مجلس المستشارين بالمغرب وسؤال الجدوى 

مجلس المستشارين بالمغرب وسؤال الجدوى 

نصرالدين اليزيدي

باحث في القانون الدستوري وعلم السياسة

كلية الحقوق بجامعة محمد الأول – وجدة

مخبر الدراسات القانونية والسياسية لدول البحر الأبيض المتوسط

تأرجح المغرب خلال العهد الدستوري بين الأخذ بنظام الثنائية المجلسية ونظام الغرفة البرلمانية الواحدة. فبينما اعتمد نظام الغرفتين في دستور 1962، اكتفى في دساتير 1970، 1972، 1992 بنظام الغرفة الواحدة. ليعود إلى نظام الغرفتين عبر دستور 1996، وتم الاحتفاظ به في التعديل الدستوري الأخير لسنة 2011.

فبالموازاة مع تأرجح الدساتير المغربية بين الأخذ والإلغاء لنظام الغرفتين، هناك تأرجح كذلك على مستوى الصلاحيات والاختصاصات الموكولة لمجلس المستشارين. ومع ذلك تبقى المسوغات المعلن عنها والمرتكز عليها في اعتماد الثنائية المجلسية في النظام الدستوري المغربي ثابتة؛ وهي تمثيل الجماعات المحلية والقطاعات السوسيواقتصادية والمنظمات المهنية.[1]

غير أن المنطلقات المعلن عنها لتبرير انبعاث الغرفة الثانية بالبرلمان لا تستقيم والصلاحيات الممنوحة لمجلس المستشارين خاصة في دستور 1996؛ حيث الخلفية السياسية كانت حاضرة وبقوة آنذاك. وأيضا النقاش الدستوري الذي صاحب دستور 2011 عرف تباينا في المواقف بخصوص مجلس المستشارين؛ إذ نجد من رأى في هكذا غرفة لا جدوى منها وبالتالي فالتعديل الدستوري فرصة لتخليص البرلمان منها، ومواقف أخرى اعتبرت أنه لا حرج في الإبقاء عليها لكن فقط يجب تكريس رجحانية مجلس النواب على مجلس المستشارين من خلال التقليص من الصلاحيات الموسعة لهذا الأخير. (الفرع الثاني)

أيضا لا يمكن إغفال البعد التاريخي للغرفة الثانية؛ إذ أن البحث في حفريات الحركة الدستورية بالمغرب تدلنا على وجود آثار لهذه المؤسسة في الفكرة الدستورانية للوطنيين المغاربة قبل فترة الحماية. (الفرع الأول)

الفرع الأول: إرهاصات بزوغ الغرفة البرلمانية الثانية بالمغرب.

إن تجربة الثنائية البرلمانية ليست جديدة في التطور المؤسساتي الذي عرفته الدولة المغربية منذ نشأتها، حيث عرف المغرب إرهاصات واضحة المعالم لنظام الغرفتين منذ تاريخ بعيد؛ إذ في عهد الموحدين مثلا أنشأ السلطان المهدي ” مجلس العشرة” و”مجلس الخمسين”.[2] وأيضا عرفت الأسر المتعاقبة على حكم الإيالة الشريفة إنشاء مجالس استشارية كمجلس القبائل ومجلس العلماء ومجلس الطلبة ومجلس الأعيان. [3]

وفي سنة 1904 أصدر السلطان عبد العزيز قرارا بتأسيس مجلس الأعيان ليساهم في عقلنة الحياة السياسية والاقتصادية، وتلاه المشروع الدستوري لسنة 1908 الذي نص على إقرار برلمان ذي غرفتين يتكون من مجلس الأمة ومجلس الأعيان.

فمشروع دستور 8 أكتوبر 1908 الذي قدمه علماء وأعيان مدينة فاس للمولى عبد الحفيظ أثناء بيعتهم المشروطة له، والذي نشرته جريدة لسان المغرب، التي كان ينشطها سوريون ولبنانيون بمدينة طنجة،[4] يعد أول محاولة حقيقية لإقامة نظام دستوري ديمقراطي في المغرب، تفوض فيه السلطة التقريرية إلى مجلس منتخب، ويحتفظ السلطان من خلاله بصلاحية التصديق على القرارات.

كما أن مشروع دستور 1908 كان امتدادا للبيعة المشروطة للسلطان عبد الحفيظ، حيث كان العلماء لا يتصورون البيعة كتفويض مطلق للسلطة، وإنما هي تعاقد حقيقي بين الحاكم والمحكوم يحدد حقوق وواجبات كل واحد منهما.[5] وبالتالي فهذا المشروع يعد ثورة جديدة في الرؤيا إلى علاقة الحاكمين بالشعب التي كانت تحكمها نظرة تقليدية تقوم على تفويض السلطة السياسية بدون إحداث تقنيات للمراقبة أو المشاركة.[6] وفي هذا الإطار فإن أهم المؤسسات التي أحدثها مشروع دستور 1908 نجد منتدى الشورى والذي يتكون من مجلسين؛ مجلس الأمة ومجلس الشرفاء.[7]

ويتكون مجلس الأمة من عدد أعضاء يكون على نسبة نائب واحد عن نحو عشرين ألف رجل من السكان،[8] ومدة انتدابهم محصورة في أربع سنوات، ويجوز تجديد انتخاب النائب.[9] ويجب على كل من ينتخب نائبا في مجلس الأمة أن يكون مستوفيا الشروط الآتية:[10]

  • أولا: أن يكون عارفا اللغة العربية قراءة وكتابة حق المعرفة.
  • ثانيا: أن يكون من تبعة الدولة المغربية.
  • ثالثا: أن يكون غير مرتبط بخدمة دولة أجنبية بوجه من الوجوه.
  • رابعا: أن يكون فوق الثامنة والعشرين من العمر.
  • خامسا: أن يكون غير مستخدم عند رجل آخر براتب معاشي.
  • سادسا: أن يكون غير محكوم عليه بالإفلاس أو بالسجن لسرقة أو قتل أو غير ذلك من الجنايات.
  • سابعا: أن يكون مشهودا له بين قومه بحسن السلوك والاستقامة والنزاهة ومحترما من كل عارفيه.

وعلى خلاف مجلس الأمة، فإن مجلس الشرفاء أو الغرفة الثانية فعدد أعضائها محدد حصرا في مشروع الدستور وهو خمسة وعشرون عضوا لا غير، ينتخب منهم السلطان الرئيس وستة أعضاء، وينتخب مجلس الأمة مع هيئة الوزراء وجماعة العلماء بقية الأعضاء، أي ثمانية عشر عضوا.[11]

ويتكون مجلس الشرفاء من أكابر رجال الدولة الذين امتازوا بحسن صفاتهم وعلو هممهم وصدق خدمتهم للبلاد، فاكتسبوا ثقة الأمة واحترامها، وينتخبون من أعضاء الأسرة السلطانية ومن رؤوس الشرفاء العلماء والفقهاء ومشاهير قواد العساكر وأعيان القبائل وزعمائها وأمثالهم ويشترط في عضو مجلس الشرفاء  أن يكون فوق الخامسة والأربعين من العمر.[12]

وعلى عكس أعضاء مجلس الأمة  الذين حددت مدة ولايتهم في أربع سنوات، فإن عضو مجلس الشرفاء يدوم في وظيفته مادام حيا، ولا يجوز أن يعتزل وظيفته إلا برضاه أو بسبب الطعن في السن أو مثل ذلك، ولكن إن دعت الضرورة إلى توليته منصبا آخر مهما، وذلك لا يكون إلا برضاه أيضا، ففي هذا الحال يفقد العضوية لوجود انتخاب عضو آخر مكانه.[13]

وما يلاحظ عن نظام الغرفتين في تلك الحقبة أنه كان يرتكز على الاقتراع المقيد بالكفاءة وبالملكية حيث لم يكن عاما. كما كان الاقتراع يخص الذكور ويقصي المرأة من العملية الانتخابية.[14] وطبيعة تشكيلة مجلس الشرفاء تذكرنا بمجلس اللوردات البريطاني مما يفيد أن صائغي مشروع دستور 1908 كان لهم اطلاع على التجارب الأوربية وتأثروا بها، لكن مع الأخذ بعين الاعتبار طبيعة البنية السوسيولوجية للمجتمع المغربي.

أما  وظيفة مجلس الشرفاء فهو ينظر أدق النظر، ويبحث أدق البحث في التقارير واللوائح التي يصدرها مجلس الأمة حتى إذا رأى فيها شيئا مغايرا لإحدى الشروط الست الآتية:

  • الشرط الأول: أن لا يكون هناك شيء مما يمس أساس الدين وجوهره  أو يخالف نصا من القرآن الكريم.
  • الشرط الثاني: أن لا يمس استقلال السلطنة.
  • الشرط الثالث: أن لا يضر حقوق السلطان.
  • الشرط الرابع: أن لا يجحف بحقوق الأمة أو يضر بالعامة والفقير خاصة.
  • الشرط الخامس: أن لا يسبب أضرارا وخسائر لبيت مال المسلمين وأملاك الدولة.

ففي حالة تعارض هذه اللوائح والتقارير مع الشروط المذكورة يرفضها رفضا قطعيا، مع إظهار الأسباب الداعية إلى ذلك، أو أنه يرجعها إلى مجلس الأمة، مع ملاحظة وجوب إصلاح وتصحيح ما لزم الإصلاح والتصحيح.[15]

أما إذا كانت تقارير مجلس الأمة صالحة وموافقة لكل الشروط المذكورة فيصادق عليها، ثم يقدمها لحضرة السلطان بواسطة هيئة الوزارة، فيوافق السلطان عليها كتابة، ويعمل بها من تاريخ المصادقة السلطانية.[16]

وفي حالة ما إذا رفض مجلس الشرفاء تقريرا من تقارير مجلس الأمة مرتين فعلى مجلس الأمة أن لا يقدم ذلك التقرير ثالثة إلا بعد مرور ستة شهور من تاريخ الرفض الأخير، وذلك بعد أن يصلح من الملاحظات ما استوجب الإصلاح.[17]

وبهذا تكون سلطة مجلس الشرفاء أسمى من سلطة مجلس الأمة، إذ يمكنه الاعتراض على القرارات التي يصدرها هذا الأخير، وبإمكانه أن يشل الكثير من أعماله، بالإضافة إلى حق الإصدار النهائي الذي يبقى معلقا على موافقة السلطان. ولكن بالمقابل، لا يمكن لمجلس الشرفاء اتخاذ أي قرار والمصادقة عليه بمفرده لأن جميع القرارات تناقش داخل مجلس الأمة، ويصادق عليها قبل أن تنتقل إلى المجلس الثاني.[18]

وبناء على ما سبق يمكن القول أن مشروع دستور 1908 كان سباقا إلى طرح جملة من القضايا الأساسية التي أصبح المغرب اليوم يتبناها في ترسانته الدستورية، كتبني نظام المجلسين والأخذ بمسألة الجهة والدعوة إلى احترام حقوق الإنسان. لكن هذا المشروع أقبر وأزيح من التداول بعد تنازل المولى عبد الحفيظ عن الحكم لفائدة أخيه المولى يوسف إثر ثورة الجنود الشهيرة بفاس ضد نظام حكمه.[19]

أما في مغرب ما بعد الحماية عرف تجربة المجلس الوطني الاستشاري الذي كان يضم سياسيين ونقابيين وممثلي القطاع الخاص، ثم جاء دستور 1962 لينص على نظام المجلسين[20]: مجلس النواب ومجلس المستشارين. وقد تشبت المشرع الدستوري بهذا النظام متأثرا بمشروع دستور 1908، وتجارب أنظمة دستورية أخرى من دول العالم.[21]

وحسب ظهير 13 شتنبر 1963 فقد تم تحديد أعضاء مجلس المستشارين في 120 عضوا ينتخب 80 منهم في الأقاليم والعمالات من طرف هيئة ناخبة مكونة من مستشاري المجالس الجماعية ومستشاري مجالس الأقاليم أو العمالات وينتخب الباقون من طرف أعضاء الغرف المهنية وممثلي الأجراء. وحسب الفصل 3 من هذا الظهير ينتخب هؤلاء الأعضاء لمدة ست سنوات بالتمثيل النسبي على أساس نظام أكبر بقية ودون استعمال طريقة مزج الأصوات والتصويت التفاضلي. ويجدد المجلس بنسبة النصف كل ثلاث سنوات.

وقد تم التخلي عن نظام المجلسين في الدساتير التي أعقبت دستور 1962، وبقي البرلمان يتكون من مجلس النواب فقط إلى غاية دستور 1996 الذي أعاد بعث مجلس المستشارين من جديد وفي صيغة جديدة توافق المرحلة السياسية التي أتى فيها حتى يتم التحكم في عمل البرلمان ومنعه من الانزياح عن المسار الذي ترسمه السلطة عادة.

غير أنه في المقابل هناك بعض التوجهات تنفي تخلي المغرب عن الثنائية المجلسية خلال الفترة البرلمانية الممتدة من 1970 إلى 1996، بل تعتبرها بمثابة “ثنائية مندمجة”     ــــــــ على حد تعبير جورج فيديل ـــــــــ ،[22] بحيث كان هناك دائما جزء من نواب الأمة ينبثق عن الاقتراع العام المباشر، وجزء آخر يتم انتخابه من طرف هيئات ناخبة مختلفة ومنحدرة من محيطات اقتصادية واجتماعية.

وأثناء التعديل الدستوري لسنة 1996 الذي جاء نتيجة لرفع أحزاب الكتلة الديمقراطية لمذكرة الإصلاحات الدستورية للملك، حيث من بين ما طالبوا به إلغاء الثلث غير المباشر الذي يتشكل منه مجلس النواب وانتخاب هذا الأخير كلية بالاقتراع العام الماشر، إلا أن إجابة الوثيقة الدستورية لسنة 1996 على هذه المطالب كانت تحويل للثلث المراد إلغاءه إلى غرفة ثانية تتشابه صلاحياتها وسلطاتها مع مجلس النواب.

الفرع الثاني: دواعي انبعاث مجلس المستشارين في دستور 1996 ومستجدات دستور 2011

انبثقت الإصلاحات الدستورية والسياسية لمغرب التسعينات في مرحلة دقيقة من تاريخ المغرب الراهن؛ فقد برزت كنتيجة للتحولات الدولية من جهة والمتغيرات الوطنية من جهة أخرى، فكان من بين ما استهدفته  هذه الإصلاحات خلال المراجعة الدستورية لسنة 1996 تبني نظام الازدواج البرلماني.

فإحداث غرفة ثانية داخل البرلمان المغربي جاء نتيجة مطالبة أحزاب الكتلة الديمقراطية في مذكرتها المتعلقة بالإصلاح الدستوري التي رفعتها للملك الحسن الثاني آنذاك، بانتخاب أعضاء مجلس النواب انتخابا مباشرا وإلغاء الثلث غير المباشر باعتباره يشكل معرقلا لعمل البرلمان ولا يتوافق والتمثيل الديمقراطي المتعارف عليه في الأنظمة المقارنة.

غير أن استجابة الملك الحسن الثاني لهذا المطلب كانت مغايرة ومخالفة لتكهنات المتتبعين؛ حيث أعلن في خطاب 20 غشت 1996 عن تحويل الثلث الممثل داخل مجلس النواب بطريقة غير مباشرة إلى غرفة برلمانية ثانية سماها مجلس المستشارين إلى جانب مجلس النواب، والتي اعتبرها الشطر الثاني للبرلمان.

وقد اتخذ الملك الحسن الثاني هذا الاجراء بغية تحقيق تمثيلية أكبر لجميع فئات المجتمع داخل البرلمان حيث جاء في خطابه: ” إن ذلك الثلث المنتخب بكيفية غير مباشرة في البرلمان الحالي لا يمثل في الحقيقة ذلك الثلث أحسن تمثيل، فذلك الثلث يمثل القوة الحية التي تغذينا كل يوم، والتي تعمل لنا ولبلدنا كل يوم، ألا وهي الغرف المهنية والطبقة الكادحة المأجورة والمجالس المنتخبة والجماعات المحلية، هذه هي القوة النابضة العاملة يوميا، وكانت مهضومة الحق حينما تمثلت فقط بالثلث في البرلمان … وقد قررنا … أن نعطي للمغرب غرفة ثانية سميناها مجلس المستشارين”.[23]

إن هذا الإجراء اتخذت بشأنه مواقف متباينة حد التناقض بين مؤيد ومعارض لتبني المغرب لنظام الثنائية البرلمانية.

فمؤيدو نظام الغرفتين بالمغرب؛ قد اعتبروا أن هذا الإجراء يمكن أن يشكل مدخلا لتحقيق تمثيلية أوسع ﻟﻤﺨتلف الجهات والقطاعات بالبلاد؛ وإرساء الجهوية والرفع من الأداء الوظيفي للمؤسسة التشريعية.[24] وأن الغرفة الثانية تعد درعا واقيا من الزلل في مادة التشريع وتجسد الشرط الأساسي لإنتاج التشريع الذي هو التأني والتدبر والتعقل وقراءة المستقبل من خلال الحاضر وبناء التشريع على أسباب النزول التي تبرر كل تشريع.[25]

فلحظة انبعاث مجلس المستشارين كانت شيقة في دستور 1996؛ إذ لم يكن مجرد غرفة استشارية بل غرفة تقريرية[26] وذلك بمنحه صلاحيات تقريرية تصل إلى درجة الإطاحة بالحكومة[27].

إن منح مجلس المستشارين صلاحية إسقاط الحكومة تثير الريبة والشك في الدواعي الحقيقية التي من أجلها أحدث هذا المجلس، خاصة وأنه أتى في سياق التحضير لحكومة التناوب التوافقي. فإحداث هذه الغرفة جاء حسب البعض من أجل تعزيز التحكم في المشهد السياسي، وبخاصة مع وصول المعارضة إلى الحكم، مما جعل هذا الرأي يعتبر ذلك مؤشرا على عدم الثقة في هذه المعارضة.[28] بالإضافة إلى طمأنة الملك في أفق تمكين المعارضة السابقة من المشاركة في الحكومة، حيث يمكن لجمها وكبح جماحها وأغلبيتها بواسطة هذه الغرفة عند الاقتضاء.[29]

فمنح مجلس المستشارين سلطة إسقاط الحكومة عن طريق ملتمس الرقابة، بالرغم من أنه لا ينصبها. يفرض الأمر الواقع على مجلس النواب الذي ينصبها من جديد رغم أنه لم يسقطها. إن هذا الأمر يسميه الأستاذ علال الأزهر ” قمة اللاعقلانية التي تتحول إلى فوضى دستورية”.[30] فهذا الوضع يضع الحكومة المرتكزة على أغلبية غير مناوئة في مجلس النواب في مواجهة مجلس آخر لا تتحكم في أغلبيته ويمكنه أن يعرقل مشاريع القوانين أو يبطئ تبنيها بشكل جدي.

وبالتالي كانت هناك مجموعة من الأصوات تدعوا إلى الرجوع لنظام المجلس الواحد، وإلغاء مجلس المستشارين وجعل الفئات الممثلة داخله تشتغل من داخل المجلس الاقتصادي والإجتماعي.[31] وقد شكلت فرصة التعديل الدستوري السادس الذي عرفته المملكة فرصة لفتح النقاش حول الأدوار والصلاحيات التي يجب أن تتمتع بها الغرفة البرلمانية الثانية.

وتزامنا مع الاحتجاجات التي عرفها المغرب بقيادة حركة 20 فبراير دخل المغرب  في إصلاح دستوري جديد شكل الخطاب الملكي لـ 9 مارس منطلقه الذي حدد الأرضية لمراجعة دستورية سادسة، كان من بين مرتكزاتها إعادة النظر في هندسة البرلمان والأدوار والصلاحيات التي يمكن أن تضطلع بها كل غرفة مع التأكيد على رجحانية مجلس النواب وإعطائه مكانة الصدارة.[32]

وعلى إثر ذلك نصب الملك لجنة استشارية مكلفة بمراجعة الدستور حيث عملت اللجنة على الاستماع إلى مختلف الفرقاء السياسيين بخصوص تصوراتهم للتعديل الدستوري، وقد قدمت الأحزاب السياسية ومختلف القوى المجتمعية الأخرى مذكراتها بخصوص التعديلات الدستورية همت مختلف مقتضيات الدستور، ومست في جانب منها هندسة البرلمان وما يجب أن يكون عليه في الدستور المرتقب.

وعليه سنحاول إيراد تصورات بعض الأحزاب السياسية والنقابات [33] بخصوص الغرفة البرلمانية الثانية قبل أن ندرس أهم ما جاء به دستور 2011 بخصوص مجلس المستشارين.

فحزب العدالة والتنمية طالب في مذكرته حول التعديلات الدستورية بخصوص مجلس المستشارين بإعادة النظر في ثنائية المجلسين بالبرلمان بمراجعة صلاحيات وتكوين مجلس المستشارين، وتقليص عدد أعضائه، وجعل طريقة انتخاب أعضائه تتم بالاقتراع العام المباشر على مستوى الجهات.[34]

 أما حزب الاستقلال فقد دعى إلى إعادة النظر في تركيبة مجلس المستشارين وعدد مقاعده وحجمه وتحديد اختصاصاته بما يضمن له ممارسة اختصاصاته في كل ما هو اقتصادي واجتماعي وثقافي وبيئي وقاعدة تمثيليته حتى يصير الإطار المؤسس لتكريس التمثيلية الترابية للجهات. بالإضافة إلى تمثيل المغاربة المقيمين بالخارج. وإعطاؤه دستوريا امتياز الأسبقية بالنظر في مشاريع القوانين المتعلقة بالهيآت المتمثلة في داخله وكذلك مقترحات القوانين المتعلقة بنفس الموضوع المقدمة من أعضائه. وإلغاء حق التنبيه وإسقاط الحكومة. مع  تقليص مدة ولايته إلى ست سنوات.

أما مذكرة حزب الأصالة والمعاصرة فقد دعت إلى تأكيد سمو مكانة مجلس النواب قياسا بمجلس المستشارين، عبر المرور من نظام المجلسين المتكافئ المعمول به حاليا، إلى نموذج نظام المجلسين غير المتكافئ، من خلال قصر مسطرة تقديم ملتمس الرقابة على مجلس النواب، انسجاما مع حكره لمسطرة التنصيب الحكومي وانتخابه المباشر من قبل الأمة. والتخلي عن مسطرة “توجيه التنبيه” للحكومة المعمول بها وفق الفصل 77 من دستور 1996.

في حين ذهب الاتحاد الاشتراكي التنصيص إلى الدعوة إلى تحديد ولاية مجلس المستشارين في ست سنوات. مع التنصيص على أن اختصاصات مجلس المستشارين تهم كل المواضيع المتعلقة بالجماعات الترابية.

أما الكنفدرالية الديمقراطية للشغل فقد دعت إلى تقليص مدة ولاية مجلس المستشارين إلى خمس سنوات، وأن انتخاب رئيس المجلس وأجهزته لولاية تشريعية كاملة في مستهل الدورة النيابية، وأن يترشح لمجلس المستشارين المستشارون الجماعيون (المحليون والجهويون) ويكون الانتخاب من طرف هيئاتهم.

وعموما يمكن إجمال الإجابات التي أتى بها دستور 2011 في النقاط الآتية:

  • تقليص عدد أعضاء مجلس المستشارين من 270 عضو إلى 120 عضو فقط يشكل تغييرا جوهريا بحيث سيمكن الدولة من تخفيض نفقاتها الخاصة بتعويضات المستشارين، وأيضا ستكون التمثيلة داخله نوعية. وأيضا تقليص مدة ولايته من تسع سنوات إلى ست سنوات.[35]
  • تجريد مجلس المستشارين من إمكانية تحريك المسؤولية السياسية للحكومة عبر ملتمس الرقابة، وأصبح من حق مجلس النواب لوحده فقط أن يقدم ملتمس رقابة ضد الحكومة، مع استحداث آلية رقابية جديدة منحت لمجلس المستشارين وهي ملتمس المساءلة[36] لكن هذه الآلية تبقى غير ذات فعالية في مجال اقالة الحكومة. ويعد هذا التعديل غاية في الأهمية بخصوص الغرفة الثانية بالمغرب إذ يعد تقويما لصلاحياتها، وانضباطا للصلاحيات المتعارف عليها التي تمنح عادة للغرف الثانية في الأنظمة الديمقراطية، بحيث تكون الحكومة مسؤولة فقط أمام المجلس المنتخب بالاقتراع العام المباشر.
  • أصبحت مشاريع القوانين تودع وجوبا بالأسبقية لدى مكتب مجلس النواب باستثناء مشاريع القوانين المتعلقة بالجماعات الترابية والتنمية الجهوية وبالقضايا الاجتماعية تودع بالأسبقية لدى مكتب مجلس المستشارين.[37] وبموجب الفصل 84 من الدستور ألغيت اللجنة الثنائية المختلطة وأصبح لمجلس النواب حق التصويت النهائي على النص الذي تم البت فيه، غير أن هذا الأمر يثير إشكالية عدد مرات ذهاب وإياب مشاريع القوانين حتى يبت فيها مجلس النواب بالتصويت النهائي.[38]

عطفا على ما سلف، نستنتج أن إجابات الوثيقة الدستورية كرست فعلا مكانة الصدارة لمجلس النواب، وأكدت على رجحانيته. في مقابل تقليص صلاحيات مجلس المستشارين سواء على مستوى الوظيفة الرقابية أو الوظيفة التشريعية، وبالتالي يمكن القول أن دستور 2011 قوم مسار الغرفة الثانية وأرجعها إلى ما يمكن أن تكون عليه مقارنة مع الغرف البرلمانية الثانية في القانون الدستوري المقارن.


[1] امحمد مالكي وآخرون، البرلمان في الدول العربية (الأردن، لبنان، المغرب، مصر)، المركز العربي لتطوير حكم القانون والنزاهة ACRLI ، بيروت، 2007 ص 367.

[2] التقرير الختامي لأشغال ندوة ” تجربة الثنائية البرلمانية: موقع مجلس المستشارين المغربي ومجلس الشيوخ الفرنسي في المشهد المؤسساتي”، مرجع سابق، ص،ص 75 ـ 79.

[3] بحار نادية، مجلس المستشارين بالمغرب: دراسة مقارنة، أطروحة لنيل دكتوراه وطنية في القانون العام، جامعة الحسن الثاني، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، الدار البيضاء، السنة الجامعية 2004 ـ 2005. ص 69

[4] يعد علال الفاسي أول من كشف النقاب عن هذا المشروع في بحثه ” حفريات عن الحركة الدستورية في المغرب قبل الحماية” ونسب هذا المشروع إلى مجهول، لكن محمد المنوني أشار إلى أن الشيخ عبد الكريم مراد هو من كتبه، وهو عالم سوري وفد على المغرب وأقام بفاس سنتي 1906 ـ 1907، بينما اعتبر محمد الفاسي أن هذا المشروع هو مشروع الجمعية المغربية والتي كانت تتكون من عبد الحفيظ الفاسي، عبدالواحد الفاسي، المهدي الفاسي، السعيد الفاسي، العباس الكردودي.
للإطلاع حول هذا الموضوع أكثر راجع: عبد الكريم غلاب التطور الدستوري والنيابي بالمغرب 1908 ـ 2011، مطبعة المعرف الجديدة، الرباط، 2012، ص، ص 81 ـ 83.

[5] عبد العالي حامي الدين، مائة عام على مشروع دستور 1908 .. في الحاجة إلى وعي سياسي تاريخي، جريدة المساء بتاريخ 23/09/2008.

[6] عبد العزيز اللوزي، المسألة الدستورية والمسار الديمقراطي في المغرب، منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة مواضيع الساعة، العدد 5، دار النشر المغربية ، الرباط، 1996، ص 26.

[7] تنص المادة 35 من مشروع دستور 1908 على ما يلي: ” إن منتدى الشورى يؤلف من هيئتين تسمى الهيئة الأولى مجلس الأمة، والأخرى مجلس الشرفاء”.

[8] المادة 49 من مشروع دستور 1908

[9] المادة 45 من مشروع دستور 1908

[10] المادة 44 من مشروع دستور 1908

[11] المادة 51 من مشروع دستور 1908.

[12] المادة 52 من مشروع دستور 1908.

[13] المادة 53 من مشروع دستور 1908.

[14] المختار مطيع، مرجع سابق، ص 14.

[15] المادة 54 من مشروع دستور 1908.

[16] المادة 55 من مشروع دستور 1908.

[17] المادة 56 من مشروع دستور 1908.

[18] عبد العالي حامي الدين، مائة عام على مشروع دستور .. تنظيم الشورى وآليات تقييد السلطة، جريدة المساء بتاريخ 07/10/2008.

[19] إدريس الشامخ، قراءة نقدية في التجربة الدستورية المغربية، للتحميل من الرابط التالي: http://search.4shared.com/postDownload/6_V9mNYS/_____1.html.

[20] الفصل 36 من الدستور المغربي لسنة 1962.

[21] المختار مطيع، نظام البرلمان ذي الغرفتين بالمغرب، سلسلة الدراسات القانونية والسياسية والاقتصادية (1)، مكتبة الشباب، الرباط، 1999، ص 14

[22] عمر بومقس، مداخلة باسم الفريق الاشتراكي في أشغال ندوة ” تجربة الثنائية البرلمانية” ، مرجع سابق، ص 53.

[23] خطاب الملك الحسن الثاني بمناسبة الذكرى الثالثة والأربعين لثورة الملك والشعب بتاريخ 20 غشت 1996.

[24] المصطفى قاسمي، دولة القانون في المغرب: التطورات والحصيلة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2004، ص، ص 64 ـ 66.

[25] محمد جوهري، منزلة مجلس المستشارين من وجهة نظر المشرع الدستوري،  مداخلة في أشغال ندوة ” تجربة الثنائية البرلمانية…” ، مرجع سابق، ص 28.

[26] يقول الحسن الثاني في هذا الصدد ” … هي غرفة تقريرية بكل ما في الكلمة من معنى، فهذه الغرفة ستكون الشطر الثاني للبرلمان. شعبي العزيز، عادة ما نرى في الدساتير التي تصفحناها واطلعنا عليها، أن الغرفة الثانية تكون ناقصة القوة، وناقصة الآليات بالنسبة للغرفة الأولى، ولكن حتى نجعلها شيقة وحتى نجعل الناس يقصدونها، قررنا أن نجعل من هذه الغرفة الثانية غرفة تتميز عن أخواتها في الدساتير الأخرى، لنظهر بذلك أن المغرب ليس مقلدا فقط، بل ينهل من مناهل الغير، ولكن يصبها في كأسه ليبتلعها هو لجسده.”  راجع خطاب الحسن الثاني ل 20 غشت 1996.

[27] هذا ما نص عليه  الفصل 77 من الدستور المغربي لسنة  1996. ويبرر الحسن الثاني في خطابه ل 20غشت 1996 منح مجلس المستشارين إمكانية إسقاط الحكومة بقوله: ” هذه هي الميزة الطريفة والأساسية لهذه الغرفة الثانية إنها ليست كما يقول البعض غرفة عقلاء أو حكماء أو شيوخ، بل هي غرفة أناس ينصتون فيقررون فيقبلون، أو ينقدون، أو يسقطون الحكومة إن اقتضى الحال، وهذا كله لجعل هذه الغرفة مسؤولة، ولجعلها شيقة حتى يقصدها الجميع، ولجعلها كذلك تتابع المسيرة الاقتصادية والاجتماعية لكل يوم”.

[28] ادريس لكريني، نظام الغرفتين في السياق المغربي: ترف سياسي؟، القدس العربي، العدد 5886، 7ماي 2008.

[29] عبدالعزيز  النويضي، الإصلاح الدستوري في المملكة المغربية: القضايا الأساسية، دار النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2005، ص 95.

[30] علال الأزهر، المسألة الدستورية والإصلاح الدستوري في المغرب، مطبعة أركراف، الرباط، 2005، ص 152.

[31] ما فتئ عبد الكريم غلاب على مر صفحات كتابه التطور الدستوري والنيابي بالمغرب من 1908 إلى 2011 يدعو إلى ضرورة إلغاء مجلس المستشارين لأنه غير ذات ضرورة ملحة في النظام السياسي المغربي. راجع الصفحات التالية: 235، 236، 342.

مذكرة أحزاب الكتلة الديمقراطية دعت إلى تمثيل الجماعات المحلية والغرف المهنية وممثلي المأجورين في المجلس الاقتصادي والاجتماعي، راجع مطالب مذكرة الكتلة الديمقراطية عند عبد الكريم غلاب، مرجع سابق، ص 196.

[32] جاء في المرتكز الرابع من  الخطاب الملكي لـ 9 مارس ما يلي : توطيد مبدأ فصل السلط وتوازنها، وتعميق دمقرطة وتحديث المؤسسات وعقلنتها، من خلال :برلمان نابع من انتخابات حرة ونزيهة، يتبوأ فيه مجلس النواب مكانة الصدارة، مع توسيع مجال القانون، وتخويله اختصاصات جديدة، كفيلة بنهوضه بمهامه التمثيلية والتشريعية والرقابية.

[33] جميع مذكرات الأحزاب والنقابات والجمعيات حول التعديلات الدستورية موجودة بشكل مفصل في الموقع الالكتروني التالي: http://www.addoustour.net/ar/index.php?action=idx&start=20&page=2

[34] راجع التوجه الرابع لحزب العدالة والتنمية الوارد مذكرة الحزب حول الاصلاحات الدستورية.

[35] الفصل 63 من دستور 2011.

[36] الفصل 106 من دستور 2011.

[37] الفصل 78 من دستور 2011.

[38] مصطفى قلوش، قانون المالية لسنة 2013 مخالف لمقتضيات الدستور، مقال منشور في الجريدة الالكترونية هسبريس  بتاريخ 23 فبراير 2013 على الرابط التالي: http://hespress.com/orbites/73167.html .

إقرأ أيضاً

الرقابة على الدستورية والأمن القانوني دراسة في ضوء الإجتهاد القضائي الدستوري المغربي

الرقابة على الدستورية والأمن القانوني دراسة في ضوء الإجتهاد القضائي الدستوري المغربي Constitutional control and …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *