مبادرة المواطنين في مجال التشريع
محمد اوسوس
طالب باحث بسلك الدكتوراه
جامـعة محمد الخامـس الرباط
كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية -سلا
تقديم:
تعرف المبادرة التشريعية الشعبية بأنها قدرة المواطنين لبدء مسطرة تشكيل قانون شكلي[1]، وتجد جذورها التاريخية في عصـر الأنوار أواخر القـرن الثامن عشـر. وهي نتيجة لصراع ايديولوجي قاده مفكرين التنوير لإبراز مزايا وعيوب نماذج الديمقراطية المباشرة والديمقراطية النيابية، والانتقادات الرئيسية للديمقراطية المباشرة والمتمثلة في طبيعتها غير الواقعية والشمولية.[2]
وارتكازا على المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة، ومن أجل توفير الظروف لمشاركة المواطنين في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، أقر الدستور المغربي لسنة 2011[3] “ممرات دستورية” لمخاطبة الفاعلين الدستوريين طيلة الزمن السياسي٬ من خلال الحق في تقديم العرائض إلى السلطات العمومية٬ والمشاركة في إعداد السياسات العمومية وتفعيلها وتنفيذها وتقييمها٬ وحق المواطنين في تقديم ملتمسات في مجال التشريع كما يقتضي بذلك الفصل 14 من الدستور،[4] الذي ينص على أن ” للمواطنات والمواطنين ضمن شروط وكيفيات يحددها قانون تنظيمي الحق في تقديم ملتمسات في مجال التشريع”، وربط ممارسة المواطنين لهذا الحق بصدور القانون التنظيمي الذي سيبين الشروط والكيفيات التي يمارس في ظلها تقديم ملتمسات التشريع.
وبصدد تنزيل مضامين الدستور الجديد للملكة، وفي خضم الإعداد لتنظيم تقديم ملتمسات في مجال التشريع، شددت فتيحة السعيدي[5] على ضرورة تجنب استنساخ نموذج بعينه فيما يتعلق بالمبادرة التشريعية الشعبية٬ بل يتعين أخذ بعين الاعتبار الخصوصيات المحلية لأي نظام وذلك من أجل تفادي أخطاء الآخرين[6].
الدستور المغربي لم يتحدث عن المبادرة التشريعية الشعبية، وإنما نص على ملتمسات في مجال التشريع، فما المقصود بهذه الملتمسات؟ وهل يمكن اعتبار الملتمس مرادف للمبادرة؟
وكتعريف للمبادرة التشريعية فهي فعل من أفعال الإرادة التي تلزم البرلمان للبدء في المسطرة التشريعية، وهي عمل من أعمال الشروع في العملية تتطلب البت في الاقتراح واتخاذ قرار بشأنه، ويمكن لهذا العمل أن يأتي من هيئة خارج البرلمان، وربط ذلك التعامل مع المشروع أو المقترح بشروط تقديمه.[7]
لقد ظهرت المبادرة التشريعية الشعبية في الدساتير الأوروبية خلال القرن العشرين، وخصوصا خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، لتعزيز الديمقراطية التمثيلية من خلال اشراك المواطنين في العملية التشريعية. ففي إسبانيا، تم التنصيص على المبادرة التشريعية الشعبية لأول مرة في المادة 66 من دستور الجمهورية الثانية الإسبانية لسنة 1931. أما في النظام الدستوري المغربي فآلية المشاركة الشعبية في التشريع تعد من مستجدات الدستور المغربي لسنة 2011.
وإذا كان الدستور الاسباني لسنة 1978[8] يطرح إشكالية تصنيف المبادرة الشعبية كسلطة بيد مقدمي المبادرة أو مجرد اختصاص بسيط للاقتراح، فإن الدستور المغربي يزيد من هذا الإشكال بتنصيصه على حق المواطنين في تقديم ملتمسات في مجال التشريع، دون تحديد طبيعة هذه الملتمسات.
فهل يمكن اعتبار ما جاء بها الدستوران المغربي والاسباني مبادرة تشريعية شعبية حقيقية؟ للإجابة على هذا التساؤل سنبين ماهية هذه المبادرة وشروطها، وذلك من خلال دراسة وتحليل النصوص القانونية المنظمة لها.
أولا: طبيعة آلية مشاركة المواطنين في العملية التشريعية
وفقا للقاموس القانوني اسباسا ليكس Diccionario Jurídico Espasa Lex [9] فالمبادرة التشريعية هي “سلطة لصياغة مشـروع أو مقترح قانون، لعرضه على المجلس كخطوة أولى في العملية التشريعية.”
وينص الفصل 14 من الدستور المغربي على أن ” للمواطنات والمواطنين ضمن شروط وكيفيات يحددها قانون تنظيمي الحق في تقديم ملتمسات في مجال التشريع”.
ومن أجل مقارنة الملتمس مع المبادرة التشريعية سنعتمد على النموذج الاسباني، حيث تنص المادة 87.3 من دستور المملكة الاسبانية على أن “يحدد قانون تنظيمي أشكال ممارسة المبادرة الشعبية وشروطها لتقديم مقترحات قوانين. ولا يجب أن تقل التوقيعات في جميع الأحوال عن 500.000 توقيع موثق. ولا يمكن أن تهم المبادرة المذكورة المجالات التي تنظمها القوانين التنظيمية والضريبية والقوانين ذات الطابع الدولي، ولا أن تطال صلاحيات إصدار العفو”.
في ضوء التعاريف السابقة ومنطوق النصوص الدستورية، المشرع الدستوري المغربي استعمل مصطلح ملتمسات في مجال التشريع وليس مبادرات تشريعية أو اقتراح القوانين. وهنا يطرح التساؤل حول طبيعة هذه الملتمسات. هل يمكن اعتبارها مقترحات نصوص قانونية أم ذات طبيعة اقتراحية عادية بدون صياغة قانونية؟ وهل تهم مجال القانون فقط أم تمتد إلى مجال التنظيم؟ حيث أن التشريع في النظام الدستوري المغربي ينقسم إلى مجال القانون ومجال التنظيم إضافة إلى المجال المحفوظ للملك الذي يمارس فيه اختصاصاته بواسطة ظهائر ملكية.
كثيرا ما يستعمل الباحثين في مجال القانون مصطلح “المبادرة التشريعية الشعبية” وربطها بالفصل 14 من الدستور كمرادف للملتمس في مجال التشريع، بل يقع هذا الخلط أيضا داخل المؤسسة البرلمانية.[10]
بالرجوع إلى مشروع القانون التنظيمي رقم 64.14 بتحديد شروط وكيفيات ممارسة الحق في تقديم الملتمسات في مجال التشريع[11]، نجده ينص في مادته الثانية على تعريف الملتمس في مجال التشريع بأنه “كل مبادرة يتقدم بها مواطنات ومواطنون وفق أحكام هذا القانون التنظيمي بهدف المساهمة في المبادرة التشريعية”، ويتضح إذا أن الملتمس ليس مبادرة تشريعية حقيقية وإنما هو شكل من أشكال المساهمة فيها.
ولتأكيد أن الملتمس لا يرقي إلى مرتبة المبادرة التشريعية، يمكن تقديم الحجج التالية:
- عدم إدراج مقتضيات الفصل 14 ضمن أحكام الفصل 78 الذي يحدد من لهم حق التقدم باقتراح القوانين؛
- اشتراط المادة 5 من مشروع القانون التنظيمي أن يحرر الملتمس في شكل اقتراحات[12] أو توصيات.
- يمكن اعتماد الملتمس أساسا لتقديم مقترح قانون بعد تبنيه من طرف عضو أو أكثر من أعضاء اللجنة البرلمانية المعنية بدراسته.[13]
فدمج مقتضيات الفصل 14 ضمن أحكام الفصل 78، وفي الباب المخصص للسلطة التشريعية[14]، من شأنه أن يرقى بهذه الملتمسات إلى مجال المبادرات التشريعية، إذ أن مختلف الدساتير التي تمنح المواطنين حق المبادرة التشريعية غالبا ما تنص عليها ضمن نفس مقتضيات المادة التي تعطي المبادرة التشريعية للأطراف الأخرى[15] أو تنص بشكل صريح ودون غموض في مادة أخرى من مواد الدستور على منح المواطنين سلطة تقديم مقترحات قوانين إلى البرلمان[16].
كما أن اشتراط أن يقدم الملتمس في شكل اقتراحات أو توصيات، دون الحديث عن صياغتها في مواد قانونية، ينم عن فكرة أن الملتمس مجرد إيحاء إلى السلطة المختصة ولفت انتباهها إلى موضوع ما، لتتولى هذه الأخيرة ممارسة اختصاصها والمبادرة باقتراح قانون في الموضوع.
ولكن إذا سلمنا بما سبق، واعتبرنا أن الملتمس ليس سوى اقتراح أو توصية، ولا يشترط تقديمه في شكل نص قانوني[17]، فكيف ستتعامل معه اللجنة البرلمانية التي سيحال عليها لدراسته ومناقشته، بل أن المادة 12 لم تحدد مآل الملتمس بعد هذه الدراسة والمناقشة، في حالة عدم تبنيه من طرف عضو أو أكثر من أعضاء اللجنة البرلمانية كأساس لتقديم مقترح قانون، هل سيعرض على الجلسة لمناقشته؟
الفقه الدستوري الاسباني يستند على المادة 87 التي تنص على “مبادرة شعبية” وليس “المبادرة التشريعية الشعبية”، ويرى أن عدم وجود كلمة “تشريعية” لا يفـسر بانعدام المبادرة دستوريا،[18] حيث تحدد هذه المادة الهدف من المبادرة في “تقديم مقترحات القوانين”، وتحيل على قانون تنظيمي لتحديد أشكال ممارسة المبادرة الشعبية وشروطها.
غير أن اشتراط القانون التنظيمي[19] والنظامين الداخليين للمجلسين البرلمانيين، مرور المبادرة التشريعية الشعبية عبر عملية الأخذ بعين الاعتبار[20] كما هو الحال بالنسبة لمقترحات قوانين النواب – الشيوخ[21] على عكس مشاريع قوانين الحكومة، يسمح لاعتبار المبادرة الشعبية اقتراح مبادرة أكثر من كونها مبادرة حقيقية، انتقادات يمكن أن تحد من” الثقة” في المبادرة التشريعية الشعبية في تناقض مع أثارها حيث يعتبر “Santamaría Pastor” آلية الديمقراطية المباشرة قرار حر يجب تمييزه عن الديمقراطية التمثيلية”.[22]
فالمبادرة التشريعية الشعبية في اسبانيا “آلية استباقية” وليس “مبادرة تشريعية” فعلية في حد ذاتها؛ لأن فعل الاقتراح يحقق مشاركة المواطنين في “المبادرة التشريعية”، والتي لا تتحكم فيها إرادة المواطنين، لأن قرار دراسة الاقتراح كمبادرة للقانون يرجع لمجلسي البرلمان.[23]
أمام الاختلاف الفقهي الاسباني حول طبيعة مبادرة المواطنين، فإننا نرى أن الدستور الاسباني ينص على مبادرة تشريعية شعبية حقيقية، وإن كانت هناك صياغة معيبة أو إغفال كلمة “تشريعية” في النص الدستوري، فإن نية المشرع الدستوري ترمي إلى منح المواطنين حق المشاركة في العمل التشريعي باقتراح قوانين. وهذا ما تؤكده الفقرة الأولى من المادة 23 من الدستور الاسباني على حق المواطنين للمشاركة في الشؤون العامة، إما مباشرة وإما بواسطة ممثلين، و هذا ما تجلى أيضا من خلال الممارسة وقرارات المحكمة الدستورية الاسبانية.
المحكمة الدستورية أكدت باستمرار في اجتهادها أن المبادرة التشريعية الشعبية تعتبر امتداد لحق جميع المواطنين في المشاركة في الشؤون العامة مباشرة والمنصوص عليها في المادة 23.1 من الدستور، ففي قرارها 119/1995 بتاريخ 17 يوليوز أكدت “ارتباط المادة 23.1 من الدستور بالمبادرة التشريعية المنصوص عليها في المادة 87.3 من الدستور”. و في قرارها 76/1994بتاريخ 14 مارس، رأت أن المبادرة التشريعية الشعبية، أثناء ممارسة المواطنين حقهم في المشاركة في الشؤون العامة، يجب أن تخضع لما هو منصوص عليه في الدستور، ولا سيما المادة 87.3 منه.[24]
ويمكن أن نستخلص مما سبق بالنسبة للملتمسات في مجال التشريع، أن الحكومة[25] كانت على صواب حيث لم تكيف الملتمس على أنه مباردة تشريعية، عكس ما ذهبت إليه بعض الفرق البرلمانية التي تقدمت بمقترحات قوانين تنظيمية[26]، تسير في اتجاه إعطاء المواطنين حق المبادرة التشريعية، وهو حق لم يمنحه الدستور المغربي سوى لأعضاء البرلمان ورئيس الحكومة، حيث أن المبادرة سلطة للمشاركة في صنع القرار، في حين أن الملتمس قابل للرفض من طرف السلطة التشريعية ذات الاختصاص الأصيل، دون إمكانية إشراك أصحاب الملتمس في أشغال اللجان للدفاع عنه.
وفي هذا الصدد نشير إلى موضوع أخر جدير بالاهتمام، وهو المتعلق بحق سحب المبادرة الشعبية، والذي يبين ما إذا كان للمواطنين فعلا سلطة الاقتراح والسحب أم فقط مجرد التماس وطلب. ففي سويسرا، باعتبارها تكفل للمواطنين مبادرة تشريعية حقيقية، يكون السحب ممكنا في أي مرحلة من مراحل المسطرة التشريعية. أما في ايطاليا فهناك خلاف فقهي بشأن هذه المسألة، فعلى سبيل المثال، يدافع Bettinelli عن أنه لا يمكن سحب النص بعد إيداعه لدى المجلس البرلماني، أما Spagna Musso فيرى أن فعالية السحب تتوقف على عدد الموقعين الداعمين، حيث يجب توفر عدد من التوقيعات لا يقل كثيرا عن ذلك اللازم لممارسة هذه المبادرة. [27]
فى اسبانيا يميز [28]Manuel Aragón بين ثلاث مراحل لسحب مقترحات قوانين المبادرة الشعبية:
- قبل جمع التوقيعات، يمكن التراجع عن النص من طرف لجنة الدعم التي قدمته (لأي سبب، وليس فقط للأسباب المنصوص عليه في المادتين 5 و 3 من القانون التنظيمي)؛
- بعد جمع وتقديم التوقيعات، وقبل أن يأخذ بعين الاعتبار، لن يكون من الضروري لسحب المقترح موافقة جميع الموقعين، بل تكفي نسبة معينة قد تكون أقل من نصف مليون توقيع ؛
- بعد أن تأخذ بعين الاعتبار من طرف الكونغرس، فإنه لا يمكن سحبها إلا بمبادرة منه، حيث أصبح صاحب تلك المبادرة التشريعية، وله حرية التصرف فيها على طول مراحل المسطرة التشريعية”.
في المغرب لا نرى أي فائدة من سحب الملتمسات، مادام الاقتراح لن يقدم في شكل نص قانوني، وما دام مجرد توصيات، فالهدف منها هو إبلاغ البرلمان، وهذا يحصل بمجرد إيداع الملتمس لدى المجلس البرلماني، فمشروع القانون التنظيمي يتحدث عن امكانية بلورة الملتمس في مقترح قانون، وبالتالي فسحبه لن يؤثر.
ثانيا: حدود مشاركة المواطنين في التشريع
لم يحدد الدستور المغربي الأمور المستبعدة من مجال ملتمسات التشريع، ولا عدد المواطنين الواجب الحصول على توقيعاتهم لقبول الملتمس، على عكس الدستور الاسباني.
وبالرجوع دائما إلى مشروع القانون التنظيمي رقم 64.14 بتحديد شروط وكيفيات ممارسة الحق في تقديم الملتمسات في مجال التشريع، نجد أن المشرع المغربي يضع قيدان على ممارسة حق ملتمس التشريع:
- حصر مجال الملتمسات ضمن الميادين التي يختص القانون بالتشريع فيها[29]؛
- استثناء بعض الميادين من مجال الملتمسات.
ففيما يخص النقطة الأولى نرى أن المشرع قد يكون مجانبا للصواب، على اعتبار أن المشرع الدستوري يتحدث عن ملتمسات في مجال التشريع، ومجال التشريع تقتسمه الحكومة والبرلمان وفقا للفصلين 71 و72 من الدستور المغربي، كما أن المادة 14 من الدستور واضحة ولم تحدد الجهة التي يوجه إليها الملتمس، حيث قد تكون الحكومة كما يمكن أن يكون البرلمان، بل إن أغلب المواضيع التي لها أهمية أكبر بالنسبة للمواطنين تدخل ضمن مجال التنظيم.
وما دامت الملتمسات في مجال التشريع، لا تترجم تقديم مقترحات قوانين، وإنما هي مجرد اقتراحات وتوصيات، فكان من الأجدر أن تشمل مجالي القانون والتنظيم، وبالتالي توجيهها للحكومة أو البرلمان، حسب طبيعة الموضوع المراد تنظيمه.
وفيما يخص تقييد مجال مبادرة المواطنين، فيمكن تحديد المواضيع المستثناة من المشاركة الشعبية في العملية التشريعية في المجالات التالية:
- في المغرب: [30]
- مراجعة الدستور؛
- القوانين التنظيمية؛
- قانون العفو العام؛
- المجال العسكري؛
- الأمن الداخلي أو الخارجي للدولة أو الدفاع الوطني.
- في اسبانيا[31]:
- الميزانية العامة للدولة؛
- التخطيط للنشاط الاقتصادي العام المنصوص عليه في المادة 131 نت الدستور؛
- حق العفو؛
- الميادين ذات الطابع الدولي؛
- الميادين ذات الطبيعة الضريبية؛
- القوانين التنظيمية؛
- مراجعة الدستور[32].
أول تساؤل يطرح في هذا المجال، هل يحق للمشرع تقييد حق منحه الدستور للمواطنين؟ فالمشرع الدستوري لم يترك اعباطيا مجال ملتمسات التشريع مطلقا، بل إن الاحالة على تنظيم هذه الملتمسات بقانون تنظيمي ليس تفويضا مفتوحا، وإنما مقيد بتحديد شروط وكيفيات ممارستها فقط، وإذا كان الملتمس[33] غير ملزما للبرلمان فلما يستثنى من مجالاته الميادين المشار إليها، حيث سيكون هذا الاستثناء معقولا حين يكون الملتمس ملزما للبرلمان لدراسته وفق المسطرة التشريعية العادية، أما وأنه فقط توصية واقتراح، فلا نرى أن يقيد إلا ضمن الحدود التي تقيد المبادرة البرلمانية نفسها[34].
أما شرط 25000 توقيع لتقديم الملتمس، فرغم أن العدد كبير جدا ليس بالمقارنة مع ما هو معمول به في الأنظمة المقارنة[35]، وإنما نظرا للآثار التي يمكن أن ينتجها تقديم الملتمس، فإذا كانت بعض الأنظمة تشترط عدد معين من الموقعين على المبادرة التشريعية الشعبية لقبولها، فإن ذلك مرده إلى آثارها على الترسانة القانونية المعمول بها، حيث تقديم المبادرة يجبر البرلمان على مناقشتها وفق المسطرة التشريعية المتبعة بالنسبة للمبادرات التشريعية الأخرى[36]، في حين يجهل وفقا لمشروع القانون التنظيمي مصير الملتمس التشريعي بعد دراسته في اللجنة البرلمانية، خاصة أمام غياب ضمانات لحماية حق المواطنين للدفاع على ملتمساتهم، إذ أن الهدف منها ليس تقديم مقترح قانون بقدر ما هي لفت انتباه البرلمان للحاجة للتشريع في موضوع ما.
يعتبر بعض الباحثين أن تقييد المبادرة التشريعية كان خوفا من أن تكون هذه الآلية موضوعا للتلاعب الحزبي وبالتي فقدان معناها البديل للمبادرة البرلمانية، ونتيجة لذلك تم تنظيمها بشكل معقد لدرجة تفريغها من معناها، وأصبحت صعبة وغير قابلة للتطبيق.[37]
قد يكون استبعاد الأمور التي تخضع للاستفتاء (الاستفتاء قد يهدف إلى “اتخاذ قرارات سياسية” وليس إلى إنتاج قواعد) من مجال الملتمسات التشريعية والمبادرات التشريعية الشعبية، أمر طبيعي ما دامت تلك الميادين ترجع فيها الكلمة الأخيرة إلى الشعب كما هو الحال في التعديل الدستوري.
وفي الختام نرى أن يتم إعادة النظر في مشروع القانون التنظيمي رقم 64.14 بتحديد شروط وكيفيات ممارسة الحق في تقديم الملتمسات في مجال التشريع، نظرا لأنه لا يعكس توجه المشرع الدستوري، وأيضا لكونه أخذ من التجارب المقارنة مع عدم الانتباه إلى الفرق بين الملتمس ومقترح القانون، فطبيعة الآلية التي أقرها الدستور المغربي لمشاركة المواطنين في العملية التشريعية، نموذج مغربي يجب أن ينسجم القانون التنظيمي المنظم له مع روح الدستور، والقيود التي تم وضعها على ممارسة هذا الحق من شأنها أن تعرقل ممارسته في الواقع.
كما أن التنصيص على أن تقدم الملتمسات في شكل اقتراحات وتوصيات، تفرغ هذه الآلية من فعاليتها، لكون التوصيات والاقتراحات، تحتاج العمل من جديد على بلورتها في مقترح نص قانوني، وبالتالي يستحسن اشتراط التنصيص في القانون التنظيمي على تقديم مقترحات قوانين ومشاريع مراسيم جاهزة للدراسة من طرف البرلمان أو الحكومة.
والأمل في أن يعمل البرلمان من خلال ممارسة حقه في التعديل والدراسة عل تنقيح النص وإضافة مواد من شأنها أن تقوي من مساهمة المواطنين في العملية التشريعية، عوض تقييد ما تم منحه بموجب الدستور، ولا سيما المسطرة البرلمانية المتبعة لدراسة الملتمسات التشريعية، وكيفية التعامل معها في حال لم تقدم في شكل نص قانوني، مادام القانون التنظيمي لم يلزم بذلك.
[1] القانون بالمفهوم الشكلي هو مجموعة القواعد القانونية الصادرة عن البرلمان أي القانون في مفهومه الضيق.
[2] Rafaela Teresa Quintero Ortega; Iniciativa Legislativa Popular en España: aspectos normativos e incidencia práctica; Ars Iuris Salmanticensis,vol. 2, junio 2014, pág 140
[3] دستور المملكة المغربية الصادر بمقتضى الظهير الشريف رقم 1.11.91 في 27 شعبان 1432 (29 يوليوز 2011)، منشور بالجريدة الرسمية عدد 5964 مكرر، بتاريخ 30 يوليوز 2011
[4] كلمة السيد محـمد الشيخ بيد الله في الندوة البرلمانية حول موضوع: “المبادرة التشريعية الشعبية”، وذلك بشراكة مع الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا، مجلس المستشارين، الأربعاء 15 مايو 2013
[5] عضو الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا وبرلمانية بلجيكية
[6] فتيحة السعيدي في مداخلتها في الندوة البرلمانية حول موضوع: “المبادرة التشريعية الشعبية”، وذلك بشراكة مع الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا، مجلس المستشارين، الأربعاء 15 مايو 2013
[7] Ramón Punset; la iniciativa legislativa en el ordenamiento español; Revista de derecho político núm. 14. verano 1982; pág 59
[8] الدستور المملكة الاسبانية الموافق عليه في 27 دجنبر 1978، منشور في الجريدة الرسمية عدد 311، بتاريخ 29 دجنبر1978. وفق آخر تعديل له في 27 شتنبر 2011.
[9] Diccionario Jurídico Espasa Lex. Voz: “Iniciativa Legislativa” Espasa Calpe, S.A. Madrid, España, 2004. Pág. 830.
[10] حيث اعتبر السيد كريم غلاب رئيس مجلس النواب أن مجال المبادرة التشريعية لا يقتصر فقط على المؤسسات بل أصبح يهم أيضا المواطنين
[11] مشروع القانون التنظيمي رقم 64.14 بتحديد شروط وكيفيات ممارسة الحق في تقديم الملتمسات في مجال التشريع، المصادق عليه من طرف المجلس الوزاري المنعقد بتاريخ 14 يوليوز 2015، وأحيل من طرف الحكومة على مجلس النواب بتاريخ 23 يوليوز 2015.
[12] الاقتراح هو عرض مسألة يؤخذ بها أو لا يؤخذ بها، وهو أيضا فكرة أو رأي يبدى ويقدم للبحث والحكم.
[13] المادة 12 من مشروع القانون التنظيمي 64.14
[14] المبادرة التشريعية جزءا لا يتجزأ من المسطرة التشريعية، أنظر :
Piedad García-Escudero Márquez; Consideraciones sobre la iniciativa legislativa del Gobierno; Cuadernos de Derecho Público, núm. 8, septiembre-diciembre, 1999; pág 21
[15] نورد في هذا المجال على سبيل المثال: المادة 61 من الدستور البرازيلي؛ المادة 162 من الدستور البوليفي؛ المادة 107 من الدستور البيروبي …
[16] المادة 39 من الدستور الأرجنتيني، المادة 103 من الدستور الكولومبي؛ المادة 123 من دستور البراكواي …
[17] وفقا لمقتضيات مشروع القانون التنظيمي 64.14
[18] Manuel Aragón; La iniciativa legislativa; Revista española de derecho constitucional año 6. núm 16 Enero-Abril 1986; pág 304
[19] المادة 13 من القانون التنظيمي رقم 3/1984 المنظم للمبادرة التشريعية الشعبية في اسبانيا، الجريدة الرسمية الاسبانية عدد 74 بتاريخ 27 مارس 1984
[20] عملية الأخذ بعين الاعتبار هي عرض مكتب المجلس مقترح القانون على الجلسة العامة للموافقة عليه للبدء في دراسته، في الحالة الايجابية يوافق مكتب المجلس على إرساله إلى اللجنة المختصة وفتح الأجل المناسب لتقديم التعديلات.
[21] إخضاع مبادرات النواب والشيوخ لعملية الأخذ بعين الاعتبار أمر طبيعي، حيث أن البرلمانيين يقترحون ولكن صاحب الاختصاص هو المجلس البرلماني وفقا للمادة 87 من الدستور عكس الدستور المغربي الذي يعطي المبادرة التشريعية للبرلماني كعضو ويس للمجلس، وبالتالي لا بد من موافقته أولا من خلال الجلسة العامة على هذه المبادرات ليتم بعد ذلك إحالتها إلى اللجنة المختصة لتستكمل مختلف مراحل المسطرة التشريعية
[22] Pablo Sanjuán García ; Iniciativa Legislativa Popular en Espana.v entre el derecho de participación y la democracia directa ; Revista Lex Nova, Julio/Septiembre 2010 ; pág 18
[23] Rafaela Teresa Quintero Ortega; op cit, pág 144
[24] Rafaela Teresa Quintero Ortega; op cit, pág 142
[25] الحكومة التي تولت إعداد مشروع القانون التنظيمي رقم 64.14 بتحديد شروط وكيفيات ممارسة الحق في تقديم الملتمسات في مجال التشريع
[26] مقترحان قانونين تم تقديمهما وتم سحبهما:
ü مقترح القانون التنظيمي المنظم للملتمسات التشريعية، تقدم به الفريق الاستقلالي للوحدة والتعادلية بتاريخ 24/07/2013.
ü مقترح قانون تنظيمي يتعلق بتحديد شروط وكيفيات تقديم المواطنات والمواطنين للملتمسات في مجال التشريع، تقدم به فريق التجمع الوطني للأحرار بتاريخ 04/02/2013.
[27] Manuel Aragón; op cit, pág 306
[28] Ibíd ; pág 306
[29] المادة 3 من مشروع القانون التنظيمي 64.14
[30] المادة 4 من مشروع القانون التنظيمي رقم 64.14
[31] المادة 2 من القانــون التنظيمي 3/1984 للمبادرة التشريعية الشعبية في اسبانيا
[32] لم يتم التنصيص عليها في القانــون التنظيمي 3/1984 وإنما تستشف من المادة 166 من الدستور الاسباني التي تنص على: “تمارس مبادرة تعديل الدستور وفق ما تنص عليه الفقرتان 1 و 2 من المادة 87”.
[33] فالملتمس لا يعدو أن يكون سوى طلب.
[34] مع العلم أننا لا نساير اتجاه مشروع القانون التنظيمي الذي يحصر مجال التشريع في مجال القانون فقط.
[35] في اسبانيا يشترط 500000 توقيع موثق لقبول المبادرة.
[36] يمكن الطعن أمام المحكمة الدستورية في حال عدم قبول مكتب الكونغرس المبادرة التشريعية الشعبية وفقا للمادة 6 من القانون التنظيمي 3/1984.
[37]Hugo Alejandro Concha Cantú; Iniciativa Legislativa Popular; Cuadernos Constitucionales México-Centroamérica 19. La Reforma Constitucional en México y Argentina; pág 30