وضعية الإسلام في الدستور المغربي

وضعية الإسلام في الدستور المغربي

الحسن المحندي،باحث في سلك الدكتوراه بوحدة “دراسات في الدين و السياسة”،بكلية الآداب و العلوم الإنسانية بنمسيك بالدار البيضاء.

تمهيد

اعتبارا لكون الدولة المغربية دولة إسلامية مند قرون خلت و إلى غاية  يومنا هذا،و وفقا لمفهوم الدولة الحديثة  التي جعلت من الإسلام أحد أعمدتها،و ركيزة أساسية  للنظام السياسي المغربي الذي يجمع بين الأصالة المرتبطة بالإسلام و بين المعاصرة المتعلقة بمقومات الدولة الحديثة التي تسعى  إلى الفصل بين السلط، و حيث أن التشريع المغربي قد اعتمد في جزء كبير منه على الفتاوى و النوازل الفقهية التي شكلت على مدار تاريخ التشريع بالمغرب إطارا قانونيا يحتدى به و يستلزم التطبيق لحل المشكلات الخلافية عبر العصور الماضية ، يجعلنا نطرح التساؤل التالي:  كيف عمل الدستور المغربي على إدراج دين الإسلام بمتنه؟و ما هي المكانة التي أولاها له؟،و كيف يعتمد النظام المغربي على الدين في قيادة الدولة؟و إلى أي حد يمكن اعتباره شريان النظام السياسي و محركه الأساس؟.

المطلب الأول: الإسلام و الدستور أية علاقة؟

  • الإسلام في الدستور المغربي

لقد نصت مختلف الدساتير المغربية منذ صياغتها الأولى سنة 1962 على أن المغرب دولة اسلامية  ) الذيباجة( كما نصت على أن الاسلام دين الدولة،و الدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية)الفصل6(،كما اعتبر الفصل 19:”الملك أمير المؤمنين….و هو حامي حمى الملة و الدين”.

مما يفيد بأن الفكر السياسي المغربي ظل مطبوعا منذ بداياته  الأولى بنزعة توفيقية تحاول الجمع بين الفكر السياسي الإسلامي )الشورى،البيعة،الخلافة (مع مستجدات الوعي الدستوري الحديث.حيث اعتمدت الحركة الدستورية و السياسية التي ابتدأت مع النخبة الاصلاحية بداية القرن العشرون على أصول فكرية مزدوجة، من خلال محاولتها العمل على تطوير مفاهيم الشورى و البيعة،اضافة الى اقتباسها من التجربة الأوربية بعض الأدوات التنظيمية اللازمة لتفعيل هذه المبادئ و بلورتها في نموذج واضح و ذلك بتكييف النموذج الدستوري الغربي مع المفاهيم السياسية الاسلامية حتى تحظى بالشرعية الدينية اللازمة.

و هكذا،فقد ظهرت مجموعة من الإرهاصات الأولية لتقييد سلطة الحاكم بعدما كانت مطلقة من خلال فكرة الانتخاب و بوادر النظام التمثيلي و تشكيل مجالس للأمة لتبادل الرأي وفق اختصاصات و مهام محددة،توجت هذه الأفكار بتشكيل مجلس للأعيان )1905 ( و بإقالة المولى عبد العزيز و بيعة أخيه مولاي عبد الحفيظ بيعة مشروطة اعتبرت بمثابة ميثاق دستوري و سياسي أنداك،و هو ما دفع بعبد الله العروي إلى القول بأنه:”لو لم يحصل نظام الحماية لربما تطور هذا النوع من البيعة تطورا طبيعيا إلى دستور مكتوب في الشكل الحديث”[1]،كما وجدت هذه الأفكار أسمى تعبير لها في مشروع دستور 1908 الذي حدد شكل الدولة و عناصرها،و تطرق لمجموعة من الحقوق و الحريات المستلهمة من التجربة الأوربية،و التي تحاول تبيئتها داخل التربة المحلية كفكرة المواطنة و الحرية و المساواة[2].

و هكذا حاولت النخبة المغربية لبداية القرن تنظيم السلطات و تقييدها انطلاقا من الأصول الفكرية الإسلامية مع توظيف أشكال التنظيم السياسي التي توصل إليها الغرب و انتقلت الى العالم الإسلامي،الشيء الذي يبرز بوضوح عند دراسة و تحليل المشاريع الدستورية التي طرحت في المغرب ما بين سنة 1901 و 1908،بحيث نلاحظ أن مشروع دستور 1908 تضمن 93 مادة موزعة على 10 أبواب،تطرق الباب الأول للحديث عن الدولة و الدين و السلطان،بينما اهتمت باقي المواد بالحديث عن مجلس الأمة و منتدى الشورى و مالية الدولة و الجبايات و حقوق و واجبات أبناء الدولة.

و يعزز مشروع 1908 الصفة الدينية للسلطان الذي يلقب بإمام المسلمين و حامي حوزة الدين     )المادة 6(،و يتمتع بالعديد من الصلاحيات المركزية التي تجعل منه الفاعل الرئيسي داخل الدستور،إذ باسمه تضرب النقود و تخطب الخطب،و له قيادة الجيش و إشهار الحرب و عقد الصلح، و إبرام المعاهدات مع الدول…و هو الذي يمثل الأمة و الدولة معا أمام الدول الأجنبية  )المادة11(،كما نص المشروع على مؤسسة أطلق عليها اسم “مجلس الشرفاء”،و من بين أبرز مهامها مراقبة ما يصدر عن مجلس الأمة من تقارير و لوائح و النظر في مدى انسجامها مع الشروط الستة التي حددها المشروع و على رأسها:”أن لا يكون هناك شيء مما يمس أساس الدين و جوهره أو يخالف نصا من القرآن الكريم و أن لا يمس بحقوق الأمة…و أن لا يضر بحقوق السلطان..و أن لا يمس الحرية و الدستور و الآداب العامة و أن لا يسبب خسائر لبيت مال المسلمين و أملاك الدولة…”مما يجعل منها مؤسسة للرقابة الدستورية و الشرعية و المالية إضافة لحماية الدين و حقوق السلطان، مؤسسة لا تؤمن بالفصل بين الشؤون الدينية و الدنيوية،رؤية تختزل منظورا سياسيا تمتزج فيه المصالح الدينية للناس بمصالح معاشهم و تحرص على خلق نوع من التوازن بين السلطات و المؤسسات التمثيلية،كما حرصت على أن تكون شرعية السلطات منبثقة عن بيعة تعاقدية مشروطة تعبر عن الإرادة الحرة للناس و تمنح للسلطان صلاحيات واسعة لكنها مقيدة بالشروط المتفق عليها و بالأجهزة المكلفة بالرقابة و حماية الحقوق العامة و ضمان الالتزام بالدستور.

إذن،فما دامت إمارة المؤمنين من المفاهيم المؤسسة و المؤطرة داخل الدستور المغربي،فإلى أي حد يمكن اعتبارها شريان النسق السياسي المغربي و محركه الأساس باعتبار الدولة المغربية دولة إسلامية بالأساس؟و ما هي الآليات و الوسائل التي يعتمدها النظام في قيادة الدولة و مؤسسات المجتمع؟

ب.امارة المؤمنين:

           ب.أ.مفهوم امارة المؤمنين:

يستفاد من قول ابن خلدون أن امارة المؤمنين هي لقب للخليفة أو للإمام،و تعريف أحدهما هو تعريف لإمارة المؤمنين مما يعني أن مصطلح أمير المؤمنين هو امتداد لفكرة الخلافة على اعتبار أن الرسول صلى الله عليه و سلم مستخلف على النبوة، و المسلمون خلفاء الله في الأرض و رئيسهم هو الخليفة،لقوله تعالى:”وعد الله الدين امنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الدين من قبلهم”[3]الامام أو الخليفة و كذا الامامة لفظان مختلفان مبنى مترادفان معنى،يضاف لكل واحد منهما من الأحكام ما يضاف للآخر،و الامامة كما عرفها الماوردي بقوله:”الامامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين و سياسة الدنيا”[4]،غير أن المراد بالإمامة قد يكون أشمل و أعم من الخلافة و السلطان و الولاية،حيث يقصد بها  الرئاسة الشرعية للأمة الاسلامية في حفظ الدين و سياسة الدنيا،و حسب تعريف ابن خلدون فهي:”حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية و الدنيوية الراجعة اليها،اذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع الى اعتبارها بمصالح الاخرة،فهو في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين و سياسة الدنيا به”[5].و هاتان الوظيفتان موكولتان في الدين الاسلامي الى أولي الأمر من المسلمين،الذي تجب طاعتهم في المعروف لقوله تعالى:”يا أيها الدين امنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه الى الله و الرسول ان كنتم تومنون بالله و اليوم الآخر ذلك خير و أحسن تأويلا”[6] .

و يكشف ميراث الأمم و الشعوب أن الدين كان و ما زال و سيبقى يتصل و يتحكم بالحاجات و المشاعر و القيم و التطلعات البشرية الأكثر عمقا،و أن تأثيره حاضر و ملموس باستمرار في أغلب مجالات الحياة الفردية و الجماعية،و هكذا الحال بالنسبة إلى الدين الإسلامي الذي شكل على مدار تاريخه الطويل و ما زال بؤرة كل القيم (حتى تلك التي تحكم السياسة)،و النظام الملكي في المغرب يعد أنموذجا لذلك. و عليه،فإن مكانة الدين تبقى بحاجة الى المزيد من البحث و التقصي و الدراسة،و لا سيما و أن العقد الأخير من القرن العشرين و ما تلاه سجل عودة الدين و بقوة بعد تراجع ثقة البعض في الأيديولوجيات العصرية و قدرتها على الخلاص و تحقيق التنمية[7]، فما هي اذن مكانة الدين في النظام الملكي المغربي المعاصر؟و كيف تطور مفهوم امارة المؤمنين في المغرب حتى أصبح في قلب النظام السياسي المغربي؟،و ما هي الآليات و الوسائل التي يعتمدها في قيادة الدولة و مؤسسات المجتمع؟.و لماذا يصر النظام المغربي على الاحتفاظ بإمارة المؤمنين؟هل لحماية الملة و الدين؟أم لأهذاف ضبطية و سياسية لتكريس سمو الملكية التنفيذية؟.

للإجابة عن هذه الأسئلة يستوجب الإحاطة بمفهوم  إمارة المؤمنين الذي يرتبط ارتباطا أصيلا بالتراث الإسلامي السياسي، حيث نجد لقب أمير المؤمنين خص به المجتمع الإسلامي عمر بن الخطاب،فقد كان أول خليفة يلقب بأمير المؤمنين كما أشار الى ذلك ابن خلدون في المقدمة:”فلما بويع لعمر يعهذه اليه كانوا يدعونه خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم و كأنهم استثقلوا هذا اللقب بكثرته و طول اضافته…و قد كان الجاهلية يدعون النبي صلى الله عليه و سلم أمير مكة و أمير الحجاز… و اتفق أن دعا بعض الصحابة عمر رضي الله عنه يا أمير المؤمنين فاستحسنه الناس و استصوبوه و دعوا به…و سمعها أصحابه فاستحسنوه و قالوا أصبت و الله اسمه،انه و الله أمير المؤمنين حقا،فدعوه بذلك و دهب لقبا له في الناس،و توارثه الخلفاء من بعده سمة لا يشاركهم فيها أحد باستثناء بعض الاستثناءات كما فعل الشيعة حين نعثوا عليا بالإمامة التي هي أخت الخلافة[8].

يستفاد من دلك أن مصطلح أمير المؤمنين يعد امتدادا لمصطلح الخلافة،.مما يعني أن لقب أمير المؤمنين هو نفسه لقب الخليفة أو الإمام لاشتراكهم في نفس المعنى أو القصد،و الإمامة كما عرفها الماوردي بقوله:”الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين و سياسة الدنيا”[9]،الا أن المقصود بالإمامة قد يكون أشمل من معنى الخلافة و السلطان و الولاية، حيث يقصد بها  الرئاسة الشرعية للأمة الإسلامية في حفظ الدين و سياسة الدنيا،و حسب تعريف ابن خلدون فهي:”حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية و الدنيوية الراجعة إليها،اذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع الى اعتبارها بمصالح الآخرة،فهو في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين و سياسة الدنيا به”[10].و هاتان الوظيفتان موكولتان في الدين الإسلامي إلى أولي الأمر من المسلمين،الذي تجب طاعتهم في المعروف لقوله تعالى:”يا أيها الدين امنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول إن كنتم تومنون بالله و اليوم الآخر ذلك خير و أحسن تأويلا”[11] .

و تكشف مختلف الحقب التاريخية لمختلف الأمم أن مسألة الدين ظلت تتصل و تتحكم في مختلف القيم و التطلعات البشرية عبر مر التاريخ و العصور،كما قال بدلك أحد المفكرين:”لقد وجدت و توجد جماعات إنسانية من غير فنون و علوم و فلسفات،و لكن لم توجد جماعة قط بدون ديانة”،مما يجعل سؤال :مكانة الدين في النظام السياسي المغربي سؤالا مشروعا و واقعيا يحتاج مزيدا من الدراسات و الأبحاث نظرا للإشكالات الكثيرة المطروحة الخاصة بهذا الحقل المعرفي.

ب.ب. دسترة امارة المؤمنين:

إن دسترة إمارة المؤمنين في جميع دساتير المغرب، قد جعلت من الحقل الديني أهم مورد لمشروعية النظام الملكي، و تنظيمه ضمن المجال المحفوظ للملك باعتباره أمير المؤمنين،أي كامتداد للوظائف التقليدية المرتبطة بوظيفة السلطان التي تحدثت عنها الأدبيات المتعلقة بالآداب السلطانية كابن رضوان و ابن الأزرق في تولية الخطط الدينية[12]، حيث تمنح صفة أمير المؤمنين للمؤسسة الملكية صلاحيات واسعة في الحقل الديني و الدنيوي نظرا لارتباطها بالطابق العلوي من الدستور الذي يترجم البعد القانوني الخلافي (نسبة للخلافة في تصورها السلطاني) و الممارسة السياسية التاريخية للسلاطين المغاربة (أي إمارة المؤمنين،البيعة،قداسة الخلافة،و الدين الإسلامي،و الحفاظ عليه الخ… )و من تم يرتكز هذا القانون على المكانة السياسية و الدينية للملك-الخليفة-،و علاقته بالأمة في غياب الوسطاء،و حتى لو كان هؤلاء الوسطاء هم البرلمان و الحكومة[13]،مما يجعل من إمارة المؤمنين العمق الاستراتيجي للملك الدستوري[14].

و يمكن القول أن مفهوم إمارة المؤمنين قد انتقل  إلى المغرب تزامنا مع تفكك الخلافة العباسية من الناحية العملية،و أصبحت المنطقة العربية الإسلامية تعرف  تعدد المراكز السياسية،فبالموازاة مع المشرق كان المغرب يعيش تاريخه السياسي المستقل،و للإشارة، فإن العهد العباسي و ابتداء من سنة 750م، أصبح معيار الانتماء إلى آل البيت شرطا رئيسيا في اختيار أمير المؤمنين،بحيث أن العباسيين بحكم انتمائهم إلى العباس ابن عبد المطلب  (عم الرسول ) حصروا إمارة المؤمنين في سلالته،غير أن الفاطميين (نسبة إلى فاطمة الزهراء بنت الرسول زوجة علي بن أبي طالب)،ظلوا متشبثين باشتراط النسب إلى علي و فاطمة بالنسبة لمن يتولى إمارة المؤمنين.

و بعد قيام الدولة المرابطية في المغرب التي حققت استقلالها عن المشرق، ظهر لقب جديد  مع يوسف بن تاشفين و هو لقب أمير المسلمين،هذا الأخير الذي رفض هذا اللقب بحجة أنه بربري صحراوي،و بأن هذا اللقب لا يمكن أن يصير إلا لرجل منحدر من السلالة النبوية[15].

غير أنه مع الدولة السعدية و العلوية،و بعد توفر شرط الانتماء الى البيت النبوي،حل لقب “أمير المؤمنين:محل لقب “أمير المسلمين”،و أصبح السند الشريف من الأمور التي تتميز بها المؤسسة الملكية المغربية عن قريناتها في العالم الإسلامي،و أصبح القائم عليها يتباهى بانتمائه الى البيت النبوي،و هذه الخاصية اعتمدتها المؤسسة منذ نشأتها،و لا تتردد في التذكير بها و التأكيد عليها بشكل قوي في كل المناسبات[16] .

و قد تمكن لقب أمير المؤمنين من المحافظة على استمراريته و تجدره في الوعي السياسي و الديني للمغاربة، حيث تمت دسترته سنة 1962،ليخرج من دائرة التعبير على الارتباط الرمزي و الأخلاقي بالتقاليد الدينية،و يأخذ أبعادا أخرى تجعل الحامل للقب أمير المؤمنين،أي الملك،يتمتع بسند إضافي يضمن له شرعية دينية بوصفه قائما على أمور الجماعة المؤمنة (…) و اعتمادا على وظيفته الدينية السامية ينصب أمير المؤمنين الملك نفسه راعيا للإجماع بين أفراد و جماعات مكونة لمجتمع مسلم يربط بين مكوناته اعتقاد راسخ  بأحادية السلطة.و عليه،يتمتع أمير المؤمنين بسلطات لا تحد،و تشمل صلاحيات دينية و أخرى دنيوية.

و يمكن القول بأن مفاهيم البيعة و إمارة المؤمنين استطاعت أن تجد مكانا لها داخل المتن الدستوري،بشكل مباشر (أمير المؤمنين) أو بشكل غير مباشر (البيعة)،و تشكلت من خلالها بعض الأدوات الدستورية التي عملت على تنزيل الصلاحيات الواسعة لسلطة “الخلافة”أو الإمارة و إدماجها داخل الحقل الدستوري،مقدمة بذلك أحسن طريقة لاستغلال مفاهيم التراث السياسي الإسلامي لخدمة مركزية السلطة و تجسيدها في شخص “أمير المؤمنين”[17].

و عادة ما تتم الإشارة إلى عبارة “أمير المؤمنين” التي تضمنها دستور 1962 أنها قد أضيفت إلى النص الدستوري باقتراح من الدكتور الخطيب و تزكية من علال الفاسي لإظهار أن السلطة هي ذات مصدر الهي و أنها لا تتأثر بنتائج الاستفتاء أو صراع الأحزاب[18].

 

المطلب الثاني: مكانة الدين في النظام السياسي المغربي:

يحضى الدين الاسلامي بمكانة رفيعة و مقدسة في نفوس و عقول الشعب المغربي، فهم مسلمون سنة و مالكيون،اذ ليس في المغرب تعدد ديني أو طائفي أو تعدد مذهبي،”و كان الاعتبار الديني دائما هو المحرك الأساس لكل اهتمام سياسي بالشأن العام[19]،لذلك فإن الدين في المغرب،كان و ما زال شرط من شروط الوجود[20]،و معنى ذلك أن البعد التاريخي لمكانة الدين في النظام السياسي المغربي متجذر في التاريخ المغربي،اذ يؤدي العلماء و خطباء المساجد باستمرار دورا مهما في تعزيز  هذه المكانة التي يعتبرون مساندتها واجبا شرعيا يجب الالتزام به و المحافظة عليه طبقا لمقتضيات البيعة (العهد على الطاعة)،لذلك فإن محاولة طرح مسألة الدين في المغرب فيها نوع من المبالغة،نظرا الى ما يتمتع به المغاربة من وحدة،لأنه ليس في المغرب سوى دين واحد و مذهب واحد[21].

و تعتبر المرجعية العليا لأي دولة محددا لسياساتها،و حكما لمؤسساتها،و ما ينتج عنها من قوانين أو قرارات و خيارات،و يشكل الإسلام المرجعية العليا للدولة المغربية بمقتضى جميع دساتيرها المتعاقبة منذ أول دستور للمملكة سنة 1962 الذي نص في ديباجته كما هو حال الدساتير المتعاقبة الى غاية دستور 2011 على أن:”المملكة المغربية دولة إسلامية،و الدولة تضمن لكل واحد ممارسة شؤونه الدينية،و ما نص عليه تصدير مختلف الدساتير يتضمن المبادئ المرجعية و القيم العليا التي على الدولة أن تتقيد بها و تحتفظ عليها و تسعى لتحقيقها.

و تجدر الإشارة إلى أن الموقع المخصص للدين الإسلامي في تصدير 2011 جاء صريحا في كونه حاكما على بقية روافد الهوية المغربية ،و قد أكد ذلك تصدير دستور 2011 بعد أن تطرق لمحددات و مكونات الهوية الوطنية الموحدة بانصهار مكوناتها العربية و الإسلامية،و الأمازيغية،و الصحراوية،و الحسانية،و الغنية بروافدها الإفريقية،و الأندلسية،و العبرية،و المتوسطية،أكد أن هذه الهوية يميزها تبوئ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها.

و يؤكد الفصل الأول من دستور 2011 على هذه المرجعية بشكل صريح حينما نص على أنه:”تستند الأمة في حياتها العامة على ثوابت جامعة،تتمثل في الدين الإسلامي السمح،و الوحدة الوطنية المتعددة الروافد،و الملكية الدستورية،و الاختيار الديمقراطي”،و يتضح من خلال هذه الفقرة أن الدين الإسلامي يأتي على رأسها بما يفيد حكمه على بقية الثوابت الأخرى المشكلة للهوية المغربية،و يتجلى ذلك بوضوح حينما تطرق الدستور للقضايا المثيرة للخلاف بين القوى السياسية المدنية من قبيل:المواثيق الدولية و قضية المساواة بين الرجل و المرأة.

 أ. سمو المواثيق الدولية شرط عدم معارضتها لأحكام الدين الإسلامي

لقد جعل الدستور الجديد سمو المواثيق الدولية على التشريعات الوطنية في حال عدم مخالفتها لأحكام الإسلام،حيث كرس الدستور في فصله 132 إمكانية الطعن في دستورية تلك الاتفاقيات،فنص على أنه:” يمكن للملك،و كذا لكل من رئيس الحكومة و رئيس مجلس النواب و رئيس مجلس المستشارين و خمس أعضاء مجلس النواب،و 40 عضوا من أعضاء مجلس المستشارين أن يحيلوا القوانين أو الاتفاقيات الدولية قبل إصدار الأمر بتنفيذها،أو قبل المصادقة عليها إلى المحكمة الدستورية لتبث في مطابقتها للدستور”.

كما منح المشرع الدستوري حصانة دستورية لأحكام الإسلام من أية مراجعة تحت أي ظرف من الظروف و كيفما كانت الأسباب و الدوافع،و هذا ما أكدت عليه كافة الدساتير بدءا بدستور 1962 في الفصل 108 (،و دستور 1970 في الفصل 100،و دستور 1972 في الفصل 101،و دستور 1992 في الفصل 100 ،و دستور 1996 في الفصل 106 التي نصت جميعها على أن:” النظام الملكي للدولة وكذلك النصوص المتعلقة بالدين الإسلامي لا يمكن أن تتناولها المراجعة”،الشيء الذي زكاه الإصلاح الدستوري الأخير الذي نص في فصله 175 على أنه:” لا يمكن أن تتناول المراجعة الأحكام المتعلقة بالدين الإسلامي،و بالنظام الملكي للدولة،و بالاختيار الديمقراطي للأمة،و بالمكتسبات في مجال الحريات و الحقوق الأساسية المنصوص عليها في هذا الدستور”.

و يرجع تنصيص مختلف الدساتير المغربية على كون مراجعة  الدستور لا يمكن أن تشمل الإسلام بالإضافة إلى الملكية إلى عدة أسباب أهمها: أن المرجعية الإسلامية تشكل أحد المرجعيات التي تستند عليها شرعية المؤسسة الملكية “التي ترتبط بوظيفة إمارة المؤمنين التي تنبني على مسطرة البيعة كأحد الأسس التي تقوم عليها[22]،مما يجعل من المؤسسة الملكية و دين الإسلام ثابتان أساسيان و ركيزتان رئيسيتان قامت عليهما الدولة المغربية،و تربط بينهما علاقة تلازمية لاعتبارين أساسيين هما:

-وضعية الملك الدستورية باعتباره أمير المؤمنين

-علاقة الملك بالمؤسسات الدستورية.

ب– المساواة بين المرأة و الرجل:

رغم كون مسألة المساواة بين المرأة و الرجل من القضايا التي تثير باستمرار خلافا كبيرا بين المرجعيات المختلفة داخل المجتمع الواحد،الا أن الفصل 19 حسم الخلاف حينما نص على أنه:”يتمتع الرجل و المرأة على قدم المساواة بالحقوق و الحريات المدنية و السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و البيئية الواردة في هذا الباب من الدستور،و في مقتضياته الأخرى،و كدا في الاتفاقيات و المواثيق الدولية،كما صادق عليها المغرب،و كل دلك في نطاق أحكام الدستور و ثوابت المملكة و قوانينها.

و في بيان المجلس العلمي الأعلى الذي أصبح مؤسسة دستورية،ثمة تأكيد على أن “تشمل المساواة كافة المجالات،بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة و ثوابت المملكة و بما ينسجم مع مقتضيات الدستور.

إضافة لما سبق،فقد نص دستور 2011 على إجراءات دستورية متعددة تمنع المساس بالدين الإسلامي أو  المس بأحكامه و قيمه،و يتجلى دلك من خلال منع تأسيس أي حزب سياسي يبني هدفه المس بالدين الإسلامي كما ينص الفصل 7.

و في الفصل 64 من دستور 2011 ثمة تنصيص بشكل واضح على أن أعضاء البرلمان  لا يمكن متابعتهم بسبب إبداء آرائهم حول مسائل أو قضايا معينة،إلا إذا كانت آراؤهم تجادل في الدين الإسلامي أو بقية الثوابت الوطنية، و يلزم الفصل 165 الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري بالسهر على احترام التعبير التعددي لتيارات الرأي و الفكر،و الحق في المعلومة في الميدان السمعي البصري،و دلك في إطار احترام القيم الحضارية الأساسية و قوانين المملكة.

و يتوج الدستور الجديد إجراءات الحماية و التحصين للهوية المغربية التي يتبوأ الدين الإسلامي فيها مكان الصدارة بالفصل 175 الذي ينص على أن المراجعة لا تتناول الأحكام المتعلقة بالدين الإسلامي و بالنظام الملكي للدولة،و باختيارها الديمقراطي،و بالمكتسبات في مجال الحريات و الحقوق الأساسية.

الشيء الذي يفسر احتواء الدستور المغربي على بعض الفصول التي تعتبر تكريسا لمبادئ القانون العام الإسلامي خاصة المبادئ المتعلقة برئاسة الدولة و مركزها بتنصيصه على إمارة المؤمنين من جهة،علاوة على عدة فصول مستمدة من التنظيم السياسي العصري للدول التي تعمل بمبدأ الفصل بين السلطات،مما يبين أن الدستور المغربي يمزج بين مرجعيتين فكريتين:المرجعية الإسلامية كما حددها الفقهاء المسلمون انطلاقا من مصادر الشريعة و من الممارسة التاريخية للحكم في الدول الإسلامية،و المرجعية العصرية كما يتم تطبيقها اليوم في العديد من الدول سواء كانت إسلامية أو لا.

و انطلاقا من هده الازدواجية في التنظيم السياسي المغربي،يستوجب البحث في كيفية الأخذ في آن واحد بعناصر نظرية الإمامة التي تجعل مبدئيا السلط كلها بيد الإمام(رئيس الدولة) و بعناصر الأنظمة العصرية التي تتبنى فصل السلط و تضم مؤسسات تشارك في ممارسة الوظيفة التنفيذية و الوظيفة التشريعية.

المطلب الثالث:وضعية الملك الدينية و علاقته بالمؤسسات الدستورية و آليات تحديد السياسة الدينية للدولة

                  أ. وضعية الملك الدستورية باعتباره أمير المؤمنين

تصنف هده الوضعية في نظر “ريمون جاموس ” في نطاق “بركة السلطان”،أي أن جميع الأفعال التي يضطلع بها تدخل في نظره في هدا المجال. و بالنظر إلى ذلك يؤكد  نفس الباحث على أن العنف الناتج عن القوة العسكرية للسلطان،لا يعتبر عنفا بالمعنى المتداول و إنما يعتبر “عنفا قربانيا”،و ذلك بالنظر إلى مركز السلطان المغربي كزعيم و رمز لوحدة جماعة المؤمنين،كما تؤكد ذلك الباحثة”MAGALIE MORSY”.[23]

فالانحدار الاجتماعي للسلطان المغربي من السلالة النبوية،و التزامه و حرصه على احترام مسطرة البيعة و الشورى كأشكال لممارسة السلطة أو لدى المفاوضات أو المشاورات التي يجريها مع الفاعلين السياسيين و الاجتماعيين،تشكل ما يمكن اعتباره على المستوى الثقافي بالرأسمال الرمزي التقليدي للملكية المغربية تلجأ إلى توظيفه لحل الأزمات السياسية عن طريق استحضار و استلهام تجربة الرسول.

و قد استند النظام الملكي في المغرب على شرعية دينية مهدت لحكامه زعامة روحية و سياسية  شغلت منظومة القيم الدينية فيها مكانة محورية،فقد عد الإسلام في المغرب على مدار التاريخ بمثابة المحور  الذي انتظمت حوله البيئة السياسية برمتها في إطار ما سمي ب “نظام المخزن”.[24]

و عليه، فلا يمكن إخفاء العامل الديني و ما يؤديه من دور في الحياة العامة و الخاصة بالمغرب،و كذلك في تأثيره في القيم التقليدية ، حتى إن الأستاذ محمد الطوزي يرى ذلك متجليا في عقلية الشعب المغربي و تصرفاته،فضلا عن أنه يشير- الطوزي- إلى أن التنافس على السلطة يتحدد من خلال المكانة التي يحتلها المتنافسون داخل الحقل الديني[25].

إزاء ذلك، فالإسلام في المغرب يمثل أبرز الثوابت التي تضفي الشرعية الدينية  على الملك بكونه أميرا للمؤمنين  ،و من سلالة شريفة ترجع في نسبها إلى الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب(رضي الله عنهم أجمعين) ،هذا النسب الشريف الذي أصبح يمثل في المغرب جوهر كل مشروعية سياسية[26]،لا بل هذا الانتماء يخول الملك مكانة خاصة حتى داخل المجال الديني نفسه،و في ضوء هذا الفهم،فالمشروعية الشعبية للنظام الملكي في المغرب  تتجذر بصورة عميقة في التقاليد الإسلامية،كما تفهم محليا[27].

لذلك نجد أن الملك المغربي يستند إلى شرعيته الدينية و التاريخية في إدارة شؤون الحكم،فينطلق في ذلك من الالتزام بما جاء في عقد البيعة الذي هو أساس العلاقة التعاقدية و العهد بين الملك و الشعب.

و قد استطاعت الشرعية الدينية اللعب على ثلاثة أبعاد:تاريخية،قانونية،و لاهوتية.و قد اتخذت هذه  المسيرة اتجاهين: سياسي تمثل في إضعاف العلماء و تنويع المظاهر الدينية،و مذهبي تجسد في احتكار تأويل الخطاب الديني و تقديس شخص حفيد النبي[28].

     ب.علاقة الملك بالمؤسسات الدستورية و آليات تحديد السياسة الدينية للدولة:

يكتسي التنصيص على إمارة المؤمنين في الدستور المغربي ثلاث دلالات:

1.منح الأولوية للمشروعية الدينية.

2- عدم الفصل بين الوظائف الدينية و الوظائف الرمزية للملك.

3- تأكيد المرجعية الإسلامية للنظام السياسي المغربي[29].و تلتقي هذه الدلالات الثلاث حسب الدكتور محمد ضريف في خدمة هدف مركزي هو :”دولنة الدين”،أو بتعبير أوضح،جعل الدين عنصرا في بنية الدولة،و هو هدف مركزي يتجلى من خلال ثلاث استعمالات[30]:

أ.خدمة الإسلام للدولة: فكلما كانت بعض أحكام الإسلام تصب في اتجاه خدمة مصلحة الدولة،يتم التشديد عليها و إبرازها لتأكيد الطابع الإسلامي للدولة،في حين أن كل تناقض بينهما يتم تجاوزه باسم قراءة متسامحة لطبيعة الإسلام و أحكامه.

ب.التمييز في الإسلام بين العقيدة و الشريعة: فالإسلام في البنية الدستورية المغربية يفيد العقيدة و لا يفيد الشريعة. لذلك،فإن النص الدستوري المغربي حين يتحدث عن الإسلام،يتحدث عنه كدين،أي كعقيدة ليس إلا.

ب.أ. استخدام الإسلام كأداة لضبط سير المؤسسات الدستورية:

و في إطار ضبط المؤسسات الدستورية،استطاعت المؤسسة الملكية،من خلال هيمنتها على الحقل الديني،احتواء و محاصرة ظاهرة الإسلام السياسي،و من الآليات الفاعلة هنا،نجد وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية التي تتمتع ببنية خاصة في النظام السياسي المغربي،اذ تعتبر القناة المركزية التي تترجم السياسة الدينية للدولة،و من خلالها يتم تنظيم الشؤون الدينية للمواطنين و الإشراف عليها[31]. و من ثم،يمكن اعتبارها مظهرا من مظاهر إدماج الدين في بنية الدولة.

وتحرص المؤسسة الملكية على إبراز عدة مظاهر أثناء المواسم أو المناسبات الدينية لإبراز التزامها على المستوى الشعبي،بشعائر الدين،و نخص بالذكر:

– تنظيم الدروس الحسنية الرمضانية.

– الاحتفال الرسمي بالأعياد و المناسبات الدينية.

– الحضور الرمزي في الزوايا و المواسم عبر تقديم الهدايا و الإعانات.

  • إرسال البعثات الرسمية لأداء فريضة الحج.
  • إطلاق إذاعة محمد السادس للقران الكريم و القناة الفضائية”السادسة”.

و في إطار اعتبار الخصوصية الدينية ثابتا من الثوابت السياسية لإمارة المؤمنين قام الملك بمجهودات كبرى من أجل صيانة الخصوصية الدينية للمغرب في ظل التغيرات العالمية المعاصرة ،و التفاعل الحضاري بين الأمم و الشعوب.

و في هذا الصدد يقول جلالته في تحديد هذا الخيار:جعلناه ثابتا من ثوابت سياستنا[32]،و من ثم فإن العلماء كما يقول جلالته ،(الدين هم النواب عن أمير المؤمنين في تبليغ أحكام الشرع كانوا على مدى العهود و ما زالوا في طليعة بناة الوطن،و حراس كيانه،و المدافعين عن مقدساته،خداما للعرش الذي هو الدعامة و الضامن لاستمرار الأمن و الاستقرار،و كانوا بصدق و إخلاص و ولاء و وفاء بمساندة عفوية و تلقائية متجاوبين مع ملوكه الدين هم حماة الوطن و الدين،و رموز الشرعية و السيادة )[33].

ب.ب.  اللجوء إلى إمارة المؤمنين لتأويل الدستور و سد الفراغ التشريعي:

إن عناصر التأويل التي يلجأ إليها الملك تستند إلى المكانة السامية التي يتمتع بها بصفته أميرا للمؤمنين،و هي تمكنه من تحديد محتويات المفاهيم السياسية أيا كانت طبيعتها و موضوعها،كما  تجعله يفرض نفسه كمرجعية وحيدة لها الحق في إصدار المعاني و المفاهيم[34].و قد وضح الأستاذ محمد معتصم هذه الصورة بالقول إن ملك المغرب قد شكل نوعا من معهد لإصدار القيم الدينية و الدستورية و السياسية،و استأثر بمهمة التأويل الدستوري دون باقي المرجعيات الأخرى من فقه و برلمان و قضاء ،للاعتبارات التالية:

أ.نظرا إلى كون الملك يعمل في حقل رمزيته المسيطرة ذات الأصل الديني.

ب.نظرا إلى الطابع الإسلامي لعدة نصوص دستورية،و بالأخص المكانة الرمزية للفصل 19 من  الدساتير السابقة  الذي كان يفضي إلى تخويل الملك مهام تأويل الدستور إدا لم تسعفه في  ذلك سلطات الملك الدستوري،و ذلك عن طريق لجوء أمير المؤمنين إلى سلطاته الضمنية  لتمكين الملك الدستوري من اختصاصات يواجه بها الضرورات و المستجدات السياسية كما حدث حين انسحب نواب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية  من البرلمان في تشرين الأول/أكتوبر 1981 على اثر تعديل تعديل الفصل 43 من دستور 1972 باستفتاء شعبي،بناء على اقتراح ملكي،في 30 أيار/ماي 1980،الذي قضى بتمديد مدة انتداب البرلمان الى ست سنوات،حينها قررت المعارضة الاتحادية،في تشرين الأول/أكتوبر 1981،الانسحاب من برلمان 1977،مثيرة إزاء ذلك انتخابه لمدة أربع سنوات فقط،و مستندة إلى مبدأ عدم رجعية القوانين[35]،و لتخلص إلى أن نتائج التعديل السالف الذكر لا ينبغي أن تنطبق على برلمان 1977.و بناء على ذلك،اعتبر النواب المنتمون الى الحزب السالف الذكر أن فترة نيابتهم قد انتهت.

و أمام هذا المأزق السياسي، و ما نتج عنه من إخلال بالنظام العام،واجه الملك قرار المعارضة الاتحادية بانسحابها من البرلمان بقرار مضاد يقضي بعدم الاستجابة لرغبة هؤلاء النواب في الانسحاب[36]،حيث وجه لها تحذيرا قويا هدد فيه بحل الحزب و وضعه خارج القانون في حالة انسحابه الفعلي من البرلمان[37].

و في هذا السبيل لم يتردد الملك في اللجوء إلى البعد الثيولوجي و الإيحائي و الرمزي للدستور حينما فطن إلى ممارسة التأويل انطلاقا من وضعه كأمير للمؤمنين استنادا إلى الفصل 19 من الدستور،لإرغام الفريق الاتحادي على العدول عن قراره،حتى لا يسري عليه حكم الخارجين عن جماعة المسلمين[38].

لقد لجأ الملك الحسن الثاني إلى توظيف الآلية الدينية لدحض ما ارتكز عليه الاتحاديون في قرارهم بالانسحاب،إذ لم يتحدث الملك عن المؤسسة البرلمانية باعتبارها رمزا للممارسة الديمقراطية و التعاقد بين الشعب و منتخبيه. و إنما تحدث عن الخروج عن الجماعة،في إحالة على المشروعية الدينية التي تضع نفسها فوق المشروعية الديمقراطية[39].و قد أبان هذا التكتيك عن فعاليته،حيث عاد نواب الاتحاد الاشتراكي إلى البرلمان في 25 تشرين/أكتوبر 1981.

خاتمة:

يستفاد مما سبق،أن مؤسسة إمارة المؤمنين تمثل أعلى سلطة سياسية و دينية و تنفيذية تأسست على أسمى المشروعيات التي قامت عليهم الملكية بالمغرب و هي المشروعية الدينية.و بالتالي،فهي مشروعية تاريخية و متعالية تستمد قوتها من المقدس،و تستند على مرتكز شعبي كذلك هو البيعة،لهذا،تعتبر ثنائية الديني و السياسي في النظام السياسي المغربي مسألة بنيوية تجدرت من خلال تواثر العلاقة بينهما طيلة تاريخ المغرب، فتمت دسترتها ضمن جميع دساتير المغرب بدءا بدستور 1962 إلى حدود الوثيقة الدستورية الحالية، و تمت هيكلتها في إطار ما سمي بإعادة هيكلة الحقل الديني في المغرب،و الإستراتيجية الرسمية لمواجهة التكفير و الإرهاب.

و يمكن القول أن مؤسسة إمارة المؤمنين  تظل هي الفاعل السياسي و الديني الرئيسي في المغرب،حيث اتضحت بشكل جلي أهمية و ثقل و وزن هذه المؤسسة خلال اندلاع ما بات يعرف ب “الربيع العربي” في نسخته المغربية التي تميزت بنوع من الاستقرار مقارنة مع السائد من الأنظمة التي شهدت إسقاط أربع رؤساء،و اتضح كذلك دورها على الخصوص في مرحلة ما بعد اندلاع هذه الأحداث مع كثرة الصراعات السياسية بين مختلف الفرقاء السياسيين،الشيء الذي يبرز سمو المؤسسة الملكية في قلب الوثيقة الدستورية،و سعيها للحفاظ على وظيفتها التحكيمية داخل الحقل السياسي و الحزبي،و على التوازنات السياسية و الاجتماعية و الثقافية داخل المجتمع المغربي.

 

 

 

 

المصادر و المراجع المعتمدة:

-القرآن الكريم.

– دساتير المملكة المغربية.

– خطاب أمير المؤمنين الملك محمد السادس في حفل تنصيب المجلس العلمي الأعلى و المجالس الإقليمية  بتطوان بتاريخ 18 رمضان 1424ه الموافق 15 دجنبر 2000م.

– ابن خلدون عبد الرحمان ، المقدمة ، مطبوعات مكتبة الحاج عبد السلام بن محمد بن شقرون ،مصر ( ب ت).

– عز الدين العلام،الآداب السلطانية دراسة في بنية و ثوابت الخطاب السياسي،سلسلة عالم المعرفة،فبراير 2006.

– عبداللطيف أكنوش،السلطة و المؤسسات السياسية في مغرب الأمس و اليوم،مكتبة بروفانس الدارالبيضاء 1988.

– محمد الطوزي،الملكية و الإسلام السياسي في المغرب،ترجمة محمد حاتمي،خالد شكراوي،و راجع نصوصه عبدالرحيم بنحادة،نشر الفنك بالدارالبيضاء،ط 2001.

– محمد عابد الجابري،الحركة السلفية و الجماعات الدينية المعاصرة في المغرب،مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت،1987.

– أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي،الأحكام السلطانية و الولايات الدينية،تحقيق الدكتور أحمد مبارك البغدادي،مكتبة دار ابن قتيبة الكويت،الطبعة الأولى:1409ه/1989م

المقالات:

– عز الدين العلام،الآداب السلطانية دراسة في بنية و ثوابت الخطاب السياسي،سلسلة عالم المعرفة،فبراير 2006.

– عبد العلي حامي الدين،الدين و الدولة في الدستور المغربي:قراءة تاريخية،وجهة نظر،عدد مزدوج 25/26 صيف 2005.

– ريمي لوفو،الإسلام و التحكم السياسي في المغرب،المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي،ع 13- 14،السنة 1991-1992.

المسكي محمد،مؤسسة إمارة المؤمنين مقاربة في المفهوم و الممارسة،وجهة نظر،ع10،سنة 2001.

-عبدالله العروي،أهم المحطات التاريخية في الحياة الدستورية المغربية،سلسلة تشييد دولة حديثة.

– محمد معتصم ، التطور التقليداني للقانون الدستوري المغربي،، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في الحقوق ، كلية الحقوق بالرباط،سنة 1988 .                                          

– حيدر ابراهيم علي،الأسس الاجتماعية للظاهرة الدينية:ملاحظات في علم اجتماع الدين،ورقة قدمت بعنوان:الدين في المجتمع العربي (ندوة) بيروت،مركز دراسات الوحدة العربية،1991.        

-عبد العلي حامي الدين،الدين و الدولة في الدستور المغربي:قراءة تاريخية،وجهة نظر،عدد مزدوج 25/26 صيف 2005،.

– ريمي لوفو،الإسلام و التحكم السياسي في المغرب،المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي،ع 13- 14،السنة 1991

عبد الناصر فتاح الله،تجربة الحركة الإسلامية في المغرب،مجلة دراسات شرق أوسطية،السنة 4،العددان 7-8 مارس 1999.

-المسكي محمد،مؤسسة إمارة المؤمنين مقاربة في المفهوم و الممارسة،وجهة نظر،ع10،سنة 2001.                  – ديل ايكلمان،الإدراك المتغير لسلطة الدولة في ثلاث دول عربية،مصر و المغرب و عمان،المستقبل العربي،السنة 10،العدد 99،ماي 1987.                                                                                                       

– محمد الطوزي،الإسلام و الدولة في المغرب العربي المغرب الجزائر تونس،المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي،العدد 13-14،السنة 1991م/1992.

– محمد ضريف،الإسلاميون المغاربة،حسابات السياسة في العمل الإسلامي،1969-1999 (الرباط:المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي،1999).

– محمد ظريف،الدين و السياسة في المغرب:من سؤال العلاقة الى سؤال الاستتباع،(الرباط:المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي،2000).

– عبد العلي حامي الدين،سؤال الانتقال الديمقراطي بالمغرب:المعوقات الدستورية للانتقال.وجهة نظر،العدد 23،سنة 2004.

-محمد معتصم،الحياة السياسية المغربية،1962-1991:التأويلات الدستورية،الممارسة السياسية للحكم،الظاهرة الأغلبية،وضعية المعارضة،قواعد اللعبة السياسية،المسلسلات الانتخابية،الحياة الحزبية.

– محمد ظريف،في حوار مع أسبوعبة الصحيفة (23 نيسان/أبريل 2003).

الأطروحات:

– عبد اللطيف بكور،دور المؤسسة الملكية في إحلال التوازن السياسي في المغرب،أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام،جامعة محمد الخامس،كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية،الرباط،2001-2002.

-عبد العلي حامي الدين،المسألة الدستورية في الفكر السياسي المغربي المعاصر،أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في القانون العام،كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية،أكدال الرباط،2002.

 

  – باللغة الفرنسية:

 

– Mohamed tozy ;champ politique et religieux au maroc ,croisement ou hierarchisation ?Mémoire pour diplôme d’études supérieures et sciences politiques. faculté sciences juridiques économiques et sociales.casablanca.avril 1980.

 

 

[1] – عبدالله العروي،أهم المحطات التاريخية في الحياة الدستورية المغربية،سلسلة تشييد دولة حديثة،ص 54.

[2] –  عبد العلي حامي الدين،المسألة الدستورية في الفكر السياسي المغربي المعاصر،أطروحة دكتوراه في القانون العام، كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية،أكدال،بالرباط،ص 40 و ما بعدها.

[3] -سورة النور الاية 55.

[4] أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي،الأحكام السلطانية و الولايات الدينية،تحقيق الدكتور أحمد مبارك البغدادي،مكتبة دار ابن قتيبة الكويت،الطبعة الأولى:1409ه/1989م، ص 3.

[5] ابن خلدون عبد الرحمان ، المقدمة ، مطبوعات مكتبة الحاج عبد السلام بن محمد بن شقرون ،مصر ( ب ت)،ص 151.

[6] -سورة النساء الآية 59.

[7] – حيدر إبراهيم علي،الأسس الاجتماعية للظاهرة الدينية:ملاحظات في علم اجتماع الدين،ورقة قدمت بعنوان:الدين في المجتمع العربي (ندوة) بيروت،مركز دراسات الوحدة العربية،1991،ص 32.

[8] -ابن خلدون ،م س،ص 178.

[9] -الماوردي،م س،ص 5

[10] -ابن خلدون،م س،،ص 151.

[11] -سورة النساء الآية 59.

[12] -عز الدين العلام،الآداب السلطانية دراسة في بنية و ثوابت الخطاب السياسي،سلسلة عالم المعرفة،فبراير 2006.

[13] -عبداللطيف أكنوش،السلطة و المؤسسات السياسية في مغرب الأمس و اليوم،مكتبة بروفانس الدارالبيضاء 1988،ص 172.

[14] – محمد معتصم في أطروحته الجامعية،التطور التقليداني للقانون الدستوري المغربي،كلية الحقوق بالرباط،سنة 1988،ص 215.

[15] – عبد اللطيف أكنوش،م س،ص 55-65.

[16] – محمد الطوزي،الملكية و الاسلام السياسي في المغرب،ترجمة محمد حاتمي،خالد شكراوي،و راجع نصوصه عبدالرحيم بنحادة،نشر الفنك بالدارالبيضاء،ط 2001،ص 47.

[17] -عبد العلي حامي الدين،الدين و الدولة في الدستور المغربي:قراءة تاريخية،وجهة نظر،عدد مزدوج 25/26 صيف 2005،ص29.

[18] -ريمي لوفو،الاسلام و التحكم السياسي في المغرب،المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي،ع 13- 14،السنة 1991-1992، ص 169.

[19] -عبد الناصر فتاح الله،تجربة الحركة الإسلامية في المغرب،مجلة دراسات شرق أوسطية،السنة 4،العددان 7-8 مارس 1999،ص 44.

[20] – محمد عابد الجابري،الحركة السلفية و الجماعة الدينية المعاصرة في المغرب،مرطز دراسات الوحدة العربية،بيروت،1987،ص 234.

[21] – نفس المصدر ص 234.

[22] -ينظر في دلك إلى:

-المسكي محمد،مؤسسة إمارة المؤمنين مقاربة في المفهوم و الممارسة،وجهة نظر،ع10،سنة 2001،ص 15.

[23] -المسكي محمد،مؤسسة إمارة المؤمنين، م س، ص 16

[24] – الجابري،الحركة…،م س، ص 21. و المخزن:اصطلاح مغربي يقصد به الحكومة أو السلطة المركزية التي تتولى ادارة مؤسسات الدولة.

[25]_Mohamed tozy.champ politique et religieux au maroc.croisement ou hierarchisation?Mémoire pour diplôme d’études superieures et sciences politiques.faculté sciences juridiques économiques et sociales.casablanca.avril 1980.p 9.

[26]محمد ضريف،تاريخ الفكر السياسي  بالمغرب،أطروحة دكتوراه،كلية العلوم القانونية و الاقتصادية،الدار البيضاء،1990،ص 124.

[27] -ديل ايكلمان،الإدراك المتغير لسلطة الدولة في ثلاث دول عربية،مصر و المغرب و عمان،المستقبل العربي،السنة 10،العدد 99،ماي 1987،ص 127.

[28] – محمد الطوزي،الإسلام و الدولة في المغرب العربي المغرب الجزائر تونس،المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي،العدد 13-14،السنة 1991م/1992. ص 32.

[29] – محمد ضريف،الإسلاميون المغاربة،حسابات السياسة في العمل الإسلامي،1969-1999 (الرباط:المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي،1999)،ص 183.

[30] – محمد ضريف،الإسلاميون المغاربة،ص 183-184.

[31] – محمد ضريف،الدين و السياسة في المغرب:من سؤال العلاقة إلى سؤال الاستتباع،(الرباط:المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي،2000)،ص 92-93.

[32] –من نص خطاب أمير المؤمنين الملك محمد السادس في حفل تنصيب المجلس العلمي الأعلى و المجالس الإقليمية بتطوان بتاريخ 18 رمضان 1424ه الموافق 15 دجنبر 2000م.

                                                                                                             

[33] -من نفس الخطاب في حفل تنصيب المجلس العلمي الأعلى و المجالس الإقليمية بتطوان بتاريخ 18 رمضان 1424ه الموافق 15 دجنبر 2000م.

[34] -عبد العلي حامي الدين،سؤال الانتقال الديمقراطي بالمغرب:المعوقات الدستورية للانتقال.وجهة نظر،العدد 23،سنة 2004، ص 18.

[35] – ينص الفصل الرابع من الدستور  على ما يلي:”القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة و يجب على الجميع الامتثال له،و ليس للقانون أثر رجعي”.

[36] – عبد اللطيف بكور،دور المؤسسة الملكية في إحلال التوازن السياسي في المغرب،أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام،جامعة محمد الخامس،كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية،الرباط،2001-2002،ص 259.

[37] – محمد معتصم،الحياة السياسية المغربية،1962-1991:التأويلات الدستورية،الممارسة السياسية للحكم،الظاهرة الأغلبية،وضعية المعارضة،قواعد اللعبة السياسية،المسلسلات الانتخابية،الحياة الحزبية،ص 24.

[38] – بكور،المصدر نفسه،ص 259.

[39] – أنظر محمد ظريف،في حوار مع أسبوعبة الصحيفة (23 نيسان/أبريل 2003)،ص 10.

إقرأ أيضاً

الرقابة على الدستورية والأمن القانوني دراسة في ضوء الإجتهاد القضائي الدستوري المغربي

الرقابة على الدستورية والأمن القانوني دراسة في ضوء الإجتهاد القضائي الدستوري المغربي Constitutional control and …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *