أحدث التدوينات

النزاعات المتعلقة بالوضعية الفردية لمستخدمي المؤسسات العموميةأمام قضاء الإلغاء

النزاعات المتعلقة بالوضعية الفردية لمستخدمي المؤسسات العموميةأمام قضاء الإلغاء

صفية وبجضاط

باحثة بسلك الدكتوراه شعبة القانون العام

–كلية الحقوق الدار البيضاء-

تعتبر المؤسسات العمومية طريقة من طرق تدبير المرافق العمومية التي تحتل مركزا مهما  بين أساليب إدارة المرافق العامة بالمغرب ، فهي شخص من أشخاص القانون العام تتمتع بالاستقلالين المالي  والإداري ، و تخضع بصفة  أساسية  لقواعد القانون العام .

ويمكن تصنيف المؤسسة العمومية إلى عدة أنواع ،تدرج المؤسسات العمومية الصناعية و التجارية ضمن شكل من أشكالها ،نظرا لطبيعة نشاطها المتمثل في تدبير مرفق تجاري أو صناعي ، لكن مع خضوعها لقواعد القانونين الخاص والعام كل في نطاق محدد.[1]

و إذا كان هذا الإشكال لا يثار بالنسبة للعاملين بالمؤسسات العمومية الإدارية ، باعتبارهم موظفين يخضعون للنظام الأساسي للوظيفة العمومية ،و بالتالي يفصل في نزاعاتهم أمام المحاكم الإدارية، فإن الأمر مختلف بالنسبة للعاملين بالمؤسسات العمومية الصناعية و التجارية ،استنادا على كون النزاعات المرتبطة بهذه الفئة، تعتبر مثار جدل بخصوص الجهة القضائية المختصة ،و حتى إن استقرت بعض المواقف القضائية على تخويل الاختصاص للبث في هذا النوع من المنازعات لجهة القضاء الإداري، لكن يبقى تحديد المسار القضائي للدعوى الإدارية  من الإشكالات المطروحة بهذا الخصوص.

تعتبر مسألة تحديد الجهة المختصة من أهم الإشكاليات التي تعرفها منازعات مستخدمي المؤسسات العمومية الصناعية و التجارية ،لأنها تخضع لنظام قانوني مختلط، وإن كانت الغلبة فيها للقضاء العادي [2]، فقد تأرجحت أحكام القضاء الإداري المغربي في مجال المنازعات الخاصة بمستخدمي المؤسسات العمومية بين اعتبار أن الاختصاص في هذه المنازعة يرجع الى القضاء العادي وبين منح الاختصاص للقضاء الإداري.[3]

      والملاحظ ،من خلال تتبع أحكام القضاء الإداري المغربي،أن الاجتهاد القضائي مر بمرحلتين: الأولى تم الأخذ فيها بالمعيار العضوي كأساس للاختصاص القضاء الإداري؛[4] وفي المرحلة الثانية، تم تبني المعيار الموضوعي وشرط الدعوى الموازية من أجل استبعاد اختصاص القضاء الإداري في هذه المنازعات.[5]

وسنكتفي في هذه الدراسة الوقوف عند “منازعات الوضعية الفردية لمستخدمي المؤسسات العمومية أمام قضاء الإلغاء” وسنأخذ كنموذج المؤسسات الصناعية والتجارية ،وذلك وفق التقسيم التالي:

المبحث الأول: خصوصيات دعوى الإلغاء كآلية للنظر في نزاعات الوضعية الفردية لمستخدمي المؤسسات العمومية الصناعية التجارية

المبحث الثاني: تطبيقات دعوى الإلغاء في نزاعات مستخدمي المؤسسات العمومية الصناعية و التجارية

المبحث الأول: خصوصيات دعوى الإلغاء كآلية للنظر في نزاعات الوضعية الفردية لمستخدمي المؤسسات العمومية الصناعية التجارية

تعتبر دعوى الإلغاء مخاصمة للقرار الإداري، إذ يقوم القاضي الإداري ببسط رقابته على مدى التزام القرار، محل الطعن، بقواعد المشروعية (الفرع الأول) والحكم بإلغائه وفق إجراءات محددة بمقتضى القانون، في الحالات التي يجانب فيه الصواب و يخالف تلك القواعد(الفرع الثاني).

الفرع الأول: رقابة مشروعية القرار الإداري

تتمثل سلطة القاضي الإداري في إطار دعوى الإلغاء في رقابة المشروعية والنطق، إما بإلغاء القرار الإداري المتسم بأحد عيوب المشروعية المنصوص عليها في المادة 20 من قانون 41-90، المحدث للمحاكم الإدارية، وإما برفض الدعوى دون أن يتجاوز ذلك، كأن يحل محل الإدارة المختصة لإصدار القرار الصحيح عوض القرار الذي تم إلغاؤه، وهو أمر اقتضاه المبدأ القائل بفصل الوظيفة القضائية عن الوظيفة الإدارية[6].

 وبصفة عامة، يفترض المشرع، لقبول دعوى الإلغاء، توافر بعض الشروط المتعلقة بالطعن المنصوص عليها في الفصل الأول من قانون المسطرة المدنية، بحيث “لا يصح التقاضي إلا لمن له الصفة، والأهلية، والمصلحة لاقتضاء حقوقه”.

إلا أنه،  وإن كان الأمر كذلك، فقد أجمع الفقه والقضاء على أنه  لا يستلزم أن يكون رافع الدعوى صاحب حق أعتدي عليه، بل يكتفي بأن يكون في حالة قانونية خاصة إزاء القرار المطعون فيه، من شأنها أن تجعل القرار مؤثرا في مصلحة ذاتية له.

إلا أنه، رغم التوسع في شروط المصلحة في الدعوى، فهي لا يمكن أن تشمل مصلحة جميع المواطنين في أن تلتزم الإدارة حدود المشروعية في تصرفاتها، فلكي تقبل دعوى الإلغاء، يجب ألا يكتفي رافعاها بصفته العامة كمواطن، بل يتحتم أن تتوفر فيه صفة أخرى تميزه عن غيره، وتجعله في حالة قانونية يمسها القرار المطعون فيه ،لذلك جرى القضاء الإداري بمصر على أنه في دعاوى الإلغاء “تندمج الصفة في المصلحة، فتتوافر الصفة إذا ما توافرت المصلحة في رافع الدعوى، مادية كانت أو أدبية، سواء كان هو الذي صدر بشأنه القرار المطعون فيه أو غيره”[7].

وفي هذا السياق يقبل القضاء الإداري الطعون الموجهة ضد القرارات الفردية المتعلقة بأعوان مرافق الدولة، لكن شريطة أن يكون لتلك القرارات انعكاس مباشر على وضعية رافعي الدعوى، وإلى جانب هذه الشروط المتعلقة برافع دعوى الإلغاء، يفترض المشرع عدة شروط آخرى يجب توفرها في القرار المطعون فيه، حتى تكون الدعوى المقدمة مقبولة لدى القضاء الإداري، ومن ثم لكي يكون القرار المطعون فيه محلا لدعوى الإلغاء يجب أن تتوفر في الشروط الآتية:

  • الطبيعة الإدارية للقرار المطعون فيه؛
  • صدور القرار من جهة إدارية؛
  • الأثر القانوني للقرار المطعون فيه؛
  • الطبيعة النهائية للقرار؛

هذا، ولكي يكون القرار الإداري قابلا للطعن بالإلغاء يجب أن يكون مشوبا بأحد عيوب المشروعية، المنصوص عليها  في المادة 20 من قانون 41-90، بحيث يقصد بها تلك العيوب التي يمكن لمستخدمي المؤسسات العمومية الاستناد عليها من أجل إلغاء القرارات الإدارية المؤثرة في وضعيتهم الفردية، ويمكن تصنيف هذه العيوب إلى عيوب عدم المشروعية الخارجية، المتمثلة في عيب الاختصاص، وعيب الشكل، وعيوب عدم المشروعية الداخلية التي يقصد بها كل من عيب مخالفة القانون، وعيب الانحراف في استعمال السلطة، وعيب السبب.

كذلك ومن الخصائص المميزة لدعوى الإلغاء، أنها من النظام العام، حيث عمل القضاء الإداري، سواء المغربي أو المقارن، على توسيع وتسهيل اللجوء إليها، من خلال جعلها مفتوحة ضد كل قرار إداري ولو لم ينص عليها القانون، بل اعتبر أنه حتى وإن ورد نص يستثني بعض القرارات من الخضوع للطعن بالإلغاء، فإن الأصل أن أي قرار إداري قابل بذاته للطعن بالإلغاء في ظل دولة الحق والقانون، ويترتب على كونه من النظام العام بعض النتائج التي تستفيد منها الإدارة، خاصة على مستوى آجال رفع الدعوى، وعلى مستوى عدم قبول دعوى الإلغاء.

فبخصوص آجال رفع الدعوى، فقد نصت المادة 23 من قانون 41-90، على أنه “يجب أن تقدم طلبات إلغاء القرارات الصادرة عن السلطات الإدارية بسبب التجاوز في استعمال السلطة،  في أجل 60 يوما من تاريخ نشر، أو تبليغ القرار المطلوب إلغاؤه إلى المعني بالأمر”.

أما على مستوى عدم قبول دعوى الإلغاء فتصبح  كذلك، إذا توفر لطالب الإلغاء طريق قضائي آخر يحقق نفس النتائج التي يرجوها من دعوى الإلغاء، ويتعلق الأمر بالدعوى الموازية التي كرسها التشريع المغربي في الفصل360 من قانون المسطرة المدنية،  والمادة 23 من القانون 41-90، والتي نصت على أنه “لا يقبل الطلب الهادف إلى إلغاء قرارات إدارية إذا كان في وسع المعنيين بالأمر أن يطالبوا بما يدعونه من حقوق بطريق الطعن العادي أمام القضاء الشامل”.

ومن الخصوصيات التي تتمتع بها دعوى الإلغاء في التشريع المغربي، كونها معفية من الرسوم القضائية، إلا أنها غير معفية من المؤازرة بمحام، على خلاف المشرع الفرنسي، الذي جعل هذه الدعوى أكثر شعبية، فأعفاها من الرسوم القضائية ومن المؤازرة بمحامي.

 وعموما، إذا كانت المادة 8 من قانون 41-90 تنص على اختصاص المحاكم الإدارية في المنازعات المتعلقة بالوضعية الفردية في مرافق الدولة، والجماعات المحلية، والمؤسسات العمومية، فإن مجال تطبيق دعوى الإلغاء في هذا النوع من النزاعات، يعرف نوعا من التقييد.

الفرع الثاني: تقييد مجال دعوى الإلغاء في نزاعات الوضعية الفردية

لقد اعتبر الفقه أن مفهوم الوضعية الفردية يشمل جميع الأوضاع التي يكون مصدرها قانون الوظيفة الذي يخضع إليه صاحب الشأن ،وبتعبير آخر،تنشأ نزاعات الوضعية الفردية خلال الحياة الوظيفية للموظف أو العامل ،الممتدة من يوم  تعيينه إلى إنهاء الخدمة ،أيا كانت الحالة التي يوجد عليها، وطبيعة العلاقة القانونية  مع الشخص العام الذي يشغله ،فهي  ترتبط ارتباطا وثيقا بهذه الفترة، وتتعلق بجميع جوانب الوضعية الإدارية للموظف أو المستخدم.

إن هذا الأمر هو ما أكدته الغرفة الإدارية بتاريخ 17/10/1996، بقولها: “إن مصطلح الوضعية الفردية جاء على إطلاقه دون تقييد وحصر، وأنه يشمل جميع الحالات والأوضاع التي تعتري الموظف، وهو يعمل في خدمة الإدارة والمرفق أو المؤسسة، سواء فيما يتعلق بتسميته في وظيفة معينة، أو ترقيته، أو تأديبه، أو حصوله على أجوره ومستحقاته، إلى غير ذلك من الدعاوى التي يمكن أن يقيمها ضد الإدارة…”[8].

وأمام هذا الغموض بخصوص مصطلح الوضعية الفردية، فقد عملت المحاكم الإدارية، من خلال قضاء متواتر على إلغاء بعض القرارات، التي تمس الوضعية الفردية للمستخدمين، مع التحفظ في تحديد هذه الوضعيات، إذ ليس كل الوضعيات الفردية  يمكن الطعن فيها بالإلغاء.

ففي هذا الإطار، أكدت المحكمة الإدارية بالرباط، في قضية عبد الكريم بن منصور ضد المدير العام للمكتب الوطني للنقل ،أنه :”فضلا عن ذلك ،فإن المادة 8  من قانون 90-41 أعطت اختصاص البث في النزاعات المتعلقة بالوضعية الفردية للعاملين بالمؤسسات العمومية للمحاكم الإدارية.

ومعلوم أن مفهوم الوضعية الفردية الوارد في هذه المادة، ينسحب، حسب قرار الغرفة الإدارية رقم 734، الصادر بتاريخ 17/10/96، في الملف الإداري عدد 570/95 ،على الحالات التي تعتري الموظف وهو يعمل مع الإدارة، سواء فيما يرجع لترقيته، أو تأديبه، أو حصوله على أجوره ومستحقاته، مما يعني أن المحكمة الإدارية هي المختصة نوعيا للبت في الطعن موضوع النزاع، على اعتبار أن القرار المطعون فيه يتعلق بإجراء تأديبي ألحق مساسا بالوضعية الفردية للطاعن، وهذا الاختصاص بتحديد المشرع حسب المادة 8 من القانون السالف الذكر ،وحيث أن مفهوم الوضعية الفردية، وإن ورد عاما، سواء بالنسبة للموظفين، أو العاملين بالمؤسسات العمومية إلا أنه، بالنسبة لهذه الفئة الأخيرة ،ينبغي قصره على الحالات المتعلقة بالنقل، أو بالترقية، أو التأديب ، ولا يمكن تمديده إلا الحالات المتعلقة بالتعويض “[9].

ويستنتج من خلال هذا القرار، أن المحكمة الإدارية لا تقوم بإلغاء كل القرارات التي تمس الوضعية الفردية، بل تشترط أن لا يمتد إلى الحالات المتعلقة بالتعويض، لأنه سيؤدي إلى تطبيق قواعد القانون الخاص، وبالتالي فإن المحكمة الإدارية في هذه القضية حددت مجال تخصصها في إطار دعوى الإلغاء في حالات النقل ،والترقية ،والتأديب ،وهذه الحالات ،في أغلبها ،تتمتع فيها الإدارة بسلطة تقديرية.

ومن هذا المنطلق ،فإن المؤسسات العمومية لا يمكنها أن تستعمل سلطتها التقديرية بصورة مطلقة، وبالتالي فإن القاضي الإداري، وبذكاء، حاول أن يفسر مقتضيات المادة 8 و أن يطبقها بدون الخروج عن المنطق القانوني والمبادئ التي تحكم تخصص القضاء الإداري.

وتأكيد منه على تقييد مجال دعوى الإلغاء في نزاعات الوضعية الفردية لمستخدمي المؤسسات العمومية الاقتصادية ،فقد تواترت التطبيقات القضائية على قبول الطعن بالإلغاء المتعلقة بتأديب ونقل المستخدمين بالمؤسسات العمومية.

المبحث الثاني: تطبيقات دعوى الإلغاء في نزاعات مستخدمي المؤسسات العمومية  الصناعية و التجارية

لقد عمل القضاء الإداري على إلغاء مجموعة من القرارات الصادرة عن المؤسسات العمومية الصناعية والتجارية، والتي تمس بالوضعية الفردية لمستخدميها في مجال التأديب (الفرع الأول) و مجال النقل (الفرع الثاني).

الفرع الأول: إلغاء القرارات التأديبية

قرر المجلس الأعلى إلغاء قرار الطرد في قضية المريني  مولاي الحسن ضد المكتب الجهوي للحوز بمراكش، لأن المؤسسة لم تعرض الأمر على المجلس التأديبي، حيث قال بأن ” المقرر الذي اتخذه مدير المكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي للحوز، بشأن طرد الطاعن من منصبه كمساعد تقني فلاحي بدون أن يبت المجلس التأديبي في أمره ،حرم هذا الأخير من ممارسة حقه في الدفاع، خلافا للفصل 15 المشار إليه، مما يجعله معرضا للبطلان”[10].

نفس الموقف كرسه المجلس الأعلى كذلك من قرار تأديبي قضى بإلغائه، وذلك لأن القرار قام بمعاقبة المستخدم مرتين على نفس التقصير[11]، حيث أنه بتاريخ 22 يونيو 1976 طلب ” المستخدم  بسبب الشطط في استعمال السلطة، إلغاء القرار الصادر من المدير العام لمكتب التسويق والتصدير، القاضي بطرده من عمله …” وذلك لكون القرار المطلوب إلغاؤه خرق القانون الداخلي للمؤسسة، وخاصة الفصل 4، باعتبار كون التغيب المنسوب إلى المدعي كان مبنيا على شهادة طبية، وكذلك خرقه لمقتضيات الفصل 11 من العقدة النموذجية التي تحدد العلاقة بين المستخدمين الذين يمارسون مهام تجارية أو صناعية أو حرة وبين مشغليهم….. ومن جهة أخرى، فإن المجلس التأديبي لم يعط أي اهتمام له، وأنه لا يحق للمؤسسة معاقبته مرة ثانية، على نفس التقصير عملا بالمبدأ الذي بمقتضاه  لا يعاقب الشخص مرتين من أجل نفس المخالفة، ومن جهة أخرى حيث يتضح مما تقدم، أن القرار المطعون فيه منسوب بالشطط في استعمال السلطة، لهذه الأسباب قضى المجلس الأعلى بإلغاء القرار الصادر عن المدير العام لمكتب التسويق والتصدير”.

وهذا بالموازاة مع ما تنص عليه المادة 47 من مرسوم 14/11/63 المحدد للقواعد العامة المطبقة لمستخدمي هذه المؤسسات العمومية ،حيث أكد على أن السلطة التأديبية هي من اختصاص مديري المؤسسات العمومية، في مقابل الفصل 48، الذي أكد على أهم الضمانات التي يتمتع بها المعني في تأديبه من احترام لحقوق الدفاع، وهي نفس الضمانات التي يتمتع بها الموظف بمقتضى قانون الوظيفة العمومية[12].

وحكم إدارية فاس في قضية أحمد ملاك الله ،ضد المكتب الوطني للسكك الحديدية جاء فيه “أن هدف طلب المدعي إلى إلغاء القرار الإداري، الصادر عن السيد المدير العام للمكتب الوطني للسكك الحديدية، بتاريخ 28/04/2006، والقاضي بفصله من عمله كمستخدم لدى هذا المكتب تأسيسا، على كونه جاء غير مؤسس قانونا وواقعيا، وحيث أن المكتب الوطني للسكك الحديدية يعتبر مؤسسة عمومية ذات طابع تجاري، وأن المجلس الأعلى، اعتبر في العديد من قراراته، بأن القرارات الإدارية الصادرة عن مديري المؤسسات العمومية ذات الطابع التجاري، قرارات إدارية قابلة للطعن فيها عن طريق دعوى الإلغاء، بالرغم أن المعني بالأمر يبقى مجرد مستخدم لدى هذه المؤسسة، مما تبقى معه المحكمة الإدارية مختصة، نوعيا، للبت في النزاع”[13].

وفي ملف آخر صدر من المحكمة الإدارية بالرباط، بتاريخ 26/02/2008، يتعلق بالعقوبات التأديبية في حق مستخدمي بنك المغرب،  وجاء فيه: “حيث يهدف الطلب إلى الحكم بإلغاء القرار عدد 4552، الصادر من بنك المغرب بتاريخ 11/05/2007، بمعاقبة الطاعن بالإنذار المكتوب، وبخصم أجرة نصف يوم، مع ترتيب الآثار القانونية على ذلك، وحيث دفع بنك المغرب بعدم الاختصاص النوعي للمحكمة الإدارية للبت في الطلب بعلة أنه ليس مؤسسة عمومية، وعلى أن الطاعن يعتبر عون تنفيذ تربطه بالبنك علاقة القانون الخاص، وحيث أنه، طبقا لمقتضيات المادة 8 من القانون 41-90، المحدث للمحاكم الإدارية، فإن هذه الأخيرة تبقى هي الجهة القضائية المختصة بالبت في الطلبات الرامية إلى إلغاء القرارات الصادرة عن السلطات الإدارية بسبب تجاوز السلطة، ويرجع إليها اختصاص البت في المنازعة المتعلقة بالوضعية الفردية للموظفين والعاملين في مرافق الدولة، والمؤسسات العمومية والجماعات المحلية.

 لكن حيث أن والي بنك المغرب  مصدر القرار المطعون فيه شخص من أشخاص القانون العام، وسلطة إدارية، الشيء الذي تكون معه قرارات التأديب الصادرة عنه قرارات إدارية، وذلك بإعمال المعيار العضوي، ومن تم تعتبر قابلة للطعن فيها عن طريق دعوى الإلغاء، بقطع النظر عن العلاقة التي تربط الطاعن بالإدارة، هل هي خاضعة للقانون العام أم للقانون الخاص، وأن إعمال هذا المعيار يتماشى ومقتضيات المادة 8 من قانون 90.41 أعلاه ،التي أخذت به عندما نصت على اختصاص هذه المحاكم بإلغاء قرارات السلطات الإدارية بسبب تجاوز السلطة.

 وحيث، من جهة أخرى، فإن نفس القانون كرس المعيار المذكور، عندما أسند لهذه المحاكم الاختصاص في الوضعية الفردية لجميع الموظفين والعاملين في مرافق الدولة، والجماعات المحلية، والمؤسسات العمومية، وتتضمن قرارات التأديب دون تمييز بين ما إذا كانوا موظفون عموميون خاضعون لقانون الوظيفة العمومية، أو أعوان مؤقتين غير رسميين تربطهم بالإدارة علاقة عمل أخرى من غير علاقة القانون المذكور”[14].

يستنتج من خلال هذه الأحكام والقرارات، أن القاضي الإداري لا يتردد في إلغاء كل القرارات الإدارية التي تمس بالوضعية الفردية لمستخدمي المؤسسات العمومية الصناعية والتجارية، في حالة التأديب، باعتبارها أكثر مجال تتمتع فيه الإدارة بسلطة تقديرية مقيدة، وإلا فالقاضي الإداري لن يتردد في إلغاء أي قرار متسم بالشطط في استعمال السلطة دون الخروج عن مقتضيات الفصل 8 من قانون41-90، التي تحكم تخصص القاضي الإداري.

 فباستقراء الحكم رقم 103، بتاريخ 06/02/2006، ذهبت المحكمة الإدارية بالدار البيضاء، في قضية السعدي العابدي ضد المكتب الوطني للسكك الحديدية ،إلى القول: “حيث إن الطلب يرمي إلى الحكم على المدعي عليه بإرجاع المدعي ،وذلك لتوقيفه تعسفيا ،وطرده من عمله ،وحيث إنه لإرجاع المدعي إلى عمله ،وعلى ما أستقر عليه قضاء المجلس الأعلى( الغرفة الإدارية)، يتوقف على إلغاء قرار التوقيف والفصل من العمل”[15].

فالقاضي الإداري كيف طلب المدعي في هذه النازلة في حدود تخصصه ؛ أي فحص مشروعية قرار الطرد، إعمالا بالمادة 20من قانون 41-90.

الفرع الثاني: إلغاء القرارات المتعلقة بالنقل

لقد سبقت الإشارة أن القاضي الإداري يتدخل بإلغاء القرارات الإدارية التأديبية المرتبطة بوضعية المستخدمين بالمرافق الصناعية والتجارية، المتسمة بأحد عيوب المشروعية دون أن يتجاوز ذلك وبالإضافة إلى هذا النوع من القرارات الإدارية، المرتبطة بالوضعية الفردية للمستخدمين، نجد قرارات النقل التي كان مآلها الطعن بالإلغاء.

ففي قرار المجلس الأعلى رقم 369، بتاريخ 26/05/1996، في قضية عبد الجليل فنيش ضد بنك المغرب، قضى بما يلي:” حيث الاستئناف المصرح به من طرف بنك المغرب ضد الحكم الصادر عن المحكمة الإدارية بالرباط بتاريخ 21/12/1995، في الملف 163/95 والقاضي باختصاص المحكمة الإدارية في النزاع مقبول على الشروط المتطلبة قانونا.

وحيث يؤخذ من أوراق الملف، ومن محتوى الحكم المطعون فيه المشار إليه، أنه، بناء على مقال مقدم من طرف عبد الجليل فنيش، عرض هذا الأخير أنه موظف ببنك المغرب، وأنه بسبب كفاءته واستقامته فإنه يشغل منصب مهندس نائب مدير البنك، وفي نطاق مهامه وواجباته الوظيفية كان يثير، باستمراربعض التجاوزات والأخطاء الإدارية والمالية مع رؤسائه بالبنك، فأحيل على إثر ذلك على المجلس التأديبي، ثم لم تقدم أثناء انعقاده أي حجة ضده ،ورغم ذلك توصل برسالة مؤرخة في 12/5/1995 تقرر بموجبها  نقله تأديبيا من الرباط إلى وكالة بنك المغرب بأكادير، وأن قرار النقل المذكور لا يرتكز على أساس من الواقع والقانون ،ولذلك التمس الحكم بإلغائه .

 حيث قضت المحكمة الإدارية بالرباط باختصاصها للبث في النزاع بعلة أنه بالرجوع إلى الظهير المؤسس لبنك المغرب المؤرخ في 20/6/1959، فإن هذا الأخير يعتبر مؤسسة عمومية،  تتمتع بالشخصية المعنوية، والاستقلال المالي، وإن والي بنك المغرب يعين بمقتضى ظهير شريف، ويتولى إدارة وتسير مرفق عام اقتصادي  تابع للدولة، مما يجعله سلطة إدارية تكون قراراته، بالتالي، خاضعة للطعن فيها عن طريق دعوى الإلغاء، بقطع النظر عن خضوع المقرر الصادر عنه لأحكام القانون العام أو القانون الخاص.

  وحيث إنه من المسلم به أن المستأنف عليه يعمل في أحد مرافق الدولة، وهو بنك المغرب وحيث أن المشرع قد نص صراحة بوضوح في الفصل 8 من قانون 41.90 على أن النزاعات التي تهم العاملين في مرافق الدولة تخضع لاختصاص المحاكم الإدارية، إذا كانت تتعلق فعلا بوضعيتهم الفردية وحيث أن المقصود بالوضعية الفردية، كما استقر عليه الاجتهاد القضائي، هو كل ما يتصل بترقية المعني بالأمر وتأديبه، ونقله، وتسوية وضعيته الإدارية وحيث إن المستأنف عليه وإن كان يخضع في علاقته مع بنك المغرب لأحكام القانون العام، ولظهير 24/2/1958، إلا أن هذه العلاقة، وما يترتب عنها من نزاعات تهم وضعيته الفردية تظل من اختصاص المحاكم الإدارية بصريح العبارة أعلاه.

وحيث نستنتج مما سبق، أن الحكم المطعون فيه عندما صرح باختصاص القضاء الإداري للبت في النزاع المالي، كان في محله، ويرتكز على أساس سليم، مما يتعين معه تأييده ، ولذلك قضى المجلس الأعلى بتأييد الحكم المستأنف وبإرجاع الملف إلى المحكمة الإدارية بالرباط لمتابعة الإجراءات في القضية”[16].

هكذا إذن يلاحظ أن السلطة التقديرية للمؤسسة العمومية ،في مجال نقل مستخدميها تظل مقيدة  وتخضع لمقتضيات قانونية، وليست تعسفية، و تخضع للرقابة على مشروعية قراراتها من طرف القاضي الإداري ،عن طريق دعوى الإلغاء، دون تجاوز اختصاصه المعهود له في هذا المجال ،إذ يقتصر دوره في تمحيص وتفحص مشروعية القرار[17]، وإلغائه عندما يشوبه عيب من عيوب المشروعية، دون الخوض في مسائل أخرى قد يضطر معها القاضي لاستعمال وسائل القانون الخاص.

خاتمة :

فإذا كان المشرع قد حسم الآمر بخصوص الجهة المختصة في النظر في المنازعات المتعلقة بفئة الموظفين المعينين بظهير أو مرسوم أو موظفين في إطار وضعية الإلحاق فإن تحديد الجهة المختصة في البت في منازعات باقي المستخدمين لازال يعرف تباينا وتضاربا في مواقف القضاء الإداري وهو الأمر الذي دفع بهذا الأخير إلى تبني معيارين أحدهما عضوي والأخر موضوعي لتحديد الجهة القضائية المختصة .

إذ استقر الاجتهاد القضائي المغربي بداية على إعتماد  المعيار العضوي الذي ينظر إلى الجهة المصدرة للقرار كأساس لتحديد الاختصاص ليتم  الاعتماد في مرحلة لاحقة على المعيار الموضوعي.

وعليه إن قراءة العديد من القرارات والأحكام الصادرة عن القضاء الإداري المغربي والمتعلقة بنزاعات مستخدمي المؤسسات العمومية الصناعية والتجارية توحي بوجود تضارب وتباين في مضمونها ، الأمر الذي يستدعي ضرورة تدخل المشرع من أجل إعادة  صياغة الفقرة الثانية من المادة 08 باعتبار مضمونها جاء عاما ومطلقا ،لا يفرق في النزاعات الفردية لمستخدمي المؤسسات العمومية التجارية والصناعية بين النزاعات التي يسعى من خلالها المستخدم إلى إلغاء القرار الإداري وغيرها من النزاعات الرامية إلى المطالبة بالتعويض .


[1]   بوعشيق أحمد  ” المرافق العامة الكبرى ” دار النشر المغربية ، الدار البيضاء، الطبعة الخامسة، سنة 2000، ص 63 .

[2]  حسن حوات “أية استمرارية للمرافق العامة الصناعية والتجارية”، منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية ،عدد،35،2002،ص89

[3] Jean GaragnonMichel Rousset Droit administratif marocain Éditions La Porte, 1975,p

157-158

[4]  المرحلة الأولى، التي تم فيها الأخذ فيها بالمعيار العضوي كشرط لإسناد الاختصاص  للقضاء الاداري في مجال المنازعات المتعلقة بالوضعية الفردية لمستخدمي المؤسسات العمومية،  يكفي  أن يكون المقرر المطعون فيه صادرا عن المؤسسة العمومية، بصفتها سلطة  إدارية، ليتولى القضاء الإداري البت في النزعات، دون اعتبار للمركز القانوني للطاعن.

[5]  المرحلة الثانية، فقد تبنى القضاء المعيار الموضوعي وشرط الدعوى الموازية من أجل استبعاد اختصاص القضاء الإداري من البت في نزاعات مستخدمي المؤسسات  العمومية الصناعية والتجارية، وذلك على أساس أنه إذا كان في وسع المعني بالأمر، المطالبة بحقوقهم أمام المحاكم العادية، باعتبارها جهة قضائية موازية ،فإن رفع الدعوى أمام المحاكم الإدارية سيكون مآله عدم القبول .

[6]  حميد ولد البلاد ” اشكالات نزاعات الوضعية الفردية في ضوء الاجتهاد القضائي”، رسالة نهاية التدريب بالمعهد الوطني للدراسات القضائية ، 2003/ 2001 ، ص 61.

[7]  محكمة القضاء الإداري 11/2/1982 الدعوى رقم 3123 لسنة 35 القضائية أورده حميد ولد البلاد، مرجع سابق، ص 61.

[8]  قرار الغرفة الادارية  رقم بتاريخ 17/10/1996 أورده : محمد الصقلي حسيني، النزاعات المتعلقة بالوضعية الفردية للموظفين والعاملين في المرافق العامة بين القضاء الشامل وقضاء الإلغاء، م.م.إ.م.ت، مواضيع الساعة، عدد 47 ،2004 ، ص 44 .

[9] قرار الغرفة الإدارية رقم 734، الصادر بتاريخ 17/10/96، في الملف الإداري عدد 570/95.

[10]  قرار المجلس الأعلى رقم 23 بتاريخ 5/02/1975 وأورده إبراهيم زعيم الماسي، المرجع العلمي في الاجتهاد القضائي ـ الدار البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة 1996 ص 303.

[11]  قرار المجلس الأعلى عدد 148 بتاريخ 6/5/1977 ، مجلة القانون والسياسة والاقتصاد، عدد 4، ص 99

[12]  عبد الوهاب رافع، نزاعات الوضعية الفردية للموظفين والعاملين بالإدارة العمومية من خلال العمل القضائي ـ المطبعة والوراقة الوطنية ـ الطبعة الأولى سنة 2006 مراكش ، ص 45 .

[13]  حكم عدد 33 من الملف الإداري عدد 334/غ06 بتاريخ 09/01/2007 أحمد ملاك الله ضد المكتب الوطني للسكك الحديدية، (حكم غير منشور).

[14]  حكم المحكمة الإدارية بالرباط ،بتاريخ 28/2/2008 ملف عدد 453/07غ، ضد والي بنك المغرب (حكم غير منشور).

[15]  حكم المحكمة الإدارية بالدار البيضاء، حكم رقم 103 بتاريخ 06/02/2006، سعدي العابدي ضد المكتب الوطني للسكك الحديدية،( حكم غير منشور).

[16]  قرار مجلس الأعلى رقم 369 بتاريخ 26/05/1958 في قضية عبد الجليل فنيش ضد بنك المغرب، (قرار غير منشور).

[17]  محمد الأعرج “المنازعات الإدارية في تطبيقات القضاء الإداري المغربي” منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة مواضيع الساعة، عدد ،78، 2012،ص 87-88.

إقرأ أيضاً

تأثير السجناء المرضى النفسيين على المؤسسات السجنية

تأثير السجناء المرضى النفسيين على المؤسسات السجنية The impact of mentally ill prisoners on prison …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *