إشكالية الإختصاص القضائي في منازعات تحصيل الديون الضريبيةدراسة على ضوء القانون 15.97 المتعلق بمدونة تحصيل الديون العمومية و القانون 41.90 المحدث للمحاكم الإدارية

دراسة على ضوء  القانون 15.97 المتعلق بمدونة تحصيل الديون العمومية و القانون 41.90 المحدث للمحاكم الإدارية

عمـر بحبـو

طالب باحث 

 

مقدمة

تضطلع الضريبة بوظيفة بارزة في الحياة الاقتصادية و الإجتماعية في الدول الساعية إلى تحقيق تنمية شاملة ومستدامة تعود بالنفع على الشعوب والمرافق العامة على السواء، فقد أبانت – أي الضريبة – عن قدرتها في النهوض بأوضاع الأمم على جميع المستويات بفعل المساهمة الجماعية في التكاليف العمومية، لهذا كان إيلاء الضريبة بتنظيم قانوني من شأنه أن يأمن إستخلاص النتائج المرجوة منها في أحسن الظروف.

هذا، وقد إنخرط المغرب كغيره من البلدان السائرة في طريق النمو في سلسة من الإصلاحات همت مختلف أنواع الضرائب رغبة في تكريس توازن قانوني بين الإدارة الضريبية والملزم من جانب ثان، ذلك أن عدم إقرار معادلة قانونية في الحقوق والواجبات بين هذا وذاك قد يؤدي إلى تغليب كفة طرف على حساب طرق أخر، الأمر الذي قد يؤخر عملية الإستخلاص الضريبي المرتبط دائما بتحقيق أهداف إقتصادية و إجتماعية وتنموية.

والضريبة وفق هذا المفهوم تمر عبر ثلاث مراحل رئيسية، تتلخص المرحلة الأولى في تحديد المادة الخاضعة للضريبة أو ما يطلق عليها بمرحلة الوعاء الضريبي، أما المرحلة الثانية فهي مرحلة التصفية والتي على ضوئها تقدر الإدارة الضريبية القيمة المالية أو المبلغ الذي يجب أدائه عند حلول الأجل القانوني، وأخيرا مرحلة تحصيل الضريبة وهي محطة محورية من خلالها يقوم المحاسب المكلف بالتحصيل بمسك تلكم المستحقات وتحصيلها لتتكون في أخر السنة المالية الغلاف المالي المراد بلوغه، و الذي يسمح بإعلان إنطلاقة لمشاريع حكومية معينة برسم قانون مالية السنة، لهذا فإن أية منازعة في مرحلة التحصيل قد تعرقل مسار توجه برنامج إقتصادي بأكمله.

من أجل ذلك، تدخل المشرع المغربي بتنظيم إجراءات تحصيل الدين الضريبي بإقراره لمسطرة تتعلق بضابط للمتابعات والمطالبات فيما يخص الضرائب والأداءات المماثلة التي يستخلصها المحاسبون للضرائب والأداء، بموجب كل من ظهير 22 نونبر 1924 وظهير 21 غشت 1935، إلا أن الممارسة العملية لهاته المسطرة طرحت مجموعة من الصعوبات شكلت بدورها عائقا في وجه إجراءات التحصيل، ما عجل بالمشرع المغربي إلى إصدار قانون جديد لتحصيل الديون العمومية في شكل مدونة  بناءا على القانون رقم 97-15، هذا القانون حاول تفعيل موازنة جديدة بين سلطة الإدارة الضريبية في الحفاظ على تحصيل الموارد المالية في ظروف جيدة وحق الملزم في منازعة الإدارة كلما بدا له تعنت هذه الأخيرة وعدم إحترامها لإجراءات التحصيل كما نظمها القانون.

إن مسطرة تحصيل الديون الضريبية تثير على المستوى القانوني والعملي عدة إشكالات إن في الإختصاص القضائي أو شروط ممارسة دعوى التحصيل أو في جانب صعوبات التنفيذ على أموال الملزم، هذه الإشكالات التي إستقطبت إجتهاد القضاء الإداري وتارة القضاء العادي لإيجاد حلول مناسبة تراعي خصوصية دعوى التحصيل لإرتباطها الوثيق بحماية المال العام من تقاعس الملزمين عن الأداء، وحماية هؤلاء من شطط الإدارة وعدم إحترامها للنظم والقوانين الجاري بها العمل.

ولموضوع إشكالية الإختصاص القضائي في منازعات التحصيل أهمية بالغة تتجلى في بيان الجهة القضائية المختصة على وجه التحديد في كل جزئيات المسطرة، وأيضا في إستجلاء منبع هذا الإشكال وأساسه وذلك بعرض مختلف النصوص القانونية ذات الإرتباط بمنازعة التحصيل ومقابلة بعضها البعض للخلوص إلى مؤدى هذه الإشكاليات وأثرها على الإدارة والمزمين.

على هذا الأساس، يطرح موضوع الإختصاص القضائي في منازعات التحصيل إشكالية مركزية يمكن إجمالها كالتالي:

إلى أي حد إستطاع المشرع المغربي من خلال القانون 15-97 بمثابة مدونة تحصيل الديون العمومية أن يعالج إشكالية الإختصاص القضائي في دعوى التحصيل وكذا تنازع الإختصاص بين مختلف أنواع المحاكم بمناسبة النظر في هذه الدعوى؟

للإجابة على هذه الإشكالية نرى تناول الموضوع من خلال تصميم ثنائي وفق الشكل التالي:

المبحث الأول: الإختصاص القضائي في منازعات التحصيل والإشكالات المرتبطة به.

المبحث الثاني: إشكالية تنازع الإختصاص بين المحاكم في منازعات التحصيل.

 

 

المبحث الأول: الإختصاص القضائي في منازعات التحصيل والإشكالات المرتبطة به:

يقصد بالإختصاص القضائي صلاحية المحكمة للبت في الدعوى المعروضة عليها، كما يعرف الإختصاص القضائي انطلاقا من علاقته بالولاية القضائية، فإذا كانت الولاية تعني سلطة الحكم بمقتضى القانون الممنوحة لكافة محاكم الدولة فإن الإختصاص هو نصيب كل محكمة من هذه الولاية[1].

ويتوزع الإختصاص القضائي للمحاكم بين إختصاص نوعي وإختصاص محلي أو مكاني، فأما الإختصاص النوعي فهو يحدد نوعية القضايا التي يتعين على كل محكمة التقيد بالبت في نطاقها، دون الخروج عنها ومد يدها على باقي القضايا[2] الموكولة لمحاكم أخرى، أما الإختصاص المحلي فيراد منه إعطاء المحاكم صلاحية البت في الدعوى على أساس جغرافي معين، وقد تم تأسيس هذا الإختصاص المكاني في أفق تقريب القضاء من المواطن الذي كان في عهد قريب يتكبل عناء السفر ومشقته ليسجل دعوى أو ليحضر جلسة، وكذلك الرغبة في رفع الضغط الوظيفي الذي كان يشكل عبئا بالنسبة للمحاكم العادية قبل ظهور التخصص القضائي.

لقد كانت المنازعات الضريبية في ظل ظهير 1974 المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة يختص في النظر فيها[3] جميعها المحاكم الإبتدائية صاحبة الولاية العامة في عهدها، لكن بعد إحداث المحاكم الإدارية بموجب القانون 90-41 تم نقل الإختصاص في المنازعات الضريبية إلى هذه المحاكم دون غيرها، وأصبحت أحكامها تقبل الطعن بالإستئناف أمام محاكم الإستئناف الإدارية المحدثة بموجب القانون 03-80 بدل الغرفة الإدارية بمحاكم الإستئناف العادية، ذلك أن ميلاد هذا النوع من المحاكم وتخويله صلاحية البت في مختلف المنازعات الضريبية قد أرفقه تنظيم قانوني لإختصاصها النوعي والمحلي حتى تقوم بوظيفتها في هذا الباب (المطلب الأول).

أما على المستوى المسطري، فقد أحال القانون المتعلق بإحداث المحاكم الإدارية في المادة 7 منه على تطبيق القواعد المقررة في قانون المسطرة المدنية ما لم ينص قانون على خلاف ذلك، إلا أن هذه الإحالة وبالرغم من وضوحية صيغتها فهي تثير إشكالات عدة في الشق المتعلق بالدفع بعدم الإختصاص النوعي في منازعات التحصيل الضريبي (المطلب الثاني).

المطلب الأول: قواعد الإختصاص القضائي في المنازعات المتعلقة بالتحصيل:

لقد أصبحت المنازعات الضريبية بعد صدور القانون رقم 90-41 إختصاص أصيل للمحاكم الإدارية، وأصبح ينظر في إستئناف أحكامها من قبل محاكم الإستئناف الإدارية بعدما كانت المحاكم العادية والغرف الإدارية بمحاكم الإستئناف تنفرد بالبت في هذه المنازعات.

عليه، فقد نص الفصل 8 من قانون إحداث المحاكم الإدارية على أن هذه المحاكم تختص بالبت في الدعاوى المتعلقة بتحصيل الديون المستحقة للخزينة العامة، وعلى هذا الأساس تكون المحاكم العادية قد حلت محل المحاكم العادية في كثير من الإختصاصات من بينها المنازعة الضريبية، خاصة في شقها المرتبط بالتحصيل[4].

الفقرة الأولى: الإختصاص النوعي:

قلنا بأنه بعد إحداث المحاكم الإدارية بالمغرب أصبحت هي الجهة القضائية ذات الولاية العامة للظر في الدعاوى المتعلقة بتحصيل الديون المستحقة للخزينة العامة، بما فيها منازعات التحصيل[5]، وبهذا يكون المشرع المغربي قد عهد بهذا الإختصاص إلى محكمة متخصصة تطبيقا للتوجه الجديد في تقسيم النشاط القضائي وتوزيعه أملا في تحقيق نجاعة قضائية فعالة.

وقد تم تحديد مختلف الضرائب والرسوم التي تدخل ضمن إختصاصات المحاكم الإدارية من خلال المواد 33 و 34 و 35 من المدونة العامة للضرائب وهي كالتالي:

  • الضريبة على القيمة المضافة؛
  • الضريبة على الشركات؛
  • الضريبة على الدخل؛
  • رسوم التسجيل والدمغة؛
  • رسم الخدمات الجماعية؛
  • الرسوم المستحقة للجماعات الترابية ومجموعاتها.

إن هذا التعداد على مستوى الإختصاص يطرح تساؤل حول ما إذا كانت هذه القائمة واردة على سبيل المثال أم على سبيل الحصر، لأن هذا التساؤل نراه حاسم في القول بإختصاص المحاكم الإدارية للنظر في المنازعات المرتبطة بالضرائب والرسوم التي تخرج عن دائرة التحديد المذكور أعلاه.

إن الإجابة عن هذا التساؤل تعرج بنا إلى إستحضار مضمون الفصل 8 من قانون إحداث المحاكم الإدارية الذي يؤكد على أن كل المنازعات الضريبية هي من إختصاص القضاء الإداري دون الإشارة إلى أي إستثناء، فضلا على كون توحيد هذا الإختصاص في جهة قضائية واحدة سيساهم في عدم إرهاق الملزم وإدخاله في متاهات البحث عن المحكمة المختصة حسب نوع الضريبة أو الرسم.

على ذلك، تظهر أهمية توضيح الإختصاص النوعي للمحاكم الإدارية في دعوى التحصيل حتى يتمكن القاضي الإداري من مناقشة أي ملتمس يدلي به أطراف النزاع سواء تعلق بفرض الضريبة أو بوعائها أو بتحصيلها[6].

وإذا اعتبرنا أن تحديد الإختصاص النوعي في المنازعات الضريبية يعد مرحلة أساسية في مسطرة التحصيل، فإن الملزم يكون مقيدا بإتباع إجراء المطالبة الإدارية[7] أمام الجهة القضائية المشرفة على عملية التحصيل، وذلك قبل الإقدام على عرض النزاع أمام أنظار المحاكم الإدارية وهو مضمون المواد 117 و 118 من القانون 15-97 المتعلق بمدونة تحصيل الديون العمومية.

الفقرة الثانية: الإختصاص المحلي:

إذا كان المشرع المغربي قد حدد لكل محكمة نوعية القضايا التي تختص بالنظر فيها، فإنه بالإضافة إلى ذلك أتى على قواعد تؤطر الإختصاص المحلي لها، و يقصد بالإختصاص المحلي في منازعات التحصيل مدى صلاحية المحكمة الإدارية التي يؤول إليها إختصاص النظر في مثل هذه الدعاوى[8]، وعليه تضمنت المادة 10 من قانون 90-41 الإحالة على تطبيق قواعد الإختصاص المحلي كما ورد تنظيمها في ق.م.م  في الفصول من 27 إلى 30 وذلك أمام المحاكم الإدارية، تبعا لذلك فإن التطبيق الفعلي لهاته الإحالة يقتضي أن يقدم الملزم دعواه أمام المحكمة الإدارية التي يوجد بدائرتها الإدارة المعنية[9]، وإلا أثيرت إشكالية الدفع بعدم الإختصاص المكاني في مواجهة الملزم، ونفس الصورة تنطبق على المحاسب المكلف بالتحصيل الذي ينبغي عليه رفع الدعوى أمام الجهة القضائية المختصة مكانيا، وإلا تم التصريح بعدم الإختصاص المكاني.

إن الإشكال السابق، حتى وإن كنا قد طرحناه في شكل تطبيق فإنه لا يعدو أن يكون افتراضا على مستوى الخطاب لا غير، ذلك أن المشرع المغربي تفاديا منه لذلكم الإشكال الذي لا يخدم دعوى التحصيل لخصوصيتها ولأثرها الحاسم بشأن مصير الدين الضريبي، قد نص في المادة 141 من مدونة التحصيل على أنه (تعرض النزاعات التي قد تنشأ عن تطبيق أحكام هذا القانون على المحاكم الإدارية الموجودة بالمكان الذي تستحق فيه الديون العمومية).فإن الإختصاص المحلي في المادة الضريبية ينظر إليه حسب المكان الذي تستحق فيه الضريبة دون تطبيق مقتضيات الفصل 27 من ق.م.م والذي يقضي بإختصاص محكمة الموطن الحقيقي للمدعى عليه أو محل إقامته.

المطلب الثاني: إشكالية الدفع بعدم الإختصاص النوعي في منازعات التحصيل.

يقصد بالدفع بعدم الإختصاص النوعي إثارة كل معني بالأمر عدم صلاحية المحكمة بالبت في موضوع الدعوى المعروضة عليها، لتدخلها في إختصاص منوط بجهة قضائية أخرى، ويعرف الإختصاص النوعي بكونه شرط من شروط صحة الدعوى لقبولها صحيحة، حيث يمكن للمحكمة إثارة عدم الإختصاص هذا من تلقاء نفسها، نظرا لإرتباطه بفكرة النظام العام، ولا يسوغ التنازل مسبقا عن هذا الدفع، كما يمكن إثارته في جميع مراحل الدعوى، ولو لأول مرة أمام محكمة النقض[10].

والجدير بالذكر أن هذا الدفع الشكلي لم يكن الحديث يدور حوله قبل إحداث المحاكم المتخصصة ببلادنا، وذلك راجع للولاية العامة للمحاكم العادية حينها، لكن وبعد إحداث المحاكم الإدارية والمحاكم التجارية أصبحت تثار مسألة الدفع بعدم الإختصاص النوعي في منازعات التحصيل وما ارتبط به من إشكال يهم ما إذا كان هذا الدفع في مثل هذه المنازعات من النظام العام أم لا، ومدى إمكانية الإحالة على الجهة المختصة بعدم الإختصاص النوعي[11].

الفقرة الأولى: الإشكاليات القانونية المتصلة بالدفع بعدم الإختصاص النوعي.

يتضح من خلال الفصل 16 من قانون المسطرة المدنية أنه على أطراف الدعوى بما فيها دعوى التحصيل فيما يخص الدفع بعدم الإختصاص النوعي أو المحلي إثارته قبل أي دفع أو دفاع، وأنه لا يمكن إثارته في طور الإستئناف إلا بالنسبة للأحكام الغيابية، كما يؤكد نفس الفصل في فقرته الثانية بضرورة إرفاق هذا الدفع الإحالة على المحكمة المختصة وإلا كان الطلب غير مقبول، وأن الحكم بعدم الإختصاص النوعي يمكن لقاضي الدرجة الأولى أن يثيره من تلقاء نفسه.

إن القراءة المتمعنة لمقتضى هذا الفصل، يظهر منها كون المشرع المغربي لم يميز بين الدفع بعدم الإختصاص المحلي والنوعي وأخضعهما لذات الحكم والمسطرة، والحال أن الإختصاص النوعي يدخل ضمن مسائل النظام العام، فكيف يمكن غض الطرف مثلا عن تدخل محكمة إستئناف غير مختصة نوعيا في البت دون مواجهتها بهذا الدفع، بعلة أن هذا الأخير محكوم بشروط الفصل 16 من القانون ومنها واجبية إثارته أمام محكمة الدرجة الأولى، اللهم إذا حالف المدعي أو المدعى عليه الحظ وكان الحكم غيابيا بالنسبة للمعني بالأمر، وقتها أمكنه الدفع بعدم الإختصاص النوعي في طور الإستئناف، وهذه حالة ضيقة جدا بل غير قابلة للتجسيد على أرض الواقع بحكم المسطرة الكتابية[12] المفروض إتباعها أمام المحاكم الإدارية، فالأحكام الغيابية لا تصدر إلا في الدعاوى التي تكون المسطرة فيها شفوية.

الملاحظ كذلك أن الفصل 16 المذكور قد تم صياغته في ظل فترة لم يكن فيها المغرب يعرف التخصص القضائي، إذ كانت المحاكم العادية هي ذات الصلاحية العامة بحكم الفصل 18 من ق.م.م الذي منحها إختصاص النظر في مختلف الدعاوى تجارية إدارية مدنية، فقد كان هذا الفصل لا يطرح أدنى إشكال لغياب جهات قضائية[13] منافسة للمحاكم العادية في إختصاصها النوعي.

إلا أنه وبعد إحداث المحاكم الإدارية والتجارية أضحى للدفع بعدم الإختصاص النوعي معنى وإعتبار، لمعالجة أي إشكال في هذا الباب وذلك بوضع قواعد مشتركة بين المحاكم لضبط الإختصاص النوعي لها، هذا الإختصاص الذي بإحترامه ومراعاة قواعده تقوم المحاكم بوظيفتها القضائية في أجواء حسنة.

ولمعالجة هذا الإشكال تدخل المشرع المغربي مقرا إتصال الإختصاص النوعي بالنظام العام من خلال الفصول 12 و 13 و 14 من قانون 90-41، فالفصل 12 منه ينص على كون الإختصاص النوعي محكوم بقواعد النظام العام وللأطراف أن يدفعوا بعدم الإختصاص النوعي في جميع إجراءات الدعوى، كما على الجهة القضائية المعروضة عليها القضية أن تثيره تلقائيا، هذا والمستشف من خلال ذات المقتضى أن القانون سلك مسارا مختلف تماما لما سار عليه الفصل 16 من ق.م.م، فإذا كان الأطراف في منازعات التحصيل قبل إحداث المحاكم الإدارية يتقيدون بمسطرة الدفع تلك دون أن يكون لها إتصال بالنظام العام، فإن أطراف المنازعة الضريبية في مرحلة التحصيل يمكنهم إثارة هذا الدفع في كل مراحل الدعوى ولو أمام محكمة النقض حماية لحقوق المتقاضين و للدين الضريبي من تدخل جهات قضائية غير مختصة وما يرتبه ذلك من إشكالات كثيرة، لا لشيء إلا لإغفال تنظيم قاعدة مسطرية بسيطة.

الفقرة الثانية: الإشكاليات العملية المثارة بمناسبة الدفع بعدم الإختصاص النوعي.

إذا كان الدفع بعدم الإختصاص النوعي في دعوى منازعات التحصيل يثير عدة إشكالات على مستوى النصوص القانونية، لاسيما التضارب الحاصل بين ق.م.م في فصوله المتعلقة بالإختصاص المحلي وبين القانون 90-41 بمثابة قانون إحداث المحاكم الإدارية في تأصيل النظام العام وربطه بالإختصاص النوعي في دعاوى المنازعات الضريبية، فالملاحظ أيضا في الجانب التطبيقي أنه تمت صعوبات بخصوص عرض دعوى التحصيل على غير المحاكم الإدارية الجهة المؤهلة لذلك، فمن هذه الإشكاليات ما إشترطه قانون المسطرة المدنية من ضرورة ضم الدفع بعدم الإختصاص النوعي إلى الجوهر[14] لا البت فيه بموجب حكم مستقل، وهذا يتمخض عليه كون أن الطرف الذي يريد الطعن في هذا الدفع عليه أن يطعن في الحكم برمته، لأن المشرع لم يخصص جزاءا محددا عن عدم البت في الإختصاص بحكم مستقل، ضف على ذلك أن الطعن بالإستئناف في هذا الحكم الذي ضم الدفع بعدم الإختصاص يرتب هو الأخر إشكالية ثانية، تجد أساسها في كون أن محاكم الإستئناف الإدارية أصبحت هي الجهة الوحيدة المختصة في النظر في طعون الإستئناف بالنسبة لإختصاص المحاكم الإدارية، وأن محكمة الإستئناف ستبث في مسألة لا تدخل ضمن نطاق إختصاصها، الفرضية التي قد يتمخض عنها تداخل وتنازع في الإختصاص.

من أجل إيجاد حلول لهذه الإشكالية، ذهب بعض الفقه المغربي كــ”مصطفى التراب” إلى القول بإمكانية إستئناف الحكم الإبتدائي في الجانب المتعلق بالدفع بعدم الإختصاص النوعي أمام محكمة الإستئناف الإدارية، ولو ضمت محكمة الأولى الدرجة الدفع إلى الموضوع – أي الجوهر – مراعاة للإختصاص المخول لمحاكم الإستئناف الإدارية، حيث لم يعد هناك مجال لتدخل محاكم الإستئناف للبت في مثل هذه الطعون، وقد نهج هذا الاتجاه عمل محكمة الإستئناف بالرباط في قرارين لها الأول صدر بتاريخ 2000/05/11 بالملف رقم 99/6673 والثاني بتاريخ 2000/12/21 بالملف عدد 2000/6336، ونحن في هذا السياق نؤيد هذا التوجه الفقهي والعمل القضائي الذي تلاه فيما بعد، لأن من شأن الطعن في الحكم بناءا على الصورة السابقة سيدخلنا في تنازع للإختصاص و تضارب في الأحكام والأمر كله في أخر المطاف يحكمه مبدأ تخصص القضاء وتنوعه.

الجدير بالذكر، أنه إذا كانت مقتضيات الفصول 12 و 13 و14 من قانون إحداث المحاكم الإدارية تخاطب كلا من المحاكم العادية والإدارية بخصوص مسألة الإختصاص النوعي وإرتباطه الوثيق بفكرة النظام العام التي تجعله في مرتبة متميزة تفرض على القاضي البت فيه بموجب أحكام مستقلة لا إدراجها ضمن الجوهر، فإن ما دأبت عليه بعض المحاكم في أحكامها قد خالف هذه القواعد، ومن أجل توضيح الأمر أكثر فقد صدر عن المحكمة الإبتدائية بالناظور في الملف عدد 97-21 حكم يقضي بعدم الإختصاص النوعي لفائدة المحكمة الإدارية ليس بحكم مستقل وإنما في جوهر النزاع، أعقبه بعد ذلك قرار لإستئنافية الناظور قضى بتأييد قرار المحكمة الإدارية بإعتبار أن الإختصاص يرجع إلى المحكمة الإدارية بالبت في الطعون الإستئنافية المتصلة بإختصاصها.

من خلال ما سبق يمكن القول أن منازعات تحصيل الديون الضريبية تصنف ضمن المنازعات الضريبية الأكثر إثارة للإشكاليات بمعدلات مرتفعة ونسب متفاوتة، ولعل الإختصاص القضائي وما يتفرع عنه من صعوبات لخير حجة فيما خلصنا إليه في هذا المبحث، علاوة على تمدد هذه الإشكالات وتجليها في مواد مختلفة، كالحجز على منقولات وعقارات الملزم وأصوله التجارية، وكذلك في تطبيق مسطرة الإكراه البدني[15] كوسيلة لإجبار المدين الضريبي لأداء ما عليه من ضرائب ورسوم في الأجال المحددة.

 

 

المبحث الثاني: إشكالية تنازع الإختصاص بين المحاكم في منازعات التحصيل.

بالرجوع إلى أحكام مدونة تحصيل الديون العمومية، نجد المشرع المغربي يحيل على تطبيق مقتضيات ق.م.م كلما لم يوجد مقتضى خاص في هذا القانون، وتارة أخرى يكتفي بالإحالة على المحكمة المختصة دون أي تحديد[16]، وفي ذات النص نجده يؤكد بموجب المادة 141 من مدونة تحصيل الديون العمومية على إختصاص المحاكم الإدارية في جميع النزاعات التي تنشأ عن تطبيق أحكام هذا القانون.

إن صياغة المادة 141 جاءت فضفاضة حيث خولت للمحاكم الإدارية إختصاصا شاسعا للنظر في كل الإجراءات المتفرعة عن منازعات التحصيل، ليكون بذلك النص قد أقصى إختصاص المحاكم التجارية والمحاكم العادية في التدخل في هذه المنازعات، مع العلم أن مساطر من قبيل الحجز على المنقولات والعقارات في حالة عدم كفاية المنقولات[17]، هي إختصاص تقليدي لهذه المحاكم الأمر الذي يدعو إلى مناقشة هذه الإشكاليات وتناول أنجع الحلول المناسبة لها (المطلب الأول).

والملاحظ أيضا أن المادة 141 تتناقض مع أحكام المادة 68 من نفس القانون التي يدور مضمونها حول منح الإختصاص للمحاكم التجارية بشأن بيع الأصل التجاري لتحصيل الدين الضريبي، فضلا عن تنازع الإختصاص بين المحاكم بخصوص تطبيق مسطرة الإكراه البدني كوسيلة لإجبار المدين على الأداء (المطلب الثاني).

المطلب الأول: تنازع الإختصاص في الحجز على منقولات وعقارات الملزم.

تشمل مسطرة التحصيل على مجموعة من العمليات تمكن القابض أو المحاسب[18] من مسك المبالغ المستحقة للدولة[19]، ولتنفيذ هذه المهام خول المشرع المغربي للإدارة الضريبية صلاحية طلب إيقاع حجز على ممتلكات المدين الملزم لإجباره على أداء دينه الذي يشكل في نظر الدولة مال عام يجب ضمان إستخلاصه بسلوك أي مسطرة تسعف الإدارة في ذلك.

إلا أن الإشكال الذي يطرح في هذا السياق هو غموض القانون رقم 15-97 في ضبط إختصاص المحاكم في الحجز على منقولات وعقارات الملزم، ليبقى التنازع قائما بين المحاكم حول من لها صلاحية النظر في إجراءات حجز المنقولات وبيعها (الفقرة الأولى)، ليبقى التساؤل مفتوحا حول المحكمة المختصة في الحجز على عقارات الملزم أهي المحاكم الإدارية التي تستند إلى المادة 141[20] من مدونة التحصيل أم المحاكم العادية بإعتبار أن الحجز على العقارات هو من أصل شؤون مساطرها بحكم خضوعه لمقتضيات ق.م.م حالها كحال باقي محاكم المملكة (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: تنازع الإختصاص بين المحاكم في الحجز على منقولات الملزم.

تنص المادة 47 من مدونة تحصيل الديون العمومية في باب الحجز على منقولات الملزم، على أنه إذا وجد مأمور التنفيذ أو التبليغ التابع للخزينة العامة عند محاولته إجراء الحجز، أن دائنا سابقا قد أوقع الحجز على منقولات الملزم، فإنه يتبع مسطرتين إثنتين: فإما أن تكون تلك المنقولات[21] قد تم حجزها بكاملها، ففي مثل هذا الوضع يكتفي بجرد تلك المحجوزات بعد الإطلاع عليها مليا ثم يعبر عن نيته في التدخل في الحجز بإخبار الحاجز الأول والملزم المحجوز عليه، ويعتبر هذا التدخل بمثابة تعرض على حصيلة بيع المحجوز أو بصيغة أخرى المشاركة في توزيع منتوج البيع.

أما المسطرة الثانية فهي تفعل في حالة عدم شمولية الحجز لكل منقولات الملزم، فمن خلالها يقوم مأمور التنفيذ على الفور بإجراء ما يسمى بالحجز الأوفر، ويضم الحجزين معا، اللهم إذا تم الشروع في بيع الأشياء المحجوزة في السابق عملا بقاعدة الأسبق تقييدا الأول رتبة، والحال أن دين الدولة لا يسمو على بعض الديون التي إرتقت إلى مصاف الديون الممتازة على الدين الضريبي.

الإشكال الذي يطرح بقوة في هذا الإطار هو حينما يتدخل مأمور التبليغ أو التنفيذ التابع للخزينة بناءا على المادة 47 من القانون بطلب إيقاع حجز إرتهاني أمام المحكمة الإبتدائية، لكن الملزم المدين لاحظ أن دينه الضريبي قد سقط بالتقادم أو بإعفاء ضريبي صادر عن الإدارة أو لأي سبب من أسباب الإبراء عامة، فيتقدم من جانبه بدعوى أمام المحكمة الإدارية لإلغاء الدين الضريبي أو لإيقاف إجراءات التنفيذ مؤقتا حتى تقول المحكمة كلمتها في جوهر النزاع[22]، وفي نفس الوقت كانت دعوى الحجز الإرتهاني معروضة أمام القضاء العادي، فإن من شأن هذا التوزع في عرض الدعاوى أن يثير تنازع في الإختصاص بين المحاكم الإدارية والمحاكم الإبتدائية، نظرا لكون هذه الأخيرة ينظر إليها بالجهة الأصل للبت في مؤسسة الحجوز بإختلافها، كما أن طلبات وقف إجراءات التنفيذ الدين الضريبي تدخل ضمن إختصاصات رئيس المحكمة الإدارية بإعتباره قاضيا للمستعجلات كما أكدت ذلك بعض الأوامر الصادرة عن رؤساء المحاكم الإدارية بالمملكة.

ولنفترض جدلا، أن المحاسب المكلف بالتحصيل تدخل للمرة الثانية بناءا على المادة 99 من مدونة تحصيل الديون العمومية[23] التي تنص على التضامن المفترض بين مالك الأصل التجاري والمسير الحر في أداء الضرائب والرسوم المتصلة بنشاط ذلك الأصل التجاري، لكن حدث أن تدخل الملزم بدعوى بطلان الضريبة أو الرسم التي باشر المحاسب المسطرة بشأنها أمام المحكمة الإدارية وتلاها بطلب إيقاف إجراءات بيع الأصل التجاري أمام المحكمة التجارية، كون هذه الأخيرة يعود لها وحدها إختصاص النظر في منازعات الأصول التجارية بنص المادة 5 من قانون إحداث المحاكم التجارية[24]، أليس من شأن هذه الصورة خلق تنازع في الإختصاص بين القضاء التجاري والقضاء الإداري في الحجز على منقولات الأصل التجاري.

الفقرة الثانية: تنازع الإختصاص بين القضاء العادي والقضاء الإداري في الحجز على عقارات الملزم.

نود أن نشير في بداية هذه الفقرة بما أن الفصل 7 من قانون 90-41 المتعلق بإحداث المحاكم الإدارية يحيل على تطبيق قواعد قانون المسطرة المدنية، فإن الحجز على العقارات والتنفيذ عليها لا يستقيم شروعه قبل التنفيذ على منقولات المدين سواء أكان ملزم بدين ضريبي أو ملتزم بدين عادي، فعند بيع هذه المنقولات قد يظهر أن منتوجها غير كاف لتسديد الدين، حينئذ يتم حجز العقارات وبيعها، لكن الإستثناء الوارد على هذه القاعدة والذي تضمنه الفصل 469 من ق.م.م أنه يمكن التنفيذ على العقار قبل المنقول في حالة ما إذا كان الدائن – قد تكون الإدارة الضريبية بنفسها – مستفيدا من ضمان عيني كرهن رسمي عقاري.

وعليه، فقد نصت المادة 67 من مدونة تحصيل الديون العمومية على أنه في حالة عدم كفاية المنقولات أو عند عدم وجودها[25]، يمكن القيام بحجز العقارات وبيعها، ويتم الحجز بكل الإجراءات التابعة له من طرف أعوان التبليغات والتنفيذات القضائية طبقا لأحكام قانون المسطرة المدنية.

إنطلاقا من هذا الفصل وبناءا على مضمونه الذي أثار جادة تنازع حقيقي في الإختصاص تطرح الإشكالية التالية:

ما هي المحكمة التي ينعقد لها الإختصاص في حجز عقار الملزم وبيعه أهي المحكمة الإدارية بصريح المادة 141 التي وسعت من دائرة إختصاص هذه الأخيرة بتنصيصها على أن كل النزاعات الناشئة عن تطبيق أحكام هذا القانون تعرض على المحاكم الإدارية، وأن إحالة الفصل السابع هي إحالة على تطبيق قواعد ق.م.م من قبل المحاكم الإدارية، وليس هذا يعني إختصاص المحاكم العادية، أم أن المحكمة العادية هي المختصة باعتبارها الجهة القضائية التي يدخل في مجال إختصاصها الطبيعي قضايا العقار وأحواله؟

للإجابة عن هذه الإشكالية نجسد الصورة الأولى على أرض الواقع مفترضين أن حجز العقار وبيعه من إختصاص المحاكم الإدارية، وقام أعوان التبليغ التابعين لهذه المحكمة بحجز العقار، فإنه قد ترفع من جانب أخر دعوى استحقاق فرعية أمام المحكمة العادية عملا بالفصلين 482 و 483 من ق.م.م وقد يترتب على هذه الدعوى وقف التنفيذ من قبل  القضاء العادي طبقا للفصل 483 المذكور، كما قد يحصل من زاوية أخرى طعن ببطلان إجراءات الحجز وفق ما ينص عليه الفصل 484 من القانون، ويترتب عليه نفس الأثر السابق والمتمثل في وقف التنفيذ من طرف القضاء العادي، ألا تدخل هذه الإختصاصات من صميم عمل المحاكم العادية، ذلك أن من شأن تخويل المحكمة الإدارية النظر في الحجز على عقار الملزم سيساهم في خلق تنازع في الإختصاص بين المحاكم الإدارية والمحاكم العادية، وما يؤكد طرحنا في هذا السياق أن مدونة التحصيل قد أجابت عن هذا الإشكال بمفهوم المخالفة حينما نصت في مادتها 121 على أن دعوى إستحقاق المنقول تعرض أمام القضاء الإداري[26] ليترك صلاحية النظر في حجز العقار وبيعه للمحاكم العادية دون غيرها تفاديا لأي تنازع يطيل مسطرة دعوى التحصيل ويرمي بضلاله على حقوق الإدارة والملزم الضريبي.

المطلب الثاني: تنازع الإختصاص بشأن الحجز على الأصل التجاري وسلوك مسطرة الإكراه البدني.

إذا كانت المنازعة الضريبية تعرف بالحالة القانونية الناشئة عن وجود خلاف بين الملزم  والإدارة بمناسبة قيام هذه الأخيرة بتحديد وعاء الضريبة أو تصفيتها أو تحصيلها[27]، فإن قضاء المحاكم بدوره في هذه المنازعات يدخل في تنازع وتجاذب للإختصاص إما لغياب تحديد المشرع للجهة القضائية المختصة، أو لسوء قراءة بعض مضامين مدونة تحصيل الديون العمومية وقانون إحداث المحاكم الإدارية خاصة الفصل 7 منه الذي يحيل على تطبيق قواعد قانون المسطرة المدنية، فقد حمل البعض هذه الإحالة على تطبيق بعض قواعد المسطرة المدنية أمام المحاكم الإدارية فيما ذهب اتجاه أخر إلى تأويل هذا الفصل بإعتباره يسند الإختصاص إلى المحاكم العادية المعتمدة على قانون المسطرة المدنية في مجال تخصصها العادي، كون المشرع المغربي أتى بمساطر خاصة بشأن المنازعات الضريبية في القانون 90-41 المحدث للمحاكم الإدارية.

على أساس ذلك، فإنه في سبيل الفصل في دعوى منازعة التحصيل يثار تنازع في الإختصاص بين المحاكم التجارية والمحاكم الإدارية في حجز وبيع الأصل التجاري للملزم الضريبي (الفقرة الأولى) كما يمتد هذا التجاذب القضائي ليشمل مسطرة الإكراه البدني في حق الملزم تاركا المحاكم الإدارية والمحاكم العادية تدلي بدلوها في الموضوع لجذب الإختصاص أكثر لجهتها (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: تجاذب الإختصاص بين القضاء التجاري والقضاء الإداري في حجز وبيع الأصل التجاري.

أسند المشرع المغربي إختصاص النظر في حجز وبيع الأصل التجاري فيما يتعلق بدعوى تحصيل الدين الضريبي إلى المحاكم التجارية، فالمادة 68 من مدونة تحصيل الديون العمومية تنص على أنه يتم تنفيذ حجز الأصول التجارية وبيعها وفقا للشروط والأحكام المنصوص عليها في مدونة التجارة، لكن رغم ذلك ظهرت بعض الأصوات تنادي بتخويل المحاكم الإدارية حق حجز الأصل التجاري وبيعه[28]، إما بمفردها بالاستشهاد بأحكام المادة 141 التي منحت المحاكم الإدارية صلاحية النظر في كل النزاعات التي تجر إلى تطبيق القانون 15-97 دون أن تستثني أية حالة، أو تخويلها حق مزاحمة المحاكم التجارية في هذا الإختصاص نظرا أن ما أقرته المادة 68 من القانون لا يعدو أن يكون رخصة لتطبيق المحاكم الإدارية لمساطر حجز الأصل التجاري وبيعه كما وردت في مدونة التجارة، وهذا هو عين الإشكال المطروح الذي يجرنا للتساؤل فيما إذا كان من الممكن للمحاكم الإدارية حجز الأصل التجاري للمزم وبيعه طبقا لأحكام مدونة التجارة أم لا؟

للإجابة عن هذا الإشكال نعرض ملاحظتين من شأنهما بيان مصدر الإشكال وأساسه:

الملاحظة الأولى: أن القراءة السطحية للمادة 141 من مدونة تحصيل الديون العمومية يفهم منها إختصاص المحاكم الإدارية[29] في كل نزاع يقتضي تطبيق نص هذا القانون معمما، لا يسمح بتدخل جهة قضائية ثانية للنظر في إجراء من إجراءات تحصيل الدين الضريبي[30]، إلا أن القراءة المتأنية لهذا الفصل يبدو معها أن المحاكم الإدارية هي المختصة في هذه الدعوى حين لا يأتي فصل من صلب القانون على إستثناء يقضي بمنح الإختصاص المذكور لمحاكم أخرى، ولعل ما ذهب إليه المشرع من وراء المادة 68 هو تلميح ضمني إلى إختصاص المحاكم التجارية لدواعي سنأتي على إستجلائها في الملاحظة الثانية.

الملاحظة الثانية: إذا كانت المادة 68 قد نصت على تطبيق مقتضيات مدونة التجارة في باب حجز الأصول التجارية وبيعها فإنها لم تشر بصريح العبارة على إختصاص المحاكم التجارية في ذلك، لكن وبرجوعنا إلى القانون المتعلق بإحداث المحاكم التجارية في المادة 5 منه نجدها تنص على أن المحاكم  التجارية هي المختصة نوعيا بالبت في النزاعات المتعلقة بمنازعات الأصول التجارية[31]، علاوة على ذلك، فإن المادة 11 من نفس القانون تنص على كون دعوى الإجراءات التحفظية من قبيل إجراء تحفظي تمهيدا لبيع أصل تجاري تختص فيه المحاكم التجارية دون غيرها، فترتيبا على هذه الدفوع يظهر أن المحاكم الإدارية غير مختصة بالنظر في حجز وبيع الاصل التجاري.

على أساس هاتين الملاحظتين، نخلص أن المحاكم التجارية هي وحدها المختصة في حجز الأصل التجاري وبيعه المتصل بإستخلاص دين ضريبي، ويضيف بعض الفقه كالأستاذ “محمد قصري”[32] أنه في ظل ظهير 1935 كانت تقدم دعوى حجز الأصل التجاري أمام القضاء العادي وذلك من طرف الخزينة العامة للمملكة، مما يفيد إختصاص المحاكم التجارية فيما لو كانت مؤسسة في ظل الظهير المذكور.

الفقرة الثانية: تذبذب الإختصاص في مسطرة الإكراه البدني بين القضاء الإداري والقضاء العادي.

يعد الإكراه البدني في حق الملزم أخر إجراء قانوني يلجأ إليه المحاسب المكلف بالتحصيل في الحالة التي لا تؤدي فيه طرق التنفيذ من حجز وبيع المنتوج إلى أية نتيجة، ومن أجل ذلك نجد المشرع المغربي يسند من خلال المادة 80 من مدونة تحصيل الديون العمومية إختصاص تحديد مدة الإكراه البدني إلى رئيس المحكمة الإبتدائية بإعتباره قاضيا للمستعجلات وكل ذلك بعد تأشير رئيس الإدارة[33]، وعندما يبت رئيس المحكمة الإبتدائية في الإكراه البدني بتحديد مدة له، يحيله على وكيل الملك لدى المحكمة المختصة قصد التنفيذ، أما عن بطلان مسطرة الإكراه البدني فيختص بالبت فيها رئيس المحكمة الإدارية عملا بمقتضيات المادة 141 من مدونة التحصيل[34] فهو يستمد إختصاصه من إختصاص المحكمة الإدارية نفسها، إلا أن الإشكال اللافت في هذا الباب هو عن الجهة المختصة في إيقاف مسطرة الإكراه البدني أهي مؤسسة رئيس المحكمة الإدارية أم رئيس المحكمة العادية؟

لقد ذهبت بعض الاتجاهات إلى إسناد الإختصاص إلى رؤساء المحاكم الإبتدائية[35] في حين ذهب رأي أخر إلى القول بإختصاص رؤساء المحاكم الإدارية في إيقاف مسطرة الإكراه البدني[36]. ومن التطبيقات القضائية التي إعترفت بعدم إختصاص مؤسسة رئيس المحكمة الإدارية في إيقاف المسطرة، نرصد أمرا صادر عن رئيس إدارية وجدة في ظل الظهير الملغى لسنة 21/08/1935 وقد جاء فيه مايلي: (حيث لما كان الطالب معتقلا في إطار تنفيذ الإكراه البدني في ظل مقتضيات ظهير 21/08/1935 تبقى مقتضيات الفصل 683 من قانون المسطرة الجنائية هي الواجبة التطبيق في النازلة ويكون معها رئيس المحكمة الإبتدائية هو المختص بالبت في الطلب ووكيل الملك لها هو المؤهل قانونا لرفع حالة الإعتقال وإطلاق سراح الطالب في إطار تنفيذ أمر رئيس المحكمة حالة الإستجابة للطلب دون القضاء الإستعجالي لهاته المحكمة).

علاوة على التوجه القضائي السالف الذكر، فإن بعض وكلاء الملك لم ينفذوا بعض الأوامر الإستعجالية الصادرة عن رؤساء المحاكم الإدارية لإيقاف مسطرة الإكراه البدني لإستخلاص ديون الدولة، بدعوى أنها أوامر صادرة عن جهة غير مختصة، وأن هذا الإختصاص يعود لرؤساء المحاكم الإبتدائية العادية كون أن النيابة العامة لا توجد بمقر المحاكم الإدارية بل تمت جهاز المفوض الملكي الذي لا يتمتع بالصلاحيات المخولة للنيابة العامة، إلا أننا لا نؤيد رفض الإمتتال هذا لتلكم الأوامر القاضية بإيقاف مسطرة الإكراه البدني، صحيح أن رئيس المحكمة الإدارية لم يشمله مضمون المادة 683[37] من ق.م.ج في تحديد الجهة القضائية المختصة بشأن وقف التنفيذ، لكنه بالأحرى كان ينبغي على الأقل الإستجابة لمثل هذه الأوامر ذلك أن رئيس المحكمة الإدارية لم يعمد على إيقاف المسطرة من داخل محكمته من خلال مؤسسة المفوض الملكي، بل فضل إحالة الأمر على النيابة العامة التابعة للمحكمة الإبتدائية حماية لمركز الملزم الذي قد يكون دينه الضريبي انقضى بالتقادم أو حظوه بإعفاء إداري.

هذا، والجدير بالذكر كما أشرنا في المطلب السابق أنه لما كانت باقي المحاكم دون المحاكم الإدارية تختص هي كذلك في الإجراءات المتصلة بدعوى التحصيل لا التدخل في جوهر الموضوع، فإنه يمكن استنتاج إختصاص رئيس المحكمة الإدارية في إيقاف تنفيذ مسطرة الإكراه البدني في حق الملزم، طالما انصبت منازعة هذا الأخير على عدم خضوعه للضريبية موضوع المتابعة المسطرية، أو خرق المحاسب المكلف بالتحصيل لقاعدة شكلية كما هي منصوص عليها في مدونة التحصيل، وهذا ما استقر عليه العمل القضائي الإداري المغربي، فبعض الفقه[38] يضيف حالة ثانية يثبت فيها لرئيس المحكمة الإدارية إيقاف المسطرة وذلك في الحالة التي يثير فيها الملزم المعتقل صعوبة قانونية من وجه إستدلاله بحكم نهائي يقضي بسقوط الدين العمومي عليه أو إلغائه أو حتى سقوط المطالبة بالتحصيل.

بناءا على ما سبق، فإنه لا يمكن الجزم بالمرة بإختصاص رئيس المحكمة الإبتدائية في إيقاف مسطرة الإكراه البدني بالإستناد إلى الفصل 683 من قانون المسطرة الجنائية، فلرئيس المحكمة الإدارية حالاته ونقاط تدخله في المسطرة وفي أوجه عديدة نراها حاسمة في تفنيذ أطروحة الإنفراد بهذا الإختصاص من قبل جهة واحدة، وفي الأخير يبقى على المشرع المغربي الدور الكامل في تعديل القانون 15-97 بإضافة هذا الإختصاص لكفة رئيس المحكمة الإدارية وذلك في أفق إنهاء الإشكال المطروح.

 

 

 

خاتمة

إن تنظيم مسطرة تحصيل الديون العمومية وضبط كل جزئياتها في شكل مدونة لتحصيل الديون العمومية خطوة حسنة وإصلاح ملموس للنظام الضريبي المغربي الذي مافتئ المشرع بموجبه التدخل كل مرة بقصد التعديل والتنقيح والتتميم لكل جزئياته، هذه المدونة كما سجل عليها الفقه والقضاء قد أزالت الغبار على عدة إشكالات لم يكن بوسع الباحثين والمهتمين في ظل ظهير 1935 المنسوخ بها أن يجدوا لها حلولا ملائما، فإقتضى الحال أنذاك بسط مكامن الصعوبات وطرح توصيات ومقترحات.

ذلك، أن هذا الإصلاح الذي هبت ريحه صوب النظام القانوني لمسطرة التحصيل أصبح من اللازم أن يلتفت أكثر إلى إشكالية الإختصاص القضائي في دعوى تحصيل الضريبة، فقد بدا جليا أنه لإصلاح القوانين الضريبية بإختلاف شعبها وتلويناتها، أن يعاد النظر في واقع أزمة إختصاص المحاكم في دعاوى منازعات التحصيل وضرورة توضيح الجهة القضائية المختصة بشكل دقيق، للدفع بأي غموض أو صعوبة تعيق إستخلاص الدين الضريبي من جهة، ومن جهة ثانية قد تحول بين الملزم وحقه في مقاضاة الإدارة والدفاع عن مواقفه و إدعاءاته كحق ضمنه له القانون.

إن نجاعة مسطرة التحصيل لا تقاس بإحاطة القانون لكل جوانبها الإجرائية فقط، وإنما تقاس أيضا بضبط المشرع لإختصاص المحاكم بسد فجوة الثغرات القانونية التي يتسرب منها وقوع تنازع في الإختصاص بين مختلف المحاكم في تطبيق مقتضيات مدونة تحصيل الديون العمومية.

 

 

[1] – عبد الكريم الطالب، التنظيم القضائي للمملكة، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، الطبعة الرابعة، 2012، ص 103.

[2] – إدريس العلوي العبدلاوي، الوسيط في شرح المسطرة المدنية، الجزء الأول، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1998، ص540.

[3] – سلك المشرع المغربي اتجاها مختلفا لما ذهب إليه نظيره الفرنسي الذي وزع إختصاص النظر في المنازعات الضريبية بين المحاكم العادية فيما يتعلق منازعات الضرائب غير المباشرة والرسوم المشابهة ورسوم التسجيل والتنبر، في حين أبقى للقضاء الإداري صلاحية النظر في منازعات الضرائب المباشرة.

[4] – يونس معاطا، المنازعات في تحصيل الديون الضريبية بالمغرب، السلسة المغربية للعلوم والتقنيات الضريبية، مطبعة طوب بريس، مراكش، 2012 ص 82.

[5] – كريم لحرش، شرح القانون الضريبي المغربي، مطبعة طوب بريس، الرباط، 2014، ص 210.

[6] – كريم لحرش، مرجع سابق، ص210.

[7] – رشدي محمد، المنازعة الضريبية أمام القضاء الإداري، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون العام، كلية الحقوق الدار البيضاء عين الشق، 2010/2011، ص23.

[8] – يونس معاطا، مرجع سابق، ص82.

[9] – عبد الكريم الطالب، مرجع سابق، ص 62.

[10] – يونس معاطا، مرجع سابق، ص 85.

[11] – محمد قصري، تنازع الإختصاص بين المحاكم حول مدونة تحصيل الديون العمومية، مجلة المحاكم الإدارية، العدد 2، منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية والقضائية، الرباط، 2005، ص6.

[12] – عبد الكريم الطالب، مرجع سابق، ص 70.

[13] – محمد قصري، مرجع سابق، ص 8.

[14] – يونس معاطا، مرجع سابق، ص 87.

[15] – دزاكيس محمد، المنازعة الضريبية في مجال التحصيل، رسالة لنيل دبولم الدراسات العليا المعمقة في القانون العام، كلية الحقوق الدار البيضاء، 1998/1999، ص39.

[16] – محمد قصري، تنازع الإختصاص بين المحاكم حول مدونة تحصيل الديون العمومية، مجلة المحاكم الإدارية، العدد 2، منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية والقضائية، الرباط، 2005، ص5.

[17] – يمكن للدائن أن ينفذ على عقار المدين قبل المرور إلى منقولاته وذلك في الحالة التي يكون الدائن مستفيدا من رهن عيني على ذلكم العقار. أنظر الفصل 445 من قانون المسطرة المدنية.

[18] – للوقوف على من خول لهم القانون صفة محاسب مكلف بالتحصيل انظر المادة 3 من مدونة تحصيل الديون العمومية.

[19] – دزاكيس محمد، مرجع سابق، ص 7.

[20] – محمد القصري،، مرجع سابق، ص 20.

[21] – يونس معاطا، مرجع سابق، ص 92.

[22] – محمد قصري، مرجع سابق، ص25.

[23] – تنص المادة 99 من مدونة تحصيل الديون العمومية على أنه (بصرف النظر عن كل الأحكام المخالفة، يعتبر مالك الأصل التجاري مسؤولا علو وجه التضامن مع المستغل عن أداء الضرائب المباشرة والرسوم المماثلة الواجبة برسم استغلال ذلك الأصل).

[24] – محمد النجاري، تساؤلات حول إختصاص المحاكم الإدارية في مسطرة منازعات تحصيل الضرائب على ضوء المدونة الجديدة، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، العدد 37، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 2001، ص15.

[25] – ينص الفصل 469 من ق.م.م في فقرته الثانية على أنه ( لا يقع البيع الجبري للعقارات إلا عند عدم كفاية المنقولات عدا إذا كان الدائن مستفيدا من ضمان عيني).

[26] – لقد استثنى هذا الفصل فيما يتعلق بالحجز على عقارات الملزم المدين، عقاره المخصص لسكناه وسكنى عائلته وفي هذا لمقتضى تكريس لفلسفة جديدة قوامها إحداث توازن بين حقوق الإدارة الضريبية في إستخلاص الدين العام في أحسن الظروف، والحفاظ على حقوق الملزم بعدم إرهاق كاهله أكثر من اللازم، وهذا من مستجدات مدونة تحصيل الديون العمومية التي تجاوزت بكثير الإشكالات التي كان يطرحها ظهير 1935 المنسوخ بموجبها.

[27] – محمد قصري، مرجع سابق، ص 20.

[28] – محمد قصري، المنازعات الجيائية بربط وتحصيل الضريبة أمام القضاء المغربي، الطبعة الثانية، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، ص156.

[29] – أود الإشارة هنا، أن المحاكم التجارية والمحاكم العادية، إذا كان من اختصاصها النظر في مسائل الحجز على منقولات وعقارات الملزم فإن صلاحياتها تنتهي عند هذه الإجراءات ومثيلاتها لا غير، دون أن تمتد لتشمل جوهر الضريبة الذي ينعقد الإختصاص فيه للمحاكم الإدارية فقط وفق ما نص عليه القانون 41.90 المحدث للمحاكم الإدارية.

[30] – يونس معاطا، مرجع سابق، ص 91.

[31] – فاطمة حسوني، منازعات الوعاء الضريبي، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون الخاص، كلية الحقوق الدار البيضاء، 1998/1999، ص 4.

[32] – محمد قصري، تنازع الإختصاص بين المحاكم حول مدونة تحصيل الديون العمومية، مرجع سابق، ص 22.

[33] – يونس معاطا، مرجع سابق، ص 94.

[34] – محمد النجاري، مرجع سابق، ص 13.

[35] – حكم إدارية مكناس عدد 21/95 بتاريخ 1995/06/08 منشور بالمجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية.

[36] – انظر الأمر الصادر عن رئيس المحكمة الإدارية بوجدة 89/1 بتاريخ 1998/01/14.

[37]– محمد النجاري، مرجع سابق، ص14.

[38] – محمد القصري، تنازع الإختصاص بين المحاكم حول مدونة تحصيل الديون العمومية، مرجع سابق، ص 30.

إقرأ أيضاً

العمل لأجل المنفعة العامة للأحداث وفقا لمسودة مشروع القانون الجنائي ومشروع قانون المسطرة الجنائية

العمل لأجل المنفعة العامة للأحداث وفقا لمسودة مشروع القانون الجنائي ومشروع قانون المسطرة الجنائية Work …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *