تـــــــــــقـــــــديـــــــم
تسلط المقالات الواردة ضمن هذا العدد الضوء على أحد أهم مكونات التشريع المالي المغربي، يتعلق الأمر بتشريع الشراءات العمومية، وذلك بالنظر إلى حجم الإنفاق العمومي الذي يؤطره، وكذا الأثر الذي يرتبه هذا التشريع على عجلة الاقتصاد الوطني وعلى مسلسل التنمية الذي يعرفه بلدنا منذ الاستقلال.
ولئن كان تشريع الشراءات العمومية يقنن المساطر الإدارية لمختلف الطلبيات العمومية والتي تمثل حوالي 20% من الناتج الداخلي الخام، إلا أن السياق الذي رافق إقرار المرسوم رقم 2.22.431 بتاريخ 9 مارس 2023 المتعلق بالصفقات العمومية ضمن منظومة تحديث الشراء العمومي دال على المسار التجويدي الذي شهده هذا التشريع منذ أول مرسوم للصفقات العمومية في 19 ماي 1965.
هذا المنحى التشريعي كانت دائما تتجاذبه وتتقاطبه إكراهات العولمة من خلال الأدوار التي تقوم بها بعض المنظمات الدولية كالبنك الدولي ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية والإتحاد الأوربي، والتي تعتبر صانعة المبادئ الناظمة لتشريع الشراءات العمومية، من حيث حرية الولوج إلى سوق الاقتناءات العمومية، وإرساء قواعد المعاملة بالمثل فيما بين المتنافسين، وتكريس شفافية اختيارات الإدارة، كما تقف وراء التعديلات التي توجه هذا التشريع مقومات البحث عن مناعة النسيج الاقتصادي الوطني وتحسين جاذبية مناخ الأعمال والاستثمار والنهوض بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
غير أن المستجد المـُوَجه للمرسوم الحالي هو حماية السيادة الاقتصادية من خلال إيلاء أهمية قصوى للمنتوج الوطني ومنح الأفضلية للمقاولة المغربية، وكذا إعطاء الأولوية للمعايير الوطنية، والارتقاء بالتحول الرقمي للشراء العمومي، وكأن واضع هذا النص التشريعي ظل مستحضرا لعبر ودروس الأزمة الصحية العالمية لعام 2020، وملتزما برفع التحديات التي نجمت عنها.
هذا وإذا كان الثابت في عُشَرية المراجعة التشريعية لمنظومة الصفقات العمومية، أن قصد المشرع ينصرف دوما إلى إحقاق قاعدة التشريع الجيد الذي يجلب الاستثمار الجيد، فإن مؤشرات عدة لا تخفي محدودية المخرجات الاقتصادية لهذه المراجعات، وهو ما يستشف من مؤشر مردودية الاستثمارات العمومية وضعف أثرها، بالإضافة إلى مؤشر النمو الاقتصادي والتنمية البشرية ومؤشر إحداث مناصب الشغل.
فالأكيد أن على المشرع، بالإضافة إلى تغليب التوافقات بين المتدخلين من مدبرين عموميين ومراقبين ومختلف الفاعلين في القطاع الخاص، أن ينتصر مستقبلا لقواعد جديدة تُعْلي من شأن حكامة الشراء العمومي وتزيد من منسوب الجزاء عند ثبوت تضارب المصالح، وتفعل مبدأ المساءلة وربط المسؤولية بالمحاسبة لضمان الجودة والفعالية في مسلسل الشراء العمومي.
وفي هذا السياق، تم التوافق من قبل فريق مجلة المنارة للدراسات القانونية والإدارية على أن يخصص موضوع هذا الإصدار الجديد تحت عنوان “قراءات متقاطعة حول مستجدات مرسوم 8 مارس 2023 المتعلق بالصفقات العمومية”، كإهداء للدكتورة جميلة دليمي، أستاذة التعليم العالي بجامعة محمد الخامس بالرباط، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بسلا، تقديرا لمسيرتها الأكاديمية المتميزة ولإسهاماتها البارزة في المجال القانوني.
فالدكتورة جميلة دليمي من رواد البحث العلمي في بلادنا في مجال المالية العمومية بصفة عامة والصفقات العمومية باعتبارها رافدا من روافد هذا المجال، حيث ساهمت من خلال أبحاثها ودراساتها العميقة في تطوير الفهم القانوني والمؤسسي للمالية العمومية، مما جعلها تحتل مكانة مرموقة في الساحة الأكاديمية، وإلى جانب إسهاماتها البحثية، ساهمت الدكتورة دليمي بحضورها الفاعل في المؤتمرات والندوات الوطنية والدولية في إثراء النقاشات وتقديم الحلول العملية التي تعزز الشفافية والكفاءة في التدبير العمومي، كما قامت بدور بارز في تأطير وتكوين أجيال من الطلبة والباحثين، مما كان له الأثر البالغ في تعزيز قدراتهم الأكاديمية والمهنية.
ولا يسعني بهذه المناسبة الكريمة، إلا أن أعبر عن بالغ امتناني وتقديري للدكتورة جميلة دليمي، متمنيا لها دوام النجاح والتألق في مسيرتها الأكاديمية والمهنية، كما أشكر جميع الباحثات والباحثين على إسهاماتهم العلمية النوعية ضمن محتوى هذا العدد الخاص.
الرباط في 12 يوليوز 2024
الدكتور عادل الخصاصي
أستاذ باحث في التشريع المالي والتنمية
جامعة محمد الخامس الرباط