Site icon مجلة المنارة

مركز الاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان في الهندسة الدستورية بالمغرب

– الديباجة نموذجا –

مركز الاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان في الهندسة الدستورية بالمغرب

– الديباجة نموذجا –

                                                                   محمد الغواتي

استاذ باحث                                        

مقدمة:

اعتبر بعض الباحثين أنه لا يمكن للحقوق والحريات في ظل نظام ديمقراطي أن تكون محصنة بالدستور، إلا إذا توفرت مجموعة من الضمانات الدستورية لتحقيق هذه الغاية، تضاف إلى ضمانة سمو الأحكام الدستورية وترتبط بها، وأهم هذه الضمانات نذكر مبدأ جمود الدستور، ومبدأ فصل السلطات، ومبدأ الاختصاص التشريعي في المجال الحقوقي ثم وجود نظام للرقابة على دستورية القوانين[1].

 إن هذا التباين بين الدساتير من حيث علاقتها بالإتفاقيات الدولية بصفة عامة وإتفاقيات حقوق الانسان بصفة خاصة، ليس وليد الفترة الحالية بل يرتبط بحركة الدسترة التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى، وفي هذا الإطار يمكن التمييز بين ثلاثة اتجاهات رئيسية، الاتجاه الأول: ويمثله نوع الدساتير التي اكتفت بإعلان مبدأ خضوع الدول للقانون الدولي، أو التزام الدولة بقواعد هذا القانون، دون الحسم في مسألة التراتبية بين الصنفين من القانونين (الداخلي والخارجي).

الاتجاه الثاني: فيدافع على ضرورة دمج القانون الدولي في القانون الداخلي، وفي ذلك دعوة صريحة إلى تكريس سمو القانون الدولي على القانون الداخلي، ومن ذلك ما نصت عليه المادة 25 من دستور ألمانيا الاتحادية لعام 1949 من أن ” القواعد العامة للقانون الدولي تشكل جزءاً متكاملا من القانون الاتحادي، وهي تتفوق على القوانين وتنشئ مباشرة حقوقاً والتزامات لسكان الدولة”[2].

 الاتجاه الثالث: فقد تبنى موقفا وسطاً من خلال تكريس التكامل بين النظامين القانونيين، ليجد المشرع نفسه أمام ضرورة تحقيق التلاءم بين النظامين.

                        فما هي انعكاسات هذا الاختلاف في الهرمية بين النظامين القانونين الداخلي والدولي على تراتبية القانون الداخلي والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان ؟

                        إن اختلاف الدساتير في تحديد التراتبية الهرمية بين المنظومة القانونية الدولية والمنظومة القانونية الوطنية، كان له تأثير واضح في تحديد الأولوية والأسبقية في علاقة الاتفاقيات والمعاهدات الدولية في مجال حقوق الانسان بالقانون الوطني، وفي هذا الإطار نجد أن بعض الدساتير منحت للاتفاقية قوة القانون العادي، من خلال الاعتراف لهذه القاعدة بقوة القانون واعطائها نفس الصفات وترتيب نفس الآثار، بحيث تستطيع القاعدة الدولية أن تعدل أو تلغي القواعد العادية المخالفة والسابقة لها، كما يمكن لقواعد القانون الداخلي العادية أن تحقق نفس الأثر السابق الذكر عند صدورها بوقت لاحق على القاعدة الدولية، كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية ومصر[3].

                        إن سمو المقتضيات الدولية على المقتضيات الدستورية يعتبر من القضايا المسلم بها من طرف القانون والإجتهاد القضائي الدوليين، وكذلك من طرف خبراء القانون الدولي، وبالخصوص من قبل اللجان الدولية المكلفة بمراقبة مدى تطبيق الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الانسان[4]، حيث تتبوأ المسألة الحقوقية مكانة الصدارة ضمن باقي القضايا.

فعلى المستوى القانوني فإن المادة 27 من اتفاقية فيينا لعام 1969 و 1986 حول قانون المعاهدات تؤكد مبدأ سمو الاتفاقيات الدولية على القانون الداخلي بما في ذلك الدستور. ذلك أن المادة 27 من إتفاقية فيينا لسنة 1969 تنص على أنه : ” لا يجوز لطرف في معاهدة أن يتمسك بقانونه الداخلي كسبب لعدم تنفيذ هذه المعاهدة”. ونفس المعنى حملته المادة 27 من اتفاقية فيينا لعام 1986 حول قانون المعاهدات بين الدول والمنظمات الدولية أو فيما بين المنظمات الدولية نصت على أنه :

                        1- لا يجوز لدولة طرف في معاهدة أن تحتج بقانونها الداخلي لتبرير عدم تنفيذها المعاهدة.

2- لا يجوز لمنظمة دولية طرف في معاهدة أن تحتج بقواعد المنظمة لتبرير عدم تنفيذها للمعاهدة”[5].

كما اتجهت بعض الدساتير إلى جعل الاتفاقيات الدولية في مرتبة أعلى من القوانين العادية بحيث تعدل او تلغي القوانين الداخلية السابقة على وجودها، ولكن الدول التي أخذت بهذا النموذج اختلفت في إعطاء آلية لضمان هذا السمو حيث نجد أن هناك دولا معينة أعطت هذا السمو للقاعدة الدولية الاتفاقية، لكنها لم تعطها ضمانة الرقابة القضائية لضمان عدم المخالفة،  ومثال ذلك فرنسا في ظل دستورها[6]،  في حين ذهبت دساتير أخرى إلى إعطاء الإتفاقية قوة أعلى من القوانين العادية مع إحاطة ذلك بآلية لضمان تحقيق ذلك عن طريق الرقابة القضائية ومثال ذلك الدستور الالماني[7]،  بل ذهب اتجاه آخر إلى تقنية التعديل الدستوري بما يناسب وأحكام الاتفاقيات الدولية و ضرورة عدم إضافة أي نقص دستوري أو تعديله بما لا يتلاءم مع الاتفاقية النافذة بحق الدولة.[8]

إن جوهر النقاش ينصب حول مكانة الاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان في الهندسة الدستورية المغربية، و نخص بالذكر في هذا المجال ديباجة الدستور المغربي.

1- جدل القوة الملزمة لديباجة الدستور المتضمنة للاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان

أولى الاجتهادات القضائية التي حاولت الحسم في القوة القانونية للديباجة ترجع إلى المجلس الدستوري الفرنسي الذي استلهمت منه الدساتير الإفريقية الفرنكوفونية روح الدستور ومحتواه، بل شكل هذا الاجتهاد المرجع الأساسي للإقرار بالقوة الالزامية لديباجة الدستور، كمحاولة لإزالة اللبس بشأن الأثر القانوني للحقوق والحريات المضمنة في ديباجة الدستور.

                        وإذا ما استحضرنا النقاش الفرنسي بشأن الطبيعة القانونية لديباجة دستور 1958 وقبل صدور اجتهاد المجلس الدستوري الفرنسي عام 1971 القاضي بإدماجها في الكتلة الدستورية، يلاحظ أنه كانت هناك اطروحتين : واحدة تنفي عن الديباجة كل قيمة قانونية لأنها مجرد مقدمة فلسفية، ومن أبرز المدافعين عن هذا التوجه الفقيه كاري دو مالبيرغ Carré de malberg وجانوت R. Janot المعروف كأحد مهندسي دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة الذي اعتبر أن مقتضيات الديباجة ليست لها اية قيمة معيارية، وإنما مجرد إعلان النوايا.

                        وبالمقابل، اعتبر المدافعون عن القيمة القانونية للديباجة ومن أبرزهم الفقيه ديجوي Duguit أن إعلانات الحقوق ليست لها فقط قيمة القانون الوضعي، وإنما قيمة أسمى من الدستور، وفي نفس الاتجاه صرح الفقيه فيديل Vedel بتاريخ 27 يناير 1994 بأن “الشعب الفرنسي بناء على استفتاء 1958 وليس المجلس الدستوري هو الذي أدرج ضمن الدستور ديباجة 1946 وإعلان حقوق الانسان والمواطن 1789، فشكرا للشعب الفرنسي”[9].

                        أما من الناحية القانونية فإن المجلس الدستوري الفرنسي من خلال قراره المؤرخ في 16 يوليوز 1970 حول حرية تأسيس الجمعيات، يبقى الجهة الحاسمة في إقرار قانونية الديباجة والمكرسة لمفهوم الكتلة الدستورية، ذلك أن المجلس المذكور أحدث ثورة قانونية، حينما صرح أن الرقابة على دستورية القوانين لن تمارس فقط في علاقة القوانين بالدستور، وإنما كذلك في علاقة القوانين بالديباجة، وأن للديباجة ليس فقط قيمة معنوية وإنما لها قيمة قانونية أيضا، طالما أنها ستشكل من الآن فصاعداً مرجعية لرقابة القاضي الدستوري، فهي تدخل ضمن الكتلة الدستورية[10].

                        وهكذا شكلت الديباجة مادة للدراسة والبحث لدى فقهاء القانون الدستوري ومصدر إلهام القاضي في اجتهاده، حتى أضحت من أركان الدستور ومكوناً بديهياً من مكوناته. فلم نعد نجد في أدبيات القانون الدستوري أي تساؤل حول مدى لزوم وجود ديباجة وما إذا كان في غيابها إنقاص من قيمة الدستور[11].

2- الطبيعة القانونية للديباجة من خلال دستوري المغرب لسنتي 1992-1996

إن حصر موضوع الديباحة في دستوري 1992و1996 مصدره إغفال الدساتير السابقة(1962-1970-1972) للمسألة الحقوقية ضمن ديباجاتها.

 لقد تضمنت الوثيقة الدستورية المعدلة في 4 شتنبر 1992 مجموعة من المقتضيات شملت مجال حقوق الانسان.

                        فما هي أهم التعديلات التي همت حقوق الإنسان والحريات العامة ؟.

إن التعديل الأساسي في مجال الحقوق والحريات، الذي حمله دستور 4 شتنبر 1992، لم يأت في الباب الأول كما كانت تطالب بذلك بعض القوى والأحزاب الوطنية[12]. وإنما جاء على مستوى الديباجة، فالفقرة الثالثة من تصدير الدستور كانت تنص في الدساتير السابقة على أنه : “وإدراكاً منها لضرورة إدراج عملها في إطار المنظمات الدولية، فإن المملكة المغربية التي أصبحت عضواً عاملا نشطاً في هذه المنظمات تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها من مبادئ وحقوق وواجبات، غير ان تعديل 4 شتنبر 1992 أضاف إلى هذه الفقرة عبارة “وتؤكد تشبتها بحقوق الانسان كما هي متعارف عليها عالمياً”.

لقد لقي إجراء إدماج تشبت المملكة المغربية بحقوق الانسان كما هي متعارف عليها عالمياً في ديباجة الدستور استحساناً من لدن العديد من الباحثين الدستوريين. باعتباره التجديد الأساسي الذي جاءت به المراجعة الدستورية لـ 1992.[13]

إن الإقرار من جانب الفقه الدستوري بالطابع الايجابي لعالمية حقوق الانسان الذي تضمنته المراجعة الدستورية يقودنا حسب أحد الباحثين إلى استخلاص نتيجتين : وهما إدماج النصوص الدولية ذات الصبغة العالمية التي تنص على حقوق الانسان داخل القانون العام المغربي من جهة، وإغناء مفهوم حقوق الانسان من جهة أخرى[14].

إن إدماج هذا المقتضى الجديد المتعلق بعالمية حقوق الانسان ضمن ديباجة الدستور يطرح العديد من الأسئلة  :

– لماذا الاقتصار على ديباجة الدستور دون المتن الدستوري ؟

– هل يمكن النظر إلى الديباجة باعتبارها الزاماً أخلاقياً ؟ أم أنها تحظى بنفس

    القيمة القانونية لباقي فصول الدستور؟

إن إحدى الاجابات المقدمة في هذا الصدد ترى أن المشرع الدستوري المغربي بإضافته في الديباجة نصاً جديداً، كان هدفه إعطاؤه نفس القوة القانونية التي للنصوص الأخرى، مما يؤدي إلى الاعتراف بالاتفاقيات والمعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الانسان والتي صادق عليها المغرب بأنها جزء لا يتجزأ من القانون الوضعي المغربي[15].

فهل استطاعت المراجعة الدستورية لسنة 1996 تجاوز هذا الغموض على مستوى الطبيعة القانونية لديباجة الدستور ؟

إذا كانت هذه الاضافة المتمثلة في الالتزام المغربي الدستوري باحترام حقوق الانسان طبقاً للمنظومة التشريعية الدولية، والمحتفظ بها مع دستور 1996، قد شكلت قطيعة مع ممارسته الدستورية السابقة أو بالأحرى الدساتير السابقة على دستور 1992 وغير قابلة للإنكار أو الشك إلا أنها من ناحية أخرى، كانت مثار جدل بل وحتى استغراب نظراً لموقفها المتجاهل لبعض القضايا الأساسية، من أبرزها عدم تضمينها في صلب الوثيقة الدستورية عبارة الاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان أو الإشارة صراحة إلى كيفة إدماج الاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان، علاوة على تجنبها الحسم الفاصل في مستوى التراتبية القانونية التي تدمج عندها الاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان، كما نصت على ذلك الكثير من دساتير دول أمريكا اللاتينية أو الافريقية أو الأوربية، لا سيما الدستور الفرنسي لعام 1958 في مادته 55، والناظمة في نفس الوقت لإدماج الاتفاقيات الدولية، ومكانتها القانونية داخل النظام الداخلي الفرنسي أو الدستور البولوني. فكان حرياً بالمشرع المغربي أن ينص صراحة على سمو الاتفاقيات الدولية بصفة عامة وتلك المتعلقة بحقوق الانسان بصفة خاصة على جميع القوانين الداخلية داخل الوثيقة الدستورية، لا الاكتفاء بذلك على مستوى الديباجة.

3- الالتزام الحذر لعالمية حقوق الانسان في ديباجة دستور2011

يندرج إقرار دستور 2011 ضمن سياق دولي وإقليمي، ارتفعت من خلالها وتيرة المطالبة بالحقوق والحريات، الذي شمل عدة بلدان كمصر وتونس وليبيا ولم يشكل المغرب استثناء لهذا التحول السياسي،فجاء الدستور المذكور كاستجابة مغربية لذلك.

فهل يشكل دستور 2011 استثناء بالنسبة للدساتير السابقة ؟ وما هو الجديد الذي تضمنه على مستوى الضمانات الدستورية المتعلقة بتكريس عالمية حقوق الانسان؟

يعتبر مجموعة من الباحثين أن دستور 2011 يشكل بحق استثناء بالمقارنة مع الدساتير السابقة. وفي هذا الإطار يرى الاستاذ حسن طارق أنه على قصر التجربة الدستورية الحالية، فإنها تبقى بدون منازع التجربة الأكثر تميزاً بتضخم الحديث عن ” التأويل” إذ لا يكاد يتم الحديث عن دستور 2011، إلا مقترناً بالحاجة إلى “التأويل الديمقراطي” سواء في خطابات الأحزاب السياسية أو الصحافة أو المجتمع المدني، بل وحتى داخل الخطاب السياسي للمؤسسة الملكية، حيث سبق لخطاب ملكي سابق، أن أكد على ضرورة اعتماد التأويل الديمقراطي للدستور[16]، بما في ذلك النصوص المرتبطة بالمسألة الحقوقية. في حين تنطلق الاستاذة رقية المصدق في تقييمها لدستور 2011 من البحث في طبيعة السلطة التأسيسية لتؤكد ظهور فاعل جديد في حركة 20 فبراير، إذ لم تشهد خلال أية حلقة من حلقات إعداد الدستور ارتقاء مطلب حركة 20 فبراير بالجمعية التأسيسية المنتخبة… بل ظلت السلطة التأسيسية الفرعية، التي يعد الملك فعلياً المالك الفعلي لها، وذلك منذ دستور 1970، هي المتحكمة في كل محطات إعداد الدستور إلى غاية نشره في الجريدة الرسمية نهاية يوليوز  2011 [17]، أما الأستاذ محمد الساسي فيحدد عيوب دستور 2011 في عشر زوايا، مقارنة بالمطلوب ديمقراطياً نذكر منها :

1-استمرار تحكم الملك في توجيه مسار السلطة التنفيذية ومضمون قراراتها؛

2- تراكم الرئاسات لدى الملك : (رئاسته للمجلس الوزراي – السلطة القضائية – المجلس الأعلى) ؛

3- تبعية الوزراء للملك ؛

4- التنصيص على الحقوق مشفوعاً بشروط تهدر جوهر هذه الحقوق؛

5- وجود تناقضات في منطق النص : لعل أبرز وجه للتناقض هو طريقة معالجة قضية حقوق الانسان من خلال ديباجة الدستور[18].

                        فما هي أبرز أوجه ديباجة دستور 2011 بهذه التناقضات ؟

يمكن رصد الغموض الذي تتضمنه الوثيقة الدستورية في جانبها المتعلق بتكريس عالمية حقوق الانسان على مستوى ديباجة الدستور لا على مستوى المتن الدستوري من خلال جانبين :

4 – حرص المشرع على إدراج مسألة العالمية في ديباجة الدستور لا داخل     المتن الدستوري.

إذا كانت الإضافة الجديدة المتضمنة في دستور 1992 والمتعلقة بالالتزام بعالمية حقوق الانسان ضمن الديباجة شكلت قطيعة مع الممارسة الدستورية السابقة (دساتير 1962-1970-1972)، إلا أنها لم تسلم من النقاش والجدل بين الفقهاء الدستوريين مشيرين إلى إشكالا جوهرياً. يتعلق بالجدوى من حصر الالتزام بعالمية حقوق الانسان في الديباجة دون المتن الدستوري، علاوة على تحينها الحسم في موضوع التراتبية بين الاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان والقوانين الوطنية.

لتجاوز هذا الغموض انطلق بعض الباحثين من مضمون الفصل 31 من دستور 1996، ويؤكدون بأن هذا الفصل لا يتضمن بصفة واضحة ما يفيد أن المعاهدات تعلو على القوانين الداخلية، وذلك لعدم ارتباطها بإشكالية العلاقة بين القانون الداخلي والقانون الدولي الاتفاقي، فالمادة 31 باكتفائها بالنص فقط على أن الملك هو الذي يصادق على المعاهدات، ما عدا التي يترتب عنها تكاليف تلزم مالية الدولة التي لا يصادق عليها إلا بعد موافقة البرلمان بمجلسيه، وكذا المسطرة الواجب اتباعها بخصوص المصادقة على المعاهدات التي تكون غير متفقة مع الدستور والمتمثلة في المسطرة المنصوص عليها فيما يرجع لتعديله[19]، يكون هذا الفصل مرتبطاً أشد الارتباط بكيفية تشكل التزامات المغرب الدولية، سواء من جهة الاختصاص أو فيما يخص الشروط الواجب توافرها للتصديق على المعاهدات الدولية.

ولم يتم الحسم في مسألة سمو الاتفاقيات الدولية، إلا مع المراجعة الدستورية الأخيرة لسنة 2011 عندما أشارت ديباجة الدستور إلى جعل الاتفاقيات الدولية كما صادق عليها المغرب والمنشورة بالجريدة الرسمية تسمو على التشريعات الوطنية”. مع التأكيد على أن الديباجة جزء لا يتجزأ من الدستور.

فهل تم تجاوز هذا الإشكال القانوني ؟؟

5– التأكيد على الطابع العالمي لحقوق الانسان بشكل ملتبس وبصياغة قانونية يعوزها الوضوح.

إن خصوصية الديباجة كقاعدة دستورية تكمن في أسلوب كتابتها. فعادة ما يعتمد فيها أسلوب استثنائي مختلف عن الصياغة القانونية المعتادة. إلا أن هذا لم يمنع القاضي من أن يستند إليها في رقابة دستورية القوانين وفي استخلاص الحقوق والحريات، وعموما ليست هناك قواعد منهجية مسبقة في صياغة الديباجة لا من حيث البنية ولا من حيث الطول بل إنها في شكلها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمضمونها وبالسياق الذي أدى إلى صياغتها. لذلك فإن شكل التنصيص يختلف من دستور إلى آخر، المهم أن تتم مراعاة اللغة القانونية ومبادئ الدقة والوضوح والمقروئية والتناسق عند الكتابة خاصة عند إيراد مفاهيم قانونية، لأن في ذلك تأثيرعميق ومباشر على مسألة التأويل فيما بعد وفي مسألة تحديد الآثار القانونية المترتبة عن كل مبدأ قانوني مذكور، هذه المبادئ هي التي تسهل على القاضي فيما بعد عملية التفسير والتأويل[20]، التي قد تحيد بالنص الدستوري عن معناه الديمقراطي خدمة لمصالح جهات معينة.

فإلى أي حد استطاع المشرع الدستوري المغربي تجاوزهذا الالتباس على مستوى اللغة المستعملة في تضمين مبدأ عالمية حقوق الإنسان ضمن ديباجة دستور 2011 ؟

بالرجوع إلى أهم التعديلات التي أتى بها دستور 1996، يمكن اعتبار أن ما أقدمت عليه المؤسسة الملكية من خلال ايجاد غرفة ثانية بالبرلمان (مجلس المستشارين) إلى جانب مجلس النواب، بأنه لا يندرج في زاوية الاستجابة لمطلب الإصلاح السياسي والدستوري ولكن يمكن التعبير عنه بصيغة ” ما تقدمه السلطة باليد اليمنى تأخذه باليد اليسرى”.

فهل تسري نفس القاعدة على عالمية حقوق الانسان في ديباجة دستور 2011 ؟

تنص ديباجة الدستور المغربي لسنة 2011 على أن : “حماية منظومتي حقوق الانسان والقانون الدولي الانساني وجعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة تسمو فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات مع ما تتطلبه تلك المصادقة.

إن منطوق هذه الفقرة يعود إلى نزاع العالمية والخصوصية من خلال إقراره بمبدأ العالمية المشروط. إذ عبر المشرع المغربي عن رغبته في حماية منظومة حقوق الانسان وأعطاها مرتبة تسمو على باقي التشريعات فور نشرها إلا أنه جعل ذلك رهين الاعتبارات التالية :

الاعتبار القانوني الدولي : ويتعلق حق التحفظ الذي يكفله القانون الدولي العام للدول فيم يتعلق ببعض بنود الاتفاقية أو المعاهدة من خلال استعماله لعبارة “كما صادق عليها المغرب”.

الاعتبار القانوني الداخلي : من خلال ربط مبدأ سمو الاتفاقيات الدولية بعدم التعارض على بعض أحكام الوثيقة الدستورية والقوانين الداخلية من خلال عبارة “في نطاق أحكام الدستور وقوانين المملكة”.

الاعتبار الثقافي والهوياتي: ويندرج ضمن هذا الاعتبار البعد الديني والتقاليد والأعراف…

أعتقد أن هذا الجدل الذي يقسم الفقه بشأن القيمة القانونية للديباجة يمكن حسمه على الشكل التالي:

باعتبار أن الوثيقة الدستورية منظور إليها بشكل محدد، هي مجرد إعلانات للحقوق والحريات والواجبات التي تقع على الكل داخل حدود معينة، ولن تصبح حقوقاً وحريات وواجبات واقعية إلا بإصدار قوانين تنظمها وتطبقها داخل وخارج الوطن، وعلى هذا الأساس فإن موضع تلك الحقوق والواجبات والحريات سواء جاءت في الديباجة أو في الفصول الأولى أو الأخيرة من الوثيقة الدستورية، لاقيمة قانونية لها ما دامت الدولة عازمة على تحويل تلك الإعلانات إلى قانون فعلي، والعبرة في التطبيق، إذ يمكن أن نتصور صدور حق أو حرية أو واجب في المادة الأولى من الفصل الأول من الوثيقة الدستورية دون صدور قانون ينظمها، فستبقى في اعتقادي مجرد إعلان عن حق أوحرية أوواجب، وهناك فرق بين الإعلان والقانون الفعلي.


[1]  عبد الرحمان السحمودي : الحماية الدستورية لحقوق الإنسان والحريات العامة بالمغرب، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية وجدة 2007 ص 33.

[2]  محمد بشير الشافعي : القانون الدولي العام في السلم والحرب، دار الفكر الجامعي، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1979 ص 35.

[3] محمد بشير الشافعي : نفس المرجع السابق ص 36.

[4] Jean Minkoa : Droits de l’homme et droit pénal au Caméroun, édition Economica Paris 1999 pp 27-29

5عبد الواحد الناصر، التطبيقات المغربية للعلاقات الدولية، يوليوز ،مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء 2004 ص 21.

[6]  جاء في المادة 28 من الدستور الفرنسي لعام 1946 ما يلي : “إن المعاهدات الدبلوماسية المصدق عليها قانوناً والمنشورة لها قوة أعلى مرتبة من القوانين الداخلية، ولا يمكن إلغاء نصوصها أو تعديلها أو وقفها، إلا بعد نقض تلك المعاهدات بطربقة شرعية”.

انظر في هذا الشأن محمد يوسف علوان، القانون الدولي العام، دار وائل للنشر عمان، الطبعة الأولى 2003  ص 9

[7]  عبد العزيز محمد سرحان، قواعد القانون الدولي العام وأحكام المحاكم وما جرى عليه العمل في مصر، المجلة المصرية للقانون الدولي المجلة 28 الجمعية المصرية للقانون الدولي 1972 ص 15.

[8]  فيما يتعلق بالدستور الهولندي وطبقا للتعديل الدستوري الذي أقر عام 1963 فإنه يضع الاتفاقية في مرتبة أسمى من الدستور، ومن الجدير بالذكر أن الدستور الهولندي لا يتضمن نصوصا تشريعية متفقة مع القواعد العرفية، أنظر محمد يوسف علوان المرجع السابق ص 100.

[9] La décision du conseil constitutionnel. du 16 juillet 1971, in, site de droit public français et des Sciences politiques (http/www.le droit public.com)

[10] Les nouvelles constitutions Arabes : Tunisie, maroc, Egypte sous la direction du professeur Rafâa Ben Achour. Colloque international organisé le 28 février et le 1er Mars 2014 par l’Unité de recherche en droit international, Juridictions internationales et droit constitutionnel comparé et le Konrad-Adenaner- Stiftung 2015 page 31.

[11]  وفاء زعفران الاندلسي: قراءة في توطئة دستور 27 جانفي 2014 الندوة الدولية، ص 31

[12]  محمد ضريف، حقوق الانسان بالمغرب، دراسة في القانون العام المغربي، منشورات المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي 1994، ص 20.

[13] Nadia Bernoussi, Libertés publiques et constitution, in 40 ans de libertés publiques au Maroc REMALD Serié “théme actuels, N° 18 . 1999 page 100.

[14]  روني ددوبري : مداخلة ضمن مراجعة الدستور المغربي (1992) دراسات وتحاليل إشراف إدريس البصري، ميشيل روسي وجورج فيديل، المطبعة الملكية 1992 ص 32.

[15]  عمر بندورو : مدخل إلى دراسة حقوق الإنسان، والحريات العامة، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1998 ص 146.

[16]  حسن طارق : الدستور والديمقراطية : قراءة في التورات المهيكلة لوثيقة 2011. منشورات سلسلة الحوار العمومي/4 الطبعة الأولى طوب-بريس الرباط 2013 ص 5.

[17]  رقية المصدق : سلطة تأسيسية فرعية أم أصلية مكتسبة ؟ أعمال ندوة 18-19 أبريل 2013 بعنوان الدستور المغربي الجديد محك الممارسة. بتنسيق : عمر بندورو ورقية المصدق وموح مدني. عن مجموعة البحث ” القانون الدستوري وعلم السياسة” كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية الويسي الرباط منشورات A.Retani : Les éditions la croisée des cheins ص 9

[18]  محمد الساسي : الملك يقدم الدستور : قراءة في العلاقة بين نص الخطاب الملكي لـ 17 يوليوز 2011 ونص الدستور الجديد دفاتر وجهة نظر، العدد 24 السنة 2011 من ص 16 إلى ص 22. ضمن ندوة للدستور الجديد ووهم التغيير المنظمة بكلية الحقوق السويسي الرباط يوم 28 يونيو 2011.

[19]  الوزاني الشهدي : “الاتفاقيات الدولية والقانون الدولي في مجال حقوق الانسان”ضمن أشغال الندوة العلمية المنظمة من طرف مركز التوثيق و الإعلام و التكوين المنظم من طرف وزارة حقوق الانسان الطبعة الأولى سنة2002  ص 88-89.

[20]  وفاء زعفران الاندلسي : قراءة في توطئة دستور 27 جانفي 2014، انظر:

Les nouvelle constitutions Arabes : Tunisie, Maroc, Egypte. Sous la direction du Professeur Rafâa ben Achour. Colleque international organisé les 28 février et 1er Mars 2014 par l’Unité de la recherche en Droit international, Juridictions internationales et Droit Constitutionnel comparé et La Konard-Adenauer -Stiftung 2015 page 36

Exit mobile version