المسؤولية الجنائية في مدونة السير
لطيفة وراوي
دكتورة في القانون الخاص كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية جامعة محمد الأول وجدة
|
عادل البوعزاوي
باحث في صف الدكتوراه قانون الأعمال والاستثمار كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية جامعة محمد الأول وجدة
|
مقدمة
يقصد بالمسؤولية الجنائية في حوادث السير ذلك الأثر القانوني المترتب عن الجريمة كواقعة قانونية تقوم على أساس تحمل الفاعل للجزاء الذي تفرضه القواعد القانونية الجنائية بسبب خرقه للأحكام التي تقررها قواعد مدونة السير[1].
وفي هذا الصدد يقول استيفاني: “إن المسؤولية بصفة عامة تعني نتائج أعمالنا وتحدد هذه المسؤولية بوضوح ودقة في نطاق القواعد الجنائية في الالتزام بتحمل ما يترتب عن النشاط المجرم، وعند تنفيذ الحكم بالإدانة في واجب الالتزام بتنفيذ العقوبة”.
والملاحظ أن مشكلة حوادث السير ليست مشكلة محلية أو وطنية تعاني منها دولة دون أخرى، ولكنها مشكلة عالمية تعاني منها دول العالم جميعها، على خلاف بينها في نسبة الحوادث وفي تداعياتها السلبية على المجتمع.
وفي الآونة الأخيرة، أصبحت الوفيات والإصابات الخطيرة الناتجة عن حوادث السير من المشاكل الرئيسية التي تهدد حياة السكان، فخلال السنوات الماضية ارتفعت نسبة حوادث السير ليس فقط على المستوى الوطني بل على المستوى العالمي بشكل كبير، نتج عنه ارتفاع حاد في الإصابات الخطرة والوفيات[2].
لذلك تدخل بالمشرع المغربي على الإسراع بإخراج مدونة السير الجديدة لوضع حد لاستنزاف الأرواح وتجنب وقوع الإصابات الخطيرة التي تتسبب فيها حوادث السير. والتي تخلف في بعض الحالات عجزا دائما والتي دخلت حيز التنفيذ في الفاتح من أكتوبر لسنة 2010.
وحوادث السير ظهرت منذ اختراع السيارة إلا أن علاجها والتصدي لها لم يؤخذ بشكل جدي إلا في مرحلة الستينيات، حيث اتخذت الدول المتقدمة الأسلوب العلمي للحد من هذه المشكلة مما أدى إلى انخفاض معدل الحوادث.
وبناء على ذلك، فإن حوادث السير– في نظر أهل القانون – هي الحوادث التي تقع للمركبة أو منها أثناء سيرها، يشترط أن تتوفر فيها الصفات الآتية:
- أن تكون غير عمدية
- أن تكون في الطريق العام، أن يكون أحد أطرافها المركبة أثناء سيرها أن يترتب عليها آثار ضارة.
وتماشيا مع هذا المنوال عرفت هيأة الصحة العالمية حادثة المرور بأنها “واقعة غير متعمدة، ينتج عنها إصابة ظاهرة”[3].
وبناء على ما سبق يتبادر إلى الذهن طرح مجموعة من الإشكالات والتي تدور حول ما هو الأساس القانوني للمسؤولية الجنائية في حوادث السير؟ وأين تتجلى مسؤولية السائق الجنائية؟
وعليه سوف نقسم هذا الموضوع إلى محورين على المنوال الآتي:
المحور الأول: الأساس القانوني للمسؤولية الجنائية عن حوادث السير
المحور الثاني: المسؤولية الجنائية للسائق
المحور الأول: الأساس القانوني للمسؤولية الجنائية عن حوادث السير
من خلال استقراء نصوص مدونة السير على الطرق الجديدة وفق آخر تعديل في 16 غشت 2016، يلاحظ على أن المسؤولية الجنائية تقع على كل من أحدث أو ساهم في إحداث وضعية متسببة لضرر بخرقه لقواعد قانون السير والنصوص الصادرة لتطبيقه.
الفقرة الأولى: المسؤولية الجنائية عن حوادث السير طبقا للقواعد العامة
ويقصد المشرع بهذه المسؤولية منع التهريب من تحمل المسؤولية على كل من ارتكب عملا أو تدخل فيه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وأحدث ضررا للغير أثناء السياقة على الطريق، وما هذا المقتضى إلا تطبيقا لمبدأ شخصية المسؤولية الجنائية الذي أخذ به المشرع المغربي بدوره ومفاده أن المسؤولية الجنائية لا تطال إلا الذي ارتكب شخصيا إحدى الوقائع التي عددها المشرع الجنائي في الفصل 132 من القانون الجنائي، والذي ينص على أن كل شخص سليم العقل قادر على التمييز يكون مسؤولا شخصيا عن الجرائم التي يرتكبها والجنايات أو الجنح التي يكون مشاركا في ارتكابها، ومحاولات الجنايات ومحاولات بعض الجنح ضمن الشروط المقررة للعقاب عليها، ولا يستثنى من هذا المبدأ إلا الحالات التي ينص فيها القانون صراحة على خلاف ذلك، وبناء على هذا الفصل العام من القانون الجنائي والمادة 140 من مدونة السير على الطرق، يتضح أن السائق تقع على عاتقه مسؤولية جنائية عما يرتكبه من أضرار أثناء سياقته للعربة أو المركبة[4].
إن الحيوان غير مسؤول عما يرتكبه من سلوكات مخالفة للقانون وعن الأضرار التي يلحقها بالغير إذا ثبتت مسؤولية التابع ولم يتم التعرف عليه أو أنه يفتقد أحد أركان أهلية السياقة مثل عدم بلوغه سن 16 سنة أو عدم توفره على رخصة السياقة، وهذا يتماشى مع الاستثناء الوارد في الفقرة الأخيرة من الفصل 132 من القانون الجنائي الذي أقر المسؤولية الجنائية غير الشخصية يسأل فيها عن أفعال غيره وهذا خروجا على مبدأ السابق.
وكمثال لهذا الاستثناء يعتبر الأشخاص الآتي ذكرهم مسؤولين مدنيا عن أداء الغرامات المقررة والعقوبات المدنية المحكوم بها[5].
1- مجهزو بواخر الصيد أو مستأجروها أو المؤمنون عليها من أجل الأفعال التي يرتكبها قواد هذه البواخر ورجال طاقمها، وكذا الأشخاص الذين يستغلون مؤسسات الصيد.
2- الآباء والأولياء الذين يتحملون مسؤولية أولادهم القاصرون، وكذا أرباب الأعمال والموكلون من أجل خدمتهم أو مأموريهم، والملاحظ هو أن أغلب النصوص التي تعالج المسؤولية الجنائية من فعل الغير تنطوي في حقيقة الأمر على فرص التضامن في أداء العقوبات المالية لا غير.
ولهذا يكون كل شخص مقيد اسمه بشهادة تسجيل المركبة أو ممثله القانوني تنتقل إليه المسؤولية الجنائية عما ارتكبه السائق من أضرار، وعليه أن يثبت ما يبرؤه من هذه المسؤولية. وكل شاحن أو ناقل أو وكيل بالعمولة أو مرسل ومرسل إليه يعتبر متبوعا ومسؤولا عما يصدره من أمر أو فعل يحدث أو يساهم في وقوع الضرر للغير.
وإذا ثبتت مسؤولية أحدهم فإنه يحكم عليه بعقوبة التعويض عن الضرر وعن باقي مصاريف الدعوى أو توزيع الغرامات بين التابع والمتبوع حسب الظروف المحيطة بالفعل المرتكب وحسب ظروف عمل التابع.
وإذا وزع المشرع المسؤولية الجنائية بين السائق وباقي المتدخلين المباشرين في الوضعية المتسببة للضرر فإنه أبقى على المسؤولية الجنائية للسائق دون الإخلال بها، هذا ما أكده المشرع المغربي من خلال المادة 140 من القانون الجنائي، التي جاء فيها “يكون كل سائق مسؤولا جنائيا عما يرتكبه من مخالفات لأحكام هذا القانون”.
لذلك تمتاز المسطرة الجنائية بقواعد عامة تسير عليها من بداية الدعوى إلى النطق بالحكم، إلا أن هذه القاعدة منها ما يكون مشتركا بين المسطرة الجنائية وبين بعض فروع القانون الأخرى ومنها ما يجب أن يتوفر فقط في المسطرة الجنائية ويكون خاصا بها.
ولعل نصوص المسطرة الجنائية والتي تبعث الحركة في نصوص القانون الجنائي وذلك عن طريق تحريك الدعوى العمومية[6] وتنظيمها في جميع مراحلها فهذه لها علاقة بالقانون الجنائي الذي تعمل على تطبيقه كما لها علاقة مع المسطرة المدنية التي بدورها تنظم الدعوى، لكن موضوعها يختلف عن موضوع الدعوة فالقانون الجنائي قانون قضائي لا يمكن أن يعرف لتطبق إلا عن طريق الدعوى التي تعرض وجوبا على القضاء لأن الجريمة واقعة جنائية تسنى حق الدولة في العقاب[7] وتخلق رابطة القانون ليس بين الجاني والضحية وإنما بين الدولة كشخص معنوي وبين الجاني، لذلك وجب تدخل القضاء، بين الدولة والمتهم هذه العلاقة وهذه الرابطة القانونية هي التي فرضت قضائية العقوبة في الدعوى الجنائية وجعلت قواعد القانون الجنائي الموضوعي لا يمكن تطبيقه إلا بواسطة قواعد الشكل إذ لا عقاب بدون محاكمة، وحتى إن كانت العقوبة غرامة مالية أو كانت الجريمة ذات حد واحد في العقاب، بل لابد من اللجوء إلى القضاء[8].
الفقرة الثانية: المسؤولية الجنائية عن حوادث السير طبقا لمدونة السير
لقد شكلت مدونة السير على الطرق حدثا هاما ومتميزا داخل الساحة القانونية والقضائية، على أرضية التطبيق بالنسبة إلى الإدارات التي يدخل في اختصاصها، كما تطرقت هذه المرونة لحل مجموعة من الإشكالات القانونية والعملية فرضتها بصفة حتمية المستجدات التشريعية التي جاءت بها نصوص المدونة على المستويين الإجرائي والموضوعي، مع ارتباط تطبيق بعض المقتضيات بإخراج نصوص أخرى إلى حيز الوجود.
كما يعد استكمال الإطار القانوني لتطبيق هذه النصوص من خلال إصدار المراسيم التطبيقية والقرارات الوزارية، إذ أصبح يقتضي توفير الشروط الضرورية لإنجاح عملية تطبيقه وفق ما يحقق الإرادة الصادقة للمشرع المغربي في جعل هذه النصوص أداة حقيقية لتنظيم السير على الطرق بالمغرب.
من هذا المنطلق النوعي والمتميز وضعت ركائز وأسس إخراج مدونة السير على الطرق كقانون خاص متفرد لا يساعد على ضبط المخالفات فحسب، بل لتحديد المسؤوليات بين مستعملي الناقلات، وذلك ما تطرق إليه المشرع الفرنسي والمشرع المصري من ذي قبل[9].
المحور الثاني: المسؤولية الجنائية للسائق
إن التشديد على إحداث مفهوم السائق المهني يهدف إلى الاعتراف بوضعي السائق وضمان حقوقه وتثمين قيمة السياقة المهنية، ولهذا فهناك مسؤولية جنائية للسائق عن الجروح العمدية (الفقرة الأولى)، وعن ما يتسبب به السائق للغير في القتل غير العمدي نتيجة حوادث السير وذلك بالتطرق إلى المسؤولية الجنائية للسائق عن القتل غير العمدي (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: المسؤولية الجنائية للسائق عن الجروح غير العمدية
كل سائق يعتبر مسؤولا جنائيا عن الأضرار التي ترتب عليها عجز مؤقت أو دائم للغير بسبب عدم مراعاته لقواعد قانون السير والنصوص الصادرة لتطبيقه.
وجاء في مدونة السير أن الجروح غير العمدية الناتجة عن حادثة سير والتي ترتب عنها عجز مؤقت للغير لمدة تفوق واحد وعشرين يوما تصل عقوبتها إلى سنتين حبسا وغرامة تصل إلى 6000 درهم وتضاعف هذه العقوبة في حال اقتران الحادثة بمخالفات أخرى منها حالة السكر وتناول المخدرات (المادة 167).
أما الجروح غير العمدية التي ترتب عنها عاهة مستديمة[10] للغير فإن عقوبتها الحبسية تصل إلى سنتين سجنا وكذا غرامة تصل إلى 10.000 درهم (المادة 169).
وتضاف أيضا العقوبة في حال اقتران ارتكاب الحادثة بحالات حددها المشرع في نفس المادة أعلاه في حالة السكر وتناول المخدرات أو اقتران الحادثة بمخالفات يعتبرها المشرع جنحة أو جناية مثل السياقة في الاتجاه الممنوع أو عدم احترام علامة التشوير الأحمر.
فعندما نتمعن في الفقرة الأولى من المادة 167 من مدونة السير يتبين لنا أنها نصت على نفس العقوبة الحبسية الواردة في المادة 433 من القانون الجنائي، غير أنها رفعت من سقف الغرامة في الحدين الأدنى والأقصى[11]، والأهم من ذلك كله رفعها من مدة العجز الكلي المؤقت عن العمل المترتب عن الحادثة من سبعة أيام إلى إحدى وعشرين يوما، فهل يعني ذلك أن الجروح غير العمدية الناتجة عن حادثة سير والتي ترتب عجزا مؤقتا تتراوح مدته من سبعة أيام إلى 21 يوما صارت فعلا مباحا وغير معاقب عليه؟
الملاحظ من جهة أن مدونة السير لم تتضمن أية أحكام مخالفة لهذه الحالة كما أنها لم تأتي بأحكام تعتبر تكرارا لها، ومن جهة أخرى فإنه لا وجود لما يمنع من تطبيق مقتضيات المادة 433 من القانون الجنائي[12].
الفقرة الثانية: المسؤولية الجنائية للسائق عن القتل غير العمدي
كل سائق يتسبب للغير في قتل غير عمدي نتيجة حادثة سير يعتبر مسؤولا جنائيا ويعاقب حسب مدونة السير الجديدة بعقوبة تصل إلى 5 سنوات سجنا وبغرامة تصل إلى 30.000 درهم مع إمكانية مضاعفتها إذا كان تحت تأثير مواد مخدرة أو في حالة سكر أو قام بسلوك يمنعه قانون السير على الطرق (المادة 172) وحسب هذه المادة فإن السائق لا يمكن له أن يتشبث بأي عذر أو بسبب ينقل مسؤولية الحادثة إلى الغير كمالك المركبة أو الشاحن أو الناقل، وأي مصدر آخر لآمر الذي أحدث أو ساهم في وقوع الحادثة[13].
ولأن نقل المسؤولية الجنائية إلى غير السائق لا تسري إلا في المخالفات التي تكون عقوبتها هي الغرامة فقط فإنه مع ذلك يمكن لهؤلاء الأغيار أن يثبتوا ما يخالف مسؤوليتهم عن المخالفة، ونرى أنه في المادة 172 من مدونة السير قد أبقت على نفس العقوبة الحبسية المنصوص عليها في المادة 432 من القانون الجنائي فإنها قد خالفتها بخصوص الغرامة حيث ضاعفتها ثلاث مرات في الحدين الأدنى والأقصى، 250 إلى 1000 درهم نصت على 750 إلى 3000 درهم، ومن تم فإن هذه المادة الجديدة هي الواجبة التطبيق عملا بمقتضيات الفقرة الأولى من المادة 316 من مدونة السير.
إن المسؤولية الجنائية في حوادث السير، تتميز بمجموعة من الخصائص عن نظيرتها في القانون الجنائي العام، فإذا كانت هذه الأخيرة شخصية، فإن المسؤولية الجنائية في حوادث السير قد يتحملها مالك العربة المسجلة في اسمه، إذا لم يثبت الطرف الذي تسبب في الحادثة، فالمشرع افترض مسؤولية صاحب المركبة، رغم تسبب الغير في الحادثة إلا أن يثبت صاحب المركبة المسؤول الحقيقي عن الحادثة وذلك بمختلف وسائل الإثبات.
كما أن للقاضي سلطة تقديرية بشأن أدلة الإثبات الحديثة، فالقاضي له أن يأخذ بتقرير الطبيب الشرعي وله أن يطرحه جانبا إلا أنه ملزم بالأخذ برأي الطبيب في الأمور التقنية.
[1] – عبد الواحد العلمي: شروح في القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية، الجزء الثاني، ص: 54.
[2] – عبد الواحد العلمي: م.س، ص: 66.
[3] – عبد الصمد رؤوف: حوادث المركبات على الطرق العمومية، دار النشر المتحدة، سنة 2001 (دون ذكر باقي البيانات) ص: 209.
[4] – عبد الصمد جيرار: حوادث السير على الطرق، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة، شعبة القانون الخاص، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة الحسن الثاني، الدار البيضاء عين الشق، 2002/2003. ص 320.
[5] – عبد الواحد العلمي: شروح في القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية، الجزء الثاني، ص: 135.
[6] – عبد الصمد رؤوف: م.س، ص: 213.
[7] – رضوان أحمد: حوادث السيارات والآلات، الطبعة الثانية، مطبعة دار القاضي 2009، جمهورية مصر العربية.
[8] – عبد الواحد العلمي: شروح في القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية، الجزء الثاني، مرجع سابق.
[9] – رضوان أحمد: م.س. ص 204.
[10] – عبد الواحد العلمي: م.س. ص 199.
[11] – المرجع نفسه: ص 301.
[12] – عبد الواحد العلمي: م.س. ص 130.
[13] – حكيم رأفت سعيد: حوادث المركبات على الطرق السيار: دار النصر الجامعية، لبنان 2007. ص 167.