إثبات النسب بالطرق العلمية ( دراسة مقارنة بين القانون الجزائري والموريتاني)

إن المقصود من إثبات النسب هو إقامة الدليل من المدعي على ثبوت ما يدعيه، فإذا كان الثبوت ، هو قيام الحق المدعي به، فإن الإثبات فعل يصدر من المدعي، واعتمادا عليه يصدر القاضي حكمه في مجال النسب أو غيره.

وتعتبر أدلة الإثبات واسعة ومتشعبة، حتى أن بعض الفقهاء يرى بإطلاقها[1]. على أساس أن الغاية من حكم القاضي هي أن يكون عادلا بحيث يضمن لكل ذي حق حقه بأي دليل يمكنه من ذلك.

وانتهاج طرق علمية لإثبات النسب في قانون الأسرة، يعتبر  من قبيل الإثبات اللاحق لما نتج عن معاشرة شرعية بين رجل وامرأة ، تستند إلى عقد زواج مهما كانت طبيعته ، مما يستبعد أي إثبات لنسب خارج هذه العلاقة[2].

ويعتبر السعي إلى امتلاك أسباب الثورة العلمية والبيولوجية والاستفادة منها ، قد أثر في تشريعات الكثير من الدول بحيث أصبح الدليل الظاهر أمام هذا التطور عاجزا عن حل الكثير من القضايا عند المحاكم.

ومشكلة إثبات النسب تعتبر من المشكلات الاجتماعية ، التي ارتأى المشرع الجزائري أن تنال حظها من الاستفادة ، من هذا التقدم المذهل في مجال تطبيقات الهندسة الوراثية ، وذلك بتعديل المادة 40 من قانون الأسرة بموجب الأمر 05/02 المؤرخ في 27 – 02 – 2005 بإدخال الطرق العلمية لإثبات النسب. وتوضيحا لذلك بهذه الطرق فإنه سيتضمن المبحث الأول الأساليب الوراثية لإثبات النسب في حين سنعالج في المبحث الثاني دور البصمة الوراثية في إثبات النسب.

المبحث الأول

الأساليب الوراثية لإثبات النسب.

انطلاقا من فكرة أن الأساليب الوراثية أصبحت تلعب دورا كبيرا في تحديد البنوة سواء بالإثبات أو بالنفي فإننا سوف نتطرق لدور وراثة فصائل الدم في تحديد النسب في (المطلب الأول) ثم نعالج موقف المشرعين الجزائري والموريتاني من هذه التقنية في (المطلب الثاني).

المطلب الأول

دور وراثة فصائل الدم في إثبات النسب.

إن العلم يتقدم تقدما مذهلا في السنوات الحالية ، حتى يمكن أن يقال إنه تقدم في ربع القرن الحالي بما يعادل تقدم البشرية،  في تاريخها الطويل وفي مجال الوراثة ، تقدم هذا العلم تقدما يثير الإعجاب،  بحيث يعتبر هذا الأخير من عالم الأسرار والألغاز،  لما يطرحه من تساؤلات يصطدم من خلالها ما هو دليل ظاهر مع ما تكتنفه أسرار الخلايا من حقائق كانت مرمية في علم الله الواسع.

وتعتبر قضايا إثبات النسب من المشاكل الخطيرة التي شغلت اهتمام كثير من العلماء في جميع أنحاء العالم، فضلا عن أنها مشكلة قضائية تارة يتطلب الفصل فيها سنوات كثيرة أمام القضاء، ولعل ذلك كان يرجع إلى عدم احتواء الطرق العادية والتقليدية لإثبات النسب أمام المستجدات التي تعتبر البنوة تتأثر بها بشكل خاص.

إلا أن الحسم في مجال إثبات النسب باعتماد هذا التطور ليس بالأمر الهين، بمجرد عمل تحليل طبي ، فهناك فحوص ، وكشوفات طويلة تقام على ثلاثة أطراف، هما: الأم والأب المزعوم ، والطفل. وتشمل هذه التحاليل فصائل الدم الرئيسية والفرعية ، واختبارات تتعلق بمستحضرات (إنتيجينات) خلايا الدم البيضاء ، وهي ما يطلق عليها: hjas[3]

غير أنه بالرغم من هذا التقدم ، فإن نتائج فحص الدم إلى حد قريب كانت لا تعطي دليلا قطعيا لإثبات النسب. وفي هذا الإطار يقول الأستاذ مرجي “Merger ” أنه يستحيل إقامة الإثبات المباشر للأبوة لأن الاكتشافات المستمرة للبيولوجيات تمكن ما من شك الوصول إلى احتمالات أكثر فأكثر، دون اليقين، إلى إثبات عدم الأبوة أمرا ممكنا[4]، لأن هذا التحليل لا يعطي أكثر من 40% فقط، وهي نسبة تثير التشكك حول اعتمادها دليلا لإثبات النسب.

ونتيجة للتجارب التي قام بها الطبيب النمساوي ” لاندستير” عام 1900 م تم وضع الأساس الكيميائي الذي على أساسه صنف الدم البشري إلى الفصائل الأربعة المعروفة: O.AB.B.A وهو ما يطلق عليه:

  • وجود مواد حول ” إنتيجينات ” Antigènes على سطح كريات الدم الحمراء.
  • وجود أجسام مقابلة للمواد وهي الأجسام المضادة Anticorps في بلازما الدم، ويتضح من الجدول التالي هذه الفصائل وما يقابلها من إنتيجينات وأجسام مضادة وتراكيب جينية.[5]
تراكيب الجينة الأجسام المضادة المادة المولدة الفصيلة
(AA) نقي

(AO) هجين

             B A A
(BB) نقي

(BO) هجين

B B B
(AB) AB AB
(OO) AB O

ومن هنا يقارن التركيب الجيني لفصيلة الابن مع فصيلة الأب المزعوم إذا كان هناك احتمال مشاركة أحد جيني الرجل في التركيب لفصيلة الطفل فإنه في هذه الحالة تحتمل البنوة بشكل نسبي كما ذكرنا أعلاه وذلك لوجود أكثر من رجل يحمل هذه الفصيلة.

 فمثلا إذا كانت فصيلة الطفل O يكون التركيب الجيني لفصيلة أبيه OO ،والأم التي فصيلتها A فيكون التركيب الجيني لفصيلة دمها AA أوAO والرجل الذي فصيلته B فيكون التركيب الجيني لفصيلة دمهBB أوBO.

ويتضح أن الأم لابد أن تكون فصيلتها AO وحتى ولو كان الرجل فصيلة دمه BO فهذا لا يثبت البنوة بل يحتملها لنفس السبب السابق.

أما إذا كانت هناك استحالة مشاركة ما بين الجيني لفصيلة الرجل مع التركيب الجيني لفصيلة الولد في هذه الحالة فإنه يقطع بعدم الأبوة.[6]

اعتمادا على المثال السابق لو أن فصيلة الرجل AB فإنه يقطع بعدم أبوته للطفل لعدم التركيب الجيني الثاني للطفل. ولكن انطلاقا من هذه الحقائق العلمية أين موقف المشرع من استخدامها في مسألة النسب؟

المطلب الثاني

موقف المشرع من استخدام فصيلة في مجال إثبات النسب

حول هذه التقنية فإن للمشرع الجزائري موقفين، أحدهما كان واضحا قبل التعديل (أولا) أما الثاني فإنه لازال يثير التشكك ( ثانيا).

أولا: موقف المشرع الجزائري من استخدام فصيلة الدم في مجال إثبات النسب قبل التعديل.

ولقد كان المشرع اتجاه تحليل فحص الدم كدليل لإثبات النسب يتسم بالرفض الصارم ، حيث كان يعتمد على الطرق المنصوص عليها في المادة 40 ق.أ.ج لإثبات النسب ولم تتضمن هذه المادة ما يشير إلى تحليل الدم إثبات النسب.

مما محتم على القاضي سد هذا النقص وخاصة في ظل فراغ قانوني دقيق ينظم هذه الطرق الحديثة لإثبات النسب وذلك بتحديد ما يجب الأخذ به وما لا يجب.

وعلى الرغم من الجهود التي قام بها القضاء الجزائري إلا أنه ظل يعتمد في أحكامه على الآراء الفقهية القديمة مكتفيا بها في مسائل إثبات النسب، غاضا بذلك الطرف عن التطور العلمي الجديد، ويتضح هذا جليا من خلال ما قامت به المحكمة العليا في قرارها الصادر في 15 جوان 1999م والذي جاء فيه”من المقرر قانونا أنه ينسب الولد لأبيه متى كان الزواج شرعيا “.

ومن المقرر أيضا أنه ينسب الولد لأبيه إذا وضع الحمل خلال عشرة أشهر من تاريخ الطلاق أو الوفاة، وأن عدة الحامل وضع حملها . وأقصى مدة عشرة أشهر من تاريخ الطلاق أو الوفاة.

ومن ثم فإن النعي على القرار المطعون فيه بمخالفة القانون ليس في محله.

ومتى تبين – من قضية الحال – أن ولادة التوأمين موضوع النزاع وقعت في ظل قيام الحياة الزوجية بين الطرفين وأن الانفصال الواقع كان أثر خلاف بينهما ولم يكن لا في حالة الطلاق ولا في حالة الوفاة حتى يخضع لأحكام المادتين 43 – 60 ق. أ . ج ومن ثم فإن العصمة بينهما قائمة والزواج شرعي.

وثبت نسب التوأمين لأن الطاعن لم ينفه باللعان وعليه فإن القضاء وبقضائهم كما فعلوا طبقوا صحيح القانون، مما يستوجب رفض الوجه الأول لعدم التأسيس.

ومن المقرر قانون أيضا أنه يثبت النسب بالزواج الصحيح وبالإقرار وبنكاح الشبهة، بكل نكاح تم فسخه بعد الدخول طبقا للمواد 32 .33 .34 من هذا القانون، ومن ثم فإن القضاء بخلاف ذلك يعد مخالفة للقانون.

ومتى تبين – من قضية الحال – أن قضاة المجلس لما قضوا بتأييد الحكم المستأنف القاضي بتعيين خبرة طبية قصد تحليل الدم للوصول إلى تحديد النسب خلافا لقواعد إثبات النسب المسطرة شرعا وقانونا طبقا لأحكام المادة40 وما بعدها من قانون الأسرة فغنه بقضائهم كما فعلوا تجاوز سلطتهم وعرضوا قرارهم للنقد”.[7]

وعلى هذا الأساس يبدو أن الأمر كان واضحا وصارما لدى القضاء الجزائري في استبعاد أي وسيلة طبية مستحدثة في مجال الإثبات والنفي ، سواء كان ذلك عن طريق تحليل الدم أو حتى البصمة الوراثية فإن كليهما يعتبر العمل به خرقا للقانون وغير جائز في نطاق إثبات ونفي النسب[8] .

وهذا الموقف يظهر مدى تمسك القضاء الجزائري بالوسائل التقليدية في إثبات النسب إلا أنه في نظرنا قد لا يكون هناك تعارض بين تلك الوسائل ومسألة استخدام فصيلة الدم لإثبات النسب ما دام النسب يثبت بالبينة[9]. وما دامت هذه الأخيرة ليست محصورة بطريقة معينة ، بل يجسدها كل ما يظهر الحق أو ما يمكن للقاضي من خلاله الكشف عن الحقائق محل النزاع ، ولطالما أن الأمر كذلك.

وعلى الرغم من أن الخصوم طلبوا الاستعانة بالخيرة الطبية لإجراء تحليل الدم فلا يوجد ما يمنع من تلبية طلبهم، بل أبعد من ذلك يكون اللجوء إليها أقرب إلى اليقين منه إلى الشك ، بالنسبة للإثبات، ويؤدي إلى قطع الشك باليقين بالنسبة للنفي، انطلاقا من فرضيتين:

الأولى: تظهر فيها فصيلة دم الطفل متوافقة لمقتضيات تناسل فصيلتي دم الزوجين.

وهذا معناه أن الزوج قد يكون الأب الحقيقي وهذا ما عبرنا عنه بالاقتراب إلى اليقين منه إلى الشك.

أما الفرضية الثانية: فتكون فيها فصيلة الولد مخالفة لمقتضيات تناسل فصيلة الزوج.

وهذا معناه أن هذا الأخير ليس الأب الحقيقي للطفل وذلك على وجه التأكيد.[10]

وعلى ضوء هذه المعطيات العلمية التي كانت متاحة في ذلك الوقت يتبين أن فصائل الدم تفيد في الحصول على دليل نفي قاطع. ودليل إثبات ليس مؤكدا ، مما يمكن القول أن استبعادها من طرف القضاء لا مبرر له.

طالما كان الأمر يتعلق بنفي النسب وحتى الإثبات لأن التأكد من نفي النسب في حد ذاته يعتبر دليلا على الإثبات لأنه يثبت أن الولد ليس من هذا الرجل، وبالتالي سواء كان الإثبات إيجابيا أم سلبيا فإن المنطق يقتضي أن لا يستبعد أي مسالة تظهر الحق بشكل يكاد يكون قطعي النتائج ، طالما أن الخصوم طلبوا هذه الوسيلة ، ففي إجراء غير ذلك من شأنه إفراغ النصوص التي تتعلق بانتساب الولد إلى أبيه ، لا كالتي تشترط الاتصال وعدم النفي فحسب. بل كذلك ما نص عليه المشرع من كون البينة يثبت بها النسب وأن هذه الأخيرة لم تكن محصورة ة لا في الكتاب ولا في السنة  في الإقرار أو في الشهادة بل ما يظهر الحق فهو بينة قال تعالى في قصة موسى مع فرعون ” قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل قال إن كنت جئت بآية فآت بها إن كنت من الصادقين فألقي عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين”[11].

ووجه الاستدلال أن البينة إنما هي اسم لكل حجة أو دليل أو برهان ، وما يصح أن يحكم به القاضي لفصل النزاع ولا شك أن التحليل المقارن للدم يعتبر بينه يمكن من خلالها أن يستنير القاضي في معرفة النسب.

لأن عدم نص المشرع على هذه التقنية وغيرها من الطرق العلمية، لا يعني بالضرورة أنه لا يقبل بها لأن هذا التفسير يتنافى مع السياسة الوقائية التي انتهجها المشرع الجزائري حفاظا على كرامة الطفل وتفاديا لإبقائه بدون نسب يضمن حقوقه العائلية.

والذي يمكن أن يقال في هذا المجال أنه كان هناك فراغا تشريعيا ، وبالتالي على القضاء بمختلف درجاته، أن يسد هذا الفراغ.

ثانيا : عدم وضوح موقف المشرع الجزائري من استخدام فحص الدم المقارن لإثبات النسب.

من الواضح كما ذكرنا سابقا أن المشرع وبالأخرى القضاء الجزائري كان يرفض هذه التقنية في لإثبات النسب. وهذا الرفض جاء صريحا وبلغة لا تقبل التأويل وبالتالي فإنه بالفعل جاء تعديل المادة 40 ق.أ.ج ليضع حدا لهذا الرفض ، لكن ومع أن هذه الخطوة إيجابية سبيلا إلى الاستفادة من التقنيات الحديثة في مجال لإثبات النسب ، فإن الأمر لازال غامضا خاصة حول هذه التقنية بالذات وهذا الغموض يجسده أمران :

الأمر الأول : هو أن القضاء لم يجعلها من باب ما يبين الحق ، مما يطرح استفهاما حول هل الموقف نفسه مازال كما هو بالنسبة للرفض لهذه التقنية؟

أما الأمر الثاني: والذي يتعلق بالتعديل في حد ذاته ، فإن المشرع أجاز للقاضي اللجوء إلى الطرق العلمية لإثبات النسب ، وكلمة يجوز هنا تجعل الأمر يخضع إلى مجاز القاضي إما أن يأخذ أو لا يأخذ.

بمعنى أن له السلطة التقديرية بالأخذ بهذه الوسائل وحتى في تحديد الطرق العلمية ، لكن هل هذه التقنية بعد الرفض يمكن إدراجها في مجمل الطرق العلمية؟

يمكن القول أن الأمر إذا كان يتعلق بالإثبات وأن هذه التقنية لا تعطي نتائج تقطع الشك باليقين فإن قرينتها تبقى يعوزها البرهان وبالتالي تظل محل شك إلى أن يظهر تطبيق لها على مستوى القضاء.

بيد أن هذا التفسير يتعلق بالإثبات ولو كان الأمر يتعلق بالنفي والذي لم يتعرض له المشرع في التعديل، فإنها لا تكون محل شك لقطعية دلالة نتائجها في نفي النسب.

وعليه يمكن القول أن نتائج فحص الدم سواء منها ما يتعلق بالنفي أو بالإثبات فإن استخدامها رغم التعديل لا زال غامضا، لأن المشرع وإن كان قد أشار إليها في عمومية النص، إلا أنه حمل القضاء عبء تحديد مضمونه. وهذا الأخير رغم سلطته الواسعة في مجال مصلحة الطفل ، وخاصة ما يتعلق بإثبات انتمائه إلى أب معلوم ، حماية له من الضياع ، لازال متحفظا اتجاه تجسيد سلطته في تطبيق هذه التقنية . وهذا التحفظ ربما تملية عدة عوامل ومن أهمها رغم حداثة هذه الوسيلة العلمية ، هو محافظة المجتمع الجزائري التي أساسها الخلفية الدينية والأخلاقية ، والتي لازالت في هذا المجال تعتمد الطرق التقليدية سواء للإثبات أو النفي وهذا ما تعكسه قرارات المحكمة العليا كما رأينا سابقا.

أضف إلى هذا أنه حتى الآن لم تهيأ مخابر خاصة لاستقبال الفصل في هذا الأمر ، غير تلك التي لدى مصالح الشرطة ، لأن الأمر عند التطبيق يتطلب مخابر خاصة يشرف عليها متخصصون وذوو كفاءة آلية في مجال الهندسة الوراثية ويتمثلون بالصدق والنزاهة لأنهم – بالإضافة إلى نتائج فحص الدم – يمثلون الشهود وبالتالي يلزم فيهم ما يقتضي توافره في الشهود.

إذن يمكن القول أن هذه التقنية وإن كانت وليدة عهد لدى قانون الأسرة الجزائري يبقى تطبيقها محل شك .

لكن هذا ليس بالحد الذي مازال عليه نظيره الموريتاني ، حيث أن هذا الأخير ظل مصرا – رغم التطور المتزايد والمتسارع في مجال الطب والهندسة – على الاكتفاء بالتطرق التقليدية لإثبات النسب ، حسب ظاهر النصوص الأسرية في هذا المجال .

ومع ذلك فإنه يفهم من عمومية بعد تلك النصوص[12]، أن المشرع وإن لم ينص صراحة على هذه الطرق ، فإن ذلك لايعني في واقع الأمر أنه يرفضها لأن المعول عليه والأساس الذي يقوم عليه النسب هو قائدة الفراش ، وما دامت هذه الطرق لا تتعارض مع تلك القائد بل تعجزها، فإن مضمون النصوص المتعلق بإثبات النسب لا يرفضها.

لكن هذا مجرد استنتاج وبتالي فالقاضي الموريتاني في مجال الفصل في المنازعات ، عليه أن يسعى جاهدا لإثبات النسب أو نفيه ، على ذلك يتحمل العبء الأكبر في استنطاق النصوص حول ما يجب الأخذ به وما لا يجب ، ليسد لذلك الفراغ التشريعي بالنسبة الاستخدام فحص الدم كدليل لإثبات النسب.

رغم تقدم العلوم الدموية الذي ساهم في بلورة وتطوير هذه التقنية فقد اكتشفت طريقة أخرى ، هذه الأخيرة قللت من أهمية التحاليل الدموية ، وتعد بسيطة ونتائجها محققة إلى حد يقطع الشك باليقين ، وتتمثل في البصمة الوراثية.

المبحث الثاني

دور البصمة الوراثية في إثبات النسب

إن الأصل الشرعي والذي يرتكز عليه نظام النسب هو قاعدة الولد للفراش، ولقد تناول فقهاء الشريعة الإسلامية والقانون هذه القاعدة بالدراسة. ورغم أنهم متفقون عليها من حيث المبدأ ، إلا أنهم اختلفوا حول الشروط اللازمة لإعمال هذا الأصل الشرعي والتشريعي[13].

فقد كان الدليل الظاهر هو المسيطر في هذا المقام ، بإمكانه أن يثبت أبوة لولد أو ينفيها عن صاحب الفراش لا لكونه من زنا، فهذا أمر مفروغ منه، لكن لقيام الظاهر على أن الولد ليس منه. ولم يكن متاحا لدى الأم من وسائل تكذب به هذا الظاهر.

ولكن هذا الأخير ليس يقينا أو مؤكدا وتعود السيطرة فيه إلى صاحب الفراش، وما يقابله اليوم من تطور علمي في مجال الهندسة الوراثية (D .N.A) نعود لنتساءل عما إذا كان من الممكن الاستفادة من هذه التقنية والتي تمدنا كما سوف نرى بدليل مؤكد لا في مجال الإثبات فحسب بل كذلك في نفي الأبوة أيضا.

وعليه فإن دراستنا لهذا الموضوع سوف تكون من خلال التطرق إلى معنى البصمة الوراثية وكيفية استخدامها (المطلب الأول ) ثم موقف الشرعي من هذه التقنية في مسألة إثبات النسب (المطلب الثاني ).

المطلب الأول

معنى البصمة الوراثية وكيفية استخدامها في إثبات النسب

نتيجة للتطور الحاصل في المسألة الطبية والبيولوجية[14] ثم اكتشاف طريقة علمية من أجل معرفة النسب تدعى البصمة الوراثية ، ونظرا الحداثة هذا المصطلح في مجال تلك العلوم[15] وخاصة تلك المتعلقة منها في مجال النسل ، فإنه بجدر بنا التطرق إلى هذا المعنى ، (أولا) قبل أن نبين كيفية استخدامها في إثبات النسب(ثانيا).

أولا: معنى البصمة الوراثية.

إن كل خلية من  خلايا جسم الإنسان ، تحمل في نواتها ما يسمى بالحمض النووي (D.N.A) وهو موجود على صبغة واحدة في جميع مكونات الجسم سواء كان في الدم ، أو المني ، أو الشعر أو أي عضو من أعضاء جسم الإنسان ، ويتمثل ذلك في بروتين يحمل مورثات أو جينات[16] لها مواصفات تختلف من شخص لآخر ، وتبقى ثابتة مدى الحياة إلى أن تتحلل الجثة بعد الموت.

وتحوى هذه الرسالة على كل الصفات الوراثية بداية من العينين حتى أدق التركيبات الموجودة في الجسم.

وتتركب الجينات الموجودة في جسم الإنسان على 23 من الكروموزومات في نواة الخلية ، وتنتقل للابن عن طريق الأم و الأب.

وبناءا على هاتين الميزتين اللتين أكدهما العلماء والباحثون ، فقد أطلقوا عليها اسم البصمة الوراثية[17]  وهكذا يقصد بالبصمة الوراثية “البنية الشخصية نسبة إلى الجينات أو المورثات التفصيلية التي تدل على هوية كل فرد بعينه وهي وسيلة تمتاز بالدقة حيث أنها لا تكاد تخطئ في التحقق من الأبوة البيولوجية والتحقق من الشخصية[18].

وقد دلت الاكتشافات الطبية أنه يوجد داخل النواة التي تستقر في خلية الإنسان (46) من الصبغيات ” الكروموزومات” وهذه تتكون من المادة الوراثية – الحمض النووي خالي الأوكسجين – والذي يرمز له (D.N.A) أي الجينات الوراثية.

وقد تصل في الخلية البشرية الواحدة إلى مئة ألف مورثة تقريبا[19] و هذه المورثات الجينية هي التي تتحكم في صفات الإنسان والطريقة التي تعمل بها ، بالإضافة إلى وظائف أخرى تنظيمية للجينات.

وقد أثبتت التجارب الطبية الحديثة بواسطة تقنية في غاية التطور والدقة ، أن لكل إنسان جنيوما بشريا، يختص به دون سواه ، لا يمكن أن يتشابه فيه مع غيره حتى وإن كان توأمين.

ولهذا تم إطلاق عبارة” بصمة وراثية ” لدلالة تثبيت هوية شخص ، وذلك بأخذ عينه من الحمض النووي الذي يحمله الإنسان عن أبيه وأمه.

إذ أن “46” من صبغيات الكروموزومات والتي – كما أشرنا – يحملها كل إنسان في خلية الجينية ، يرث نصفها ، وهي “23” كروموزومات من أبيه بواسطة الحيوان المنوي، والنصف الآخر ، وهو أيضا “23” كروموزومات من أمه بواسطة البويضة، كل واحد من هذه الأخيرة والتي هي عبارة عن جينات الأحماض النووية باسم “دنا” ذات شقين حيث يرث الشخص شقا منهما عن أبيه والشق الآخر من أمه ، فينتج عن ذلك كروموزومات خاصة به ، تتطابق مع تلك التي عند أبيه من طل الأوجه ولا مع كروموزومات أمه تمام التطابق.

وإنما جاءت خليطا بينهما ، وهذا مصدقا لقوله تعالى : ( إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا…)[20].

وبهذا الاختلاط اكتسبت صفة الاستقلالية عن كروموزومات أي من والدية مع بقاء التشابه معهما في بعض الأوجه.

لكن مع ذلك لا يتطابق مع أي من كروموزومات والدية فضلا عن غيرهما.

يقول الدكتور با حطمة في هذا السياق أنه تتكون كل بصمة من وحدات كيماوية ذات شقين ، محمولة في المورثات وموزعة بطريقة مميزة ، يفرق بدقة بارعة كل فرد من الناس عن الآخر ، وتتكون البصمة منذ فترة الانقسام في البويضة الملقحة وتبقى كما هي حتى بعد الموت ، ويرث كل فرد شق البصمة من الأب ، والآخر من الأم بحيث يكون الشقان بصمة جديدة ينقل الفرد شقيها إلى أبنائه…”[21] وانطلاقا من تلك الحقائق العلمية ، فما هي إذن كيفية استعمال البصمة الوراثية لتحديد الأبوة؟

ثانيا : كيفية استخدام البصمة الوراثية لإثبات النسب.

تعد مسألة النسب ذات جانبين هما: معرفة أبوة الطفل ، ومعرفة أمه.

وقد أكد علماء الطب الحديث قدرتهم على إثبات الأبوة أو البنوة لشخص ما ، او نفيها عنه[22]. وذلك من خلال إجراءات الفحص على جيناته الوراثية ، حيث دلت الأبحاث التجريبية على أن نسبة نجاح إثبات الأبوة أو نفيها عن طريق البصمات الوراثية يصل في حالة النفي إلى 100% أما في حالة الإثبات فيصل إلى قريب من القطع بنسبة 99.99% تقريبا[23]. وطريقة معرفة ذلك : أن يؤكد عينه من أجزاء الإنسان من الدم أو الشعر ، أو المني أو العظم ،أو اللعاب ، أو غير ذلك من أجزاء الجسم ، وبعد أخذ هذه العينة يتم تحليلها وفحص ما تحتوي عليه من كروموزومات  – أي صبغيات – التي تحمل الصفات الوراثية الجينية ، فبعد معرفة هذه الصفات الخاصة بالابن ووالديه المزعومين ، يمكن بعد ذلك إجراء المطابقة بين D.N.A الطفل مع D.N.Aالأب والأم ، وهي مسألة فنية يقوم بإجرائها أخصائي الطب الشرعي عادة، بناء على حكم قضائي[24] من طرف القاضي ، أو بطلب من الخصوم لإجراء خبرة إثبات النسب. فإذا تبن العكس وكذلك الحال بالنسبة للأمومة ، لأن الابن كما تقدم يرث نصف مورثاته الجينية من الأب بينما يرث النصف الآخر عن أمه.

فإذا أثبتت التجارب الطبية والمعطيات المخبرية وجود التشابه في الجينات كان الأمر واضحا بخصوص إثبات الأبوة أو الأمومة.

وانطلاقا من هذه المعطيات العلمية ، فإن البصمة الوراثية أثبتت صلاحية استخدامها، لا في مجال إثبات النسب فحسب ، بل كذلك في المجال الجنائي كالكشف عن هوية المجرم في حال ارتكاب جناية قتل، وفي حالة انتحال شخصيات الآخرين.

وعليه فإنه يثور التساؤل حول شرعية ومشروعية هذه التقنية في مجال إثبات النسب؟

المطلب الثاني

الجانب الشرعي والتشريعي للبصمة الوراثية

تعد تقنية البصمة الوراثية طريقة جديدة سمحت للقاضي ، في حالة عدم اقتناعه بأدلة الإثبات التقليدية ، أو في حالة عجز هذه الأخيرة عن حل النزاع المطروح ، أن يطلب إجراء تحليل الدم لمعرفة الأبوة ، على النمط الذي بيناه سابقا.

ونظرا لخطورة هذا الإجراء، لأنه يتعلق بأقدس الحقوق التي يستمدها الإنسان من أصله ، والتي اختصه الله بها دون غيره من الكائنات ، وهو الحق في النسب فقد كان لا محالة أن يقوم فقهاء الشريعة وكذا المشرعون بوضع إطار شرعي وتشريعي ينظم كيفية الاستفادة من هذه التقنية ، لإثبات النسب.

وسعيا وراء هذا الهدف صار فقهاء الشريعة الإسلامية ، حيث ذهب العلماء المعاصرون إلى اعتبار ” البصمة الوراثية طريقا من طرق إثبات النسب من حيث الجودة ، وقد جاء في قرار المجمع الفقهي بالرابطة ، أنه يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في مجال إثبات النسب في الحالات التالية:

أ – إذا حصل نزاع حول مجهول النسب سواء كان هذا نتيجة انتفاء الأدلة أو تساويها، أم كان سببه الاشتراك في وطء شبهة ونحو ذلك.

ب – في حالة الاشتباه بين المواليد في المستشفيات أو مراكز رعاية الأطفال ، وكذلك الاشتباه في أطفال الأنابيب.

ج – حالة ضياع الأطفال بسبب الحوادث أو الحروب ، وتعذر معرفتهم أو وجدوا جثثا لم يمكن التعرف على هويتها ، أو بقصد التعرف على هويات أسرى الحرب والمفقودين.

وقد جاء في توصية ندرة الهندسة الوراثية المنبثقة عن المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية ” أن البصمة الوراثية وسيلة لا تكاد تخطئ في التحقق من الوالدية البيولوجية… وهي ترقى إلى مستوى القرائن القوية التي يأخذ بها أكثر الفقهاء.

وتمثل تطورا عظيما في مجال القيافة التي يذهب إليها جمهورية الفقهاء في إثبات النسب المتنازع فيه ” ، ولذلك ترى الندوة أن الأخذ بها في كل ما يؤكد فيه بالقيافة من باب أولى…”[25] وعلى هذا النهج سار المشرع الجزائري حيث نص في المادة 45 مكررة في فقرتها الأخيرة على أنه ” يجوز للقاضي اللجوء إلى الطرق العلمية لإثبات النسب”.

وتعليقا على  هذا التعديل وغيره مما سبق حول مشروعية استخدام البصمة الوراثية لإثبات النسب ، فإنه ما من شك أن الخطوة التي خطاها المشرع الجزائري في هذا الاتجاه تعد إيجابية ، سواء كانت هذه الأخيرة جاءت نتيجة للضغوط المتزايدة من طرف فقهاء القانون ، والذين بينوا أهمية هذا الأمر مبرزين وراء ذلك عدم تعارضه مع قاعدة الفراش.[26]

أم إن التعديل جاء تلافيا لسد الخلل الذي جاء به القضاء في مجال الطرق العلمية لإثبات النسب[27]، الأمر الذي قد يرتب آثارا وخيمة لعدم تماشيه والتطور العلمي.

فإن هذا الأخير أصبح واقعا لا مفر منه ، من هنا تظهر بجلاء ضرورة الاقتناع في توظيف المشكلات من القوانين ، ووضع ضوابط لاستخدامها ، وإخضاعها لمنهج يراعي فيه مصلحة الإنسان وحمايته وهو ما نلمسه من تخصيص المجالات التي حددها فقهاء الشريعة الإسلامية للاستفادة من البصمة الوراثية في معرفة الأبوة.

وعليه فإن المشرع الجزائري في هذا الموضوع لم يضع ضوابط للاستفادة من تلك التقنية ، مما يطرح عدة تساؤلات حول ما إذا سلمنا جدلا بأن هذه التقنية أصبحت تعزز قاعدة الفراش.

فهل يمكن استخدامها للتأكد من النسب وخاصة لدى صاحبه المعروف؟ وهل يمكن كذلك استخدامها لمعرفة نسب ولد الزنا؟

للإجابة على السؤال الأول يمكن القول أنه لا خلاف بين التشريعين الجزائري ونظيره الموريتاني ، في أن النسب الشرعي يثبت بالفراش الحقيقي ، وهو الجماع الذي يكون منه الولد[28] بشرط أن يكون عن طريق مشروع مهما كانت الشبهة.

وإذا كان الشرع والتشريع قد أحاطا النسب بتلك الحصانة حرصا على الاستقرار في المعاملات بين الناس ولتشوفه في إثبات النسب …فإن هذا الأمر ظاهره قد يتناقض مع حقيقة شرعية أخرى ، وهي التشوف لإثبات الحقيقة ووضع الحقائق في مكانها الصحيح وهذا مصداقا لقوله تعالى : ” أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا “[29]، وقوله تعالى : ” أفمن كان على بينه من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به”[30] فكل هذه الآيات وغيرها كثيرة تأمر بالتبيين والتبصر والتثبت للحقائق . فهل يجوز استنادا إليها إعادة طرح السؤال نفسه وهو أن يتحقق صاحب الفراش المعروف من نسبه بعد نجاح البصمة الوراثية؟

إن التحقق من النسب إما أن يكون فرديا أو جماعيا ، ولقد تكلم فقهاء الشريعة الإسلامية عن الحالة الأولى عرضا في بابين من أبواب الفقه الإسلامي : القيافة عند الجمهور، ودعوى النسب الحنفية ، حيث لا ترفع دعوى النسب إلا عند التنازع، كما اشترط الفقهاء القائلون بمشروعية القيافة ووجوب العمل بها : وقوع التنازع في الولد نفيا أو إثباتا ، وعدم وجود دليل يقطع هذا النزاع كما إذا وطئ رجلان امرأة بشبهة وأمكن أن يكون الولد منهما معا وكل منهما ينفيه أو يثبته لنفسه، فيكون الترجيح بالقيافة.

وبهذا يظهر أنه لا يجوز لمن عرف نسبة بوجه من أوجه الحق أن يطلب التحقق منه بالنظر إلى الشبهة بالقيافة.

وانطلاقا من أن ” البصمة الوراثية ” أقوى الأدلة على الإطلاق مع تحقق النسبة من النكاح والاستلاد …فقد انتفت العلة التي من أجلها منح الفقهاء التوجه إلى الشبه بالقيافة.

ومع ذلك فإن التحقق من أمر نسب مستقر – ولو كان بالبصمة الوراثية – فيه من التعريض بالآباء و الأمهات وما يستتبعه من قطعية الأرحام وعقود الوالدين فيها لإثبات النسب ، بشكل يقصي كل ما من شأنه زعزعة كيان النسب الثابت.

أما عن التحقق الجماعي للنسب ” المسح الشامل ” فإن فتح الباب في هذه المسألة من شأنه أن يضرم نار الفتنة لا يخمد عقباها لما فيه من كشف وفضح المستور، والشك في ذمم وأعراض الناس بغير مبرر ، ودمارا لأوصال التراحم بين ذوي القربى ونقضا لما أبرمه الإسلام من استقرار.

وهكذا أو جدت لنا الاكتشافات العلمية نوعا جديدا من الدعاوى، وفتحت بابا جديدا للنزاع يجب أن يسلم بواقعة وهو ضريبة التقدم التقني والتفوق الطبي.

أما بخصوص ما إذا كان بالإمكان أن تستخدم البصمة الوراثية لإثبات النسب ، فإنه حتى الآن لم تظهر تطبيقات على مستوى القضاء الجزائري بشأن استخدامها.

إلا أنه نقلا عن قاضية الأحوال الشخصية بمحكمة قالمة : أن القضاء الجزائري يتوجه بقوة إلى اعتماد الطرق العلمية لإثبات نسب الأطفال غير الشرعيين[31].

وأضافت القاضية – خديجة بصايبية في مداخلة لها بمجلس قضاء قالمة حول حقوق الطفل – أن التعديل الذي أجاز استخدام الطرق العلمية لإثبات النسب عن طريق (D.N.A) ، وإن كان هذا الإجراء يصطدم حسب المتحدثة بالنظام العام والذين والأعراف الاجتماعية ، لكنه خطوة في الاتجاه الصحيح لوضع حد لمعاناة هذه الفئة داعية قضاة الأحوال الشخصية إلى تجسيده.

ولا شك أن هذا التفسير الذي ذهبت إليه القاضية في نظرنا كل التعارض مع النصوص الصريحة في قانون الأسرة الجزائري وخاصة تلك المتعلقة بأحكام النسب لأن هذه الأخيرة تعتبر المبني الوحيد والذي يقوم عليه النسب هو الزواج ،[32] حتى ولو كان التعديل جاء بصيغة توازي تلك النصوص فإنه لا يمكن الاعتماد على هذا التفسير الذي ذهبت إليه ، والذي ذكرت أنه يصطدم مع الشريعة الإسلامية والنظام العام.  بالتالي فالذي يمكن قوله في هذا المجال هو أن الاستخدام يمكن أن يعمل به لإثبات نسب ابن الزنا إذا كان من أجل إقامة الحجة على الزاني وعقوبته في غياب تطبيق حد الزنا، وأن يكون هذا الأمر من شأنه أن يقلل من ارتكاب جرائم الزنا، لأن الزاني عندما يحس أن هناك متابعة حقيقية تتبعها عقوبة وفضح له، قد يقلع عن ارتكاب الفاحشة بسبب الخوف، وبالتالي يكون الهدف مشروعا لأن الأمور تعلل عند مقاصدها.

أما وأن يكون تطبيق الطرف العلمية يترتب عنه إثبات نسب ابن الزنا، فإن هذا المنطق لم يقصده المشرع الجزائري لأنه ممنوع شرعا وتشريعا كما صرح بذلك مفتي مصر علي جمعة لـــ ” إسلام أو ن لاين. نت” في 22/05/2006 حيث قال: ” إن علماء الفقه الإسلامي اتفقوا على إثبات النسب للأم بالميلاد، أما بالنسبة للأب فلا بد أن يتم ذلك عن طريق الوسائل الشرعية” وأضاف قائلا” لذا تعتبر إثبات النسب لابن الزنا غير سليم وهذا لا علاقة له باستعمال تحليل البصمة الوراثية.[33]

وتتوافق هذه الفتوى مع ما ورد عن الدكتور يوسف القرضاوي حيث يرى هذا الأخير بعدم جواز استخدام تحليل الدم البصمة الوراثية لإثبات النسب في حالة الزنا معتبرا أن الشرع وإن كان يتطلع لإثبات النسب فإنه في ذات الوقت يرى أن الستر مقصد هام تقوم عليه الحياة الاجتماعية لئلا تشيع الفاحشة في الذين آمنوا وألفت أنه ” لا يعتمد باستخدام البصمة الوراثية في إثبات نسب  إلا في حالة براءة المرأة المتزوجة إذا اتهمها زوجها بالزنا أو في حالة إثبات نسب الولد لأبيه، حتى لا يقع الولد في مشكلات مستقبلة ، وذكر الدكتور أنه في حالة رفض الزوج الخضوع للتحاليل يعد هذا دليلا ضده وليس له ويكون م حق القاضي أن يفعله رغما ع الزوج”.[34]

وهذا النهج هو الذي يمكن أن يسلكه القضاء الموريتاني في غياب نص صريح حول استخدام الطرق العلمية لإثبات النسب وذلك من ناحيتين:

الناحية الأولى : أن القاضي يحتاج إلى دليل يمكنه من فض النزاع بالقدر الذي يجسد العدل بين المتخاصمين، وذلك بوضع الحقائق في مكانها الصحيح. وقد جاءت البصمة الوراثية بالمشاهدة الحقيقية للصفات الوراثية القطعية دون كشف للعورة ، أو مشاهدة لعملية الجماع بين الزوجين… ودون تشكك في ذمم الشهود، أو المقرين ، أو القافة ، لأن الأمر يرجع إلى كشف آلي مطبوع مسجل عليه صورة واقعية حقيقية للصفات الوراثية والتي تتطابق – كما ذكرنا – مع ما لأم والأب.

أما الناحية الثانية : فإن طرق إثبات النسب ليست تعبدية حتى يتحرج القاضي من إهمالها بعد ظهور نعمة الله تعالى بالبصمة الوراثية ، لذا لا يمكن إهمالها طالما أن القضاء في مجال النسب يأخذ بطرق الإثبات المفتوحة اقتفاء بالشريعة الإسلامية كما هو واضح من مفهوم “البينة”.

وعليه فسواء كان عن طريق المشرع الجزائري الذي أجز صراحة استخدامها، أم سكوت نظيره الموريتاني والذي يمكن أن يفسر على أساس القبول الضمني ما لم يظهر العكس،فإن هذا التفوق العلمي يعتبر سلاحا ذا حدين مما يقتضي الحذر ثم الحذر من استخدام الحد السلبي والهدام لأساس الكيان الأسري.

 – أنظر، أحمد حمد، المرجع السابق ، ص 93.[1]

 – يمنع التبني شرعا وقانونا [2]

    www.islamtoday.net – انظر  الدكتور وجد سواحل أحمد الأساليب الوراثية و دورها في مجال النسب  على الوقع   [3]

 – مقتبس من تشوار جيلالي ، الزواج والطلاق المرجع السابق ص 166.[4]

 المرجع السابق www.islamtoday.net- أنظر وجدي.[5]

 www.islamtoday.net- أنظر الدكتور وجدي مقتبس من [6]

 – أنظر ، المحكمة العليا ، غ.أ.ش، 15-06-1999 ،ملف 222674، م.ق 2001 ص88.[7]

 – أنظر ،تشوارجيلالي ، المرجع السابق م. ح .ع .و.أ .س03 .ح.ع01،ص14-15.[8]

 – أنظر، م 40 ق.أ.ج،فقرة أولى[9]

 – أنظر ، محمد محمود أبو زيد ، دور التقدم البيولوجي في إثبات النسب ، الحقوق ، جامعة الكويت، عدد01،1996،ص276.[10]

 – سورة الأعراف ، الآيات 105 – 108[11]

 – أنظر ، المواد 1و59 ، و61 من مدونة الأحوال الشخصية الموريتانية.[12]

– أنظر ، محمد محمود أبو زيد ، مرجع سابق ، ص 229.[13]

 – أنظر  ، تشوار جيلالي ، القضاء مصدر تفسيري تعسفي، مرجع سابق ،ص9.[14]

 – تعريف لغوي للبصمة الوراثية : هي أثر الختم بالأصبع ، يقال بصم بصما: إذا ختم بطرف أصبعه ، إذن فالبصمة عند الإطلاق ينصرف مدلولها إلى بصمات الأصابع : وهي الانطباعات التي تتركها عندما تلمس شيئا مسطحا مصقولا . أنظر المعجم العربي الأساسي ، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ، المطبعة العربية للتربية والثقافة والعلوم ، ( بدون سنة) ، ص 159.[15]

 – الجينات هي التي تنقل الرسالة الوراثية من لأخر وتوجه نشاط كل خلية. [16]

 – أنظر مصطفى محمود ، دور البصمة الوراثية في تحديد النسب ، مجلة متخصصة في الدراسات والبحوث القانونية ، دار القبة لنشر والتوزيع، 03/2003 .، ص68.[17]

 – هذا التعريف مقتبس من الكعبي خليفة على ، انظر البصمة الوراثية وأثرها على الأحكام الفقهية، دراسة مقارنة ، دار الجامعة الجديدة للنشر، الإسكندرية، 2004 ،ص28-29.[18]

www.gulfkids.com – انظر ، عبدي محمد السبيل ، دلالة البصمة الوراثية على تثبت هوية الشخص ، على الموقع [19]

  • سورة الإنسان ، الآية 2.[20]

– مناقشات جلسة المجتمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي حول البصمة الوراثية في ندوة 15،ص 25، على الموقع، www.gulfkids.com [21]

 – انظر ، عمر محمد ، السبيل ، مرجع سابق .[22]

 – انظر ، تشوا رالجيلالي ، الزواج والطلاق اتجاه الاكتشافات الحديثة ، مرجع سابق، ص 166.[23]

 – انظر ، مصطفى محمود ، مرجع سابق ، ص 69.[24]

wwwislamtoday.net – مقتبس من [25]

  • انظر الدكتور تشوارجيلالي في كتابة الزواج والطلاق ، مرجع سابق ،ص166، وكذلك في كتابته القضاء مصدر تفسير ، مرجع سابق ، ص9.[26]

 – انظر المادتين 40 ق.أ.ج والمادة 59 م.أ ش.م. [27]

 – انظر ، المحكمة العليا ، 15/06/1999 المشار إليه سابقا ص 156 من هذه الدراسو.[28]

 – سورة النساء الآية 94.[29]

 – سورة هود، الآية 17.[30]

 – أنظر ، جريدة النصر ، 11/06/2007 ،ص 12.[31]

 – أنظر المادتين 40و41 ق.أ.ج.[32]

 www.Alltaba.com- أنظر، فتوى على جمعية  على الموقع [33]

 www.islamtoday.net- أنظر ،فتوى الشيخ الفرضاوي ، على الموقع [34]

إقرأ أيضاً

العمل لأجل المنفعة العامة للأحداث وفقا لمسودة مشروع القانون الجنائي ومشروع قانون المسطرة الجنائية

العمل لأجل المنفعة العامة للأحداث وفقا لمسودة مشروع القانون الجنائي ومشروع قانون المسطرة الجنائية Work …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *