الأسباب التي ترفع العقوبة في التشريع المغربي
مقتوفي زكية
كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية
جامعة محمد الأول وجدة
مقدمة
تعاني المجتمعات على اختلاف نظمها وقوانينها قوة وضعفا من ظاهرة الجريمة، وتمثل هذه الظاهرة الخطيرة عبئا ثقيلا يواجه استقرار المجتمع وأمنه، ويهدد الكيان الإنساني في مختلف مكوناته .
ولقد اختلف التعامل مع هذه الظاهرة على مستوى السياسة الجنائية لكل تشريع انطلاقا من مجموعة من الخلفيات التي تحكم المجتمع، والتي بدأت تتطور بفضل جهود المختصين في مجال تضيق الجريمة، وتبسيط العقوبة إلى أقصى الحدود الممكنة انسجاما مع توجهات وتطلعات السياسة العقابية الحديثة بما يخدم ثلاثية المجرم الضحية المجتمع. إلا أن تبسيط العقوبة وتخفيضها قد يفقد أثره ويتجرد من معناه في الحالات التي ترتفع فيها العقوبة عن الحد القانوني المرسوم لها، نتيجة اقتران الجريمة بمجموعة من الأسباب والملابسات التي تؤدي إلى رفعها، سواء أكانت هذه الأسباب شخصية أو مادية، كحالات العود وظروف التشديد وحالات التعدد بنوعيه الصوري والحقيقي، مما فرض على المشرع إزاء هذه الحالات معاملة خاصة في التعامل مع الخارجين عن القوانين وذالك لزجرهم بعقوبات تتجاوز الحدود المعمول بها في الحالات العادية بغية تحقيق الجانب الردعي المتوخى من وراء تطبيق العقوبة، إذ أنه على الرغم من الأصوات المنادية بتكسير الحواجز العقابية وتفادي العقوبات السالبة للحرية، تضل الملابسات التي ترافق ارتكاب الجريمة وكذا حالات العود والتعدد، والتي تنم عن الخطورة الإجرامية في جانب شخصية الجاني أقوى الأسباب التي تبرر اللجوء إلى رفع العقوبة وتشديدها.
والتشريع المغربي من منطلق اهتمامه بفئة الخارجين عن النظام ومحاولة تأهيلهم وإدماجهم في المجتمع رسم ضمن سياسته العقابية مسارا يحدد معاملتهم وفق سلم عقابي يتناسب مع خطورتهم الإجرامية. إذن فما هي ملابسات وأسباب رفع العقوبة في التشريع المغربي؟ وماهي الحدود القانونية التي يصل إليها هذا الإرتفاع؟ هذا ما سوف نتعرض له في الدراسة التالية.
المحور الأول: العود
تعتبر ظاهرة العود أبرز المقاييس التي تحكم )بضم الميم (على نجاعة وقوة السياسة الجنائية المتبعة، من أجل القضاء على الجريمة واجتثاثها من الأصل وكذا على مفعولية البرامج الإصلاحية التي أصبحت قوام وهدف كل سياسة عقابية حديثة للنهوض بالجانب الشخصي والنفسي للمجرم، فمن خلال التطلع على الأرقام المتعلقة بحالات العود يمكن تشخيص المنظومة العقابية لكل تشريع قوة وضعفا .
و التشريع المغربي كغيره من التشريعات المعاصرة، طبع سياسته العقابية بأهداف الإصلاح والتقويم والتأهيل الذاتي للجاني وقطع الأواصر بينه وبين الجريمة، إلا أنه واجه ومازال يواجه ظاهرة العود إلى الجريمة، هذا العود التي تتحكم فيه مجموعة من المؤثرات والعوامل التي تطغى على الجوانب النفسية والشخصية للمجرم للرجوع به إلى براثن الجريمة .
ويكتسب العود مضمونه القانوني من معاودة ارتكاب الجاني لجريمة أو أكثر بعد أن يكون قد حكم عليه بحكم حائز لقوة الشيء المقضي به من أجل جريمة سابقة([1]) فمثلا الذي يرتكب نصبا ويدان من أجله ثم يرتكب جريمة سرقة أو خيانة الأمانة فانه يعتبر في حالة عود .
أما مضمونه من الناحية الشرعية، فيستنبط من عدم التوبة وتوغل الأفكار الإجرامية في بواطن الجاني إذ أن من سمات التوبة الندم على ما وقع والعزم ألا تقع مرة أخرى وبالعودة إلى الجريمة مرة أخرى تنتفي نية التوبة والندم([2]) وهذا هو تفسير الفقيه محمد أبو زهرة .
أما الفقيه عبد القادر عودة فقد فسره بأنه حالة الشخص الذي يرتكب جريمة بعد أخرى ويحكم فيها عليه نهائيا([3]) .
ولقد اعتبر المشرع الجنائي ظاهرة العود ظرفا من الظروف التي تؤدي إلى رفع العقوبة عن الحدود المألوفة للجريمة إزاء شخص الجاني الذي يستهين بمخالفة القانون ولمرتين أو أكثر، والتي لم تفلح في ردعه أو إصلاحه العقوبة الأولى سواء التي نفدت بالفعل أو الموقوفة التنفيذ، وذالك لمواجهة وتفادي خطورته الإجرامية. وباعتبار العود ظرفا من الظروف الشخصية التي تتعلق بالجاني فإنه لا يرفع العقاب إلا في من توافرت فيه دون باقي المشاركين أو المساهمين في الفعل الإجرامي .
ولتأطير هته الظاهرة التي أصبحت تقلق راحة المجتمع وأمنه وتثقل كاهل المؤسسات العقابية وتنم عن تدهور السياسة الجنائية المتبعة كان لابد علينا أن نتطرق لشروطها وأنواعها أثارها .
الفقرة الأولى: أنواع العود
ينقسم العود إلى عدة أقسام([4])عود عام وعود خاص، عود دائم وعود مؤقت، عود بسيط وعود متكرر.
العود العام: هو الذي لا يشترط فيه القانون المماثلة في الجريمة أي أن تكون الجريمة اللاحقة من نفس نوع الجريمة السابقة، وإنما ما يشترط هو فقط عودة الجاني إلى ارتكاب أية جريمة جديدة ويتم الحكم عليه بمقتضاها بحكم حائز لقوة الشيء المقضي به، ليكون في حالة عود ويتم بمقتضى ذالك رفع العقوبة في حقه طبقا للمادة155 / 156من ق ج .ويعتبر العود العام من صور العود الأكثر تشددا وذالك لعدم حصر مجاله في نطاق محدد ولقد طبقه المشرع المغربي في مادة الجنايات .
العود الخاص: هو الذي يشترط فيه أن تكون الجريمة الجديدة مماثلة للجريمة السابقة والتماثل قد يكون حقيقي كعودة ارتكاب الحاني لنفس الجريمة الأولى أو أن يكون التماثل حكمي أي بحكم القانون وذالك وفق ما نصت عليه المادة 157ق.ج .
العود الدائم: هو الذي لا يشترط فيه القانون مدة معينة تكون بمثابة الفاصل بين صدور الحكم السابق أو انقضاء العقوبة بسبب من أسباب الإنقضاء وبين ارتكاب الجاني الجريمة وهو تمت معالجته من طرف المشرع المغربي في المادة155ق.ج.
العود المؤقت: هو الذي يشترط فيه القانون مدة معينة مابين الحكم السابق أو بعد تنفيذ العقوبة وبين وقوع الجريمة الثانية فإذا وقعت بعد انقضاء هذه المدة فلا يتحقق العود وهو ما أخذ به المشرع المغربي في نص المواد156 157 159ق.ج.
العود البسيط: وهو حالة وجود حكم سابق تلاه ارتكاب الجاني لجريمة جديدة
العود المتكرر: يتحقق العود المتكرر بارتكاب جريمة جديدة بعد حكمين سابقين أو أكثر.
الفقرة الثانية : شروط العود
لقيام حالة العود كسبب من أسباب رفع العقوبة لا بد من توافر الشروط الضرورية لتطبيقه والتي تأطره من الناحية الموضوعية والإجرائية.
الشرط الأول: صدور حكم حائز لقوة الشيء المقضي به بمؤاخذة وعقاب شخص معين، إذ أنه من أجل اكتمال الإطار القانوني لقيام حالة العود ضرورة صدور حكم سابق بالإدانة على الجاني بحيث يرتكب جريمة تالية لصدور الحكم القاضي بإدانته وعقابه وهذا ما يتطلب:
صدور حكم جنائي غير قابل للطعن فيه بأي وجه من وجوه الطعن العادية وغير العادية.
ضرورة أن يكون الحكم الحائز لقوة الشيء المحكوم به قاضيا بالعقوبة.
الشرط الثاني: ارتكاب الشخص لجريمة بعد صدور حكم سابق حائز لقوة الشيء المحكوم به من أجل جريمة سابقة، ويقصد به ارتكاب نفس الجاني لجريمة لاحقة بعد الحكم الأول على أن تكون الجريمة الثانية مستقلة عن الجريمة الأولى المحكوم فيها.
وباستقرائنا للمادة 154 ق ج يبدو أنها غير واضحة الدلالة فيما يخص مضمون الحكم الحائز لقوة الشيء المحكوم به، أيقصد منه الحكم القاضي بالعقوبة أم يقتصر فقط وبصفة عامة على كل حكم صادر بالإدانة([5])مما يفضي إلى اعتبار الأحكام الصادرة بالتدابير الوقائية واقعة في تحقق العود، إن هذا الطرح يكاد يكون له محل لو أن الفصول المنظمة لمؤسسة العود 155/ 156/ 157/ 159ق ج لم تشترط صراحة أن تكون الأحكام صادرة بالعقوبة، لذا نرى وعلى الرغم من هذا الغموض الذي يعتري المادة 154 ق ج فان الأحكام التي تحتسب في تحقق العود أن تكون قاضية بالعقوبة سواء المنفذة أو الموقوفة التنفيذ([6])،
الفقرة الثالثة: آثار العود على الجرائم
تعرض المشرع المغربي لحالات العود وأفرد له مجموعة من النصوص التي تأطره وتنظم الأحكام العامة لرفع العقوبة من خلاله وفق النصوص التالية، 155/ 156 / 157/ 159و هذا ما سوف نتعرض له من خلال تحليل هده النصوص .
الحالة الأولى:المنصوص عليها في المادة155ق.ج وهي الحالة التي تنظم الحكم بعقوبة جنائية بحيث أنه كل من سبق الحكم عليه في جريمة تكتسب الصفة الجنائية بحكم حائز لقوة الشيء المحكوم فيه ثم ارتكب جناية ثانية من أي نوع آخر يعاقب كالتالي:
بالإقامة الإجبارية مدة لا تتجاوز عشر سنوات إذا كانت العقوبة المقررة قانونا للجناية الثانية هي التجريد من الحقوق الوطنية.
بالسجن من خمس إلى عشر سنوات إذا كانت العقوبة المقررة قانونا للجناية الثانية هي الإقامة الإجبارية .
بالسجن من عشر إلى عشرين سنة إذا كانت العقوبة المقررة قانونا للجناية الثانية هي السجن من خمس إلى عشر سنوات .
بالسجن من عشرين إلى ثلاثين سنة إذا كان الحد الأقصى للعقوبة المقررة قانونا للجناية الثانية هو عشرون سنة.
بالسجن المؤبد إذا كان الحد الأقصى للعقوبة المقررة قانونا للجناية الثانية هو ثلاثون سنة.
بالإعدام إذا كانت الجناية الأولى قد عوقب عليها بالسجن المؤبد وكانت العقوبة المقررة قانونا للجناية الثانية هي أيضا السجن المؤبد .
الحالة الثانية : منصوص عليها في المادة 156ق ج وتتعلق بالجنايات التي طالتها ظروف التخفيف سواء الأعذار القانونية أو الظروف القضائية وأصبحت مدة عقوبتها لا تزيد عن سنة، بحيث انه من سبق الحكم عليه بهذه العقوبة بحكم نهائي ثم ارتكب قبل مضي خمسة سنوات من تمام تنفيذ العقوبة أو تقادمها جناية أو جنحة يعاقب عليها القانون بالحبس فانه يحكم عليه وجوبا بالحد الأقصى لتلك العقوبة، كما يجوز أن تبلغ العقوبة إلى ضعف هذا الحد ويجوز الحكم عليه بالمنع من الإقامة من خمسة سنوات إلى عشر، ولكي تتحقق حالة العود في هذه الحالة يجب أن ترتكب الجريمة الثانية خلال الفترة التي حددها القانون في خمسة سنوات على تنفيذ عقوبة الجناية الأولى أو تقادمها كما يشترط القانون أن تكون الجريمة الثانية جناية أو يتم معاقبتها بالحبس مما يعني عن طريق المخالفة أن العقوبة إذا كانت صادرة بالغرامة فقط لا يكون للعود محل.
الحالة الثالثة: منصوص عليها في المادة 157 ق.ج وتتعلق بالعقوبات الجنحية، إذ بمقتضاها يكون من سبق عليه الحكم من أجل جنحة بعقوبة الحبس بحكم حائز لقوة الشيء المحكوم فيه ثم ارتكب جنحة مماثلة قبل مضي خمس سنوات من تمام تنفيذ تلك العقوبة أو تقادمها يحكم بعقوبة حبسية لا تتجاوز مدتها ضعف الحد الأقصى للعقوبة المقررة قانونا للجنحة الثانية. ([7])
الحالة الرابعة : منصوص عليها في المادة 159ق.ج والمتعلقة بالمخالفات وتقضي بأنه من سبق وحكم عليه من أجل مخالفة ثم ارتكب نفس المخالفة خلال اثنتي عشر شهرا ابتدءا من النطق بالحكم الصادر بالإدانة والحائز لقوة الشيء المحكوم فيه وبموجب المادة 611 ق.ج المحال عليها بالفصل 159 ق.ج فان الذي يوجد في حالة عود يعاقب كالتالي :
بالنسبة للمخالفات المعاقب عليها بموجب الفصل 608 ق.م.ج يجوز أن ترفع عقوبة الإعتقال والغرامة إلى الضعف
بالنسبة للمخالفات المعاقب عليها بموجب الفصل 609 ق.م.ج يجوز أن ترفع عقوبة الغرامة إلى 200 درهم ويجوز أن يضاف إليها عقوبة الإعتقال مدة لا تتجاوز ستة أيام .
المحور الثاني : ظروف التشديد
تسعى كل التشريعات الجنائية على اختلاف مشاربها من خلال القوانين العقابية إلى حفظ كيان المجتمع وإقرار النظام فيه بالموازنة بين حماية المصلحة العامة من جهة وصون حريات الأفراد ومصالحهم من جهة أخرى، حيث يعتبر مبدأ الشرعية من أنجع الضمانات التي تسطر هذه الأهداف على أرض الواقع وتكرس دولة الحق والقانون .
ويعد تقدير العقوبة وتفرديها حسب الخطورة الإجرامية والحالة الشخصية للجاني من طرف المشرع والقاضي في الحدود القانونية من المقتضيات المهمة التي تضع المجتمع في الصورة وتعرفه مسبقا بحجم العقوبات ووقعها عليه .
وتندرج ظروف التشديد ضمن هذه المقتضيات التي زجر بها المشرع مجموعة من الجرائم التي رافقتها بعض الملابسات سواء ملابسات مادية المتعلقة بجسم الجريمة أو الملابسات الشخصية المتعلقة بشخص الجاني والتي تجعل العقوبة ترتفع عن الحدود العادية في سلم العقوبات، ولقد وردت هده الظروف في القانون على سبيل الحصر بشكل محدد ومعين من جنايات وجنح بحيث يؤدي توافرها إلى تشديد العقوبة ورفعها عن الحد الأقصى المقرر لها قانونا، وهي عبارة عن ملابسات رافقت ارتكاب الجريمة وصفة الجاني أو المجني عليه .
ولقد عالج المشرع المغربي ظروف التشديد في الكتاب الثالث من المجموعة الجنائية والتي عالج فيها مختلف الجرائم وحدد لها عقوباتها في الحالة العادية والحالة الغير العادية، والظروف المشددة على نوعين ظروف شخصية وظروف عينية.
الفقرة الأولى :الظروف العينية
الظروف العينية: هي ملابسات عائدة للجانب المادي أو العيني للجريمة ككيفية ارتكابها، أو مكان أو زمان اقترافها، بحيث لا يمكن أن يساوي المشرع بين من يرتكب جريمة السرقة بالنشل وبين من يرتكبها باستعمال السلاح أو الكسر أو التسلق أو يتم ارتكابها ليلا، إذ يعتبر حمل السلاح والكسر والتسلق والليل من الظروف المشددة، وبما أن هذه الظروف هي ظروف مادية متعلقة بالجانب المادي للجريمة بشكل منفصل عن شخصية الجاني أو المجني عليه فإنها تسري على الفاعلين الأصلين وكذا المساهمين والمشاركين حتى ولو كانوا يجهلونها ويجهلون توافرها في النازلة، ويعد مثلا الترصد ([8]) في القتل من الظروف العينية المشددة لأنه يتعلق بالكيفية ارتكاب الجريمة أي بالركن المادي فيها .
الفقرة الثانية: الظروف الشخصية
تتعلق الظروف الشخصية بملابسات عائدة للجانب الشخصي أو الذاتي للمجرم وتتصل هذه الحالة بالجانب المعنوي للجريمة، وتعني ازدياد خطورة الإرادة الآثمة الكامنة في شخص المجرم سواء من جانبه أو في ما يخص علاقته بالمجني عليه مما فرض على المشرع معاملة هؤلاء الفئة من المجرمين بمعاملة خاصة، وذالك برفع العقاب وتشديده في حقهم فمثلا عاقب المشرع على جريمة القتل العمد بالسجن المؤبد تبعا للفصل 392 ق ج لكنه شدد العقاب في الفصل 396ق.ج فجعله إعداما إذا كان القاتل فرعا للمقتول، وعقوبة جنحة هتك العرض في القانون المغربي حسب الفصل 484 ق.ج هي الحبس من سنتين إلى خمس سنوات لكنه شدد العقاب في الفصل 487 ق ج فجعله من خمس إلى عشر سنوات إذا توافرت في الجاني أحد الصفات التي شدد به المشرع الإغتصاب([9]) .
هذا وإذا كانت ظروف التشديد من الأسباب التي تؤثر على حجم العقوبة ومقدارها ووقعها على الجاني فان المشرع لم يتركها بدون تأطير بل أحاطها بمجموعة من الضمانات سواء في الجانب الموضوعي أو الجانب الإجرائي .
فمن الناحية الموضوعية نلاحظ استفراد المشرع وحده بتحديد ظرف التشديد ونطاقها العقابي بما لا يسمح للقضاء التدخل في تقريرها عن طريق القياس أو التفسير، وهكذا لا يجوز القياس واعتبار رابطة الأخوة أو البنوة مثلا ظرفا من ظروف تشديد الإغتصاب، فالأخ الذي يغتصب أخته والإبن الذي يغتصب أمه لا يشدد عليهما العقاب رغم بشاعة جرائمهما وذالك لإنعدام النص([10]).
أما من الناحية الإجرائية فان المشرع ألزم محكمة الجنايات في الفقرة الثانية من المادة 432 ق.م.ج أنه إذا تبين لها وجود ظرف أو عدة ظروف مشددة لم تضمن في القرار بالإحالة فلا يجوز لغرفة الجنايات أن تأخذ بها إلا بعد الإستماع إلى لمطالب النيابة العامة ولإيضاحات الدفاع .
المحور الثالث: التعدد
ينصرف مفهوم التعدد إلى ارتكاب شخص واحد جريمة تحتمل عدة أوصاف وتطبق عليها عدة نصوص قانونية أو ارتكابه لعدة جرائم دون أن يفصل بينهم حكم قضائي نهائي([11]) مما يقتضي إمكانية تعدد العقوبات والتدابير بتعدد الجرائم. إلا انه وحسب الإتجاه الذي تسلكه مختلف التشريعات الجنائية المعاصرة المسايرة لتطلعات السياسة العقابية الحديثة في رؤية شمولية هدفها الإدماج والإصلاح والمصاحبة والتتبع تم الاستقرار على مبدأ التوجه القاضي بالتقليل من العقوبات السالبة للحرية إلى أقصى الحدود الممكنة حتى في الحالات التي تتعدد فيها الجرائم، والمشرع المغربي ومن منطلق اهتمامه بتحسين ترسانته العقابية عمد أثناء تنظيمه لمؤسسة التعدد كسبب من أسباب رفع العقاب إلى مسايرة هذا التوجه جزئيا من خلال النص على قاعدة عدم ضم العقوبات السالبة للحرية، عندما تنتج عن تعدد الجرائم لأنه بالإمكان إصلاح الإنسان بعقوبة واحدة ولا داعي لتعدد العقوبات بتعدد الجرائم، لكن في ما يخص العقوبات المالية والإضافية وكذا التدابير الوقائية والمخالفات استقر على القاعدة الأم والتي يقتضيها المنطق وهي ضم جميع هذه العقوبات والتدابير لأنها لا تنصب إلا على الجزاء المالي أو الوقائي للجاني.
الفقرة الأولى: أنواع التعدد
ينقسم تعدد الجرائم إلى قسمين تعدد صوري وتعدد حقيقي
-التعدد الصوري
يتحقق التعدد الصوري بارتكاب الجاني فعلا واحدا تترتب عليه نتيجة مادية واحدة إلا أن الفعل الجرمي يمكن يوصف بأكثر من وصف قانوني وانطباق أكثر من نص قانوني عليه، ونحو ذالك كمن يستعمل تهديدا أو وعيدا كي يحصل على القيام بشيء أو الإمتناع عن شيء من موظف حيث يوصف فعله بأنه يشكل جرائم الإرشاء واهانة موظف عمومي وكذا جريمة التهديد([12]).
وحكم التعدد الصوري في القانون أن الفعل الواحد الذي يحتمل عدة أوصاف يجب أن يوصف بأشدها أي انطباق العقوبة الأشد عليه، وهكذا تعتبر جريمة الرشوة في المثال السابق هي الجريمة الأشد بالمقارنة مع جريمة اهانة موظف عمومي وجريمة التهديد .
ولقد حاول المشرع المغربي وانسجاما مع مفهوم السياسة العقابية الحديثة وتضامنا مع الأصوات المنادية بالتقليل من العقوبات السالبة للحرية العمل على الموازنة بين عقاب الجاني وتحقيق الردع المتوخى من العقوبة وبين التخفيف عليه من حيث عدم مسائلته عن عدة جرائم نظرا لتعدد الأوصاف القانونية مادام لم يرتكب سوى فعلا واحدا والتشديد عليه حين قرر مسائلته عن أشد الأفعال .
-التعدد الحقيقي
ينطبق مفهوم التعدد الحقيقي في الحالة التي يرتكب فيها الشخص مجموعة من الأفعال الجرمية في آن واحد دون أن يفصل بينها حكم غير قابل للطعن، مما يفرض منطقيا ضم جميع العقوبات أو التدابير الاحترازية المقررة لكل جريمة .إلا أننا برجوعنا إلى المواد المنظمة التي أطر بها المشرع هذا النوع من التعدد وكذا الكيفية التي عالجه بها، تبين لنا أنه أخذ بقاعدة الضم في مادة المخالفات والعقوبات المالية والإضافية وكذا التدابير الإحترازية، أما العقوبات السالبة للحرية في مادة الجنح والجنايات فانه أخد بقاعدة عدم الضم، وذالك كما أسلفت الذكر أن هذا السياق الذي سار عليه المشرع المغربي يتماشى مع أهداف السياسة العقابية المعاصرة فيما يخص التقليل من العقوبات السالبة للحرية، لأن في الواقع نرى أن ضم العقوبات السالبة للحرية ليست فيه أية فائدة ترجى على المستوى الواقعي بقدر ما تحدثه من كلفة اجتماعية واقتصادية .
الفقرة الثانية : موقف المشرع المغربي من تعدد الجرائم
تطرق المشرع المغربي لمؤسسة تعدد الجرائم في الباب الثالث من الكتاب الثاني من القانون الجنائي وفق مقاربة متكاملة وتوافقية تتأرجح بين قاعدة إدماج العقوبات في العقوبات المالية والإضافية والتدابير الوقائية وكذا المخالفات، وقاعدة عدم الإدماج أو الضم في العقوبات السالبة للحرية وهو ما سوف نبينه في الأتي ذكره.
أ- حالات إدماج العقوبات([13])
العقوبات المالية: ينفد المحكوم عليه بعقوبات مالية سواء كانت إضافية أو أصلية جميع ما حكم عليه به إلا إذا قررت المحكمة خلاف دالك وهو ما قضت به المادة 121 ق ج من أن تضم العقوبات المالية سواء كانت أصلية أو مضافة إلى عقوبة سالبة للحرية إلا إذا قرر الحكم خلاف ذالك بعبارة صريحة .ونرى في قاعدة ضم العقوبات المالية نوع من المفعولية لتحقيق نوع من الزجر المادي على مستوى الذمة المالية للشخص، إلا أن الإشكالية التي يطرحها هذا النوع من العقوبات يكمن في طرق استخلاصها والتي غالبا ما تستبدل بالإكراه البدني وهو ما يجعل تطلعات السياسة العقابية تدور في حلقة مغلقة يطبعها الجمود وهذا مايستدعي من المشرع إعادة النظر في كيفية استخلاص العقوبات المالية واستبعاد الإكراه البدني من دائرة حلول تنفيذ هذه العقوبات .
العقوبات الإضافية وتدابير الوقاية :تعد العقوبات الإضافية وكذا لتدابير الوقائية من المخارج القانونية على قاعدة عدم ضم العقوبات، وهو ما استقيناه من المادة 122 ق.ج حيث انه في حالة تعدد الجنح والجنايات تضم العقوبات الإضافية وتدابير الوقاية ما لم ترى المحكمة خلاف دالك بموجب نص معلل، إلا انه فيما يخص التدابير الوقائية والتي لا تقبل طبيعتها التنفيذ في الوقت ذاته يوجب على المحكمة التي أصدرت آخر تدبير أن تحدد الترتيب الذي يتبع في التنفيذ إلا أن التدابير التي أوجدت من أجل حماية الأفراد بالمعالجة أولا وبتوقي الخطورة على المجتمع ثانيا ينفذان معا قبل غيرهما .
العقوبات الصادرة في المخالفات :نظرا لتدني الخطورة الإجرامية في جرائم المخالفات وبالتالي تربعها في آخر السلم العقابي قرر المشرع في المادة123 ق.ج ضم العقوبات الصادرة فيها بشكل لزومي سواء كانت هذه العقوبات قاضية بالإعتقال أو الغرامة، وهو ما يضعنا أمام مشكل العقوبات القصيرة المدة التي تقف حجر عثرة أمام كل تقدم لسياسة العقاب، لذا نرى من المشرع ضرورة مراجعة هذه المادة وبالتالي إلحاق المخالفات بالجنح والجنايات فيما يخص عدم إدماج أو ضم العقاب في العقوبات الصادرة بالإعتقال والتي وان كانت قصيرة إلا أنها تطرح العديد من المشاكل على غرار العقوبات السالبة للحرية بالنسبة للفرد أو المجتمع .
ب- حالات عدم إدماج العقوبات
تطرق المشرع لحالات عدم ضم العقوبات أو إدماجها في المادة 120ق.ج من مجموعة القانون الجنائي والتي تقضي بأنه في حالة تعدد جنايات أو جنح إذا نضرت في وقت واحد أمام محكمة واحدة يحكم بعقوبة سالبة للحرية لا تتجاوز مدتها الحد الأقصى المقرر قانونا لمعاقبة الجريمة الأشد، أما إذا صدر بشأنها عدة أحكام سالبة للحرية بسبب تعدد المتابعات فان العقوبة الأشد هي التي تنفد
غير أن العقوبات المحكوم بها إذا كانت من نوع واحد جاز للقاضي بقرار معلل أن يأمر بضمها كلها أو بعضها بشرط ألا تتجاوز الحد الأقصى المقرر في القانون للجريمة الأشد، إذ يعد خيار استفراد المحكمة بضم العقوبات الصادرة في الجنايات والجنح من المخارج التي تعرقل سياسة العقاب في نظرتها المستقبلية مما ندعو معه المشرع إلى التراجع عن هذه المكنة الخطيرة خصوصا وانه منحها بصفة جوازية تخضع لسلطة القاضي.
خاتمة
إن الأهداف المتوخاة اليوم من إنزال العقاب هو فهم الجريمة بحقيقتها وبمختلف مكوناتها الظاهرة والخفية، إذ ليس من الأهمية إنزال العقاب بل الأهم من ذالك بالنسبة لعلماء الإجرام هو إعادة تربية المخالفين وإدماجهم من جديد في المجتمع وتأهيلهم لممارسة أنماط العيش المألوفة، وهو ما يستلزم بالطبع إقصاء الجزاءات التقليدية كلا أو بعضا وعلى الخصوص العقوبات السالبة للحرية أو السالبة للحياة وهذا هو شعار السياسة العقابية الحديثة في نظرتها المستقبلية لفلسفة الحق في العقاب، لكن إذا كان هذا هو تطلع وأمل المختصين والمهتمين بعلم الإجرام والجريمة فان الواقع التشريعي ولضرورات قدرها المشرع يفرض في أحيان كثيرة رفع العقاب عن الحدود المألوفة في السلم العقابي لأسباب إما شخصية عائد للمجرم أو مادية عائدة للجريمة، من مثل ظروف التشديد والعود والتعدد إذ كلها أسباب وملابسات يؤدي توافرها إلى رفع العقاب وتشديده، ولا نرى في هذا أي تعارض مع اتجاهات السياسة العقابية الحديثة بقدر ما هو تطويق للظاهرة الإجرامية بشكل محكم في وجه المجرمين الذين يتسمون بالخطورة الإجرامية والتي لم تنفع فيهم برامج التأهيل والتقويم فعادوا إلى براثن الإجرام . حيث يعد الإرتفاع بالسلم العقابي عن القواعد الزجرية المعتادة من مستلزمات العدالة الجنائية والتصدي لظاهرة الإجرام، لكن إذا ما استعمل بالكيفية العلمية والمدروسة وفي الحدود التي تحقق الإصلاح والإندماج، لكي لا يتم الإبتعاد عن المسار العقابي الحديث الذي يصبو إلى التقليل من العقوبات السالبة للحرية إلى أبعد الحدود الممكنة والذي أصبح قوام أي سياسة عقابية معاصرة .
[1] – عبد الواحد العلمي: شرح القانون الجنائي المغربي القسم العام، طبعة 2002، ص354.
[2] – محمد أبو زهرة : العقوبة والجريمة في الفقه الإسلامي، دار الفكر العربي، بدون طبعة، الجزء الأول، ص251 .
[3] – عبد القادر عودة :التشريع الجنائي الإسلامي المقارن بالقانون الوضعي ، مؤسسة رسالة الناشرون ،الطبعة الأولى 2005 ، ص448.
[4] – عبد الواحد العلمي: شرح القانون الجنائي المغربي القسم العام، مرجع السابق، ص 355.
[5] – أبوالمعاطي حافظ ابو الفتوح: شرح القانون الجنائي المغربي القسم العام، ص310.
[6] – وهذا عكس ما نجده في التشريع الليبي، حيث قضت استئنافية بنغازي المدينة دائرة الجنايات جلسة 16ديسمبر1980على أنه لكي يكون للحكم أثر في تحقيق حالة العود فانه يتعين أن يكون الحكم الأول قاضيا بالنفاد بالإضافة إلى تواجد الشروط الأخرى، أما إذا كان صادرا بعقوبة موقوفة التنفيذ فلا يصح معه اعتبار المتهم في جريمة لاحقة عند الحكم عليه عائدا وإنما يقضى فقط بإلغاء إيقاف تنفيذ عقوبة ذالك الحكم عملا لحكم المادة 114من قانون العقوبات، لأن الأمر بإيقاف التنفيذ يترتب عليه كما جاء بالمادة 113عقوبات وجوب وقف تنفيذ جميع العقوبات الأصلية والتبعية وسائر الآثار الجنائية إلا إذا نص في الحكم على عدم وقفها، والأمر بإلغاء إيقاف التنفيذ إذا توفرت حالته يترتب عليه تنفيذ جميع العقوبات والآثار الجنائية التي كانت قد أوقفت وذالك من وقت النطق به، فإذا أعمل العود في الحكم الأخير والحالة هذه فان أمر الإلغاء يكون قد عمل بأثر رجعي حيث زيدت العقوبة بموجبه بالإضافة إلى هذا فان أعمل حكم العود يعتبر تشديدا في العقاب، وأمر إلغاء العقوبة يعني تنفيذها هي والعقوبة التي بموجبها الغي الإيقاف وذالك يتضمن نوعا من التشديد على المتهم نظرا لثبوت خطورته وعدم ردعه بالحكم الأول مما يستوجب تنفيذ عقوبتين عليه السابقة واللاحقة وهذا يعتبر في نظر الشارع كافيا ويغني عن فرض زيادة العقوبة مرة أخرى بالعود. أورده د احمد محمد بونه دور القاضي في تخفيف العقوبة دار الكتب القانونية ودار شتات للنشر والبرمجيات مصر ص .241
[7] – عبد الواحد العلمي : شرح القانون الجنائي المغربي القسم العام، مرجع سابق، ص359.
[8] – عرف المشرع الترصد في الفصل 395.ق ج وهو، التربص فترة طويلة أو قصيرة في مكان واحد أو أمكنة مختلفة بشخص قصد قتله أو ارتكاب العنف ضده . وظرف الترصد هو من الظروف العينية التي تتعلق بكيفية تنفيذ الجريمة وبالتالي فان أثره يسري على كافة المساهمين والمشاركين حتى ولو كانوا يجهلونه، ويكون قابلا للإثبات بكافة الوسائل ولذالك يجوز للنيابة العامة إثباته بكافة الوسائل من كتابة وشهادة وقرائن أو اعتراف، إلا أن قضاة الموضوع وهم بصدد استخلاصه أو نفيه مراقبون من طرف المجلس الأعلى سابقا محكمة النقض حاليا على اعتبار أن الترصد من المسائل القانونية التي يحق لقضاء النقض مراقبة قضاة الموضوع فيها والتأكد من سلامة تطبيق القانون .انظر عبد الواحد العلمي شرح القانون الجنائي المغربي القسم الخاص الطبعة الثانية سنة 2009 ص .251
[9] – انظر دليل القانون الجنائي المادة 486/ 487 / 488
[10] – عبد الواحد العلمي :شرح القانون الجنائي المغربي القسم العام مرجع سابق ص352
[11] – جاء في قرار المجلس الأعلى عدد 1/912الصادر في بتاريخ 7أكتوبر 2009في الملف عدد 2009/10271أن تطبيق العقوبات السالبة للحرية عند التنفيذ بتطبيق العقوبة الأشد رهين بارتكاب الجاني جرائم متعددة دون أن يفصل بينها حكم غير قابل للطعن، وعلى المحكمة التي تبت في طلب الإدماج أن تثبت في تعليلها تاريخ ارتكاب الأفعال سواء السابقة أو اللاحقة لتمكين المجلس الأعلى من بسط رقابته . منشور في نشرة قرارات المجلس الأعلى المتخصصة الغرفة الجنائية السلسلة الأولى الجزء الثاني دجنبر .2009
[12] – عبد الواحد العلمي :شرح القانون الجنائي المغربي القسم العام مرجع سابق ص361
[13] – قرر المجلس الأعلى نقض حكم محكمة الموضوع التي اعتبرت أن عنصر الخطورة الإجرامية من الأسباب التي تبرر ضم العقوبات، حيث جاء في هذا القرار أن المحكمة مصدرة القرار المطعون فيه بعد أن أثبتت في قرارها أن حالة تعدد الجرائم المنصوص عليها في الفصل 119من مجموعة القانون الجنائي قائمة في القضية لكون الجاني ارتكب جرائم متعددة في أن واحد دون أن يفصل بينهما حكم غير قابل للطعن وهو ما كان يقتضي تنفيذ العقوبة الأشد، إلا أنها أخطأت بقرارها ضم العقوبات علة أن الأفعال الجرمية المرتكبة تكتسي طابع الخطورة الإجرامية في حين أن مقتضيات الفصل 120ق ج من القانون المذكور التي تجيز ضم العقوبات في مرحلة التنفيذ لا تتضمن عنصر الخطورة الإجرامية في الفعل الإجرامي، وحيث أن عنصري نوعية العقوبة وخطورة الجرائم الذين اعتمدتهما المحكمة لا تنص عليهما مقتضيات القانون المنقول أعلاه الواجبة التطبيق في مرحلة تنفيذ العقوبات وإنما يعتد في ذالك بالإعتبارات التي نص عليها القانون وحدها الأمر الذي أساءت معه المحكمة تطبيق القانون وعرضت بالتالي قرارها للنقض والإبطال. نشرة قرارات المجلس الأعلى المتخصصة الغرفة الجنائية العدد الثامن 2011قرار عدد 638 الصادر بتاريخ 9يونيو2010 في عدد .2010/1/6/5987