مستلزمات مبدإ التكامل في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وتحــدياتــه.

مستلزمات مبدإ التكامل في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وتحــدياتــه.

محمد بن الطالب

طالب باحث بسلك الدكتوراه

شعبة القانون العام والعلوم السياسية

كلية الحقوق أكدال – الرباط

 

يعتبر نظام روما الأساسي المحدث للمحكمة الجنائية الدولية[1] معاهدة دولية فريدة من نوعها، حيث جاء متميزا عن الصكوك والأوفاق الدولية المنشئة للمحاكم الجنائية الدولية السابقة من حيث شموليته وإلزامية قواعده للدول الأطراف، وتقنينه للقواعد القانونية الموضوعية والإجرائية والمبادئ الجنائية العامة إضافة إلى تقنينه لبعض الجرائم الدولية.

وجاء متفوقا عبر إنشاء قضاء جنائي دولي دائم ينفرد بكون نصوصه تضمنت لأول مرة شقي التجريم والعقاب تطبيقا لمبدإ الشرعية الجنائية[2]، ذلك أن أنظمة المحاكم العسكرية الجنائية السابقة ومحكمتي يوغسلافيا السابقة ورواندا لا تصلح لتكون نموذجا لنظام قانوني دولي جنائي بسبب النقص في قواعدها أو اعتمادها على مبدإ الإحالة إلى المعاهدات والأعراف الدولية أو بعض الأنظمة الجنائية الوطنية من أجل تعريف الجرائم أو الإسناد القانوني لقضائها.

فالمحكمة الجنائية الدولية المنشأة بموجب نظام روما الأساسي المذكور تمتاز عن المحاكم السابقة التي أنشأت في نورمبرغ وطوكيو ويوغسلافيا السابقة ورواندا وسيراليون [3]وغيرها  – وكلها محاكم دولية خاصة أنشأت لغرض محدد وتزول عن الوجود بمجرد انتهاء مهمتها –  في أنها محكمة دولية دائمة وصاحبة اختصاص عام حيث لم تأت من قرارات ملزمة و”انتقائية” لمجلس الأمن، ولا يعتبر نظامها الأساسي جزءا متمما لميثاق الأمم المتحدة، بل تأسست بموجب معاهدة دولية اختيارية لا إلزامية، تخاطب المجتمع الدولي بأسره بدون استثناء، متجاوزة إلى حد بعيد نواقص الأنظمة القضائية الجنائية السابقة الموسومة بالمؤقتة والحصرية والظرفية والانتقائية أو المحدودة والاستثنائية.

ومن مميزات هذه المعاهدة كذلك أنها رسمت إطارا قانونيا للعلاقة بين نظام المحكمة الجنائية الدولية والأنظمة القانونية الوطنية، من معالمه الأساسية ما تنص عليه الفقرات 4 و6 و10 من ديباجة هذا النظام، والتي جاء فيها على التوالي ما يلي:

“إن الدول الأطراف في هذا النظام الأساسي (…) وإذ تؤكد أن أخطر الجرائم التي تثير قلق المجتمع الدولي بأسره يجب أن تمر دون عقاب وأنه يجب ضمان معاقبة مرتكبيها على نحو فعال من خلال تدابير تتخذ على الصعيد الوطني وكذلك من خلال تعزيز التعاون الدولي (..)

وإذ تذكر بأن من واجب كل دولة أن تمارس ولايتها القضائية الجنائية على أولئك المسؤولين عن ارتكاب جرائم دولية (…)

وإذ تؤكد أن المحكمة الجنائية الدولية المنشأة بموجب هذا النظام الأساسي ستكون مكملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية …”، ونظرا لأهمية هذا المقتضى الأخير فقد تكرر ذكره على مستوى المادة الأولى من النظام الأساسي كما يلي: “…وتكون المحكمة مكملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية”، وهذا ما يسمى ب “مبدأ التكامل”، وهو مصطلح استخدمته اللجنة التحضيرية التي تكلفت بصياغة مشروع النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لشرح العلاقة بين هذه المحكمة والنظم الوطنية[4].

إن اعتبار اختصاص المحكمة الجنائية الدولية تكميلي للقضاء الوطني يثير التساؤل حول معرفة حدود هذا الاختصاص (متى يبدأ وأين ينتهي ؟)، وآليات ممارسته، أو ما يمكن أن نسميه متطلبات/مستلزمات إعمال مبدإ التكامل؟ وإلى أي حد يمكن أن يضمن هذا المبدأ عدم إفلات مرتكبي أشد الجرائم خطورة على المجتمع الدولي من العقاب؟

تشكل هذه التساؤلات محور هذه الدراسة التي تتضمن ثلاثة عناصر رئيسية، يخصص العنصر الأول لشروط انعقاد الاختصاص التكميلي للمحكمة الجنائية الدولية، ويكرس العنصر الثاني لمستلزمات تفعيل مبدأ التكامل بين القضاء الوطني والمحكمة الجنائية الدولية، ويتعلق العنصر الثالث والأخير بالتحديات المرتبطة بإعمال مبدأ التكامل المقرر في نظام روما الأساسي.

المبحث الاول :  شروط انعقاد الاختصاص التكميلي للمحكمة الجنائية الدولية.

لقد تبلورت فكرة الاختصاص التكميلي للمحكمة الجنائية الدولية في نص المادة 17 من نظامها الأساسي، والذي بمقتضاه تكون الدعوى غير مقبولة أمام هذه المحكمة في الحالات التالية:

أولا: إذا كانت تجري التحقيق أو المقاضاة في الدعوى دولة لها ولاية عليها، ما لم تكن الدولة حقا غير راغبة في الاضطلاع بالتحقيق أو المقاضاة أو غير قادرة على ذلك.

ثانيا: إذا كانت قد أجرت التحقيق في الدعوى دولة لها ولاية عليها وقررت الدولة عدم مقاضاة الشخص المعني ما لم يكن القرار ناتجا عن عدم رغبة الدولة أو عدم قدرتها حقا على المقاضاة.

ثالثا: إذا كان الشخص المعني قد سبق أن حوكم على السلوك موضوع الشكوى، إلا إذا كانت الإجراءات في المحكمة الأخرى قد اتخذت لغرض حماية الشخص المعني من المسؤولية الجنائية عن جرائم تدخل في اختصاص المحكمة، أو لم تجر بصورة تتسم بالاستقلال أو النزاهة وفقا لأصول المحاكمات المعترف بها بموجب القانون الدولي، أو جرت في هذه الظروف على نحو لا يتسق مع النية إلى تقديم الشخص المعني للعدالة.

رابعا: إذا لم تكن الدعوى على درجة كافية من الخطورة تبرر اتخاذ المحكمة إجراء آخر.

ولتحديد عدم الرغبة في دعوى معينة، تنظر المحكمة في مدى توافر واحد أو أكثر من الأمور التالية، حسب الحالة، مع مراعاة أصول المحاكمات التي يعترف بها القانون الدولي[5]:

  1. جرى الاضطلاع بالإجراءات أو يجري الاضطلاع بها أو جرى اتخاذ القرار الوطني بغرض حماية الشخص المعني من المسؤولية الجنائية عن جرائم داخلة في اختصاص المحكمة؛
  2. حدث تأخير لا مبرر له في الإجراءات بما يتعارض في هذه الظروف مع نية تقديم الشخص المعني للعدالة؛
  3. لم تباشر الإجراءات أو لا تجري مباشرتها بشكل مستقل أو نزيه أو جرت مباشرتها أو تجري مباشرتها على نحو لا يتفق في هذه الظروف مع نية تقديم الشخص المعني للعدالة.

ولتحديد عدم القدرة في دعوى معينة، تنظر المحكمة فيما إذا كانت الدولة غير قادرة بسبب انهيار كلي أو جوهري لنظامها القضائي الوطني، أو بسبب عدم توافره على إحضار المتهم أو الحصول على الأدلة والشهادة الضرورية أو غير قادرة لسبب آخر على الاضطلاع بإجراءاتها.

هذا مع العلم أن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لا يمكنه، بأي حال من الأحوال، أن يباشر التحقيقات من تلقاء نفسه على أساس المعلومات المتوفرة لديه، والمتعلقة بجرائم تدخل في اختصاص المحكمة إلا بعد الحصول على إذن بذلك من الدائرة التمهيدية للمحكمة[6].

غير أن التساؤل الجوهري الذي يطرح في هذا الصدد يتعلق بحالة قرار سلطة الادعاء العام أو النيابة العامة داخل الدولة، الراغبة والقادرة على نظر القضية، بحفظ الدعوى بعد مباشرتها لكافة التحقيقات اللازمة وفق تشريعها وقضائها الوطني، الأمر الذي يعتبر بمثابة حكم براءة المتهم.

فهل مثل هذا القرار يؤدي إلى منع المحكمة الجنائية الدولية من إعادة النظر في القضية؟ أم خلاف ذلك بدعوى أن هذا القرار لا يعد حكما قضائيا، وإنما مجرد قرار لا حجية له في مراجعة القضاء الجنائي الدولي؟

في واقع الأمر، لا يقدم نظام روما الأساسي المذكور جوابا واضحا في هذا الشأن، ولعل الجواب، في ما ستقرره الممارسة العملية للمحكمة الجنائية الدولية عند تعاطيها مع مثل هذه القضايا.

 

 

المبحث الثاني –  مستلزمات تفعيل مبدأ التكامل بين القضاء الوطني والمحكمة الجنائية الدولية.

إذا أرادت الدولة الطرف في نظام روما الأساسي تحصين قضائها الوطني ضد تدخل القضاء الجنائي الدولي وحماية السيادة الوطنية لسلطاتها القضائية في مواجهة المحكمة الجنائية الدولية أن تثبت قدرتها على محاكمة مرتكبي أشد الجرائم خطورة موضع اهتمام المجتمع الدولي بأسره، والمحددة بمقتضى المواد 6 و 7 و8 و 8 مكرر في جريمة الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجريمة العدوان.

ولا يمكن أن يتأتى للدولة، حتى لو لم تكن طرفا في نظام روما الأساسي، إثبات هذه القدرة بدون وجود بنية تشريعية تغطي وتؤثم كافة الوقائع المجرمة بموجب المواد المذكورة مع تحديد الجهة القضائية المختصة بالنظر في تلك الجرائم، وهذه أولى وأهم الالتزامات التي يقتضيها إعمال مبدأ التكامل، وينبغي من جهة ثانية أن تعمل الدولة على رفع كافة القيود الإجرائية التي قد ينص عليها تشريعها الوطني، والتي قد تحول دون ملاحقة مرتكبي الجرائم السالفة الذكر، وذلك من خلال الحرص على رفع كل أنواع الحصانة عن مرتكبي تلك الجرائم[7]، وجعلها غير قابلة للتقادم[8] وحرمان مقترفيها من العفو إلا في الحدود المسطرة في المادة 110 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. كما يتطلب إعمال مبدأ التكامل، من جهة ثالثة، أن تكون الدولة قادرة على إثبات أن المحاكمات التي يختص بها قضاؤها الوطني في شأن الجرائم السالفة الذكر متسقة مع المعايير الدولية للمحاكمة العادلة[9].

ومهما كان الأسلوب التشريعي الذي اختارته الدولة لتأمين قدرتها على ممارسة اختصاصها على الجرائم التي تدخل في إطار الاختصاص الموضوعي للمحكمة الجنائية الدولية، والمرتكبة على إقليمها أو من قبل مواطنيها، يتعين الأخذ بعين الاعتبار أن هذه الجرائم، وإن كان يبدو أنها تتداخل مع بعض الجرائم المنصوص عليها في التشريع الوطني لا سيما ما يتعلق بمسمياتها وأركانها وخاصة الركن المادي كجريمة القتل العمد وجريمة التعذيب وجريمة الاغتصاب، فهي ذات طابع خاص حيث تختلف اختلافا جوهريا سواء في خطورتها الإجرامية أو أركانها أو نطاق وظروف ارتكابها، فجريمة التعذيب مثلا، والتي تعد من الجرائم ضد الإنسانية، وفقا لنظام روما الأساسي، لا تدخل ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية إلا إذا تم ارتكابها في إطار سياسة عامة على نحو منظم أو واسع النطاق وموجه ضد مجموعة من السكان المدنيين، وأن يثير هذا السلوك قلق المجتمع الدولي ويكون موضع اهتمام هذا المجتمع بأسره، هذا مع العلم أن نظام روما الأساسي يقتضي ألا تقتصر المسؤولية على الأفراد الذين ارتكبوا جريمة أو أكثر من الجرائم الدولية المذكورة وإنما تمتد لتشمل أيضا من أمروا بارتكاب مثل تلك الجرائم أو غرروا أو حثوا على ارتكابها أو قدموا العون أو التحريض أو المساعدة بأي شكل آخر لغرض تسيير ارتكابها[10].

هذا، وتطبيقا للمادة 27  من نظام روما الأساسي يجب على الدولة التي ترغب في أن تتجنب إقدام المحكمة الجنائية الدولية على ممارسة ولايتها القضائية على الحالات التي يتبين أن الجهات المعنية في الدولة الطرف تحقق فيها أو تقيم الدعوى القضائية بشأنها، أن تضمن إلغاء أية حصانات يمنحها تشريعها الوطني لمرتكبي الجرائم المحددة في النظام الأساسي بناء على صفتهم الرسمية سواء تعلق الأمر برئيس دولة أو حكومة أو عضو في حكومة أو برلمان أو ممثلا منتخبا أو موظفا حكوميا، وهذه القاعدة رغم أنها ليست جديدة حيث تقررت في معاهدة فرساي لعام 1919[11] وفي الاتفاقية الخاصة بالمعاقبة على جريمة الإبادة وفي اتفاقيات جنيف لعام 1949 وبروتوكوليها الإضافيين لعام 1977، إلا أنها أثارت نقاشا دستوريا في العديد من الدول عند تناولها مسألة المصادقة على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، واعتبرت هذا المبدأ مخالفا لدساتيرها كبلجيكا وفرنسا ولوكسمبرغ والتشيلي وكوت ديفوار[12]الأمر الذي تطلب إجراء تعديل دستوري كما هو الأمر بالنسبة للمادة 2-53 من الدستور الفرنسي.

كذلك، يعد عدم الاعتداد بالتقادم في ما يخص الجرائم الدولية التي تختص بها المحكمة الجنائية الدولية وعدم شمولها بالعفو من متطلبات إعمال مبدإ التكامل، وقد أثار هذين الأمرين نفس النقاش الدستوري المتعلق بالحصانة[13].

فالنسبة للتقادم، يلاحظ أن المادة 29 من نظام روما الأساسي لم تكن واضحة في ما إذا كانت أحكام عدم التقادم تقتصر على عدم تقادم الجرائم بمرور الزمن على الدعوى العمومية منذ ارتكاب الجرم أم يشمل أيضا عدم التقادم على العقوبة، وذلك خلافا لما تقرر في اتفاقية 1968 المتعلقة بعدم تقادم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي يستفاد من المادة 4 منها أن الدول الأطراف ملزمة باتخاذ كل التدابير التشريعية أو غير التشريعية لضمان عدم سقوط الجرائم الذي تدخل في نطاق الاتفاقية بالتقادم “سواء من حيث الملاحقة أو من حيث المعاقبة”.

ويستلزم مبدأ التكامل، من جهة أخرى، أن تراعي الدولة أصول المحاكمات التي يعترف بها القانون الدولي، ويتعلق الأمر بصفة خاصة بالقواعد المستقرة في هذا الشأن سواء في القانون الدولي الاتفاقي[14] أو القانون الدولي العرفي[15] ومن أبرزها : مبدأ عدم جواز المحاكمة على ذات الجرم مرتين، مبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني؛ حق المتهم في أن يحاكم أمام محكمة مستقلة غير متحيزة ومشكلة بصفة قانونية؛ حق المتهم في إبلاغه بشأن طبيعة وسبب التهمة الموجهة إليه؛ تمكين المتهم من حقوق ووسائل الدفاع والحصول على مساعدة قانونية دون مقابل عند الاقتضاء والاتصال بمحاميه والتحدث معه بحرية؛ حق المتهم في مناقشة الشهود أو تكليف الغير بمناقشتهم؛ قرينة البراءة؛ حق المتهم في حضور محاكمته وألا يجبر على الاعتراف بالذنب؛ وحقه بالاستعانة بمترجم وتعريفه بحقه في الاستئناف.

المبجث الثالث :  التحديات المرتبطة بإعمال مبدأ التكامل المقرر في نظام روما الأساسي.

يرتكز مبدأ التكامل الذي جاء به نظام روما الأساسي على فكرة جوهرية قوامها أن بعض أنواع السلوك الإجرامي التي تمس قيما أساسية للمجتمع الدولي، ينبغي التصدي لها من قبل الجماعة الدولية إن لم تبادر بذلك المحاكم الوطنية بكل حزم وجدية.

وإذا كان فهم هذا المبدإ متيسرا من الناحية النظرية إلا أنه يكشف عن بعض التعقيدات في مواجهته مع النظم الوطنية، فقد اعترضت الصين على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بدعوى أنه يتعارض مع سيادة الدولة وأن مبدأ التكامل الوارد فيه يسمح بتقييم نظامها القضائي الوطني، وأن الاختصاص المقرر للمدعي العام بالترخيص ببدء التحقيق من تلقاء ذاته[16] يفتح المجال لخضوع المحكمة للاعتبارات السياسية[17]، كما اعترضت الولايات المتحدة الأمريكية على هذا النظام بدعوى أنه يتيح للمحكمة الجنائية الدولية التعقيب على القضاء الوطني، الأمر الذي تستقل به المحكمة العليا الأمريكية وحدها، وأن في ذلك مساس بالسيادة الوطنية[18].

وحسب تصريح لوزير الشؤون الخارجية والتعاون المغربي الأسبق السيد محمد بنعيسى بتاريخ 27 ديسمبر 2006 جوابا على سؤال الفريق الاشتراكي بالبرلمان حول مدى مصادقة المملكة المغربية على معاهدة روما، تتجلى صعوبات المصادقة على نظام روما الأساسي في تعارض هذه المعاهدة مع السيادة الوطنية ومع التشريعات المتعلقة بالحصانات والعفو وتقادم الجرائم وتسليم المواطنين[19].

وقد شكلت هذه الأمور فعلا قضايا دستورية شائكة، أثيرت من قبل العديد من المحاكم الدستورية والمحاكم العليا ومجالس الدولة لكثير من الدول حيث اختلفت مقارباتها لهذه القضايا باختلاف أنظمتها القانونية الوطنية[20]، الأمر الذي تطلب تعديلات دستورية كما هو الشأن بالنسبة للمادة 53-2  السالفة الذكر من الدستور الفرنسي[21]، والمادة 29 -الفقرة 9- من دستور أيرلندا، والمادة 118 من دستور لوكسمبرغ، والمادة 93 -الفقرتان 3 و4- من دستور كولومبيا، والمادة 131 من دستور مدغشقر.

ورغم أن العديد من الكتابات اعتبرت أن كل ما تقدم لا يشكل اعتداء على سيادة الدولة على اعتبار أن المحكمة الجنائية الدولية أنشأت بمقتضى معاهدة دولية تجسد فيها مبدأ الرضائية المقرر في قانون المعاهدات حيث ارتضت الدول الالتزام بأحكامها بما فيها المقيدة لسيادتها[22]، وأن المحكمة الجنائية الدولية لا تمثل سيادة أجنبية مستقلة عن إدارة الدول، بل أن الدول الأطراف ذاتها هي التي أنشأتها بإرادتها بموجب اتفاقية دولية تنص صراحة على أن المحكمة ذات اختصاص تكميلي وليس سيادي على القضاء الوطني[23]، إلا أنه من الناحية العملية، يظل تحديد الخط الفاصل بين سيادة الدولة واختصاص المحكمة الجنائية الدولية من الأمور المستعصية خصوصا في الوقت الراهن الذي لا نتوفر فيه على اجتهادات قضائية كافية للمحكمة للإجابة على بعض التساؤلات التي تطرح في هذا الشأن  لاسيما عندما يتعلق الأمر بتنازع الاختصاص بين القضاء الوطني والمحكمة الجنائية الدولية، ذلك أن المعايير التي ينعقد بمقتضاها الاختصاص للمحكمة الجنائية الدولية تفسح المجال لتفسيرات محتملة يمكن أن تؤدي إلى اعتبارها خصما وحكما في ذات الوقت، فكيف يمكن أن نواجه مثلا التناقض بين ادعاء المحكمة بأنها على “إدراك تام” بتحقق “عدم الرغبة” أو “عدم القدرة” على المقاضاة “الحقيقية” وبين إصرار الدولة على زعمها بأنها راغبة وقادرة؟ ألا يوجد في ذلك خطر اغتصاب الاختصاص المنعقد للقضاء الوطني ؟

وهل يمكن أن يتحقق شرط عدم الرغبة إذا استغرقت المقاضاة الوطنية وقتا أطول مما تستغرقه أمام المحكمة الجنائية الدولية ؟

وفي حالة ما إذا كان عدد القضايا المعروضة على نظر القضاء الوطني كبيرا بشكل يفوق الإمكانيات المتاحة، وهذا أمر محتمل جدا عندما تواجه الدولة ظروفا استثنائية ناجمة عن نزاعات مسلحة مقارنة بحالة السلم، فهل يمكن القول أن هذه الحالة قد تحقق فيها شرط عدم القدرة علما بأن هذا الوضع قد تواجهه أيضا المحكمة الجنائية الدولية، وبالتالي فما هو الحل إذا كانت هي نفسها غير قادرة ؟

وإذا اتهم شخص بارتكاب إحدى الجرائم الدولية التي تختص بها المحكمة الجنائية الدولية وكانت الأدلة التي جمعت غير كافية أو تم إتلافها أو إخفاؤها بفعل تدخل السلطة التنفيذية في الدولة أو كان التشريع الوطني يسمح بتكييف الواقعة الإجرامية بشكل غير مطابق لما هو مقرر في نظام روما الأساسي – وهنا يمكن أن يمتثل القاضي الوطني للأمر الواقع والسائد ببلاده وليس بالضرورة للمقتضيات الدولية- فهل يمكن أن تقبل المحكمة الجنائية الدولية مثل هذا الوضع، أم أنها تبدأ إجراءات الدعوى القضائية على أساس عدم الرغبة وعدم القدرة، ونكون بذلك أمام علاقة رقابة وإشراف وتقييم أكثر منها علاقة تكامل؟ أليس في ذلك خطر المساس بالسيادة الوطنية علما بأن التمسك بالسيادة الوطنية في مثل هذه الحالة فيه خطر أكبر على مبدأ عدم إفلات مرتكبي أشد الجرائم خطورة على المجتمع الدولي من العقاب ؟

هناك تحدي آخر لا يقل أهمية عما سبق يتمثل في حالة مرتكب جريمة دولية تختص بها المحكمة الجنائية الدولية جرت محاكمته أمام محكمة وطنية وثبتت التهمة عليه ثم منح عفوا في ما بعد، ففي مثل هذه الحالة سيكون من الصعب على المحكمة أن توضح أنه قد تمت الاستجابة لشروط المقبولية التي قررتها المادة 17 من نظام روما الأساسي عندما جرت المحاكمة أمام المحكمة الوطنية[24].

وهناك من يذهب أبعد من ذلك، ويستحضر اعتبارات أخرى يمكن أن تثير صعوبات أمام تنفيذ مبدأ التكامل منها ما يسمى بالسمات الثقافية الخاصة بكل دولة ومدى تأثيرها على استعداد الشهود للإدلاء بشهاداتهم وعزوف السكان عن التعاون مع القضاء وإعطاء الأولوية للمصالحة الوطنية وإعادة البناء بدلا من المحاكمة، ذلك أن أولويات الدول ليس بالضرورة أولويات المجتمع الدولي، كما أن أولويات الضحايا ليس بالضرورة أولويات الدول[25].

يستنتج مما تقدم أن مبدأ التكامل يثير عدة إشكالات عند محاكاته بالواقع العملي، منها ما يمكن معالجته بإجراء تعديلات دستورية أو تشريعية إذا توافرت الإرادة السياسية لدى الدولة، ومنها ما يتطلب مجهودا أكبر من لدن المجتمع الدولي لتدقيق مقتضيات نظام روما الأساسي المتعلقة بمبدأ التكامل من جهة، والعمل من جهة أخرى على تقريب الفوارق بين النظم القانونية المختلفة خاصة في ما يتعلق بإجراءات المقاضاة والمحاكمة ذات الصلة بالجرائم الدولية الأشد خطورة على المجتمع الدولي، أو على الأقل اعتماد مبادئ توجيهية موحدة في هذا الشأن.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[1]  يتعلق الأمر باتفاقية دولية تم إقرارها من قبل مؤتمر الأمم المتحدة الديبلوماسي للمفوضين بروما المعني بإنشاء محكمة جنائية دولية، في 17 يوليوز 1998 ودخلت حيز النفاذ ابتداء من 1 يوليوز 2002 بتمام تصديق 60 دولة عليها، وتعرف أيضا باتفاقية أو ميثاق روما لسنة 1998

[2]  – حدد نظام روما الأساسي المحدث للمحكة الجنائية الدولية، خاصة في الباب الثاني منه، الجرائم الدولية التي تختص بها المحكمة، والمتمثلة في جريمة الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجريمة العدوان، وحدد في المادة 77 منه العقوبات الواجبة التطبيق

[3]  تأسست المحكمة العسكرية الدولية بنورمبرغ  بمقتضى اتفاق بين الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا والمملكة المتحدة واتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية عقد في لندن بتاريخ 8 مارس 1945 بغرض محاكمة مجرمي الحرب الرئيسيين من قوات المحور الأوربي.

– تأسست المحكمة العسكرية الدولية للشرق الأقصى في طوكيو بتاريخ 19 يناير 1946 بقرار خاص للقائد الأعلى لقوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، الجنرال ” دوجلاس ماك آرثر”.

– تأسست المحكمة الدولية الجنائية ليوغسلافيا السابقة بناء على قرار مجلس الأمن رقم 827 لسنة 1993.

– تأسست المحكمة الدولية الجنائية لرواندا بناء على قرار مجلس الأمن رقم 955 لسنة 1994.

– تأسست محكمة سيراليون الخاصة بموجب اتفاق بين الأمم المتحدة وحكومة سيراليون بناء على مجلس الأمن رقم 1315 لسنة 2000.

 

[4]  عبد الحميد محمد عبد الحميد، المحكمة الجنائية الدولية، دراسة لتطور نظام القضاء الدولي الجنائي والنظام الأساسي للمحكمة في ضوء القانون الدولي المعاصر، دار النهضة العربية، القاهرة، 2010، ص 459

[5]  من ذلك على سبيل المثال ما تقضي به المواد 9 و14 و15 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والمواد 55 و62 و68 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية

[6]  أنظر  المادة 15 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ولا سيما الفقرة 4 منها

[7]  أنظر المادة 27 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية

[8]   أنظر المادة 29 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية

[9]  تجدر الإشارة أيضا بخصوص تفعيل مبدإ التكامل إلى أن تعاون الدول الأطراف مع المحكمة الجنائية الدولية تعاونا تاما في ما تجريه من تحقيقات في الجرائم والمقاضاة عليها يعد من المتطلبات الأساسية لتفعيل هذا المبدإ طبقا لأحكام المادة  86 من نظام روما الأساسي، وعلى الرغم من غياب مقتضى صريح بخصوص الدول غير الأطراف يمكن للمحكمة طبقا للمادة 87 (5) أن تدعو أية دولة غير طرف لتقديم المساعدة على أساس ترتيب خاص arrangement ad hoc أو على أي أساس مناسب

[10]   تنص المادة 25 الفقرة 3 من النظام الأساسي من (أ) إلى (ج) على أن يغطي التشريع الوطني أيضا حالة مساءلة الأفراد عن المساهمة في الجريمة أو الشروع في ارتكابها عندما تكون هذه المساهمة بغرض تعزيز ما يسمى “بالمشروع الإجرامي المشترك” (المادة 25 فقرة 63 (د) من النظام الأساسي).

[11]  راجع المادتان 227 و228 من المعاهدة،  وأيضا النظامين الأساسيين لمحكمتي نورمبرغ وطوكيو (المادتان 6 و 7).

[12]  أنظر دليل التنفيذ الوطني للقانون الدولي الإنساني، اللجنة الدولية للصليب الأحمر، المركز الإقليمي للإعلام، القاهرة 2010، ص 356 وما بعدها

[13]  لمزيد من التفصيل، انظر دليل التنفيذ الوطني للقانون الدولي الإنساني، المرجع السابق، الملحق رقم 14

[14]  كالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ولا سيما المادة 14 منه؛ البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف الأربع ولا سيما المادة 75 منه؛ والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ولا سيما المادة 67 منه

[15]  أنظر على سبيل المثال القواعد 100 و101 و102 من القانون الدولي الإنساني العرفي، دراسة أنجزتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر . المرجع: جون – ماري هنكرتس ولويز دو زوالد- بك، القانون الدولي الإنساني العرفي، مجلدان، المجلد الأول : القواعد، المجلد الثاني: الممارسة دار نشر جامعة كمبردج، 2005.

 

 

[16]  انظر  المادتان 54 و99 من النظام الأساسي للمحكمة

[17]  محمد أمين المهدي، الجرائم التي تختص بها المحكمة الجنائية الدولية، منشورات اللجنة الدولية للصليب الأحمر، 2013، ص 53

[18]  محمد أمين المهدي، الجرائم التي تختص بها المحكمة الجنائية الدولية، المرجع السابق، نفس الصفحة السابقة

[19]  محضر الجلسة الرابعة والثلاثين بعد المائتين ليوم الأربعاء 27 من ذي الحجة 1427 (27 ديسمبر 2006)، دورة أكتوبر 2006، السنة التشريعية الخامسة، المدة النيابية 2002-2007 (الجريدة الرسمية –نشرة المداولات مجلس النواب- عدد 109 بتاريخ 11 من محرم 1428 (31 يناير 2007)، ص.ص:882-883) .

 

[20]  أنظر على سبيل المثال:

  • Belgique : conseil d’Etat, Avis du 21 avril 1999. Doc. Parl.2-329/1(1999-2000).p94.
  • Costa Rica : Sala Constitucional de la Corte suprema, Exp. 00-008325 – 0007- Co, Res. 2000 -09685, 1 November 2000.
  • Ecuador : Informe del Dr. H. salgado pesantes en el Caso No 005 – 2000- CI sorbre el « Estatuto de Roma de la Corte Penal international », Tribunal constitutional, 21 February 2001.

France : Conseil Constitutionnel, Décision 98 – 408 DC du 22 janvier 1999

[21] Article 53-2 : » La République peut reconnaître la juridiction de la Cour pénale internationale dans les conditions prévues par le traité signé le 18 juillet 1998 ».

[22]  أحمد أبو الوفا، المحكمة الجنائية الدولية، المواءمات الدستورية والتشريعية، منشورات اللجنة الدولية للصليب الأحمر، الطبعة الخامسة، 2008، ص 64.

 

 

[23]  شريف عتلم، الجرائم التي تختص بها المحكمة الجنائية الدولية ، منشورات اللجنة الدولية للصليب الأحمر، 2013 ، ص 93.

[24]  كزافييه فيليب، مبادئ الاختصاص العالمي والتكامل، المجلة الدولية للصليب الأحمر، منشورات اللجنة الدولية للصليب الأحمر، 2006، ص100

[25]  كزافييه فيليب، مبادئ الاختصاص العالمي والتكامل، المرجع السابق، ص 104 و105

إقرأ أيضاً

التأطير الدستوري لمقتضيات  الوظيفة العمومية على ضوء دستور 2011

التأطير الدستوري لمقتضيات  الوظيفة العمومية على ضوء دستور 2011 الوعبان لرباس  باحث في سلك الدكتوراه …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *