مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعيه في المجال البيئي
ذة. علمي أسماء
استاذة باحثة
كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية
جامعة الحسن الثاني بالدارالبيضاء
يعتبر هذا النوع من المسؤولية من أهم مظاهر المسؤولية التقصيرية، لكونها قائمة على قرنية قانونية قاطعة لا تقبل البينة المعاكسة([1]). فالمشرع لم يترك للشخص المتبوع أية فرصة للتخلص من هذه المسؤولية إلا في حالة واحدة وهي ثبوت السبب الأجنبي.
نص المشرع على هذه المسؤولية في الفقرة الثالثة من الفصل 85 من قانون الالتزامات و العقود (ق.ل.ع) بقوله: (المخدومون ومن يكلفون غيرهم برعاية مصالحهم يسألون عن الضرر الذي يحدثه خدامهم ومأمورهم في أداء الوظائف التي شغلوهم فيها).
لقيام هذه المسؤولية يجب توافر شرطين، بحيث يتعين أن يكون المتبوع مرتبطا بخدمه وتابعيه بمقتضى علاقة تبعية التي قد تكون قانونية أو اقتصادية، ويجب أن يتسبب التابع في ارتكاب الفعل الضار أثناء تنفيذه للمهام المناطة به أو بمناسبتها.
فبالنسبة للشرط الأول فإنه يتحقق إذا كان للمتبوع سلطة فعلية على تابعيه في الرقابة والتوجيه، ولا يشترط أن تكون بمقتضى عقد، كما لا يشترط أن يكون المتبوع قد اختار تابعيه، حيث أن علاقة التبعية تقوم ولو فرض التابع على المتبوع.
ويكفي لمباشرة الرقابة والتوجيه أن يباشر المتبوع على التابع هذا الحق من الناحية الإدارية فقط دون الفنية.
أما الشرط الثاني والمتمثل في خطأ التابع أثناء أداء وظيفته أو بمناسبتها، فالمتبوع لا يسأل عن كل الأخطاء الصادرة من التابع إلا إذا كانت ترتبط ارتباطا وثيقا بالعمل الذي يقوم به لحسابه، على اعتبار أن مسؤوليته تبعية لا تتحقق إلا بناء على خطأ التابع.
فأساس هذه المسؤولية مرتبط بالصلة الموجودة بين الفعل الضار والوظيفة المكلف بها التابع وينعدم بانعدامها. والاجتهاد في فرنسا مدد مسؤولية المتبوع حتى عن الأخطاء التي يرتكبها التابع بسبب الوظيفة، أي أنه لولا الوظيفة لما استطاع التابع ارتكاب تلك الأخطاء([2]).
وهذا هوحال التشريعات الحديثة كالقانون المدني المصري في المادة174([3])، وكان أحرى بالمشرع المغربي أن يتبنى نفس النهج السابق، وهو ما سار عليه القضاء المغربي في قراراته([4]).
فما هو الأساس القانوني لمسؤولية المتبوع عن أعمال تابعيه، وما هو الأساس المعتمد في المجال البيئي، الإجابة عن ذلك هي محور المبحثين التاليين:
المبحث الأول : الأساس القانوني لمسؤولية المتبوع عن فعل التابع.
المبحث الثاني : الأساس المعتمد في مجال المسؤولية عن الضرر البيئي.
المبحث الأول: الأساس القانوني لمسؤولية المتبوع عن فعل التابع
اختلف الفقه بصدد تحديد أساس مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعيه، وتعددت نتيجة لذلك النظريات الفقهية التي قيل بها بخصوص تأصيل هذا النوع من المسؤولية.
والهدف من التعرض لأساس هذه المسؤولية هو معرفة ماهية المسؤولية التي تتفق مع الأضرار الماسة بالبيئة. هكذا يمكن رد أساس مسؤولية المتبوع إلى نظريتين :
النظرية الأولى : مسؤولية المتبوع هي مسؤولية ذاتية.
هذه النظرية تستند إما إلى الخطأ المفترض الثابت في حق المتبوع أو إلى تحمل المتبوع تبعة تابعه، فمن يحقق نفعا أو ربحا نتيجة خدمات أو أعمال شخص آخر يجب عليه أن يتحمل مخاطر الأضرار التي قد يسببها هذا الشخص([5]).
أولا : نظرية الخطأ المفترض
تبنى مسؤولية المتبوع تبعا لهذه النظرية على خطأ مفترض في جانبه، وهذا الخطأ يكمن إما في خطأ اختيار التابع أو خطأ في الرقابة والتوجيه، وحسب الفقرة الثالثة من الفصل 85 من ق.ل.ع، فإن هذا الخطأ يعتبر قرنية قاطعة غير قابلة لإثبات العكس.
ثانيا : نظرية تحمل تبعة المخاطر
وفقا لهذه النظرية فإن المتبوع باعتباره يستفيد من خدمات تابعيه وخدمه، فعليه بالمقابل أن يتحمل تبعة المخاطر التي قد يحدثها تابعيه، إذ الغرم بالغنم.
النظرية الثانية : مسؤولية المتبوع هي مسؤولية عن الغير.
اختلف الفقه حول أساس هذه النظرية بين قائل بتأسيسها على فكرة الضمان، وقائل بتأسيسها على فكرة النيابة أو التمثيل القانوني.([6])
أولا : نظرية الضمان
هذه النظرية تعتبر أن المتبوع بمثابة ضامن للأضرار التي قد يتسبب فيها أتباعه، خاصة بعد إعسارهم أو امتناعهم عن أداء ما بذمتهم، والكفالة هنا قانونية أي مصدرها القانون، وهذه النظرية تؤسس مسؤولية المتبوع بناء على تحققها في جانب التابع باعتباره المدين الأصلي، كما أن للمتبوع الرجوع على التابع بما أداه المضرور.
ثانيا : نظرية النيابة أو التمثيل القانوني.
التابع ما هو إلا نائب قانوني عن المتبوع، وخطأ التابع ما هو إلا خطأ المتبوع.
ورغم الانتقاد الموجه لهذه النظرية والذي يرى بأن نطاق النيابة ينحصر غالبا في مجال التصرفات القانونية دون الوقائع المادية، فإنه يمكن أن تتسع هذه النظرية لتشمل حتى الأعمال المادية التي تصدر من النائب (التابع) للأصيل (المتبوع).
المبحث الثاني: الأساس المعتمد في مجال المسؤولية عن الضرر البيئي
إن نظرية تحمل التبعة هي التي تتفق مع الأضرار البيئية وهي التي تقبلها الفقه في الدول الصناعية بصدد الأنشطة الخطرة، كالأنشطة النووية، خصوصا بعد أن ثبت أنه يصعب إثبات الخطأ فيها أو هوية المسؤول عنها، كما أنها في أغلبها تكون أنشطة مشروعة ومرخص بها([7]).
إذن فالأساس الذي يمكن استجلاؤه في مجال مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعيه عن الضرر البيئي، هو تحمل التبعة.
الملاحظ هو أن نظرية تحمل التبعة هي التي أخذ بها المشرع في إطار النظام الخاص بالمسؤولية المدنية في القانون المتعلق بحماية واستصلاح البيئة[8]، حيث نص في المادة 63 منه على ما يلي: “يعتبر مسؤولا، دون الحاجة إلى إثبات خطأ ما، كل شخص مادي أو معنوي يخزن أو ينقل أو يستعمل محروقات أو مواد مضرة وخطيرة، وكذا كل مستغل لمنشأة مصنفة كما يحددها النص التطبيقي لهذا القانون، تسببت في إلحاق ضرر جسدي أو مادي له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بممارسة الأنشطة المشار إليها أعلاه”([9]) .
فما هي صور نظرية تحمل التبعة؟
تتمثل هذه الصور في تبعة الربح، تبعة النشاط أو تبعة السلطة.
أولا: تبعة الربح
من يفيد من خطر ناشئ عن نشاطه يجب عليه أن يتحمل تبعته ويعوض الأضرار الناتجة عن هذا النشاط، ما دام هو الذي يعود عليه نفعه ويجني منه ثمرته دون حاجة إلى وقوع خطأ في جانبه، لأنه ليس من العدل الاجتماعي في شئ أن يجني صاحب الشئ ثمرته ويستأثر بما يدره من فائدة وربح ويترك لغيره أن يتحملوا مخاطره، فمن له النفع حقت عليه التبعة[10].
ثانيا: تبعة النشاط
معيار النشاط الذي يمكن أن يبدو فضفاضا بالنسبة للمسؤولية المدنية بوجه عام ينطبق دون مشكلة في مجال المسؤوليات الصناعية.
فالواقع أن الصناعة بسبب الطاقة التي تستعمل والمواد الأولية التي تحول، والوسائل الفنية التي تستخدم لا تكون نشاطا مفيدا وإنما أيضا وفي معظم الأوقات نشاطا خطرا.
ثالثا: تبعة السلطة
خلاصتها أن : من يرأس مشروعا ما يجب أن يكون مسؤولا عن الضرر الناجم عنه حتى ولو لم يكن قد ارتكب خطأ، فذلك هو مقابل ماله من سلطة.
هكذا استقر الفكر القانوني على أن من يشغل مشروعا، وينتج عن هذا الاستغلال مخاطر استثنائية، فعليه أن يتحمل ما يصيب الغير من ضرر بسببها، حتى ولو لم يثبت أي خطأ يمكن إسناده إلى مشغل أو صاحب المشروع وحتى ولو وصف نشاطه بأنه مشروع[11].
وتطبيق هذه المسؤولية أدعى في مجال الضرر البيئي، فالخطر الاستثنائي يجب أن تقابله مسؤولية استثنائية، وأن جسامة مثل هذه الأضرار ومخاطر انتشارها تفرض علينا سرعة وضع نظم خاصة للمسؤولية عنها.
فهي مسؤولية يختفي الخطأ فيها، مما يقتضي ضرورة البحث عن حلول قانونية جديدة إزاء نشاطات ينجم عنها أضرار لا يمكن تلافيها.[12]
وقد ساعد على ظهور نظرية تحمل التبعة عدة مذاهب اعتبرت كأساس لتبرير القول بها كالمذهب الوضعي، النـزعة المادية في القانون، النزعة الاشتراكية في القانون ومذهب المدرسة التاريخية. فما هي هذه المذاهب؟
1-المذهب الوضعي:
يقوم هذا المذهب على اعتبار أن كل نشاط يصدر عن الإنسان ما هو إلا نتيجة أكيدة لعوامل خارجية وأخرى داخلية، وبالتالي تكون الجريمة تبعا لذلك ثمرة نوعين من العوامل، عوامل عضوية ونفسية تتعلق بالجاني وعوامل اجتماعية عارضة.
ويذهب أنصار هذا المذهب إلى إنكار فكرة العقاب واعتبارها وسيلة يدافع بها المجتمع عن كيانه ضد الجريمة ذاتها لما تمثله من خطر على المجتمع، دون الاعتداد بخطورة المجرم نفسه.
لذلك فإذا حررت المسؤولية الجنائية من فكرة الخطأ، فإن الضرورة تقتضي نهج ذلك بالنسبة للمسؤولية المدنية، حيث يصبح كافيا لقيامها الإلتزام بالتعويض بمجرد وقوع ضرر تسبب الفاعل في إلحاقه بالمضرور.([13])
2- النزعة المادية في القانون :
ظهرت هذه النزعة المادية في الفقه الألماني الذي انتقلت منه إلى الفقه الفرنسي، وهي تهدف إلى إسباغ الطابع المادي على القانون المدني وبالتالي ترك الاعتبار الشخصي، بحيث لا ترى لزوما لتأسيس المسؤولية المدنية على الخطأ لأنه مجرد وصف نفسي يعود إلى ضمير الفاعل. ولما كان التعويض بهدف إعادة التوازن المالي بين ذمتين افتقرت إحداهما بفعل الأخرى، فإن الضرورة تقتضي ذلك بغض النظر عن وجود السلوك الخاطئ أو عدمه. ([14])
3- النزعة الاشتراكية في القانون :
إذا كان المذهب الفردي قد عاش عصره الذهبي في القرن الثامن عشر، وتوج بالثورة الفرنسية، فإن القرن التاسع عشر ومنتصفه قد شهد ظهور تيار جديد برهن عن عجز المذهب الفردي، وكان ذلك نتيجة للثورة الصناعية الكبرى التي عرفها القرن التاسع عشر وظهور الاحتكارات الكبرى واتساع الهوة بين طبقة العمال وأرباب العمل.
وتكون بذلك النزعة الاشتراكية قد أعطت الصدارة للجماعة، بحيث أنه يجب كفالة حماية الجماعة التي من خلالها تتحقق حماية الفرد، فإذا وقع ضرر فإن الأمر لا يتطلب البحث فيما إذا كان مرتكبه قد أخطأ أم لا، بل يجب البحث فيما إذا كانت مصلحة المجتمع تقتضي تعويضه أو العكس.([15])
4- مذهب المدرسة التاريخية :
ترجع هذه النظرية إلى الفقيه الألماني سافيني Savigny، وهي تقوم على أن القانون وليد البيئة، لذلك فهو يتكيف حسب ظروف الزمان والمكان. وقد صاحب ظهور هذه النظرية التطور الصناعي في أوروبا وما شمله من ظهور الآلة، حيث انتقلت من فكرة المسؤولية القائمة على الخطأ إلى فكرة التبعة، أي تبعة الضرر على المتسبب فيه، ما دام لم يصدر أي خطأ من جانب المتضرر.([16])
وبما أن هذه المذاهب تقوم على مبدأ العدالة التعويضية التي ترفض أن يتحمل المضرور ما وقع من ضرر، لأنه ليس من العدل أن ينتفع شخص من ملكه وبالتالي لا يتحمل أضراره، فإن الاستناد على ذلك تبرره قاعدة الغزم بالغنم، التي مفادها أنه من يغنم من تشغيل مشروع له عليه أن يغرم التعويض للضرر الناجم عن هذا التشغيل دون إرهاق المضرور بإثبات الضرر، أو بالأصح الاعتماد على قاعدة من يلوث عليه الإصلاح “Pollueur payeur” وقاعدة الخطر المستحدث التي تقضي بأنه من يستخدم آلات خطرة عليه أن يتحمل تبعة هذه الآلات.
ولما كانت نظرية تحمل التبعة هي المعتمدة في المجال البيئي، فقد عرفت تطبيقا لها على صعيد القانون الداخلي وكذلك الدولي.
فعلى صعيد القانون الداخلي، تعتبر مسؤولية صاحب العمل عن الأمراض المهنية أهم مظهر للمسؤولية عن فعل الغير، والتي تستند على نظرية المخاطر المهنية، بحيث إذا كان صاحب العمل يغنم كثيرا من نشاط عماله، فعليه أن يتحمل ما يصيب العمال من أضرار مرتبطة بذلك النشاط وبكيفية آلية([17])، لذلك فهي مسؤولية مفترضة تقوم بمجرد تحقق الضرر والعلاقة السببية بينه وبين الشغل الذي يقوم به الأجير دون اعتبار لوجود الخطأ. ([18])
بالرجوع إلى قانون الالتزامات والعقود، فإن المشرع قد تطرق لهذا النوع من المسؤولية في الفصول 749-750-751 التي حيث جاء فيها:
الفصل 749 : “المعلم أو المخدوم، وعلى العموم كل رب عمل، يلتزم :
أولا: بأن يعمل على أن تكون الغرف، ومحلات الشغل، وعلى العموم كل الأماكن التي يقدمها لعماله وخدمه ومستخدميه مستوفية كل الشروط اللازمة لعدم إلحاق الضرر بصحتهم ولتأمينهم من كل خطر، كما أنه يلتزم بصيانتها لتبقى على نفس هذه الحالة طوال مدة العقد.
ثانيا: بأن يعمل على أن تكون الأجهزة والآلات والأدوات وعلى العموم كل الأشياء التي يقدمها، والتي يلزم بواسطتها أداء الشغل في حالة من شأنها أن تقي من سيتخدمهم من كل خطر يهدد حياتهم أو صحتهم في الحدود التي تقتضيها طبيعة الخدمات التي يؤدونها، كما أنه يلتزم بصيانتها لتبقى على نفس هذه الحالة طوال مدة العقد.
ثالثا: بأن يتخذ كل ما يلزم من الإجراءات الوقائية لكي يؤمن لعماله وخدمه ومستخدميه حياتهم وصحتهم في أدائهم الأعمال التي يباشرونها تحت توجيهه أو لحسابه.
ويسأل المخدوم عن كل مخالفة لأحكام هذا الفصل وفقا للقواعد المقررة للجرائم وشبه الجرائم”.
الفصل 750 : “ويسأل المخدوم أيضا عن الحوادث والكوارث التي يقع ضحيتها الأجير الذي يعمل معه، حالة كونه يؤدي المهمة التي عهد إليه بها، إذا كان سبب الحادثة أو الكارثة راجعا إلى مخالفة أو عدم مراعاة رب العمل الضوابط الخاصة المتعلقة بمباشرة صناعته أو فنه”.
الفصل 751 : “كل الاشتراطات أو الاتفاقات التي تستهدف تخفيف أو إبعاد المسؤولية المقررة بمقتضى الفصلين 749 و750 على عاتق المخدومين أو أرباب الأعمال تقع عديمة الأثر”.
هكذا فإن الإلزام بالتعويض كجزاء، يفرض على أصحاب العمل أو المؤاجرين تأمين بيئة للعمل تكفل إزالة مصدر الأخطار أو التقليل من احتمالات تحققها والتي من شأنها أن تصيب العمال بأمراض تهدد صحتهم وحياتهم.
هذا الإلزام أكده المشرع كذلك في القانون المتعلق بمكافحة تلوث الهواء حيث نص في المادة السادسة على ما يلي: “يلتزم صاحب المنشأة باتخاد الاحتياطات والتدابير اللازمة لعدم تسرب أو انبعات ملوثات الهواء داخل أماكن العمل إلا في الحدود المسموح بها سواء كانت ناتجة عن طبيعة ممارسة المنشأة لنشاطها أو عن خلل في التجهيزات والمعدات، وأن يوفر سبل الحماية اللازمة للعاملين تنفيدا لشروط السلامة والصحة المهنية”.
كما أكدت المادة السابعة من نفس القانون أعلاه على ما يلي: “يشترط في الأماكن العامة المغلقة وشبه المغلقة أن تكون مستوفية لوسائل التهوية الكافية بما يتناسب مع حجم المكان وقدرته الاستيعابية ونوع النشاط الذي يمارس فيه بما يضمن جودة الهواء ونقاءه واحتفاظه بدرجة حرارة مناسبة”.
بعد التطرق لمسؤولية المتبوع عن أعمال تابعيه في إطار القانون الداخلي، نتساءل عن كيفية تحققها في إطار القانون الدولي.
اختلف الفقه([19]) بشأن القول بهذه النظرية في الميدان البيئي على صعيد العلاقات بين الدول، انطلاقا من أنه لا يمكن الأخذ بفكرة المخاطر في العلاقات بين الدول، حيث جاء بهذا الصدد رأي القاضي الروسي “كيرلوف” بشأن قضية مضيق كورفو:
“إن مسؤولية الدول المترتبة على العمل الدولي غير المشروع تفترض على الأقل وجود خطأ وقعت فيه الدولة.. ولا يمكن أن ننقل إلى ميدان القانون الدولي نظرية المخاطر التي أقرتها التشريعات المدنية في دول كثيرة، فلكي تؤسس مسؤولية الدولة يجب الرجوع إلى فكرة الخطأ”.([20])
فهذا الرأي يتشبث بفكرة الخطأ التي هي عماد المسؤولية المدنية، ولكن أمام التطورات الصناعية والتكنولوجية وزيادة المخاطر بصدد استعمال الآلات، لم يعد لهذا الرأي أي صدى، لأنه يصطدم مع فكرة محاولة تطوير قواعد المسؤولية المدنية، ونجد أنفسنا دائما ندور في محور الخطأ المستحيل إثباته في ميدان الضرر البيئي في كثير من الأحيان، كما أن القانون الدولي بدوره عليه أن لا يبقى متجاهلا للتقدم ومشكلاته، حيث أنه من الضروري أن تتطور قواعد القانون الدولي على غرار قواعد القانون الداخلي من أجل المحافظة على حقوق الدول المعتدى عليها وحقوق الأفراد الأكثر تضررا، والاكتفاء بوقوع الضرر وعلاقة السببية بينه وبين النشاط الضار ولو كان مشروعا.
ويأخذ أغلبية الفقه بهذا الاتجاه ([21])، بالرغم من الانتقادات التي وجهت له. وقد أكد “بول رويتر” في دروسه أمام أكاديمية القانون الدولي في لاهاي سنة 1961 بأنـه :
“القانون الدولي العام لا يمكنه بعد اليوم أن يتجاهل ولمدة طويلة التطور التقني الهائل الذي حدث في الحياة المعاصرة والذي يثير مشاكل جمة، إن تصرفا مشروعا من جانب إحدى الدول قد يسبب أضرارا لا يمكن تقديرها، إننا مطالبون بترتيب إلتزام بإصلاح الضرر على عاتق هذه الدولة، رغم نشاطها المشروع”([22]).
وأضاف بأن : “الأضرار الجسيمة التي قد تحدث في أعقاب التقدم العلمي للحياة الحديثة تخلق مشاكل بدأت القوانين الوطنية في مواجهتها وأن القانون الدولي لا يمكنه تجاهلها طويلا… وأمام هذا الاحتمال يجب أن نتجه إلى وضع قوانين جديدة”([23]).
هكذا، فإن سيطرة التكنولوجيا والوسائل الحديثة، دعت كما سبق ذكره إلى تطوير قواعد المسؤولية المدنية، وهذه الدعوة تجلت بالأخص في مجال الأنشطة الخطرة التي تقوم بها الدول، لذلك حتى يمكن المحافظة على حقوق الدول الأخرى وحقوق الأفراد التي تتعرض للمساس بها، فإن المسؤولية عنها يجب أن تقوم دون حاجة لإثبات الخطأ، وإنما الاكتفاء بالضرر والعلاقة السببية بينه وبين فعل المدعى عليه، وهذا ما نهجه المشرع في المادة 63 من القانون المتعلق بحماية واستصلاح البيئة والتي اعتبر فيها الشخص المعنوي مسؤولا دون الحاجة إلى إثبات خطأ ما بصدد أنشطة التي يمارسها والتي من شأنها أن تلحق ضررا في صحة الإنسان وبالبيئة، ومن قبيل الضرر بهذا الصدد تلوث البيئة البحرية والتلوث الذري.
فطبيعة هذه الأضرار وفداحة مخاطرها واستحالة إثبات خطأ القائم بها لتأكيد على الأخذ بالتطور الحاصل للمسؤولية المدنية([24]).
وتبعا لما سبق فإنه ثمة اتفاقيات قررت صراحة الأخذ بنظرية المسؤولية الموضوعية في مجالات ذات صلة مباشرة بحماية البيئة من التلوث، منهـا:
أولا : اتفاقية باريس لسنة 1960 والمتعلقة بالمسؤولية قبل الغير في مجال الطاقة النووية.
ثانيا : اتفاقية بروكسيل لسنة 1962 والمتعلقة بمسؤولية مشغلي السفن النووية.
ثالثا : اتفاقية بروكسيل لسنة 1969 والمتعلقة بالمسؤولية المدنية عن الضرر الناجم عن التلوث النفطي.
هكذا، و لغرض ضمان تعويض سريع وكاف فيما يتعلق بجميع الأضرار الناجمة عن تلوث البيئة البحرية، يجب أن تتعاون الدول على تطوير القانون الدولي المتصل بالمسؤولية والإلتزامات من أجل تقييم الضرر والتعويض عنه وتسوية النزاعات المتصلة بذلك، وتتعاون حيثما يكون ذلك مناسبا، في وضع معايير وإجراءات لدفع تعويض كاف مثل التأمين الإجباري أو صناديق التعويض.
[1] – للمزيد من الإيضاح حول هذا النوع من المسؤولية، يمكن الرجوع إلى:
- علمي (سعيدة)، مسؤولية المتبوع عن فعل التابع في ضوء ق.ل.ع المغربي، رسالة دبلوم الدراسات العليا، قانون خاص، كلية الحقوق بالدار البيضاء، 1990.
- الحضري (محمد)، أساس مسؤولية المتبوع عن أعمال التابع في التشريع المغربي، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون الخاص، كلية الحقوق، الرباط، 1991.
[2] – الكزربي (مأمون)، نظرية الإلتزامات في ضوء ق.ل.ع. مصادر الإلتزام، مطابع دار القلم، بيروت، لبنان، الجزء الثاني، الطبعة الثانية، 1392-1972 ، صفحات من 455 إلى 462.
[3] – السنهوري (أحمد عبد الرزاق)، الوسيط في شرح القانون المدني، نظرية الإلتزام بوجه عام، مصادر الإلتزام، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، لبنان، المجلد الثاني، الطبعة الثالثة الجديدة،، 1998، ص 1170، فقرة 675.
[4] – قرار المجلس الأعلى في الحكم الصادر بتاريخ 8-1-1959، فالمتبوع يسأل مدنيا عن الأضرار التي تسبب فيها التابع للغير إذ يكفي أن يكون الفعل الضار مرتبطا بأسباب الوظيفة التي يتولى إنجازها، ويتعلق مضمون هذا القرار: “بالتابع الذي نقل صندوقا للمتفجرات لمنزله مخافة سرقته من الورش الذي كان يعمل به وذلك دون إخبار متبوعه بهذا العمل، وقام أحد أبنائه القاصرين بتوزيعها على زملائه اعتقادا منه على أنها متفجرات عادية فتسبب انفجارها في إصابة أحد الأطفال بجروح بليغة”.
انظر: المجلة المغربية للقانون، سنة 1959، ص79.
[5] – انظر بهذا الصدد : العرعاري (عبد القادر)، النظرية العامة للالتزامات في القانون المدني المغربي، المسؤولية التقصيرية عن الفعل الضار، دار الأمان، الرباط، 1998، ص.ص 123-136.
[6] – راجع : شنب (محمد لبيب)، دروس في نظرية الالتزام، مصادر الالتزام، القاهرة 1976، ص 409.
[7] – Voir : Fornasier (R), Le droit international face au risque nucléaire, Annuaire français de droit international, 1964, Tome 4, p 303.
[8] – قانون رقم 11.03 يتعلق بحماية واستصلاح البيئة الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.03.59 المؤرخ ب 10 ربيع الأول 1424 (12 ماي 2003) المنشور بالجريدة الرسمية عدد5118-18 ربيع الاخر1424 ( 19 يونيو 2003) .
[9] – ويقصد بذلك الأنشطة المشار إليها في مواد هذا القانون كالمادة 43، 45 و 47 منه.
[10] سعد (أحمد محمود)، استقراء لقواعد المسؤولية المدنية في منازعات التلوث البيئي، دار النهضة العربية، 1994، ص 352، فقرة 119
[11]سلامة (أحمد عبد الرحيم)، قانون حماية البيئة، دراسة تأصيلية في الأنظمة الوطنية والإتفاقية، جامعة الملك سعود، النشر العلمي والمطابع، الرياض، 1997، ص 472، فقرة 759.
سعد (أحمد محمود)، نفس المرجع السابق، ص 305. فقرة 117.[12]
[13] – V. MAZEAUD (H et L), Traité théorique et pratique de la responsabilité civile délictuelle et contractuelle, éd Paris, p.76 et p 432.
كذلك أنظر، سعد (أحمد محمود)، نفس السابق، ص 307، فقرة 118.
[14] – انظر عامر (حسين)، المسؤولية المدنية التقصيرية والعقدية، مطبعة مصر، القاهرة، 1965، ص 162، فقرة 176
[15] – عامر (حسين)، المسؤولية المدنية التقصيرية والعقدية، مطبعة مصر، القاهرة، 1965، ص 163، فقرة 178.
[16] – سعد (أحمد محمود)، نفس المرجع السابق، ص 308-309، فقرة 118.
[17] – السنهوري (عبد الرزاق)، الوسيط في شرح القانون المدني، مصادر الالتزام، دار النهضة العربية، القاهرة 1964، ص 842.
[18] – جلال (آمال)، مسؤولية المؤاجر عن حوادث الشغل والأمراض المهنية في التشريع المغربي، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في القانون الخاص، كلية الحقوق، الرباط، 1975، ص 8.
[19] – هذا الاختلاف جاء كتبرير بأن الدول المتسببة في التلوث تستطيع أن تفلت من المسؤولية لا سيما إذا كان نشاطها مشروعا ولا يعد خرقا لأي قاعدة من قواعد القانون الدولي أو أي التزام دولي.
Voir : BOURQUIN (M), Pouvoir scientifique et droit international, reccueil de la coure de Lahaye, 1947, Vol 70, p 393.
[20] – سلامة (أحمد عبد الكريم)، نفس المرجع السابق، ص 474، فقرة 762.
[21] – من ذلك مشروع تدوين القانون الدولي لسنة 1911، والذي أعده الفقيه الإيطالي “بسكال فيور”، حيث جاء في المادة 594 منه على أنه: “تسأل الدولة مسؤولية مباشرة عن الأعمال التي تقوم بها حتى ولو كانت مشروعة ومبررة، ما دامت تلحق أضرارا بدول أجنبية أو برعاياها”، وكذلك المادة 598 من نفس المشروع التي جاء فيها: “لا تعفى الدولة من المسؤولية إذا قامت بعمل لا يجرمه القانون الدولي، ما دام أن هذا العمل قد ألحق الضرر بدولة أجنبية أو برعاياها وقامت الحكومة بإدارتها”.
سلامة (أحمد عبد الكريم)، المرجع السابق، ص.ص 475-476، فقرة 765.
[22] – إبراهيم (علي)، الحقوق والواجبات الدولية في عالم متغير، المبادئ الكبرى والنظام الدولي الجديد، دار النهضة العربية، القاهرة 1995م ، ص 588.
[23] – فاضل (سمير محمد)، المسؤولية الدولية عن الأضرار الناتجة عن استخدام الطاقة النووية وقت السلم، عالم الكتب، القاهرة، 1976، ص 322.
[24] – يقول البعض بهذا الصدد: “من الأهمية البالغة لحماية البيئة وصيانتها أن تبنى المسؤولية على مجرد إثبات وجود علاقة السببية بين النشاط والضرر أكثر من أن تبنى فقط على نية الضرر أو على سلوك خاطئ آخر”.
سلامة (أحمد عبد الكريم)، نفس المرجع السابق، ص 476، فقرة 766.