“مبدأ ملاءمة المتابعة ما بين الإطار النظري والأساس القانوني ”
دراسة تحليلية مقارنة من إعداد الاستاذ حسن فرحان
طالب باحث في الدكتوراه
مقدمة : ضمانا لحق المجتمع في عقاب مرتكب الجريمة من جهة، وحق الجاني في محاكمة عادلة من جهة ثانية، كرس المشرع مبدأ الفصل بين سلطات القضاء الجنائي، حيث اعتبر النيابة العامة سلطة ادعاء أو سلطة اتهام مستقلة وقائمة بذاتها إلى جانب سلطتي التحقيق والحكم، مع وضع قواعد إجرائية تحدد سلطات النيابة العامة ابتداء من مرحلة تحريك هذه الدعوى، ثم مباشرتها والسير فيها إلى غاية صدور حكم نهائي بشأنها.
يشكل تحريك الدعوى العمومية إحدى الوظائف التي ، خص بها المشرع النيابة العامة باعتبارها سلطة اتهام، حتى ولو اشتركت معها جهات أخرى في تحريك الدعوى العمومية، وقد اختلفت النظم التشريعية حول قدرة النيابة العامة في التصرف في الدعوى العمومية، فمنهم من ذهب إلى القول بوجود حرية كاملة لها وإعطائها كافة الصلاحيات في التصرف في الدعوى العمومية بتحريكها أو حفظها أو عدم رفعها أصلا ومنهم من رأى العكس باعتبار أن الصلاحية في تحريك أو عدم تحريك الدعوى العمومية هي مقيدة .
فسلطة النيابة العامة في المتابعة الجنائية في التشريعات المختلفة، يحكمها مبــــــــدآن، الأول هو مبـــــــدأ الشرعيــــــــة Le Principe de Légalité ، والثاني هو مبـــــــــدأ الملاءمــــــــــة Le Principe de L’opportunité.
ويعرف مبدأ الشرعية في الإجراءات الجنائية بأنه التزام النيابة العامة بتحريك الدعوى العمومية طالما توفرت شبهة الاتهام في مواجهة متهم معين، فهي ملزمة بإحالة الدعوى العمومية إلى المحكمة الجنائية المختصة ومباشرتها. أي أن النيابة العامة وفق مبدأ الشرعية تلتزم بتحريك الدعوى العمومية في جميع الجرائم أيا كانت درجة جسامتها دون أن يكون لها من السلطة التقديرية ما يسمح لها باستبعاد أي جريمة من أن تعرض على القضاء .
أما مبدأ الملاءمة فهو مبدأ سلطة النيابة العامة في تقدير صرف النظر عن رفع الدعوى الجنائية إلى المحكمة المختصة رغم توافر أدلة الإتهام ومعرفة الفاعل، وذلك لأسباب تمليها المصلحة العامة، ذلك أن مبدأ الملاءمة يخفف من صرامة مبدأ الشرعية الذي هو القاعدة أو الأصل، ويعطى مبدأ الملاءمة للنيابة العامة سلطة واسعة في التقدير فالمختصون الذين تتحرك بإرادتهم الدعوى العمومية يلزم أن يكونوا مزودين بظمير مهني حي، وشعور سام بوظائفهم، والواقع أنهم هم الذين يبحثون فيما إذا كان الإجراء الجنائي مبررا أم هناك على العكس ظروفا خاصة تقضي بالتخلي عنه .
وقد عرفا كلا مبدآن انتشرا واسعا في النظم القضائية المقارنة، حيث أخد تشريعات كل من ألمانيا (المادة 152 من قانون المسطرة الجنائية)، و سويسرا واسبانيا واليونان بمبدأ الشرعية ، فيما اعتنقت مبدأ ملاءمة المتابعة تشريعات عديدة منها من القانون الفرنسي (المادة 40 من قانون المسطرة الجنائية) وقانون المسطرة الجنائية المغربي (المادة 40)، والقانون المورتاني والقانون التونسي(المادتين 20 و 21 من قانون الإجراءات الجنائية) والقانون الجزائري (المادة 40 من قانون المسطرة الجنائية)، كما تبنى مبدأ الملاءمة في المتابعة كل من القانون السنغالي والقانون الياباني .
و إذا كانت السلطة التقديرية للنيابة العامة في الدعوى العمومية في إطار مبدأ ملاءمة المتابعة تمارس على مرحلتين إجرائيتين هما : مرحلة تحريك الدعوى العمومية، وهي نقطة البداية التي تتسم بعدد من الإجراءات التي تباشرها النيابة العامة كجهة إتهام وظيفتها إيصال القضية إلى يد القضاء، كتقديم ملتمس إجراء تحقيق أو تكليف متهم بالحضور أو استنطاقه….،ومرحلة مباشرة الدعوى العمومية والسير فيها إلى غاية صدور حكم نهائي بشأنها والمتمثل في الإجراءات التي تقوم بها النيابة العامة باعتبارها خصم في الخصومة الجنائية، كحضور الجلسات وتقديم الملتمسات إلى هيئة الحكم، والطعن في الأحكام…
فأن دراستنا لمبدأ الملاءمة في تقدير المتابعة ستركز على مرحلة تحريك الدعوى العمومية بإعتبارها مرحلة أساسية في وظيفة النيابة العامة كجهة اتهام وكذا لما لهذه المرحلة من تأثير على حقوق وحريات الإفراد وبوجه خاص القرارات المكن أن تتخذها الميابة العامة (قرار الاعتقال ، قرار الحفظ…).
ومن منطلق أن المشرع المغربي كما سلف الذكر، تبنى مبدأ ملاءمة المتابعة كأسس في تحريك النيابة العامة للدعوى العمومية، فإن مجال البحث في هذه الدراسة سيقتصر على هذا المبدأ من خلال استعراض شاملا للإطار النظري والقانوني الذي يحكم مبدأ الملاءمة بغية تقديم دراسة مفصلة عن المرتكزات و المفاهيم التي ينبني عليها نظام ملاءمة المتابعة مع التطرق الأسس القانونية التي تأطر تفعيل مبدأ الملائمة في التشريع المغربي والمقارن الشيء الذي من شأنه يوضح مدى تطابق الإطار القانوني مع الواقع العملي.
وعليه سنتولى بإذن الله معالجة موضوع “مبدأ ملاءمة المتابعة ما بين الإطار النظري والأساس القانوني “من خلال المبحثين التاليين :
المبحث الأول : الإطار النظري لمبدأ ملاءمة المتابعة.
المبحث الثاني : الأسس القانونية لمبدأ ملاءمة المتابعة في التشريعات المقارنة والتشريع المغربي.
المبحث الأول : الإطار النظري لمبدأ ملاءمة المتابعة.
المطلب الأول : مفهوم مبدأ الملاءمة ومبررات وجوده
الفقرة الأولى : مفهوم مبدأ ملاءمة المتابعة
يقصد بنظام الملاءمة الاعتراف للنيابة العامة بالسلطة التقديرية في تقرير توجيه الاتهام لتحريك الدعوى العمومية أو حفظ الملف، فيكون للنيابة العامة أن تمتنع عن توجيه الاتهام على الرغم من توافر جميع أركان الجريمة، ونشوء المسؤولية عنها، وانتفاء أية عقوبة إجرائية تحول دون تحريك الدعوى العمومية. فمبدأ الملاءمة – على عكس مبدأ الشرعية- يخول النيابة العامة سلطة التوقف عن الدعوى العمومية – بعد تحريكها – وسحبها من القضاء في أية حالة كانت عليها ، إذا قدرت أن مصلحة المجتمع تقتضي ذلك.
وقد عرف بعض الفقه مبدأ ملاءمة المتابعة بأنه ذالك الأسلوب التقديري الذي يخول الذي يخول للنيابة العامة سلطة تقدير ما يرد عليها من مستندات وبلاغات بارتكاب الجرائم فإن تبين لها من تقديرها الأولي وجود قرائن يمكن أن تؤدي إلى إدانة المعني بالأمر، أثارت الدعوى العمومية وإن ظهر لها أن القضية خالية من كل إثبات أو أنها لا تكون جريمة يعاقب عليها القانون امتنعت عن تحريك الدعوى العمومية .
فنظام الملاءمة بهذا المعنى ليس مضادا لنظام الشرعية، فالنيابة العامة لا تلتزم بالتخلي عن الاتهام في جرائم محددة، لكن لها سلطة تقديرية تخولها قسطا من المرونة في تقدير ملاءمة اتخاذ قرار الاتهام، لذلك يقال أن نظام الملاءمة إنما هو تلطيف لنظام الشرعية في مباشرة الاتهام.
فكما أن للقضاة الحكم سلطة تقدير وسائل الإثبات في القضايا المعروضة عليهم وكذا سلطة تقدير العقوبة الواجبة التطبيق فإن لقضاة النيابة العامة في إطار مبدأ ملاءمة المتابعة، السلطة التقديرية في إثارة الدعوى العمومية أو عدم إثارتها والوسيلة التي تستعملها النيابة العامة في عدم تحريك الدعوى العمومية تعرف بالأمر بحفظ الأوراق “classement sans suite ” وذلك في حالة الإنكار أو انعدام وسائل الإثبات.
كما أن الملاءمة لا تعني إطلاقا التعسف أو التحكم أو إرضاء رغبات شخصية، فالنيابة العامة في تقدير ملاءمة تحريك الدعوى العمومية أو عدم تحريكها لا ترضي شخصا بعينه، إنما تراعي اعتبارات موضوعية، ذلك أن القانون الجنائي قانون عام ومجرد يتضمن جرائم مختلفة والعقوبات المقررة لها، ولا يمكن للمشرع إدراك كل الظروف الخاصة التي تصاحب في بعض الأحيان ارتكاب الجريمة والتي قد تخفف من خطورتها، كون أن الجرائم ترتكب في ظروف متنوعة جدا، وأن ظروف المتهمين متنوعة كذلك، ومن المصلحة أن يكون نشاط النيابة العامة ملتئما مع هذه الظروف .
كما أن الأسباب التي تؤدي بالنيابة العامة بالامتناع عن مباشرة الاتهام كثيرة ومختلف بعضها عن البعض وهي تكمن في مراعاة المصلحة العامة من جهة، ومصلحة المتهم والمجني عليه من جهة أخرى. لذلك فالمشرع عند إقراره لنظام الملاءمة، وإعطاء النيابة العامة سلطة تقدير ملاءمة الاتهام افترض أنه ليس ثمة مخالفة للنظام العام بالجريمة التي لم تباشر فيها النيابة العامة الاتهام، إذ جعل منها قاضي الملاءمة، وبمعنى آخر قاضي مقتضيات النظام العام .
فالنيابة العامة وفق نظام الملاءمة، هي جهاز وقاية وليست جهاز آلية العقاب ، فهي لا تبحث فقط في العناصر القانونية للفعل الإجرامي، إنما تواجه النتائج السلبية التي قد تمس النظام العام والأمن الاجتماعي، حتى لا يكون هناك تعارض بين قرار الاتهام الذي بيد النيابة العامة، وبين وظيفتها في المحافظة على أمن المجتمع وسلامته.
غير أن مبدأ ملاءمة المتابعة يأخذ مظاهر متعددة ولا ينحصر في ذلك المفهوم الضيق الذي يربطه بإتخاذ النيابة العامة قرار الحفظ حيال بعض المحاضر أو الشكاية ذلك أن آلية الملائمة توظفها النيابة العامة حتى بعد تحريك الدعوى العمومية من خلال مجموعة من الإجراءات التي تقوم بها النيابة العامة عند مراقبة الدعوى العمومية وإشرافها عليها.
فتكيف الأفعال أوتجنيحها والمتابعة في حالة إعتقال أو في حالة سراح أو إتخاذ إي إجراء أخر مرتبط بحرية المتهم هو من صميم إعمال النيابة العامة لسطتها في تقدير ملاءمة المتابعة، كما أن تقديم الملتمسات و إستئناف الأحكام جزء لا يتجزأ من تفعيل النيابة العامة لمبدأ الملاءمة بعد تحريك الدعوى العمومية.
غير أن دراستنا لمبدأ ملاءمة المتابعة لدى النيابة العامة سنركز فيه على مرحلة البحث والتحري لما للنيابة العامة في هذه المرحلة من سلطة تقديرية واسعة في مباشرة الإتهام أو العدول عنه.
الفقرة الثانية : مبررات وجود مبدأ ملاءمة المتابعة.
لقد قدم بعض فقهاء القانون الجنائي مجموعة من مبررات لمبدأ ملاءمة المتابعة لترجيحه على مبدأ شرعية المتابعة، والتي يمكن حصرها فيما يلي :
1- نظام الملاءمة وسيلة تطبيق السياسة الجنائية الحديثة:
لقد ذهب الفقه الجنائي الحديث، أن واجب الدولة في العقاب لا يعني وفقا للسياسة الجنائية الحديثة، توقيع عقاب غاشم على كل جريمة مرتكبة، وإنما يعني تفريد العقاب وفقا للشخصية الإجرامية للجاني. هذا التفريد المطبق من طرف القاضي ليس كافيا وحده ما لم يترك للنيابة العامة قدرا من الحرية في أن تباشر الاتهام أولا تباشره، وذلك وفقا للشخصية الإجرامية للجاني .
2- مبدأ ملاءمة المتابعة ضمانة لاستقلال النيابة العامة ومرونتها
إن نظام الملاءمة يضمن استقلال النيابة العامة ، فلا تكون ملزمة بمباشرة الاتهام أو عدم مباشرته، بل تقدر ذلك وفقا لما ترتئيه وهي كنائبة عن المجتمع وأمينة على مصالحه. كما يضمن استقلالها في مواجهة قضاء الحكم بما يعطيها من سلطة إنهاء الدعوى العمومية المعروضة عليها، إذا كانت الضرورة الاجتماعية تقتضي ذلك .
3- مبدأ ملاءمة المتابعة ينسجم مع العمل القضائي المنوط بالنيابة العامة
لقد استخلص الفقه لفرنسي الحديث مدى الارتباط الواقع بين العمل القضائي المنوط بالنيابة العامة ونظام الملاءمة. فالنيابة العامة حين تقرر عدم مباشرة الاتهام والامتناع عن تحريك الدعوى العمومية عن الجريمة، تقضي بنفسها في كفاية أو عدم كفاية الأدلة، وفي مدى ملاءمة تحريك هذه الدعوى. لذلك فإن قرار النيابة العامة بالتخلي عن الاتهام وفقا لنظام الملاءمة، يتصل بالعمل القضائي فيما يتعلق بالفصل في الجسامة القانونية والاجتماعية للفعل الذي ارتكبه الجاني، ومدى خطورة هذا الأخير على المجتمع.
ومن ثم فإن دور النيابة العامة لم يعد مقصورا على مجرد أنها جهاز إداري يتكلف بنقل المخالفة القانونية إلى القاضي للفصل فيها، بل يمتد إلى حجز هذه المخالفة لديها والفصل فيها بالامتناع عن مباشرة الاتهام عند الاقتضاء، وهو بلا شك عمل من أعمال القضاء. ولكن هذا لا يعني أن قرار الحفظ الذي تصدره النيابة العامة قرار قضائي، مثل تلك القرارات التي يجوز الطعن فيها، إذ أنه يصدر من النيابة العامة بوصفها هيئة قضائية إتهامية وليست جهة قضائية فاصلة في النزاع .
4- مبدأ ملاءمة المتابعة يستجيب لضرورات عملية يمكن حصرها فيما يلي :
إن نظام الملاءمة يخفف من أعباء سلطات التحقيق وسلطات الحكم، حيث يعطيها متسعا من الوقت تخصصه للقضايا أكثر أهمية بحيث يقلص بدرجة كبيرة مصاريف الدولة المخصصة لتنفيذ إجراءات المتابعة أو التحقيق أو الحكم .
كما يسهم مبدأ ملاءمة المتابعة في حفظ كل القضايا البسيطة والتي غالبا ما تصدر بشأنها أحكام بالبراءة أو بغرامة بسيطة وبالتالي فإن القضايا المعروضة على المحاكم تبقى تلك القضايا المهمة مما يسمح بدراستها ومناقشتها مناقشة مستفيضة .
وإذا كان لمبدأ ملائمة المتابعة كل هذه المزيا ، فكيف يتم إعمال هذا المبدأ من قبل عضو النيابة العامة وما هي ضمانات حسن تطبيقه؟
هذا ما سنعرض بالتفصل من خلال المطلب الثاني .
المطلب الثاني : سلطة تقدير ملاءمة المتابعة وضمانات حسن تطبيقها.
الفقرة الأولى : سلطة تقدير ملاءمة المتابعة.
عند تقدير ملاءمة المتابعة، تتناول النيابة العامة بالنظر الفائدة الاجتماعية العملية للعقاب ذاته، كما تحدد مدى إخلال الجريمة بالنظام الاجتماعي، وتبث فيما إذا كان العقاب على الجريمة يؤدي إلى إصلاح الخلل الاجتماعي الناتج عنها. وتتولى النيابة العامة تحديد مضمون الفائدة الاجتماعية في كل حالة على حدة، وذلك لأنه لا يوجد أي تحديد لمضمونه من جانب المشرع .
لذا فإن عضو النيابة العامة في إطار تفعيل سلطته في تقدير ملاءمة المتابعة، يقوم بعمليتين ذهنيتين متتاليتين، فهو يبدأ أولا بالتحقق من مدى توفر الشروط القانونية لتحريك المتابعة حتى إذا ما انتهى إلى توفرها، انتقل إلى فحص مدى ملاءمة المتابعة.
وهكذا فإن التحقق من مدى توفر الشروط القانونية لتحريك المتابعة يعني التحقق من وجود الجريمة أي الوجود القانوني لها، وهذا لا يتم إلا إذا انتهى عضو النيابة العامة من دراسته للوقائع وإخضاعها للتكيف القانوني المناسب لها من خلال تحديد النص العقابي لها. ثم تحديد مسؤولية المشتبه فيه الجنائية بحيث أنه يتأكد من عدم وجود سبب من الأسباب التي تجعل الفعل مباحا والمسماة أسباب الإباحة، أو سبب من الأسباب التي تقوم معها المسؤولية الجنائية للجاني والمسماة موانع المسؤولية والتي تجعل قاضي النيابة العامة يصدر قراره بالحفظ للعلة المذكورة أعلاه.
كما يلزم على عضو النيابة العامة أن يتأكد من كون الدعوى العمومية مقبولة شكلا حتى لا يتفاجأ بدفع من الدفوعات الشكلية التي يثيرها دفاع المتهم كبطلان محضر الشرطة القضائية لعدم قانونية مدة الحراسة النظرية أو عدم إشعار عائلة المشتبه فيه من مسؤولية المشتبه فيه عنها وكون الدعوى العمومية مقبولة.
وإذا ما انتهى عضو النيابة من دراسته لهذه العناصر إلى قانونية المتابعة إنتقل إلى فحص ملاءمتها. وهو اختيار عضو النيابة العامة الذي انتهى من فحص مشروعية المتابعة إلى وجود جريمة ومسئول عنها، بين تحريك المتابعة بها وعدم تحريكها، بعد إجرء عملية مفاضلة ذهنية بين فرعي الإختيار.
فالنيابة العامة قبل اتخاذها قرار تحريك الدعوى العمومية، يتعين عليها مراعاة مجموعة من الاعتبارات، سواء تلك المتعلقة بظروف الجريمة، أو بما يحدثه العقاب أو التخلي عنه من رد فعل اجتماعي. فقد ترى النيابة العامة أن الواقعة رغم تعارضها الشكلي مع النص التجريمي، إلا أن الظروف التي صاحبتها أو لحقتها قد قللت من قيمتها كفعل معاقب عليه، وبالتالي فإن العقاب عليها بعد ذلك يكون معدوما أو قليل الفائدة، أولا يعادل ما قد يؤدي إليه تحريك الدعوى العمومية من مضار . وقد ترى النيابة العامة أن التهمة من البساطة بحيث لا يؤدي عدم تحريك الدعوى العمومية عنها إلى المساس بالردع العام، أو يتبين لها أن الجريمة التي ارتكبها المتهم لا تعبر عن خروجه عن النظام الاجتماعي، فالنيابة العامة هي أدرى بما يحقق المصلحة العامة وبما لا يحققها .
الفقرة الثانية : ضمانات حسن تطبيق النيابة العامة لمبدأ ملاءمة المتابعة.
إن تخويل النيابة العامة سلطة تقدير ملاءمة تحريك الدعوى العمومية لم يشرع إلا لصالح العام، هذا الصالح العام قد يتعرض للمساس به إذا أسيء استعمال هذه السلطة التقديرية من جانب عضو النيابة العامة عن قصد أو عن خطأ في التقدير.
ومن أجل تلافي مثل هذه النقائص التي قد تنال من سلامة استعمال النيابة العامة سلطتها في تقدير ملاءمة تحريك المتابعة كان إقرار المشرع للرقابة الإدارية والقضائية على قرار عضو النيابة، وفرضه من القيود على حرية اختيار طريق الدعوى ما يرعى به مصالح معتبرة، ثم سماحه لغير النيابة العامة بمشاركتها الحق في تحريك الدعوى العمومية علاجا لتقاعسها عن هذا التحريك أو حثا لها على مباشرته .
وهكذا فإن الرقابة الادارية على تفعيل سلطة الملاءمة قد تكون تلقائية، أو نتيجة تظلم إداري، حيث تتحقق الرقابة التلقائية بفعل المبدأ السائد في نظام النيابة العامة، والذي يتمثل في التبعية التسلسلية كأهم خاصية مميزة لجهاز النيابة العامة حيث يتعين على كل عضو من الأعضاء المكونين للنيابة العامة الخضوع لرئيسه التسلسلي باعتبار هذا الأخير هو المكلف بالأشراف عليه ومراقبته.
وعليه فإنه متى تبين للرئيس أن القرارات المتخذة من قبل المرؤوسين كانت نتيجة خطأ في استعمال سلطة الملاءمة، فإنه يتدخل ليعيد الأمور إلى مجرها الصحيح عن طريق توجيه تعليماته لإلغاء العمل المخالف
وتجسد هذه الرقابه الإدارية مجموعة من النصوص التشريعية منها المادة 39 من قانون المسطرة الجنائية والتي يجري سياقها الحرفي كما يلي : “يمثل وكيل الملك شخصيا أو بواسطة نوابه النيابة العامة، في دائرة نفوذ المحكمة الابتدائية المعين بها، ويمارس الدعوى العمومية تحت مراقبة الوكيل العام إما تلقائيا أو بناء شكاية أي شخص متضرر.
يمارس وكيل الملك سلطته على نوابه، وله أثناء مزاولة مهامه الحق في تسخير القوة العمومية مباشرة.”
و يتضح من خلال هذه المادة أن وكيل الملك في دائرة نفوذه يعتبر الممثل الأول للنيابة العامة وهو بذلك يمتلك كل الصلاحيات الممنوحة له إزاء الدعوى العمومية وينوب عنه في ذلك نوابه الذين يخضعون لسلطته وتوجيهاته وإنطلاقا من ذلك فهو يمارس نوعا من الرقابة الإدارية عليهم في ما يخص القرارات التي يتخذونه.
ذلك أن مبدأ التبعية التدرجية الذي يحكم نشاط النيابة العامة، يقصد به خضوع كل عضو من أعضاء النيابة العامة لرئيسه التدريجي، الذي له سلطة الإشراف والرقابة على أعمال ونشاط مرؤوسيه، بما له من حق توجييهم عن طريق تعليمات يصدرها إليهم، قبل قيامهم بعملهم أو أثناء قيامهم به، ثم رقابته لهم في تنفيذها، وتصحيح العمل المخالف لها إن جاز له القانون ذلك. ويترتب على الرقابة التلقائية مسؤولية تأديبية التي يخضع لها عضو النيابة العامة، في حالة مخالفته تعليمات رئيسه المباشر .
والسلطة المخولة لوكيل الملك إزاء نوابه هي ذاتها التي منحها المشرع للوكيل العام على جميع قضاة النيابة العامة العاملين بدائرة نفوذه حسب منطوق المادة 49 من قانون المسطرة الجنائية.
وإلى جانب هذه الرقابة الإدارية ، هناك نوع من الرقابة على حسن تطبيق النيابة العامة لسلطتها في تحريك المتابعة وهو ذلك المتجسد في الرقابة القضائية.
والرقابة القضائية ظهرت كضمانة من أجل مباشرة الإتهام وذلك نتيجة فشل الرقابة الإدارية على أعمال النيابة العامة في الوصول إلى الهدف والمقصد الرئيسي في تحريك تحريك الدعوى العمومية بعد اتخاذ قرار الحفظ .
وإذا كان مبدأ الفصل بين سلطة الإتهام وسلطة الحكم يجعل النيابة العامة وحدها قاضي سلطة تقدير ملاءمة الإتهام، فإن المشرع إفترض عند امتناعها عن تحريك الدعوى العمومية أن المصلحة العامة تقتضي عدم تحريك الدعوى العمومية عند حدوث جريمة معينة مادام أن النيابة العامة هي ممثلة الحق العام والأدرى بما تقتضيه المصلحة.
وقد يترتب عن إساءة أو استبداد أو التحكم بسلطة تقدير ملاءمة المتابعة مساس بنظام العدالة الجنائية، الأمر الذي أدى ببعض التشريعات إلى رسم طريق للطعن القضائي يسلكه المضرور من الجريمة، إذا ما تبين له أن النيابة العامة قد أساءت استعمال سلطتها التقديرية، عند إصدارها قرارات الحفظ في الحالات التي يجيز لها القانون ذلك .
ويرى البعض أن شكل الرقابة القضائية على عمل النيابة العامة يظهر في التشريعات التي أخذت بنظام الملاءمة كأصل عام، كما هو الحال في تشريعين الفرنسي و المصري وكذلك المغربي حيث تخول هذه التشريعات للمضرور من الجريمة حق تحريك الدعوى العمومية عن طريق الإدعاء المدني أمام قاضي التحقيق أو الإدعاء المباشر أمام المحكمة، وهو الحق الذي يقصد به تمكين الأفراد من مراقبة النيابة العامة في تصرفاتها لتفادي الأضرار التي تنجم عن إهمالها أو إمتناعها عن تحريك الدعوى العمومية وتمكين المتضرر من الفعل الجرمي من فرصة جديدة لإتباث مسؤولية الجاني.
المبحث الثاني : الأسس القانونية لمبدأ ملاءمة المتابعة في التشريعات المقارنة والتشريع المغربي.
المطلب الأول : مبدأ ملاءمة المتابعة في التشريعات المقارنة.
تفاوت القوانين المقازنة في حدود تبني مبدأ ملائمة المتابعة بين من أخذت به كأصل في تحريك الدعوى العمومية ، كما هو الشأن بالنسبة للتشرعين الفرنسي و الجزائري وبين من عملت على تبنيه إلى جانب مبدأ شرعية المتابعة كما الحال بالنسبة للتشريعين الألماني والمصري ، مما يقتضي استعراض الأسس القانوني لهذا المبدأ في التشريعات السالفة ذكر.
الفقرة الأولى : الأسس القانوني لمبدأ ملاءمة المتابعة في التشريع الفرنسي والجزائري.
أ- التشريع الفرنسي :
جاء قانون المسطرة الجنائية الفرنسي الصادر لسنة 1958 صريحا في الأخذ بمبدأ ملاءمة المتابعة وذلك بموجب المادة 40 منه، عكس قانون التحقيق الجنائي الصادر في عام 1808 حيث خلا هذا الأخير من أي نص صريح على سلطة النيابة العامة في تقدير ملاءمة المتابعة مما أثار نقاش حول الصلاحيات المخولة للنيابة العامة تجاه ما يصل إلى علمها من شكايات ووشيات.
وهكذا جاء في الفقرة الأولى من المادة 40 من قانون المسطرة الجنائية الفرنسي على أنه : “تتلقى النيابة العامة الشكاوى والبلاغات وتقرر ما يتبع بشأنها”.
ومن قراءة هذا النص، يتضح أن نية واضعي قانون الإجراءات الجنائية، لم تكن محل شك في أنها متجهة وبصورة صريحة لنظام الملائمة، ويؤكد هذا ما ذهب إليه واضعو القانون في تعليقاتهم على المادة ’40 ق.ا.ج.ف) من أنها لم تأخذ شكل المادة 38 من قانون التحقيق الجنائي السابق الإشارة إليه، والتي كانت تبدو وكأنها تلزم النيابة العامة بتحريك الدعوى العمومية، وإن كانت عباراتها لا تستبعد تطبيق نظام الملائمة المقرر في العرف القضائي الفرنسي قبل صدور قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1958. ومن هنا يتضح أنه يجوز للنيابة العامة في فرنسا حفظ ملف القضية إداريا نتيجة تقرير الملائمة، كما يجوز لها أيضا تقرير شرعية الإتهام، وهذا ما يجمع عليه الفقه الفرنسي الحديث .
وطبيعي أن سلطته في التقدير هذه تشمل جميع الجرائم التي يتصل بها علمه من أي طريق ودون أن تكون محصورة فيما يصل إلى علمه عن طريق الشكوى والإبلاغ ، كما أن هذه السلطة ليست مقصورة على وكيل الجمهورية وحده يستعملها بحرية مطلقة، إذ من نتائج التبعية الرئاسية أن للوكيل العام أن يصدر إليه توجيهات متعلقة بالمتابعة وعدمها يلتزم بها وكيل الجمهورية بإعتباره نائب عن الوكيل العام في المتابعة (المادتين 37، 38 /2)، ولذلك يتعين على وكيل الجمهورية إخطار الوكيل العام بدون تأخير بأمر الجنايات والجنح المرتكبة التي تمس النظام العام. كذلك يوجب القانون على وكيل الجمهورية إعلام الوكيل العام بكافة الجرائم الواقعة في نطاق اختصاصه بموجب تقرير يقدم منه شهريا (المادة 35/2) لتمكين الأخير من استعمال هذه السلطة التقديرية في ملاءمة تحريك الدعوى عن طريق توجيهات يصدرها باتخاذ اجراءات المتابعة أو عدمها .
كما أن يستنتج من المادة 40 في فقرتها الثانية أن لقضاة النيابة العامة سلطة تقدير ملاءمة القيام بالإجراءات ليس فقط في الشكاوى أو البلاغات وإنما المحاضر المحررة من طرف ظباط الشرطة القضائية ولهم أن يصدروا أمرا بحفظ الملف، وقد يحله إلى التحقيق أمام قاضي التحقيق وهذا الأخير قد ينتهى إلى إحالة الدعوى إلى قضاء الحكم .
هذا وقد يشكل قرر قاضي النيابة العامة بحفظ الملف، موضوع طعن أما الوكيل العام من طرف الشخص المشتكي أو المبلغ كما تنص على ذلك المادة 40 في فقرتها الثالثة .
ب – التشريع الجزائري :
إن قانون الإجراءات الجزائية الجزائري، في القسم الثاني منه المتعلق باختصاصات النيابة العامة، قد نص في الفقرة الخامسة من المادة 36 على أنه:” يقوم وكيل الجمهورية … بتلقي المحاضر والشكاوى والبلاغات ويقرر ما يتخذ بشأنها…”
فبالرجوع إلى نص المادة المذكورة أعلاه – والمشابهة لنص المادة 40/1 قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي- يتضح أن المشرع الجزائري قد تبنى نظام الملائمة كأصل عام في مباشرة الإتهام من طرف النيابة العامة، وذلك ما يستخلص من عبارة ” يقرر ما يتخذ بشأنها” وهي العبارة التي توحي بشكل صريح أن المشرع خول النيابة العامة السلطة التقديرية بأن تتصرف في المحاضر والشكاوى والبلاغات الواردة إليها، إما بحفظ القضية إداريا، أو تحريك الدعوى العمومية، وذلك حسب ما يتراءى لها تقدير مدى ملائمة الإتهام.
لذلك يكون الأساس القانوني لنظام الملائمة في القانون الجزائري هو نص الفقرة الخامسة من المادة 36 من قانون الإجراءات الجزائية، التي لم تترك أي مجال للشك في حذو المشرع الجزائري حذو المشرع الفرنسي في الأخذ بنظام الملائمة في مباشرة الإتهام من طرف النيابة العامة. وهكذا يكون المشرع الجزائري قد تفادى كل المناقشات والخلافات الفقهية التي ظهرت في فرنسا حول هذا الموضوع، قبل فضها بصدور المادة 40 من قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي لسنة 1958 .
غير أن المشرع الجزائري، وإن تبنى مبدأ الملاءمة كأصل في تحريك المتابعة فإن قد أخذ بنطام شرعية المتابعة كاستثناء في بعض مواد الجنايات، كما هو الشأن بالنسبة للفصل 66 من قانون الاجراءات الجزائية الجزائري الذي يلزم النيابة العامة بتوجيه الإتهام عبر ملتمس إجراء تحقيق وذلك عندما تتلقى محضرا أو شكاية أو وشاية تفيد وقوع جناية، سواء كان الجاني معلوما أو مجهولا وبالتالي فإن النيابة العامة في مواد الجنايات تضل مقيدة بإلتزامات مبدأ الشرعية الذي يفرض عليها تحريك الدعوى العمومية بمجرد علمها بالجريمة دون أن تكون لها إي سلطة تقديرية إزاء تحريك المتابعة.
الفقرة الثانية : الأسس القانوني لمبدأ ملاءمة المتابعة في التشريع الألماني والمصري.
أ – في التشريع الأماني :
يأخذ المشرع الألماني بمبدأ شرعية المتابعة إلى جانب مبدأ ملائمة المتابعة، فالقانون الألماني يضع على عاتق النيابة العامة واجب المتابعة في الجرائم التي يتصل علمها بها (المادة 152 من قانون الاجراءات الجنائية الألماني) غير أن التطبيق الجامد لهذا المبدأ من شأنه الإكثر من الدعاوى التي يتعين على القضاء الفصل فيها مما قد يؤثر على حسن سير العدالة من جهة كما قد يضر بعض المتهمين من جهة أخرى، لدى فإن القانون الألماني يورد بعض التحفظات أو الاستثناءات على تطبيق هذا المبدأ وهي :
أ- الأخذ بنظام الدعاوى الخاصة : حيت ينص القانون الألماني على طائفة من الجرائم قدر أنها تقع مساسا بحق فردي أكثر من مساسها بالحق العام ومنع النيابة العامة من إتخاذ قرار المتابعة وتحريك الدعوى للعقاب من أجلها ما لم تتضمن في نفس الوقت اعتداء على حق عام، وقصر هذا الحق على المجني عليه فيها أو المضرور منها عن طريق الدعوى المسماة PRIVATKLAGE » « (المادة 384 من قانون الإجراءات الجنائية ) وهي دعوى مطالبة بتوقيع العقوبة الجنائية ترفع أمام القضاء الجنائي.
ويلاحظ بالنسبة لهذه الجرائم أن حق المجني عليه فيها غير مقتصر على مجرد الحق في تحريك الدعوى للعقاب عليها بل أنه يمتد ليشمل حق مباشرتها.
ب – إخراج جرائم الأحداث من نطاق مبدأ شرعية المتابعة، فلا تلتزم النيابة العامة بتحريك الدعوى العمومية في جرائم الأحداث بل يكون لها اتخاذ القرار الذي توازن به بين مصلحة الحدث ومصلحة المجتمع ولو كان بحفظ الأوراق.
ج – تخول النيابة العامة سلطة اصدار قرار بحفظ الأورق في الجرائم التي يرتكبها المواطن الألماني بالخارج ولو كانت من جرائم الخيانة إذا أظهر الجاني ندمه.
د – تخول النيابة العامة سلطة عدم رفع الدعوى إلى القضاء واصدار أمر بعدم وجود وجه لإقامة الدعوى لسبب شبيه “بعد الأهمية” في الجرائم البسيطة والتي من قبيل المخالفات والجنح ذات النتائج البسيطة أو المعاقب عليها بعقوبات بسيطة، تخفيفا على المحاكم من أن تنشغل بالجرائم التافهة أو البسيطة .
ويلاحظ أن الأساس التشريعي لنظام الملائمة في القانون الألماني، لا يعتمد على أساس قانوني فقط، ولكن يمارس أيضا في إطار قانوني محدد، بحيث أن كل قرار ملائمة لا يعتمد على أساس قانوني صريح، أو يجاوز الإطار الذي يسمح فيها القانون بممارسة السلطة التقديرية وفقتا للمادتين 153 و 154 من قانون الإجراءات الجنائية، فإنه يعد مخالفا للقانون ويعتبر غير مشروع .
ب – في التشريع المصري :
خول المشرع المصري المدعي المدني مكنة تحريك الدعوى الجنائية متى قامت النيابة العامة بحفظ الأوراق وذلك بتكليف المتهم مباشرة بالحضور أمام المحكمة الجنائية المختصة وبذلك يشارك النيابة العامة سلطتها في تحريك الدعوى ويملك المطالب بالحق المدني حق التظلم من أمر الحفظ إلى الجهات الرئاسية لعضو النيابة العامة الذي أمر بالحفظ، وتملك هذه الجهات بدورها أن تأمر وكيل النيابة بتحريك الدعوى العمومية، وبذلك تستبعد شبهة احتكار النيابة العامة لتحريك الدعوى الجنائية وذلك من خلال الضوابط القانونية (المادتين 64 و 232 من قانون الإجراءات الجزائية المصري)، والقضائية “التظلم من أمر الحفظ” وكلاهما من السبل الكفيلة بعدم إطلاق سلطة النيابة العامة في عدم تحريك المتابعة.
هذا وتنص المادة 61 من قانون الاجراءات الجنائية المصري على أنه ” أذا رأت النيابة العامة أنه لا محل للسير في الدعوى تأمر بحفظ الأوراق”، والمقصود بالسير في الدعوى ليس متابعتها بعد أن تم تحريكها، وإنما متابعتها وتحريكها، والدليل على ذلك أن المشرع عبر عن قرار النيابة العامة في هذه الحالة بأنه ” حفظ الأوراق ” وليس حفظ الدعوى لأن الحفظ بعد تحريك الدعوى بأي إجراء من إجراءات التحقيق هو أمر بأن لا وجه لإقامة الدعوى حسب المادتين 154 و 209 من قانون والإجراءات الجنائية، وهذا الأمر الأخير يفيد عدم رفع الدعوى بعد أن حركت بأعمال التحقيق.
المطلب الثاني : مبدأ ملاءمة المتابعة في التشريع المغربي.
الفقرة الأولى : الأسس القانونية لمبدأ ملاءمة المتابعة في التشريع المغربي.
اعتنق المشرع المغربي مبدأ السلطة التقديرية في تحريك المتابعة، أو ما يعرف بسلطة ملاءمة المتابعة، وقد تجلى ذلك بوضوح من خلال ما ورد في عدة مقتضيات من قانون المسطرة الجنائية منها ما نصت عليه الفقرتين 1 و2 من المادة 40 من قانون المسطرة الجنائية (المقابلة للفصل 38 من القانون الملغى ) والتي تنص على ما يلي : ” يتلقى وكيل الملك المحاضر والشكايات والوشايات ويتخذ بشأنها ما يراه ملائما…
يحيل ما يتلقاه من محاضر وشكايات ووشايات وما يتخذه من اجراءات بشأنها، إلى هيئات التحقيق أو إلى هيئات الحكم المختصة أو يأمر بحفظها بمقرر يمكن دائما التراجع عنه …”
كما تنص المادة 49 من نفس القانون على ما يلي : ” يحيل الوكيل العام للملك ما يتلقاه من محاضر وشكايات ووشايات وما يتخذه من إجراء إلى هيئات التحقيق أو هيئات الحكم المختصة أو يأمر بحفظها بمقرر يمكن دائما التراجع عنه”
انطلاقا من المواد المشار إليها أعلاه يتضح أن المشرع المغربي سار على درب ما أقره المشرع الفرنسي بموجب المادة 40 من قانون المسطرة الفرنسي، حيث اتخذ من نظام الملاءمة المبدأ والأصل العام في كل الأعمال التي تقوم بها النيابة العامة، ذلك أن وكيل الملك ونوابه، والوكيل العام ونوابه يتمتعون بسلطة تقديرية في اتخاذ ما يرونه ملاءما في القضايا المحالة عليهم، وذلك عن طريق توجيه الإتهام للمشتبه فيه، أو يتخذون قرارا بحفظ الملف إذا تبين لهم أن لا حاجة لتحريك الدعوى العمومية بعدما يتم دراسة القضية واستحضار جملة من الإعتبارات القانونية والإجتماعية .
وجدير بالذكر أن سلطة الملاءمة تكون قبل تحريك المتابعة، أما بعدها فلا يكون لها كبير الأهمية. وبالتالي لا يصح للنيابة العامة أن تتراجع عن ممارسة الدعوى العمومية، وإنما هي ملك المجتمع عامة. مع مراعاة مقتضيات المادة 372 من قانون المسطرة الجنائية.
والملاحظة الجديرة بالإثارة في هذا الشأن أن قرار ممثل النيابة العامة في تحريك المتابعة أو حفظها إن وجد أساسه القانوني في مبدأ ملاءمة المتابعة، فإن قانون المسطرة الجنائية تبناه بشكل واضح في الآليات الجديدة المقترحة لمكافحة الجريمة وحماية الضحايا، ومن ضمنها آلية الصلح بين الخصوم الذي أقرته المادة 41 من ق م ج التي جاء فيها : ” يمكن للمتضرر أو المشتكى به قبل إقامة الدعوى العمومية وكلما تعلق الأمر بجريمة يعاقب عليها بسنتين حبسا أو اقل أو بغرامة لا يتجاوز حدها الأقصى 5000 درهم أن يطلب من وكيل الملك تضمين الصلح الحاصل بينهما.
وإذا كان قرار الحفظ وهو لآلية العملية التي تترجم تفعيل النيابة العامة لمبدأ الملائمة قبل تحريك المتابعة، فأن المشرع قد أضفى على مبدأ سلطة الملاءمة مزيدا الإلتزام لما حدد للنيابة العامة في الفقرة الأخيرة من المادة 40 أجلا للإشعار بقرار الحفظ حيث جاء في الفقرة السالفة الذكر : ” … يتعين على وكيل الملك إذا قرر حفظ الشكاية، أن يخبر المشتكي أو دفاعه بذلك خلال خمسة عشر يوما تبتدئ من تاريخ اتخاذه قرار الحفظ”.
وإذا كان المشرع المغربي قد أخد بمبدأ تقدير مبررات المتابعة الزجرية، فإن وضع بالمقابل بعض الأساليب للحد من التعسف والغلو في إعماله ولو على حساب حقوق الغير، وهو ما سنتعرض له في الفقرة الموالية.
الفقرة الثانية : القيود الواردة على مبدأ ملاءمة المتابعة في التشريع المغربي.
لا يمكن لسلطة الملاءمة بأي حال من الأحوال أن تكون مطلقة لا تصطدم بحدود
أو ظروف قانونية معينة، وإنما وضع المشرع في حسبانه جملة من الأمور التي من شأنها أن تضمن الحد الأدنى من التعايش والتوفيق بين مبرررات حفظ القضية، والحق في المتابعة بها طبقا لما قررته المادة 2 من قانون المسطرة الجنائية (المقابل للفصل الأول من القانون الملغى).
وفي هذا الصدد يعتبر الإدعاء المباشر (الشكاية المباشرة) آلية وضعها المشرع رهن إشارة المتضرر من الجريمة لتجاوز أي تقاعس من النيابة العامة عن تحريك المتابعة والتي يقدمها إما أمام المحكمة أو أمام قاضي التحقيق
فقد جاء في المادة 92 من قانون المسطرة الجنائية أنه : ” يمكن لكل شخص ادعى أنه تضرر من جناية أو جنحة أن ينصب نفسه طرفا مدنيا عند تقديم شكايته أمام قاضي التحقيق المختص، ما لم ينص القانون على خلاف ذلك”
فعندما يضع قاضي التحقيق يده على القضية بمقتضى الشكاية مباشرة مرفقة بالمطالبة بالحق المدني. فإن الأمر لا يقف عند حد تقديم الشكاية وأداء المبلغ المضنون أنه لازم لصوائر إجراءات الدعوى ليباشر قاضي التحقيق إجراءات البحث، بل لا بد من تبليغ هذه الشكاية إلى النيابة العامة بمقتضى قرار بالاطلاع لإبداء ملتمساتها، بعد أن تقدر ما إذا كانت الأفعال موضوع الشكاية يسوغ قانونا المتابعة من أجلها ويكون من شأنها أن تتسم بصفة جنائية على فرض ثبوبتها أم لا، فتكون ملزمة في الحالة الأولى بإصدار التماس بإجراء تحقيق ويمكنها في الحالة الثانية وفي حال ما إذا كانت الوقائع المعروضة لا تستوجب قانونا إجراء المتابعة لوجود أسباب تمس الدعوى العمومية كالتقادم أو موت المشتكى به وكذا في الحالة التي تكون فيها الجريمة موضوع الشكاية المباشرة من النوع الغير القابل للتحقيق أن تلتمس عدم إجرائه. أما إذا اتضح للنيابة العامة أن الشكاية المقدمة غير معللة تعليلا كافيا أو لم تبررها بوجه كاف الحجج المدلى ، أمكنها أن تلتمس من قاضي التحقيق فتح تحقيق مؤقت ضد كل الأشخاص الذين سيكشف عنهم التحقيق. وبهذه الملتمسات يضع قاضي التحقيق يده على القضية ويباشر إجراءات بحثه .
وتجدر الإشارة أن المجني عليه الذي حرك عن طريق الشماية المباشرة الدعوى العمومية ورفعها أمام المحكمة المختصة يصبح خصما للمتهم خلال نظر الدعوى، لكن خصومته تقتصر فقط على الدعوى المدنية، فيكون له بمقتضى هذه الخصومة أن يحضر جلسات المحكمة وكافة إجراءاتها، وأن يقدم الطلبات المتعلقة بالدعوى المدنية، وأن يطعن في الأحكام الصادرة في هذه الطلبات .
الخاتمة :
إن السلطة التقديرية التي تتمتع بها النيابة العامة في إطار مبدأ الملاءمة وإن كانت تسمح لها بمواكبة توجهات السياسية الجنائية في مختلف المجالات وذلك بالنظر لمرونة نظام الملائمة، فإن ذلك لا ينبغي أن يكون مطية لخرق مبدأ أساسي تقوم عليه العدالة الجنائية ويعد من مرتكزات المحاكمة العادلة وهو مبدأ المساواة أمام القانون، لذلك ينبغي أن يرتبط تفعيل مبدأ الملاءمة بالمصلحة العامة وأن يكفل تطبيقه بما يتفق وإرادة المشرع مما يحتم تفعيل الضمانات التي تحد من التعسف في تطبيق مبدأ الملاءمة.
– وحداني نور الدين، مجلف الملف، العدد 17/ أكتوبر2010، ص 154.
محمد محمود سعيد، المرجع السابق، ص 200.
– عبد الفتاح بيومي حجازي ، سلطة النيابة العامة في حفظ الأوراق والأمر بأن لا وجه لإقامة الدعوى الجنائية عملا وعلما، دار ابو سمر القانونية، الزقازيق، مصر، الطبعة الأولى 1993، ص 121.
– محمد محمود سعيد، المرجع السابق، ص 313.
– محمود نجيب حسني، شرح قانون الإجراءات الجنائية ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، مطبعة جامعة القاهرة والكتاب الجامعي، الطبعة الثالثة 1998 ، ص 113.
– أحمد الخمليشي، شرح قانون المسطرة الجنائية ، الجزء الأول ، ص 49
– وحداني نور الدين ، الدعوى العمومية وسلطة الملاءمة، مجلة اللف، العدد17/ أكتوبر 2010
– د/ محمد عيد الغريب – المرجع السابق – ص 370.
– د/ محمود عيد الغريب- المرجع المذكور اعلاه – ص 371.
– كمال الشلاوي، سلطة الملائمة في عمل النيابة العامة على مستوى المادة الجنائية، رسالة لنيل الماستر في العلوم الجنائية، جامعة القاضي عياض، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بمراكش، السنة الجامعية : 2012-2013.
– علي شملال، السلطة التقديرية للنيابة العامة في الدعوى العمومية دراسة مقارنة، دار هومة للطباعة والنشر، الجزائر ، ط 2009،32-33.
– سليمان عبد المنعم – أصول الإجراءات الجزائية في التشريع والقضاء والفقه- المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، بيروت- الطبعة الثالثة 1999- ص 230.
– علي شملال، المرجع السابق ، ص 34
– وحداني نور الدين، المرجع السابق، ص 157.
– الحسن البوعيسي، المرجع السابق، ص 132.
– علال شملال ، الرجع السابق ، ص 36 .
– وحداني نور الدين، المرجع السابق، ص 159.
– محمد محمود سعيد، حق المجني عليه في تحريك الدعوى العمومية، دار الفكر العربي ، ص 315.
– محمد محمود سعيد، المرجع السابق، ص 315،
– د/ أحسن طالب- الوقاية من الجريمة – دار الطليعة لطباعة والنشر، بيروت – الطبعة الاولى 2001- ص 11 وما يليها.
– علي شملال، المرجع السابق، ص 37.
– محمد محمود سعيد، المرجع السابق، ص 318.
-كمال الشلاوي ، المرجع السابق، ص 43
– علي شملال، المرجع السابق، ص 49.
– كمال الشلاوي، المرجع السابق ، ص 45.
– علي شملال، المرجع السابق ، ص 62.
– محمد محمود سعيد، المرجع السابق، ص 310.
– علي شملال ، المرجع السابق، ص 43.
– محمد محمود سعيد، المرجع السابق ، ص 311.
– عبد الفتاح بيومي حجازي، سلطة النيابة العامة في حفظ الأوراق والأمر بأن لا وجه لإقامة الدعوى الجنائية علما وعملا، مطبعة دار أبوسمر القانونية ، الطبعة الأولى 1993، الزقزيق ، مصر ، ص 130
– WWW .memoireonline ، 15/07/2016.، 15:30
-علي شملال، المرجع السابق، ص 44.
– محمد محمود سعيد، المرجع السابق، ص 303- 304
– علي شملال ، المرجع السابق، ص 47.
– كما هو الشأن لقرار الحفظ الذي تتخذه النيابة العامة في حالة وجود تنازل من المشتكي ،خاصة في قضايا العنف ضد الزوجة و العنف ضد الأبناء حيث غالبا ما يعلل قرار الحفظ بالحفظ لوجود تنازل من الضحية وحفاظا على الروابط العائلية.
– حميد ميمون، المتابعات الزجرية وإشكالاتها العملية، مطبعة بني أزناسن ، الطبعة الأولى، ص 206.
– تنص الماد 2 من قانون المسطرة الجنائية على ما يلي : ” يترتب عن كل جريمة الحق في إقامة دعوى عمومية لتطبيق العقوبات والحق في إقامة دعوى مدنية للمطالبة بالتعويض عن الضرر الذي تسببت فيه الجريمة ”
– محمد بنعليلو، وقع عمل النيابة العامة في المغرب بين الممارسة القضائية وضمان الحقوق والحريات، المركز العربي لتطوير حكم القانون والنزاهة، ص 217.
– محمد محمود سعيد، المرجع السابق، ص 212.