النموذج التنموي :”الاسس النظرية الكبرى”

النموذج التنموي :”الاسس النظرية الكبرى”

الدكتور محمد البكوري

باحث في الحقوق

مقدمة                                  

كثر الحديث مؤخراً، في السياق المغربي “المتحرك” – شأنه شأن باقي السياقات التي ترنو، وبطموح مأمول ومشروع، اللحاق بركب الدول الصاعدة-، عن النموذج التنموي “الجديد”، بوصفه إحدى أهم “البراديغمات” المقترحة لتجاوز مثبطات الفعل التنموي القائم بالمغرب وإنهاء حالات سوء أنماط الحكامة المرتبطة به  :اجتماعياً، اقتصادياً، إدارياً، مؤسساتياً، معيارياً…، أي العمل الحثيث – وبحرص استشرافي شديد -على وضع التشخيصات الممكنة للأعطاب المساهمة في فشل ما هو كائن “تنموياً”، والتفكير في الصيغ الملائمة القمينة بضمان نجاح ما ينبغي أن يكون “تنموياً”[1].

هكذا، سنجد أن خطاب الملك محمد السادس حول النموذج التنموي “الجديد”[2]، كنموذج يتسم بكل أشكال الكفاية والنجاعة -والتي عليها أن تستجيب في عمقها للاحتياجات الملحة والمتزايدة للمواطنين والمواطنات-، فتح نقاشاً واسعاً حول إشكالية التنمية بالمغرب، حيث أصبح التفكير في نموذج تنموي “جديد” ومتطور، يحظى بالأهمية القصوى في انشغالات أعلى سلطة في البلاد والحكومة والفاعلين المؤسساتيين والسياسيين والمدنيين والباحثين. نموذج مفكر فيه، بتبصر وروية، يتوخى التجديد المستمر لغائياته وأهدافه والتجاوز المتواصل لمظاهر القصور المزمن والعجز البين التي قد تكبح رياديته.

ومن ثم يمكن القول، أن الوضع الراهن : محلياً، وطنياً ودولياً، أخذ يستوجب، وبالضرورة، بلورة نموذج تنموي “منتج” و”رائد” بالمغرب، يعمل في كنهه، وبشكل شمولي وهيكلي، على إيقاف التدفق السلبي لبؤر الانتكاس ومواطن الخلل، أو ما يمكن تسميته ب”التثاؤب التنموي المندحر” –  والمقصود به، أساساً، الصيغة التحديدية التالية : خطوة تنموية  متقدمة إلى الأمام وخطوتين تنمويتين متراجعتين إلى الوراء-.

وبذلك، يصبح توسيع / تعميق النقاش الحالي حول النموذج التنموي في سياق يتميز بتحول النماذج /البراديغمات وتطورها، سبيلاً آمناً، لا محيد عن الاسترشاد بمعياريته “الفضلى”، للوصول إلى حلول ناجعة وآنية للمشاكل المطروحة وتقويم الاختلالات المتنامية، والتي ما فتئت التقارير والمؤشرات الصادرة عن المؤسسات الوطنية والدولية المهتمة بقضايا التنمية البشرية تشير إليها، في كل وقت وحين.

ويبدو لزوماً، أنه، وقبل الحديث عن الفشل أو النجاح  على مستوى النموذج التنموي لأي بلد، الوقوف على مقومات وأسس هذا النموذج والبحث عن الصيغ  الممكنة لتبلوره وتطوره – من خلال تحليل مجمل مبادئه ودعاماته-، ودراسة مجمل الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية المحيطة به، والتي من الممكن أن يحدثها التحول الرئيسي في نمط تحسين مسارات سيرورة الحكامة ككل، من حيث بلوغ مدراك النموذج التنموي ” المثالي” أو “نموذج المثالidéal type للتنمية. ومن أبرزها، نجد على وجه الخصوص، ضمان الانتقالات الكبرى من دولة الريع إلى دولة الإنتاج، ومن تنمية محصورة أو ” معاقة” إلى تنمية “رائدة” ومنتجة، والاستفادة العادلة والمنصفة من عوائد التنمية، وتجسير فجوات المنظومة الخاصة بالتوازن المعياري السائد، وفي نهاية المطاف، التأسيس التكاملي / التفاعلي/ التشاركي لممكنات الانتقال التنموي “الحقيقي”.

إن التجارب العالمية المتراكمة، على صعيد المسارات التنموية المختلفة، وفي سياق استلهام التجارب كممارسات فضلى، ستمكن، بلا شك، من الانكباب، وبعزم شديد، على تقويم النموذج التنموي السائد داخل أية دولة من الدول. وذلك كله، من أجل مواكبة تحولاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية، مع ضرورة كبح شتى معيقات الفعل التنموي القائم.

على هذا الأساس، فدراستنا هاته – في  جانبها النظري كجزء أول من مساهمتنا حول  النموذج التنموي الجديد بالمغرب[3]-، تدخل في سياق إثراء النقاش الدائر، في الوقت الحالي، حول طرائق تجديد النموذج التنموي ببلادنا، وتعزيز قدراته، بما يمكنه-بعمق وسعة نظر- من التجاوز الأفضل للمثبطات التي تعترض سبل تحسين نمط الحكامة التنموية، وتقويم مجمل الاختلالات المرتبطة بهذا النمط، بغية التقوية الدائمة لاشتراطات التأسيس للمغرب الممكن –حسب تعبير ما سمي بتقرير الخمسينية- أو مغرب الحكامة.

فالرهان المطروح اليوم، وبقوة، هو الانخراط التام والكامل في إبراز مسارات الارتقاء الفعلي والفعال بأسس النموذج التنموي القائم والمساهمة في إغناء تجلياته المتعددة، من خلال  البحث الأكيد عن ما هو إيجابي، واقتراح المخرجات الضرورية، علمياً وعملياً، لمجابهة التحديات المطروحة واستشراف الرهانات المأمولة. كل ذلك، يتم في سياق “معولم” متسم بتحولات متلاحقة ومتسارعة، تمس في العمق، وعلى صعيد التجارب الدولية المختلفة في جميع أنحاء المعمور، كل السياسات التنموية المتوسل بها من طرف متخذي القرار “التنموي”.

كل المؤشرات السابقة، تدل على كون النموذج التنموي في كنهه النظري الصرف، هو إطار مؤسساتي متكامل الأبعاد لضبط التوازنات البنيوية والهيكلية ورسم السياسات المختلفة، وفق تصورات استراتيجية ورؤى استشرافية، تجعل من ترسيخ أسس التنمية المنصفة والمندمجة للمجتمعات غائيتها الكبرى، من خلال التأسيس لنموذج تنموي حقيقي وناجح، يعمل جاهداً على خلق الثروات وإنتاج الخيرات، وبشكل متماهي، الحرص على توزيعها التوزيع الديمقراطي- العادل- بين كافة مكونات المجتمع-أفراداً وجماعات-.

والنموذج التنموي – وفق هذا  التحديد الشمولي- غالباً ما يتم  الحديث عنه، في  نطاق المبادرات المتخذة من مختلف مكونات وعناصر الحكامة  لتحقيق أسس التنمية، وما يرتبط  بها من تقدم اقتصادي ورفاه اجتماعي، وما ينجم عنها كذلك، من “نواتج” إيجابية في تدبير سائر مجالات الفعل التنموي “المنشود” معيارياً.

[1] ­ في إطار ما يمكن  أن نعتبره  ب”عملية بناء براديغم جديد” يحول، وبصفة جذرية وحقيقية، طرائق التنمية، من سيادة  مؤشرات “الفشل” إلى تسييد مؤشرات النجاح . ونعتقد أن عملية البناء هاته، ستكون من أبرز المهام الملقاة على عاتق اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي”، والمعلن عنها في خطاب الذكرى العشرين لعيد العرش -29  يوليوز  2019 -. وهي اللجنة التي يلح الملك في نفس الخطاب، على أنها لن تكون إطلاقاً حكومة ثانية أو مؤسسة رسمية موازية، بل هي هيئة استشارية محددة الزمن من حيث المهمة الموكولة لها، ستشمل تركيبتها مزيجاً متنوعاً ومتداخلاً من التخصصات المعرفية والروافد الفكرية والكفاءات الوطنية في المجالين العام والخاص. ومن أهم الصفات التي ينبغي توفرها في تمثيلية هذه  اللجنة-من منظور الملك- الخبرة والتجرد والموضوعية، والتحلي بالشجاعة والابتكار في اقتراح الحلول والقدرة على فهم نبض المجتمع وانتظاراته، واستحضار المصلحة الوطنية العليا. وليحرص الملك بعد ذلك، على وضع خارطة طريق ينبغي الاسترشاد بها من طرف اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، عنوانها الاستراتيجي العريض :”التحلي بالجرأة  لرفع الحقائق التنموية ولو كانت قاسية ومؤلمة”. هذه اللجنة التي ينبغي –كما يرى الملك دائماً في خطاب العرش- أن تضع في حسبانها ، كون الأمر، لا يتعلق، أساساً، بإجراء قطيعة مع الماضي، وإنما تظل الغاية الكبرى من كل ذلك، هو  إضافة لبنة جديدة في المسار التنموي الوطني، في ظل الاستمرارية، من خلال العمل على اقتراح جيل جديد من المشاريع، من شأنه تعزيز قدرات بلادنا على  تحقيق ممكنات “الإنجاز التنموي” المرتفع، الكفيل في كنهه، بالاستجابة الفعالة لانشغالات المواطنين التنموية، المتعددة الأبعاد والمستويات. وبالتالي، السير، قدماً، بالمغرب -عبر التوسل بالنموذج التنموي “الموعود” والمتطور- ، نحو المجتمعات الرائدة “تنموياً”.

[2] ­ الخطاب الافتتاحي للدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية من الولاية التشريعية العاشرة للبرلمان أكتوبر 2017 . وهو الخطاب الذي أقر في مضامينه،  بالفشل الذريع للنموذج التنموي المغربي الحالي، لدرجة  معها، يمكننا اعتبار هذا التوصيف التشخيصي /  التقييمي، المؤكد  في سياقاته الكبرى، على  فشل النموذج الوطني المتبنى على صعيد سيرورة التنمية : اجتماعياً واقتصادياً وإدارياً وقيمياً…، شبيه تماماً، بإحدى التوصيفات الشهيرة للملك الراحل الحسن الثاني للأوضاع التنموية التي آلت إليها البلاد، خصوصاً خلال العقد الأخير من القرن العشرين. وهو التوصيف المعبر عنه ب”السكتة القلبية”.   

[3] ­  الجزء الثاني من مساهمتنا،  سيركز على النموذج التنموي الجديد بالمغرب، من حيث : أولأ، تحليل  الأعطاب  القائمة : الاجتماعية،  الاقتصادية  والإدارية… وثانيأ،  العمل على دراسة  مقومات الانتقال من ما يمكن أن نسميه ب “حكامة الدولة” إلى “دولة الحكامة” -مما هو “كائن” إلى ما يجب أن “يكون”  “تنموياً”- ، أي تحديد ماهية المستلزمات الضرورية لبناء  لبنات الصرح المتكامل للنموذج التنموي المنشود بالمغرب.

إقرأ أيضاً

العدد الثاني والاربعون من سلسلة الاعداد العادية لمجلة المنارة للدراسات القانونية والادارية /مارس-يونيو 2023

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد، …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.