابا تناول فيه الإجراءات المخولة لقاضي التحقيق والأوامر الممكن إصدارها بغية الوصول إلى الحقيقة والضمانات الواجب احترامها وغير ذلك، كما خص المشرع القسم الرابع من الكتاب الأول للغرفة الجنحية بمحكمة الاستئناف، حيث تختص بالتحقيق التكميلي…
ونحن في هذه الدراسة سوف نقتصر على التحقيق الإعدادي الذي يختص به قاضي التحقيق، حيث سنتعرض لكيفية تعيين قاضي التحقيق ونطاقه في ظل قانون المسطرة الجنائية الحالية (المحور الأول) ثم في ظل مسودة مشروع ق.م.ج(المحور الثاني) لنخرج بخلاصة مفادها أن المشرع المغربي من خلال تنظيمه لهذه المؤسسة، عمل على توفير مزيد من الضمانات للمشتبه فيه أم سجل تراجعا في الحقوق ؟
المحور الأول: التحقيق الإعدادي في ظل قانون المسطرة الجنائية الحالية:
سوف نتطرق في هذا المحور على تعيين قاضي التحقيق في ظل ق.م.ج الحالية وكذا القوانين التي سبقتها[9](أولا) ثم سنتطرق إلى نطاق التحقيق الإعدادي (ثانيا).
أولا: تعيين قاضي التحقيق:
يعتبر قاضي التحقيق قاضيا متخصصا يعين من بين أعضاء القضاء الجالس وليس من بين أعضاء النيابة العامة لمدة ثلاث سنوات يمكن تجديدها إن بشكل صريح وإن بشكل ضمني، -حيث إذا انتهت مدة تعيينه ولم يتم تعويضه ولم يطلب من التخلي فإنه يستمر في منصبه-.[10] وتجدر الإشارة إلى أن قاضي التحقيق في ظل ظهير الإجراءات الانتقالية كان يعين لدى محكمة الاستئناف.
ويمكن لوزير العدل إعفاء قاضي التحقيق بقرار (ف 6 و19 من ظهير الإجراءات الإنتقالية) وبالرجوع إلى قانون المسطرة الجنائية الملغاة، نجد ان هذا الأخير قرر نفس الإجراءات غير ان الاختلاف كان في طريقة إعفاء قاضي التحقيق من مهامه، حيث وإن كان يعطي لوزير العدل الحق في إصدار قرار بإعفاء قاضي التحقيق من مهامه، إلا انه كان يلزمه الحصول على رأي مكتب المجلس الأعلى للقضاء[11].
وبصدور قانون المسطرة الجنائية الحالية (ق 22.01) تجد م 52 منه تنص على :
ـ “يعين القضاة المكلفون بالتحقيق في المحكمة الابتدائية من بين قضاة الحكم لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد بقرار من وزير العدل، بناء على اقتراح من رئيس المحكمة الابتدائية.
ـ يعين القضاة المكلفون بالتحقيق في محاكم الاستئناف من بين مستشاريها لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد بقرار من الرئيس الأول بمحكمة الاستئناف.
يمكن خلال هذه المدة إعفاؤهم من مهامهم بنفس الكيفية، يباشر هؤلاء القضاة مهامهم وفق ما هو منصوص عليه في القسم الثالث بعده…”
إذن من خلال النص السالف الذكر وبأعمالنا لعملية المقارنة بينه وبين الفقرة السابقة يمكن إبداء الملاحظات التالية:
1.أن المشرع ظل وفيا لتعيين قاضي التحقيق بناء على قرار وزير العدل، وإن كان بناء على اقتراح من رئيس المحكمة الابتدائية أو الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف حسب الأحوال، والأجدر لو تم تعيينه من طرف الجمعية العمومية للمحكمة.
2.أن المشرع حافظ على نفس المدة (أي ثلاث سنوات) وقد ذكرنا في البداية أن قاضي التحقيق قاضي متخصص وبالتالي فالأجدر عدم تقييد مدة مهامه وتركها مفتوحة، بحيث كلما طالت مدة بقائه في منصبه كلما زادت خبرته[12].
3.أن المشرع استحدث مؤسسة قاضي التحقيق لدى المحكمة الابتدائية تماشيا مع إمكانية التحقيق الإعدادي بالمحكمة الابتدائية في مادة الجنح ( م 52 قانون المسطرة الجنائية).
4.أن قاضي التحقيق يظل تحت رحمة وزير العدل، حيث لهذا الاخير أن يعفيه من مهامه متى شاء حتى قبل انصرام أجل ثلاث سنوات، وفي ذلك مساس بحياد قاضي التحقيق واستقلاله.
ثانيا: نطاق التحقيق الإعدادي:
إن المنطق النظري لعلم الإجرام يقود إلى تبني وجوب تقرير التحقيق الإعدادي في جميع الجرائم أيا كان نوعها، إلا أن ذلك يقتضي توفير موارد مالية وبشرية مهمة لإنجازه. وبالرجوع إلى المشرع المغربي نجد أن هذا الأخير قد توسط في بداية الأمر ولم يأخذ بإلزامية التحقيق.بالنسبة لكافة الجرائم[13] وهكذا بالرجوع إلى الفصل 84 من ظهير 10 فبراير 1959 نجده ينص على “أن التحقيق الاولي يكون إلزاميا في القضايا الجنائية أما في القضايا الجنحية فيكون اختياريا، اللهم إذا كانت هناك مقتضيات خصوصية.
ويمكن أيضا إجراؤه في المخالفات إن التمس ذلك وكيل الدولة تطبيقا للفصل 44 أعلاه”.
فمن خلال مقتضيات الفصل أعلاه يتبين ان المشرع المغربي وإن لم يقرر التحقيق الإعدادي في كافة الجرائم، إلا أنه ساير نظيره الفرنسي وجعله إلزاميا في كافة الجنايات (وهي أخطر الجرائم) ومبدئيا بشكل اختياري في الجنح إلا إذا وجدت مقتضيات خاصة تجعل منه إلزاميا كما سمح بتمديده حتى في المخالفات إذا التمس وكيل الملك ذلك من قاضي التحقيق.
لكن بصدور ظهير الإجراءات الإنتقالية (ظ 28/09/1974) حصلت خلخلة كبيرة[14] بمؤسسة التحقيق الإعدادي، وهكذا أصبح التحقيق الإعدادي إلزاميا في الجنايات المعاقب عليها بالإعدام أو السجن المؤبد وكذا الجنايات المرتكبة من طرف الأحداث، واختياريا في باقي الجنايات أما الجنح فلا تخضع للتحقيق الإعدادي ما لم توجد مقتضيات خاصة، في حين لم تعد المخالفات تقبل أي تحقيق.
وهكذا يتبين حجم التقليص الواقع في مؤسسة التحقيق الإعدادي بحيث لم يعد إلزاميا إلا في حالات معينة تتمثل في الجنايات المعاقب عليها بالإعدام أو السجن المؤبد وكذا الجنايات المرتكبة من طرف الأحداث[15].
لكن بصدور قانون المسطرة الجنائية الحالي نجد المادة 83 تنص على:
“يكون التحقيق الإعدادي إلزاميا:
- في الجنايات المعقب عليها بالإعدام أو السجن المؤبد أو التي يصل حد الاقصى للعقوبة المقررة لها ثلاثين سنة.
- في الجنايات المرتكبة من طرف الأحداث.
- في الجنح بنص خاص في القانون
يكون اختياريا فيما عدا ذلك من الجنايات وفي الجنح المرتكبة من طرف الاحداث وفي الجنح التي يكون الحد الأقصى للعقوبة المقررة لها خمس سنوات أو أكثر”
من خلال النص السابق يتضح أن المشرع لم ير فائدة في الرجوع لا إلى النطاق المتوسع فيه (ظ1959) ولا إلى التضييق من نطاقه (ظ 1974) بل اختار حلا وسطا، حيث عمل على توسيع نطاق الجرائم الخاضعة للتحقيق بشكل إلزامي وكذا من نطاق الجرائم الخاضعة للتحقيق بشكل اختياري، وهو ما لم يكن متيسرا في ظهير الإجراءات الانتقالية[16].
إن أهمية التحقيق الإعدادي تكمن في كون أن قاضي التحقيق يقوم بإجراء بحث حول شخصية المتهم، وحالته العائلية والاجتماعية، بحيث لا يخفى ما لهذا الإجراء من اهمية تتمثل في التعرف على الظروف المحيطة بشخص المتهم والتي لا يخفى على أحد ما لها من تأثير على ملف القضية.
وبعد أن تعرضنا للتحقيق الإعدادي في كل من قانون المسطرة الجنائية الحالية والملغاة بقي لنا أن نتعرف على ما جاءت به مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية 17 نونبر 2014 وذلك في المحور المقبل.
المحور الثاني: التحقيق الإعدادي في ظل مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية
سنخصص هذا المحور للمستجدات التي جاءت بها مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية التي هيئتها وزارة العدل والحريات في 17 نونبر 2014م فيما يخص كيفية تعيين قاضي التحقيق)أولا( ونطاق التحقيق الإعدادي )ثانيا(، حيث سنبرز انعكاسات ذلك على حقوق الدفاع وضمانات المحاكمة العادلة.
أولا: تعيين قاضي التحقيق:
بالرجوع إلى المادة 52 من المسودة نجدها تنص على ما يلي:
“يعين القضاة المكلفون بالتحقيق في المحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف من بين قضاة ومستشاري الحكم فيها لمدة سنتين قابلة للتجديد من قبل الجمعية العامة للمحكمة.
يباشر هؤلاء القضاة مهامهم وفق ما هو منصوص عليه في القسم الثالث بعده…”.
على أساس ما سبق يتبين لنا أن تعيين قضاة التحقيق أصبح في ظل المسودة سواء في المحكمة الابتدائية ومحكمة الاستئناف يتم من قبل الجمعية العامة للمحكمة، وليس بقرار من وزير العدل، وفي ذلك تعزيز لضمان حياد قاضي التحقيق واستقلاله باعتباره هيئة قضائية مستقلة عن سلطة وزير العدل.
النقطة الثانية هي وكما سبقت الإشارة إليها في المحور السابق أن قاضي التحقيق قاضي متخصص تزداد حنكته كلما طال في منصبه. ولما قيدت المادة 52 مدة عمل هذا الأخير في سنتين[17] تكون ـ حسب رأيي ـ قد جانبت الصواب، وإن كانت نفس المادة خولت إمكانية تجديد هذه المدة والأجدر أن يتم تركها لمدة مفتوحة، ويمكن عند الاقتضاء إعفاء أو عزل قاضي التحقيق إذ طرأ طارئ من قبل الجمعية العامة للمحكمة.
ثانيا: نطاق التحقيق الإعدادي:
بالرجوع إلى مسودة المشروع وباستقراء مذكرة التقديم وبالضبط في الفقرة الثالثة المتعلقة بضمان نجاعة آليات العدالة الجنائية.وتحديثها تطرق واضعوا مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية إلى موضوع ترشيد التحقيق. ولأهمية هذه الفقرة نوردها كما يلي:
“في إطار تنزيل توصيات ميثاق إصلاح منظومة العدالة خاصة التوصية رقم 85. أقر هذا المشروع مبدا اختيارية التحقيق في الجنايات وحذفه في الجنح ما لم يقرره نص خاص”.
تبرز أهمية هذا التعديل في تلافي المشاكل التي أبانت عنها الممارسة القضائية لا سيما في تضخيم القضايا المحالة على التحقيق الإعدادي وما يترتب عنها من بطئ في الإجراءات وطول مدة البث في القضايا إضافة إلى ما تتوفر عليه المحكمة من صلاحية اللجوء إلى التحقيق التكميلي إذا إرتأت ضرورة في ذلك”[18].
وبالرجوع إلى المادة 83 مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية نجدها تنص:
“يكون التحقيق في الجنايات اختياريا.
لا يكون التحقيق في الجنح إلا بنص خاص”.
إن التحقيق الإعدادي يمثل ضمانة هامة للمتهمين ـ وهم المفترض فيهم البراءة في الأصل ـ ولحقوق الأفراد، فكم من حالة استغني فيها عن تقديم المشبوه فيهم إلى قضاء الحكم لتخلف أدلة المتابعة[19].
هذا وإذا كان التضييق من نطاق التحقيق الإعدادي الذي جاء به ظهير الإجراءات الإنتقالية لسنة 1974 قد لاقى انتقادات لاذعة من وسط الفقه لعدة اعتبارات[20] ليأتي القانون الحالي للمسطرة الجنائية محاولا التخفيف من الإنتقادات حيث عمل على التوسيع من نطاق التحقيق الإعدادي بأن جعله إلزاميا في الجنايات المعاقب عليها بالإعدام والمؤبد أو التي يبلغ حدها الأقصى ثلاثين سنة سجنا، والجنايات المرتكبة من طرف الأحداث مطلقا وعمل على إخراج الجنح من نطاق التحقيق ما لم يرد نص خاص بذلك. ليأتي واضعوا مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية ويضربوا كل هذه الانتقادات عرض الحائط ويجعلوا التحقيق الإعدادي اختياريا في الجنايات مطلقا والجنح لا يطالها التحقيق إلا بنص خاص!!!
إن التحقيق الإعدادي ضمانة هامة من ضمانات المحاكمة العادلة،[21]وإعماله هو تفعيل قرينة البراءة على أرض الواقع بدل الاكتفاء بالتنصيص عليها ـ سواء في الدستور ف 119 أو قانون المسطرة الجنائية م1 ـ وإفراغها من محتواها على الصعيد العملي!
وإذا كان ق.م.ج المغربي يستقي أغلب نصوصه من قانون المسطرة الجنائية الفرنسي فإننا نجد هذا الأخير ورغم التعديلات الكثيرة التي أدخلت عليه، فإنه حافظ على التحقيق الإلزامي في الجنايات مطلقا واختياريا في الجنح[22]، لا شك أن واضعي قانون المسطرة الجنائية الفرنسي يدركون مدى أهمية التحقيق الإعدادي ومدى الضمانات التي يوفرها للمشتبه فيهم لإثبات براءتهم، وأي مساس به إلا وينعكس سلبا على حقوق الدفاع، فكيف يعقل بالحفاظ على التحقيق في الجنح ـ وإن كان المشرع الزمه بضرورة توافر نص خاص يجيزه ـ وهي من الجرائم الأقل خطورة وجعله اختياريا في الجنايات مطلقا وهي اخطر الجرائم وتأتي على رأس هرم الجرائم الخطيرة والتي تصل العقوبة فيها إلى حد الإعدام!!!
تم التذكير في مذكرة التقديم حول ترشيد التحقيق أن واضعي مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية متأثرون بتوصيات ميثاق إصلاح منظومة العدالة خاصة التوصية رقم 85 منه هو الدافع الذي يجعل من التحقيق الإعدادي اختياريا في الجنايات واستثناء في الجنح، لكني أؤيد وأشاطر رأي الأستاذ محمد عياط[23] حيث خالف توصيات هيئة ميثاق إصلاح منظومة العدالة فإذا كانت تمة مشكلة فلا ينبغي معالجتها بمشكلة أفضع منها بكثير!فإذا كان واضعوا المسودة ذكروا أسباب التقليص من نطاق التحقيق نظرا للمشاكل التي أبانت عنها الممارسة القضائية والمتمثلة في تضخم القضايا المحالة على قاضي التحقيق وما يترتب عليه من بطئ في الإجراءات وطول مدة البث في القضايا…فإن الحل لا يكمن في قطع رأس المريض المصاب بالألم لنسكن ألمه، بل يكمن في تشخيص حالته من قبل الخبراء وإعطائه المسكنات اللازمة لمعالجة صداع رأسه.
لعل تجربة الدول التي ألغت مؤسسة التحقيق الإعدادي نهائيا ـ مثل إيطاليا ـ لم تحصد نتائج مرضية ولم تفلح في إيجاد وسائل فعالة للانتقال إلى النظام الإتهامي[24]كما أملت.
فالحل ـ في رأيي ـ يكمن في ضرورة تعيين قاضي التحقيق في منصبه لمدة غير محددة ليزداد تمرسا وحنكة، وفي توفير عدد مهم من قضاة التحقيق (سواء في المحاكم الابتدائية أو محاكم الاستئناف) للتخفيف من تكدس القضايا المعروضة عليهم، فدور قاضي التحقيق يكمن في تنقية القضايا المحالة على المحاكم، بحيث لا يبقى منها غير تلك المتوافرة ضد المتهم دلائل قوية على نسبة الجريمة إليه، بدل الإحالة المباشرة التي تقوم بها النيابة العامة، وما يسفر عنها من أخطاء قضائية فادحة[25] ويضطر معه قضاء الحكم بالقيام بالبحث التكميلي، وهو حسب رأي يبقى غير كاف ـ هذا إن لجات إليه ـ
هناك إشكال آخر يساهم إلى حد كبير في الحد من فعالية التحقيق الإعدادي ويتمثل الأمر بإشراف النيابة العامة على بعض مهام التحقيق الإعدادي حيث يتجلى هذا الإشراف في عدة مظاهر قاسمها المشترك أنها تعكس مساسا باستقلال قاضي التحقيق، وإخلالا
بمبدأ الفصل بين وظيفة التحقيق والمتابعة[26] وإختلالا في التوازن بين سلطة الاتهام والدفاع[27].
كما ان النيابة العامة تمتلك حق اختيار قاضي التحقيق في حالة تعدد قضاة التحقيق داخل نفس المحكمة، وهو ما يشكل مساسا سافرا في استقلال قاضي التحقيق ( م90 م.م.ق.م.ج التي بقيت بدون تعديل) كما أن المادة 91 من مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية تعطي الحق للنيابة العامة بتقديم طلب معلل للغرفة الجنحية لدى محكمة الاستئناف قصد سحب القضية من قاضي التحقيق المكلف ضمانا لحسن سير العدالة، غير أن السبب الحقيقي حسب البعض[28]يكمن في عدم تفاهم ممثل النيابة العامة وقاضي التحقيق أو عدم استجابة هذا الأخير لملتمساتها، واستبداله بآخر اكثر استعدادا لتبني أوامرها وملتمساتها.
والاخطر من ذلك هو تمكين النيابة العامة من ممارسة مهام التحقيق الذي يشكل خرقا واضحا لمبدأ الفصل بين سلطة التحقيق والمتابعة، إهدارا لحياد القضاء وضربة قاسية لحقوق الدفاع فقاضي التحقيق تتمثل فيه ضمانات الحياد وباعتباره حكما. وهذا ما تفتقره النيابة العامة ـ باعتبارها سلطة متابعة ـ حيث همها الوحيد بحث أدلة الإدانة ضد المتهم فكيف يمكن للطرف الواحد الجمع بين صفتي الخصم والحكم في نفس الآن!!![29]
بعد استعراض كل هذه الآراء ـ وهناك العديد من المواد التي لم تتناولها هذه الدراسة ـ يتبين بوضوح ـ حسب اعتقادي ـ أن نطاق التحقيق الإعدادي في ظل مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية يشكل تراجع خطير و مساسا بقرينة البراءة وضربا لحقوق الدفاع والمحاكمة العادلة.
وفي الختام لا يسعني إلا التذكير بالدور الهام الذي يلعبه قاضي التحقيق، حيث يتعين علينا أن نوليه مزيدا من الاهتمام وأن نجعل التحقيق الإعدادي إلزاميا في كافة الجنايات ـ _نظرا لخطورتها_ ـ ومبدئيا اختياريا في الجنح_ ما لم تبلغ درجة مهمة من الخطورة حيث تصبح إد ذاك إلزامية بنص خاص_ ـ كما يتعين توفير عدد كاف من قضاة التحقيق وتعيينهم بهذا المنصب لمدة غير محددة، لتفادي مشكل تكدس ملفات واكتضاض المحاكم بدل من التضييق من نطاقه.
وفي حالة تعدد قضاة التحقيق داخل نفس المحكمة ينبغي ترك مسالة اختيار القاضي المكلف بالتحقيق من طرف قيدوم قضاة التحقيق وليس بيد النيابة العامة عملا بمبدأ الفصل بين سلطة التحقيق وسلطة المتابعة.
[1]. شومي شادية: حقوق الدفاع خلال مرحلة ما قبل المحاكمة في النظام الجنائي المغربي (عناصر من أجل محاكمة عادلة) أطروحة دكتوراه الدولة: كلية الحقوق الدار البيضاء الجزء I 2003/2002 ص :36
[2]. أستاذنا عبد السلام بنحدو: الوجيز في شرح المسطرة الجنائية المغربية (مع آخر التعديلات) المطبعة والوراقة الوطنية ـ مراكش ـ الطبعة الرابعة 2001 ص: 119.
[3]. التي تباشرها المحكمة.
[4]. عبد الواحد العلمي: شروح في القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية الجزء الثاني: التحقيق الإعدادي، المحاكمة، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء الطبعة الثالثة 2012 ص:9.
[5]. عبد الواحد العلمي: م.س. ص 10.
[6]. وهو البريء من حيث الأصل بموجب الدستور الحالي (ف 119) وقانون المسطرة الجنائية الحالية والمسودة المادة 1
[7]. عبد الواحد العلمي: م.س ص 10
[8]. قانون رقم 22.01 الصادر بمقتضى ظهير شريف رقم 255.12 بتاريخ 13 اكتوبر 2002 الجريدة الرسمية عدد 5078 بتاريخ 30 يناير 2003 ص 328.
[9]. ظهير 1959 المتعلق بالمسطرة الجنائية الملغاة وكذا ظهير الإجراءات الإنتقالية 1974.
[10]. أستاذنا عبد السلام بنحدو: م.س.ص :121.
[11]. أستاذنا عبد السلام بنحدو: م.س. ص :121.
ـ تجدر الإشارة إلى أن بعض الفقه يرى بان رأي مكتب المجلس الأعلى ـ محكمة النقض حاليا ـ الذي كان يفرضه ف 53 من ظهير 1959 على وزير العدل أخذه قبل اتخاذ قرار إعفاء قاضي التحقيق من مهامه ظل رمزيا فقط.
ـمحمد عياط: دراسة في المسطرة الجنائية ج .1 هامش 13 ص 97.
[12]. عبد الواحد العلمي: م.س الجزء الثاني ص :27 .
[13]. عبد الواحد العلمي: م.س ص: 18.
[14]. عبد الواحد العلمي: م.س.ص :19.
[15]. يضيف أستاذنا عبد السلام بنحدو بان تضييق نطاق التحقيق الإعدادي على يد قاضي التحقيق فوت على الاطراف فرصة الطعن في قرارات قاضي التحقيق، بحيث أن الحالات التي لم تعد من اختصاص قاضي التحقيق أصبحت تحال على المحكمة بمجرد ما تصبح جاهزة للحكم من طرف النيابة العامة.
ـ أستاذنا عبد السلام بنحدو: م.س ص :121.
[16]. عبد الواحد العلمي: م.س ص 23.
[17]. كانت مدة تعيين قاضي التحقيق في قانون المسطرة الجنائية الحالية كما في الملغاة ثلاث سنوات قابلة للتجديد بدل سنتين قابلة للتجديد.
[18]. مذكرة تقديم مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية التي اعدته وزارة العدل والحريات. نسخة 17 نونبر 2014.
[19]. أستاذنا عبد السلام بنحدو: م.س. ص 119.
[20]. وهو الذي جعل التحقيق الإعدادي إلزاميا في الجنايات المعاقب عليها بالإعدام والمؤبد والجنايات المقترفة من طرف الأحداث ولا يطال التحقيق الجنح إلا بنص خاص .
[21]. تجدر الإشارة إلى ان ضمانات المحاكمة العادلة أصبحت في العصر الحالي من أهم مؤشرات حقوق الإنسان والحريات الفردية للدول ومعيار رقي أو تخلف الدولة.
[22]. محمد عياط: ملاحظات مبدئية حول بعض جوانب تعديلات قانون المسطرة الجنائية التي هيئتها وزارة العدل والحريات، ص: 25 .المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية يوليوز أكتوبر 2014.
[23]. محمد عياط: م.س ص: 25 .
[24]. شادية شومي: حقوق الدفاع خلال مرحلة ما قبل المحاكمة في القانون المغربي (عناصر من اجل محاكمة عادلة) أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في القانون الخاص كلية الحقوق الدار البيضاء الجزء الأول ص 207.
[25]. محمد عياط: م.س. ص 27 .
[26]. محمد جوهر: قراءة للمسطرة الجنائية المغربية من خلال بعض المهام المسندة للنيابة العامة، المجلة المغربية للقانون واقتصاد التنمية عدد 23 1990 ص: 14.
[27]. شادية شومي: م.س ص: 163 .
[28]. محمد جوهر: م.س ص: 15.
[29]. شادية شومي: م.س ص: 168 .