لسياسة الجنائية و ظاهرة الاكتظاظ في السجون المغربية

السياسة الجنائية و ظاهرة الاكتظاظ في السجون المغربية

Criminial justice policy and the phenomenon of overcrowding in moroccan prisons

فاطمة الضرضوري

EDDARDOURI FATIMA

طالبة باحثة بسلك الدكتوراه

PFD STUDENT IN PRIVATE LAW WITHIN THE LARNED LABORATORY/RESEARCH TEAM

كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية عين السبع– جامعة الحسن الثاني الدارالبيضاء

the Faculty of Law, Economics and Social Sciences at Hassan II University, in Casablanca-Ain Sbaa.

E-MAIL : [email protected]

ملخص:

اكتظاظ المؤسسات السجنية مرتبط بالسياسة الجنائية المتبعة، فسياسة التجريم والعقاب هما اللتان تعملان على تفادي الاكتظاظ أو تسهمان في استفحاله، لهذا يجب إعادة النظر في سياستنا الجنائية بشكل يجعلها تستوعب وتواكب التطورات والتغييرات التي يشهدها العالم. بحيث أصبح الهدف الأساس إصلاح وتأهيل الجاني، من أجل إعادة إدماجه داخل المجتمع، فالاعتماد على مثل هذه السياسة، سيساهم من جهة في التصدي للظاهرة الإجرامية ومن جهة أخرى في تخفيض عدد نزلاء المؤسسات السجنية لوجود علاقة وثيقة بين سياسة الإجرام والعقاب وظاهرة الاكتظاظ.

كلمات المفاتيح: السياسة الجنائية- ظاهرة الاكتظاظ- المؤسسات السجنية.

Abstract

Overcrowding in prisons is directly linked to the criminal policy in force.

It is the policy of criminalization and punishment that can avoid overcrowding in prisons or contribute to exacerbate it. Therefore, our criminal policy must be reconsidered in a way to updated it in order to keep the pace with the ongoing developments and changes in the world. Therefore, the goal has become to rehabilitate the offender in order to reintegrate him into society. Such a policy will, on one hand, contribute to reduce criminality and, on the other hand, decrease the number of inmates in prisonsbecause of the close relationship between the policy of crime and punishment and the phenomenon of overcrowding.

Keywords :criminal policy-punishment-overcrowding in prison.

مقدمة:

إن ظاهرة اكتظاظ المؤسسات السجنية في المغرب، أصبحت عائق أمام عملية الإصلاح و إعادة الإدماج، و إذا كانت تتدخل في استفحال هذه الظاهرة عدة متغيرات، تتعلق بالكثافة السكانية و بالمستوى الاجتماعي و السوسيو اقتصادي، فإن علاقتها بالسياسة الجنائية هي علاقة جدلية، فالمقاربة القانونية التي تبنتها السياسة الجنائية لحل هذه الإشكالية تبقى قاصرة و غير مواكبة للأهداف الجديدة للعقوبة التي ترتكز على إصلاح و تقويم سلوك الجاني بدل الزجر و الإيلام[1]، و كذلك لوظيفة المؤسسة السجنية التي مازال ينظر إليها على أنها مكان للردع و العقاب.

إن أساليب المعاملة العقابية غدت تستند إلى قواعد علمية، و تأييد سلب الحرية لم يعد يحظى بالاهتمام المطلوب، وعليه يمكن القول، إلى أن السياسة العقابية الهشة المعتمدة مسطرة العفو، و سياسة بناء السجون[2]  حيث حصل المندوب العام لإدارة السجون على الضوء الأخضر  من أجل بناء 22 مؤسسة سجنية، إلا أن ذلك ليس حلا لاكتظاظ المؤسسات السجنية في المغرب، لأنه حتى و إن تم إنشاء مؤسسات أخرى فإنها ستملأ بدورها، لذا يجب اعتماد إستراتيجية جديدة لمعالجة أسباب استفحال ظاهرة الاكتظاظ ، و لعل أهم هذه الأسباب هي الجريمة التي هي نتاج للاختلالات الاقتصادية و الاجتماعية التي يعرفها المغرب، و هذه الغاية لن تتحقق إلا بتبني سياسة جنائية حديثة تتأسس على أسس علمية تهدف معالجة المشاكل التي يعاني منها المجتمع ( فقر، بطالة، أمية و تفكك أسري و طلاق و أطفال شوارع…)، و اضطراب نفسي في غياب أية عناية بالصحة النفسية و بأية رؤية علاجية تقويمية على مستوى خلق مؤسسات للوقاية من الجريمة، أو مؤسسات تكون مهمتها التدخل النفسي و التربوي كآلية من آليات الحد من الاضطرابات النفسية و الاجتماعية. و التي تدفع إلى ارتكاب الجرائم، و تبني منظور جديد لفلسفة العقوبةالسالبة للحرية التي تطرح أزمة لا تقل حدة عن سابقاتها، تتمثل في الاكتظاظ الحال داخل السجون بفعل احتلال هذه العقوبة مكانة أساسية و محورية[3]، و لعلها راجعة إلى اعتماد بعض إن لم نقل كل التشريعات في بناء ترساناتها الجنائية على قاعدة ” ألا عقوبة إلا بالحبس”. كجزاء للعديد من الجرائم إلى اعتبار السجن الوظيفة الأساسية للعدالة الجنائية للرد على تحديات الإجرام و الانحراف، حيث أصبح سلب الحرية محور السياسة العقابية [4]التي تعتبر إحدى فروع السياسة الجنائية بصفة عامة، ذلك أن هذه الأخيرة تضم في طياتها ثلاث فروع أساسية، و هي سياسة التجريم، سياسة المنع ثم سياسة العقاب[5]، و التي باتت تعاني تضخم المادة العقابية.

فإن الفقه القانوني عرف جدلا واسعا حول جدوى الاعتقال في تحقيق الغاية المتوخاة من العقوبة وبات الملاحظون ينتقدون سياسة الاعتقال وهم يلاحظون أن درجة العود إلى ارتكاب الجريمة بعد قضاء فترة السجن تتزايد بوثيرة ملفتة للانتباه، بل إن بعض الأشخاص الذين يعتقلون من أجل جرائم بسيطة يغادرون السجن و هم مزودون بأساليب إجرامية احترافية يتعلمونها خلال إقامتهم في السجن من جراء اختلاطهم ببعض المنحرفين.

و بالنظر إلى النتائج المحصل عليها من العقوبات السالبة للحرية من جهة، و الانتقادات الموجهة إليها لعدة اعتبارات إنسانية، و اجتماعية فقد اقتنعت مجموعة من التشريعات و منها التشريع المغربي بضرورة البحث عن عقوبات بديلة عن الاعتقال يمكنها تحقيق الغاية المرجوة من العقاب ألا و هي إصلاح المجرم، و إعادة إدماجه في المجتمع كفرد سوي له القدرة على تحمل مسؤوليته، و واجباته الاجتماعية كبقية أفراد المجتمع الآخرين، و ذلك عن طريق تبني بدائل تربوية، أو جنائية للعقوبة الحبسية السالبة للحرية سواء من أجل الحد من ظاهرة الاكتظاظ الذي تعرفها المؤسسات السجنية بالمغرب، أو على الأقل التقليل من نتائجها الخطيرة، التي تمس بدرجة أولى السجين في أبسط حقوقه:( النوم، الصحة، التعليم، الزيارة، الترفيه و الرياضة) و بدرجة ثانية تثقل كاهل الميزانية العامة للدولة، التي يمكنها أن تستثمر الإمكانيات المخصصة لبناء السجون في مؤسسات تربوية، و اجتماعية و اقتصادية، و اعتماد القاعدة الذهبية التي تفضل “درهم وقاية على مائة دينار علاج”[6]و خصوصا إذا علمنا أن الدولة يمكنها أن تتجاوز ظاهرة الاكتظاظ إما بالتقويم أو العلاج، أو القضاء على الأسباب المباشرة و غير المباشرة للجريمة و بإعادة النظر في السياسة الجنائية المتبعة مع الأخذ بعين الاعتبار الموازنة بين الضبط الأمني( المقاربة القانونية) و الضبط الاجتماعي( المقاربة الوقائية العلاجية).

إذن فمشكلة الاكتظاظ في المؤسسات السجنية المغربية هي مشكلة بنيوية و لتفاديها يجب أن يساهم الجميع في ذلك كل من موقعه، فرجل القانون، و المقرر السياسي، و الاقتصادي، و المتدخل الاجتماعي، و التربوي، و الطبيب النفسي، و الهيئات المدنية و المنظمات الحقوقية. الكل معني بإيجاد إستراتيجية كفيلة بتجاوز هذه الظاهرة بدل انتقادها، و توجيه أصابع الاتهام إلى بعض الجهات دون أخرى. فهي نتاج لواقعنا المغربي بكل مؤسساته، غير أن القضاء يتحمل من جهته النصيب الأكبر في تكـريس ظاهـرة اكـتظاظ المؤسسات السجنية، و استفحال ظاهرة الجنوح البسيط، نتيجة الغلو في إصدار عقوبات سالبة للحرية[7]. لهذا يجب إعادة النظر في سياستنا الجنائية المعتمدة على التجريم و العقاب بشكل يجعلها تستوعب و تواكب التطورات و التغيرات التي يشهدها العالم.

إذن كيف يمكن أن تساهم السياسة الجنائية في استفحال هذه الظاهرة؟ للإجابة على هذا السؤال سيتم من خلال المطلبين الآتيين، حيث سأتناول في المطلب الأول(السياسة الجنائية و علاقتها بظاهرة الاكتظاظ)، و في المطلب الثاني( أزمة العقوبة السالبة للحرية).

المطلب الأول: السياسية الجنائية و علاقتها بظاهرة الاكتظاظ

تعتبر السياسة الجنائية إستراتيجية الدولة في مكافحة الجريمة و الوقاية منها، فهي مجموعة القرارات و التدابير[8] و الإجراءات الملموسة التي تقدم إجابة جنائية للظاهرة الإجرامية، فهي ليست تصور فكري أو خيالي[9] ، بل هي مجموعة أهداف يتوخاها المشرع من خلال التجريم و العقاب و الوقاية من الجريمة، فلتحقيق هذه الغاية ينبغي أن تواكب السياسة الجنائية المنظور الجديد و الفلسفة الحديثة للعقاب الذي أصبح الهدف منه إصلاح و تأهيل الجاني، من أجل إعادة إدماجه داخل المجتمع، فالاعتماد على مثل هذه السياسة، سيساهم من جهة في التصدي للظاهرة الإجرامية، و من جهة أخرى في تخفيض عدد نزلاء المؤسسات السجنية لوجود علاقة وثيقة بين سياسة الإجرام و العقاب و ظاهرة الاكتظاظ؛ فتتجلى علاقة ظاهرة بسياسة التجريم ( الفقرة أولى)  و الوقايـة و العقـاب ( الفقرة الثانية)  من خلال معرفة تأثير هذه السياسة على معدلات الإجرام و بالتالي ظاهرة الاكتظاظ.

الفقرة الأولى: سياسة التجريم

  • علاقة سياسة التجريم بظاهرة الإجرام و بالتالي ظاهرة الاكتظاظ[10]

تبدو هذه العلاقة واضحة إذا وضعنا في الحسبان أنه كلما اتسع نطاق التجريم اقترن ذلك بارتفاع في عدد الجرائم المرتكبة، و قد كان الاتجاه و لا يزال في كثير من المجتمعات نحو استعمال سلاح التجريم في مجالات عديدة و عدم الاكتفاء بصور الحماية القانونية الأخرى.

و يرتبط نطاق التجريم بالتنظيم السياسي و الاقتصادي و مدى تدخل الدولة في النشاط الفردي بصفة عامة. و قد لوحظ منذ منتصف القرن 19 اتجاه كثير من الدول إلى سلاح التجريم لدرجة وصلت إلى حد المبالغة و يرجع ذلك لعدة أسباب أهمها:

  •  التطورات الاقتصادية و الاجتماعية الفنية التي حدثت في السنوات الأخيرة، و ظهور قيم اجتماعية جديدة، و زيادة تدخل الدولة في مجالات الحياة المختلفة مما استدعى إصدار عدد كبير من القوانين لتنظيم هذه المجالات. و ظهرت نتيجة ذلك كله في زيادة عدد الأفعال التي يضفي عليها المشرع الجنائي الصفة غير مشروعة[11]، و تحدث البعض عن التضخم التشريعي في مجال التجريم الذي غلبت عليه الجرائم المادية البحتة.

فبعض الأفعال تستدعي اتخاذ تدابير اجتماعية لمعالجتها بدل تجريمها، مثال ذلك جريمتي التسول و التشرد( الفصول 326 إلى 333 من القانون الجنائي)، و هي جرائم تزيد من معدل الإجرام[12]، فالتطبيق العملي أظهر خطأ الإفراط في سياسة التجريم، فبدأت المطالبة بالحد من تدخل القانون الجنائي في مجالات لا شأن له بها، و فتح المجال أمام المجتمع المدني للمساهمة في مكافحة مثل هذه الظواهر، من أجل تخفيف العبء على المحاكم من كثرة القضايا، و الحد كذلك من ظاهرة اكتظاظ المؤسسات السجنية.

 إن سياسة التجريم قد تحدث اثرا عكسيا على ظاهرة الاكتظاظ مما يقتضي من المشرع التريث عند تجريم أفعال معينة أو عند رفع صفة التجريم عنها، فلا يلجئ إلى التجريم غير العادل و لا يسرف في وضع صفة الجريمة على أفعال لا يوجد مبرر لمشروعيتها، لأن ذلك يزيد من فرص ارتكاب الجرائم و ارتفاع الإجرام و بالتالي اكتظاظ عدد نزلاء المؤسسات السجنية.

  • إعادة النظر في السياسة الجنائية للحد من ظاهرة الاكتظاظ

بناءا على ما أسفرت عنه عملية تقييم السياسة التجريمية[13] المتبعة بالمغرب من ملاحظات تحد من  أهدافها و غاياتها  في رسم سياسة جنائية فعالة و ناجعة، تبقى الضرورة ملحة إلى إعادة النظر في السياسة التجريمية المتبعة لكسب تحديات المرحلة الراهنة:

  • على مستوى مسايرة السياسات التجريمية الحديثة:

إن الملاحظات السابقة تدعوا إلى إعادة النظر في السياسة التجريمية مع إمكانية استلهام حلول

ملائمة للوضع المغربي من التشريعات المقارنة و التي يلاحظ أن التشريعات الحديثة من بينها تمضي نحو:

  • هجر التقسيم الثلاثي للجرائم(جنايات، جنح، مخالفات) و الاكتفاء بالتقسيم الثنائي المتجدر في التشريعات الأنجلوسكسونية من خلال التمييز ما بين الجنايات و الجنح و حذف المخالفات من قائمة التجريم و معالجتها عن طريق الغرامات الإدارية؛
  • وضع بدائل للدعوى العمومية كالصلح و الوساطة…؛
  • فرض بعض الإجراءات كقيد على تحريك الدعوى العمومية، كضرورة اللجوء إلى مسطرة الصلح أو المنازعة في المخالفة…؛
  • حذف تجريم بعض الأفعال التي لا تعبر عن انحراف في سلوك مرتكبيها، و لكنها ترجمة لوضع اجتماعي أو إنساني( مثل التشرد و التسول…).
  • تفعيل بعض النصوص و القوانين الخاصة بالسياسة الجنائية للحد من ظاهرة الاكتظاظ[14]
  • تفعيل الإفراج المقيد ليشمل أكبر عدد من المسجونين و خاصة ذوي العقوبات الطويلة؛
  • توسيع مسطرة العفو لتشمل هي الأخرى المعتقلين ذوي المدد الطويلة؛
  • تفعيل المادة الثامنة من ظهير 74 و المادة 80 من القانون الجنائي بالنسبة لمدمني المخدرات و الذين يشكلون نسبة كبيرة جدا في السجون المغربية، و ذلك من خلال معالجتهم في مصحات نفسية متخصصة،
  • لا بد أن تتوجه السياسة الجنائية في المغرب إلى المقاربة الوقائية العلاجية بدل الاعتماد على الطابع الزجري.

الفقرة الثانية: سياسة الوقاية و العقاب

تعكس السياسة العقابية[15] موقف الدولة إزاء الظاهرة الإجرامية، فالدولة في كفاحها ضد

الجريمة يلعب دورا وقائيا و دورا عقابيا[16].

  • علاقة سياسة الوقاية و العقاب بظاهرة الاكتظاظ[17]

لا ينبغي أن تقتصر السياسة الجنائية على اختيار العقوبات الملائمة، بل إن السياسة الحكيمة تفرض الاهتمام بوسائل الوقاية من الإجرام، فالوقاية في مجال الإجرام خير من العقاب، سواء على المستوى الفردي أو على المستوى الجماعي. و لا تخفى الآثار الطيبة للوقاية من الإجرام إذا أحسن اختيار الوسائل، إذ يؤدي ذلك إلى الحد من تفاقم الإجرام و بالتالي الحد من ظاهرة الاكتظاظ.

و وسائل الوقاية من الإجرام عديدة، و هي وسائل مباشرة و غير مباشرة. فالوسائل المباشرة تشمل التدابير الاجتماعية العامة التي تتخذ لحماية الأسرة و تحسين مستوى التعليم وحل أزمة الشغل، و شغل أوقات الفراغ. و قد أطلق “ذفري” على هذه الوسائل تعبير ” التدابير العقابية”les Substitutspénauxإذ من شأنها التقليل من ارتكاب الجرائم، و بالتالي من فرص الالتجاء إلى العقاب، و يشير الفقه الحديث إلى أن السياسة الجنائية لا ينبغي أن تتحدد بقانون العقوبات و الإجراءات الجنائية أو على الإجرام، بل أن تعمل في إطار مشروع شامل و إستراتيجية عامة تشمل السياسة الاجتماعية لدولة معينة.

  أما الوسائل المباشرة، فهي تلك التي تتخذ قبل القدوم على الفعل الإجرامي، و منها تنظيم و علاج مظاهر الانحراف لدى الشباب، و الاستجابة لرغبات و حاجيات بعض المراهقين، و خلق مؤسسات متخصصة في هذا المجال.

إن سياسة العقاب قد عرفت في الآونة الأخيرة تطورا هائلا حيث تجاوزت المفهوم التقليدي الذي يقوم على الانتقام و الإيلام و الردع إلى أسلوب يأخذ بعين الاعتبار الإصلاح و التأهيل و إعادة الإدماج، حيث أصبح من واجب السياسة الجنائية أن تأخذ على عاتقها هذا الهدف، و في هذا الصدد بدأت تطرح مجموعة من التساؤلات عن مدى قسوة العقوبة و مدى أثرها في مكافحة الإجرام.

و عن حسن اختيار العقوبات المناسبة للحد من الإجرام، و بالتالي من الاكتظاظ. و عن فاعلية المؤسسة السجنية و عن مفهوم عقوبة الإعدام، إلى غير ذلك من الأسئلة المشروعة في هذا المجال.

  • علاقة السياسة الإجرائية بظاهرة الاكتظاظ     

لاشك في أن أداء أجهزة العدالة الجنائية لوظائفها في مكافحة الإجرام، يتوقف على مدى ملائمة السياسة الإجرائية[18] المتبعة في تنظيم هذه الأجهزة، و في تحديد قواعد الإجراءات الجنائية التي تحكم نشاط مختلف الأجهزة الجنائية. و أجهزة العدالة الجنائية تمثل وحدة متكاملة تتكون من أجهزة الشرطة القضائية و النيابة العامة و قضاة التحقيق و المحاكم الجنائية على اختلاف درجاتها و الأجهزة المختصة بتنفيذ العقوبات.

 فهل هذه الأجهزة في وضعها الحالي لديها من الوسائل ما يمكنها من أن تكون أداة فعالة لمكافحة الإجرام و بالتالي الحد من ظاهرة الاكتظاظ؟ 

تعاني هذه الأجهزة من مشاكل داخلية و خارجية متعددة، فقلة الإمكانيات المادية ووسائل العمل، يقابله الارتفاع المهول في عدد الجرائم و ما يترتب عنه من اضطراب في المجتمع و بالتالي اضطراب سلامة و طمأنينة الفرد، ففي الوقت الذي تطورت فيه مفاهيم الضبط الاجتماعي، و أصبح الإجرام ينظر من نواحي متعددة اجتماعية و نفسية و اضطرابات عقلية، لازالت هذه الأجهزة التقليدية في نظرتها للجريمة أي يغلب عليها الطابع القانوني الزجري العقابي. كما تعاني من التشتت و عدم التنسيق بين الأجهزة المعنية بمكافحة الإجرام، ليس فقط بين الشرطة و غيرها من أجهزة العدالة الجنائية، و لكن حتى في داخل كل جهاز منها، و يكفي مثالا لذلك أن نشير إلى تعدد الأجهزة المختصة لمكافحة المخدرات و تضارب السياسات الخاصة بكل جهاز، و هو ما أفضى إلى النتائج المعلومة للمختصين بالمكافحة. و أخيرا نشير إلى عدم كفاية الحوافز المادية المقررة للقائمين على أجهزة العدالة الجنائية.

و لا غرابة بعد ذلك في أن تظهر نتائج السياسة الجنائية الإجرائية غير الحكيمة على كيفية أداء أجهزة العدالة الجنائية لوظائفها، و هو أمر يدعو إلى القلق لما له من أثر على تفاقم الظاهرة الإجرامية في المجتمع. فالنظام الإجرائي الحالي غير فعال في مكافحة الإجرام، فعاليته في هذا المجال لا تتوقف عن الانخفاض، بل أنه في بعض الأحوال يصل إلى مرحلة العجز الكامل عن أداء دوره. و من المؤشرات ما يؤكد هذه الملاحظة، من ذلك تأخير الفصل في القضايا، و هو أمر إن كان يقبل على مضض في القضاء غير الجنائي، فإنه في القضاء الجنائي غير مقبول على الإطلاق، إذ تظل قضايا المتهمين معلقة، و يتأخر توقيع العقاب مما يفقده أثره في الردع العام. من ذلك أيضا إفلات كثير من المتهمين من العقاب، إذ يؤدي ضغط العمل إلى تصفية عدد كبير من القضايا قبل أن تصل إلى القضاء، سواء عن طريق أجهزة الأمن أو عن طريق النيابة العامة التي تلجأ إلى تقرير الحفظ لعدم الأهمية.

و من هنا يتضح دور السياسة الجنائية الإجرائية كعامل من العوامل التي تؤدي إلى زيادة عدد الجرائم، بدل أن تكون عاملا من عوامل الحد من ظاهرة الإجرام و بالتالي الحد من ظاهرة الاكتظاظ.

لذلك تبدو التوعية التي تفرض نفسها في هذا المجال، و هي ضرورة إعادة النظر في النظام الجنائي الإجرامي، لتدعيم دور أجهزة العدالة الجنائية في مكافحة الإجرام. و يشمل ذلك بصفة خاصة التأكيد على ضمانات حقوق الدفاع و حماية حقوق الإنسان في النصوص الإجرائية و تطوير الإمكانيات المتاحة لأجهزة العدالة بما في ذلك الإمكانيات المادية و البشرية، و التنسيق بين الأجهزة المختصة بمكافحة الإجرام، و تحسين الأوضاع المادية للقائمين على أجهزة العدالة الجنائية. أليست السياسة الجنائية في مجتمعاتنا المعاصرة في أزمة حقيقية إن الإجابة لا تثير غرابة إن كانت بالإيجاب.

 ج. إعادة نظرة السياسة الجنائية لمفهوم العقوبة

  • دور العقوبة في استفحال ظاهرة الاكتظاظ

أصبح من الثابت الآن أن العواقب السلبية للوضعية التي تخلفها العقوبة على المذنب تؤدي إلى تفاقم الظروف التي سبقت أن ساهمت في سلوكه الإجرامي السابق مما قد يضعف من قدرته على إعادة تكيفه مع المجتمع الحر و يخلص هذا الاتجاه إلى المناداة بضرورة استعادة السجن لدوره كمؤسسة للعقاب و لكن فقط للمجرمين الخطرين، و نبذ عقوبة الحبس القصير المدة لما لها من مساوئ أهمها[19]:

  • إنها لا تكفي لتطبيق برنامج ردعي تقويمي تهذيبي.
  • لا يترتب عليها غير آثار سلبية، تتمثل في إبعاد الجاني عن أسرته و فقده لشرفه و اعتباره، و تحطيم مستقبله أحيانا، و ذلك على الرغم من عدم جسامة الجريمة التي ارتكبها إلى الحد الذي يتناسب مع ما قد يترتب عن هذه الآثار.
  • تعريضها المحكوم عليه للاختلاط بأنماط شاذة من المجرمين الخطرين الأمر قد يكون له أكبر الأثر في حمله على الانحراف، أو تعميق فكرة الإجرام لديه. خاصة إذا افتقد الشعور بالعدالة اتجاه الحكم الصادر ضده، إذا كان متضمنا للعقوبة أكثر من اللازم، مما يترتب عليه في النهاية الحقد على المجتمع و الرغبة في الانتقام بعد الإفراج عنه، فالعدالة حاسة فطرت عليها الطبيعة الإنسانية و توجد لدى كل إنسان و لو كان مجرما.

لهذا القانون على ضوء الممارسة اليومية للمسؤولين القضائيين و هذا المفهوم يصطلح عليه بالسياسة العقابية التي تعكس إرادة مستقلة في مواجهة ظاهرة الجريمة بتركيز عميق و دراسة مستفيضة لمختلف النظريات الواردة حول العقوبة و المسؤولية الجنائية و شخصية ( المجرم) الجاني، و وظيفة العقوبة و غيرها من المتغيرات ذات العلاقة.

و هذا الأمر يتطلب بالتأكيد ترسيخ هذا المفهوم في الممارسة القضائية و إحاطة شاملة بالعناصر الفاعلة في هذا الشأن في إشارة إلى علم الإجرام، و القانون الجنائي، و المسطرة الجنائية و هي العناصر المكونة لما يصطلح عليه بالسياسة الجنائية[20].  

  • ضرورة تفعيل البدائل المجتمعية الوقائية

إن الدور الوقائي[21] أو ما يسمى بالسياسة الاجتماعية(politique sociale ) يعني أن تجاهد الدولة في سبيل إزاحة أو على الأقل تخفيف الظروف الاجتماعية المساعدة على الجريمة و قد جاءت مدرسة الدفاع الاجتماعي الجديدة و التي قادها في فرنسا (MarcAncel) لتعلن أن الدفاع الاجتماعي الجديد لا يجب أن يقف عند المطالبة بالإجراءات الوقائية اللازمة لمعالجة المجرم و لا مجرد إحياء الحركة القديمة للدفاع الاجتماعي التي اهتمت في سبيل الكفاح ضد الجريمة باتخاذ الإجراءات العامة للمحافظة على الصحة العامة، و الصراع ضد الكوارث الاجتماعية، و تحسين مستوى المعيشة، و العمل على إعداد ما يكفل ملأ الفراغ للشباب، و اتخاذ كافة ما حدده العالم ferri عندما تحدث عما أسماه ببدائل العقوبة، و بعبارة أخرى لا ينبغي أن يتعلق الدفاع الاجتماعي ضد الجريمة و الصراع فقط ضد بعض العوامل حتى و لو كان مسلما بأهميتها و سيطرتها على ظاهرة الإجرام، و إنما ينبغي أن يتعلق الدفاع الاجتماعي قبل ذلك على بناء منطقي كامل و متكامل لمكافحة الجريمة و في هذا الصدد نذكر مثلا بعض الطرق التي اتبعتها الدول الحديثة في سياستها الجنائية كما جاء في تقرير مقدم إلى المؤتمر الأوربي لمديري معاهد البحث الجنائي المنعقد في ستراسبورغ في الفترة من 19 إلى 21 نوفمبر 1968:

  1. العمل بالوسائل الوقائية للقضاء على العوامل الاجتماعية و الاقتصادية المهيأة للجريمة.
  2. 2.      إلغاء الإجراءات الجنائية بالنسبة للجرائم القائمة على فكرة النظام لا الذنب- و على الأخص بالنسبة لجرائم المرور، تجاوزت في الوقت الحالي 50% من نشاط المحاكم في الدولة الحديثة.
  3. في مجال الإجرام الفردي، يوصي بأن تحل محل العقوبة السجنية- و هي غالبا غير فعالة و مكلفة بالنسبة للمجتمع- بدائل أخرى من التدابير تقرب المجرم أكثر من مجتمعه.
  4. تدعيم العقاب بالنسبة للإجرام الجماعي.

و لاشك أن عتاب الأستاذ lolez-rey للدراسات العقابية كان في موضعه، إذ يرى أن هذه الدراسات كانت غنية فيما يتعلق بكيفية إصلاح المتهم لكنها هزيلة فيما يتعلق بكيفية الوقاية من الجريمة، إذ يكفي أن نفتح أي مؤلف من مؤلفات علم الإجرام، فلن نجد سوى صفحات قليلة في آخر المؤلف تتحدث عن وسائل الوقاية في علم الإجرام، في عموميته، و بطريقة متشابهة لدى الجميع كتحسين ظروف الحياة و الصحة و المسكن مع العلم بأن المجتمعات الحديثة حققت بدرجة تكاد تكون مثالية كل هذه الوسائل و لا تزال نسبة الإجرام فيها في تزايد. إنه من العقيم أن تعمل على انتشال شخص بعد آخر من وضعه الإجرامي دون أن نعمل بكل جهد على تغيير هذا الوضع من جذوره فالجريمة ليست سوى حركة فردية تعبر عن شبكة من العلاقات الاجتماعية و على هذه الشبكة بمختلف مكوناتها يجب أن يتجه اهتمامنا للكفاح ضد الجريمة و لعلها حكمة عامة اليوم ما أطلقه الأطباء بالأمس من الوقاية خير من العلاج.

لذلك تتميز أهمية هذا التوجه بكونه يفتح حقلا تجريديا فاعلا و محتويا لكل الممارسات التي يمكن للدولة أن تستوحي منها حلولا وقائية مناسبة، و تستثمر ما تراه ناجعا لتطوير سياستها الجنائية، و في هذا الانفتاح يتمكن المجتمع بكل مستوياته و فعالياته الرسمية و الشعبية من خلق كل الفضاءات لاستيعاب السلوكات و التوجهات المختلفة و تفريغها في الإبداعيات الرياضية و الفنية و الاختراعية.

و من نماذج هذا البعد الوقائي العمل الذي أقدمت عليه نيويورك لفائدة هواة السمر الليلي الذي أبدعت لفائدتهم أنشطة رياضية مساهمة في انخفاض جرائم الليل و قلصت حالة العود إلى الإجرام داخل هذه المدينة.

  • ضرورة تفعيل البدائل المجتمعية العلاجية

إن الاختيار الجديد في مجال السياسة العقابية يصبو إلى اعتماد الأجوبة الرسمية و القانونية على الجريمة و يضع هذا التوجه على عاتق المواطنين في إطار الإخاء و التضامن مسؤولية التفكير و المساهمة في إيجاد حلول للمشاكل التي نتجت عنها الجريمة و تلك التي تولدت عنها، فدور المجتمع في هذا المنظور الذي نشاطره دور مزدوج[22]. فمن جهة، انطلاقا من فعل معين، ينبغي أخذ جميع الاحتياطات لعدم تكرار هذا الفعل، و هذا دور وقائي بالأساس. و من جهة أخرى دور ينصب على إيجاد الحل الملائم للمشاكل التي أدى إليها الفعل الجرمي حتى لا يقع اللجوء إلى المؤسسات العقابية الجنائية. و هو دور تجنيب، أي بالدور الذي على المجتمع أن يلعبه بعد ارتكاب الفعل الجرمي تلافيا لتدخل الأجهزة الرسمية فهناك عدة بدائل يمكن العثور عليها في المؤسسات التي عرفتها و تعرفها الدول العربية حاليا كما يمكن الإحالة بشأنها إلى عدة تجارب تجرى في الولايات المتحدة الأمريكية، و نظرا لجدوى هذه التجارب و لكون العديد منها قد عرفته المجتمعات العربية فإننا سنشير إليها و لو بصفة عابرة.

و هذه التجارب تعتمد في معظمها على إيجاد إمكانية التصالح بين مرتكب الفعل و الضحية، و منها مراكز التقاضي بين الجيران seighbeur heed justice centresالتي ظهرت في مدن أطلنطا و  تكساس و لوس انجلس أو مراكز تسوية النزاعات البسيطة التي أنشئت في عدة مدن أمريكية سنة 1980، كما ينبغي الإشارة إلى أنه في ولاية نيويورك أجرى العالم فيراVera المشهور بعملياته لصالح الأحداث و المجرمين المبتدئين … بتنسيق مع محكمة بروكلين الجنائية اتفاقية بمقتضاها عدم متابعة الجاني إذا تم تصالح بينه و بين المتضرر و تمنح المحكمة في هذا الشأن للمؤسسة مهلة زمنية توقف اثناءها عملية المتابعة الجنائية.

و هناك أيضا تجربة هامة تسمى ” تجربة المؤسسات العقابية المستقلة” في كل من الولايات المتحدة الأمريكية و كندا، و يصبح دورها البعد التوفيقي و ليس التحكمي، فأطرها لا يتدخلون بين المجرم و الضحية، إنما يعملون على إيجاد الفضاءات المناسبة للتفاهم و التصالح وفق الشروط و المواصفات التي يحددها الطرفان المعنيان، و في حالة عدم التوصل إلى الصلح يرفع الأمر إلى القضاء. و من إيجابيات هذه التجارب الإسهام في الحد من تراكم القضايا على القضاء، و بالتالي الحد من ظاهرة الاكتظاظ في السجون، و قد وجدت هذه التجربة صدى طيبا و اقتداءا عمليا بجل أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية و كندا و بريطانيا، أما في المغرب فإن قانون 23/98 المتعلق بتنظيم و تسيير المؤسسات السجنية و الذي يعتبر المرجع القانوني و التنظيمي للسجون بالمغرب اعتمد فلسفة لا تتوخى فقط مواكبة التجارب الدولية و الانسجام مع ما تعرفه بلادنا من تحولات تسير في سياق تكريس دولة الحق و القانون[23] و إنما تعتبر بأن الحد من الإجرام و العود للجريمة غير ممكن إلا بتبني منظور حداثي لمفهوم العقوبة بشكل يضمن أنسنتها، من خلال تبني برامج تأهيلية و علاجية تتوخى إحداث تعديل في السلوك و تغيير في شخصية الجناة و المدنيين من خلال تغيير اتجاهاتهم نحو شخصياتهم و نحو المجتمع و القيم السائدة فيه، و ذلك بتنمية السلوك المقبول اجتماعيا لديهم.

و على العموم الفلسفة العقابية لهذا القانون تتبنى سياسة إصلاحية تقويمية علاجية أصبحت تتبلور بشكل لم يسبق له مثيل، ذلك أن فلسفة هذا القانون تعترف بصراحة بأن السجناء مازالوا أعضاء في المجتمع، و السماح لهم بالاحتفاظ بمعظم الحقوق التي يتمتع بها المواطنون الأحرار و ضمان حقوق خاصة لهم هي التعبير عن النظرة الإنسانية الأساسية عن التضامن الاجتماعي، و لما كان هذا النهج يدافع عن كرامة الإنسان فإنه يساعد في منع الجريمة و تحسين الأمن العام، أن الخلاصات التي يمكن أن نستنتجها من البدائل المجتمعية العلاجية هو محاصرة تطبيق العقوبات القصيرة المدة، و هذا الأمر يتطلب إرادة سياسية قوية ترسخ فعلا المشاركة لكل المواطنين في صياغة التنمية و لن يتأتى هذا الأمر إلا بتوفر العنصر البشري الذي أهلته التربية على الأخلاق، و التربية على المواطنة، و حقوق الإنسان، و التربية على التنمية إلى مستوى الانخراط الكلي بتطوعية، و نكران الذات لمعالجة صعوبات بني جلدته، فهم جزء أساسي من كيانه، و تحصينهم من إيلام المؤسسة السجنية هو تحصين المجتمع من الانحراف، و قد يكون هو البديل الأنسب في مجتمع يدرك أناسه أن الإجرام و الأمن و التنمية خاصيتهم الحياتية الرئيسية.

المطلب الثاني: علاقة ظاهرة الاكتظاظ بمدة العقوبة الحبسية

إن طبيعة مدة العقوبة الحبسية لها تأثير مباشر على ظاهرة ارتفاع ساكنة السجون المغربية و للوقوف عند هذه الفرضية بالدراسة و التشخيص و التحليل ارتأيت أن أقف عند نقطتين أساسيتين لهن حضور قوي و مباشر في تشكيل هذه الظاهرة إن لم نقل في الارتفاع المهول بالنسبة لساكنة السجون.

و تتعلق النقطة الأولى بالعقوبات الحبسية القصيرة المدة أما النقطة الثانية فتتعلق بالعقوبات الطويلة الأمد و قبل أن أبسط كل نقطة على حدة هناك ملاحظة يمكن للقارئ أن يلاحظها منذ الوهلة الأولى و هي عبارة عن سؤال منطقي مفاده إلى أي حد يمكن أن تؤدي العقوبة الحبسية إلى ارتفاع ساكنة السجون.

اعتقد أن هذا السؤال كان و مازال يشغل بال المختصين و المهتمين بهذه الظاهرة و في هذا المطلب سأحاول الإجابة عليه.

و قبل أن أبدأ في عرض و تحليل هاتين النقطتين لابد من تقديم تشخيص إحصائي للعلاقة القائمة بين ظاهرة الاكتظاظ وطبيعة مدة العقوبة الحبسية.

و فيما يلي جدول[24] يبين تصنيف السجناء حسب مدة العقوبة- غشت 2015

مدة العقوبةالغير محكومون6 أشهر فأقلأكثر من 6 أشهر إلى سنةأكثر من سنة إلى سنتينأكثر من سنتين إلى 5 سنواتأكثر من 5 إلى 10 سنواتأكثر من 10 إلى 30 سنةالمؤبدالإعدامالمجموع
عدد السجناء1251085331442514177139396493587372611876794

يلاحظ من خلال التوزيع الوارد في الجدول أعلاه، التأثير المباشر للعقوبة الحبسية القصيرة و الطويلة الأمد على السواء في ارتفاع ساكنة السجون فمن مجموع 76794 مجموع العقوبات الحبسية يصل عدد العقوبات الحبسية القصيرة الأمد 37135 أي بنسبة 48.35% من هذا المجموع في حين أن عدد العقوبات الحبسية الطويلة الأمد يصل إلى 6681 أي بنسبة 8,75% من مجموع العقوبات الحبسية.

و فيما يلي جدول يوضح هذه المعطيات الإحصائية و يبين بوضوح هذه الأرقام الدالة:

    طبيعة مدة العقوبة الحبسيةالعقوبة الحبسية القصيرةالعقوبة الحبسية الطويلة الأمد    مجموع السجناء المحكومين 76794
6 أشهر فأقلأكثر من 6 أشهر إلى سنةأكثر من سنة إلى سنتينأكثر من 10 سنوات إلى 30 سنةالمؤبدالإعدام
عددنسبةعددنسبةعددنسبةعددنسبةعددنسبةعددنسبة
853311,11%1442518,78%1417718,46%58737,65%7260,95%1180,15%
مجموع مدد العقوبات الحبسية القصيرة الأمد 37135 أي نسبة 48.35%مجموع المدد الطويلة 6681 أي نسبة 8.75%

أهم ما نستنتجه من هذا الجدول هو النسبة الهائلة التي تشكلها العقوبة الحبسية القصيرة المدة في ارتفاع عدد نزلاء المؤسسات السجنية و بالتالي مساهمتها المباشرة في ظاهرة الاكتظاظ و هذا ما يتطلب التدخل السريع للتعامل مع هذه العقوبة للتخفيف من هذه الظاهرة من خلال سياسة هادفة و ناجعة تحافظ من جهة على أمن المجتمع و من جهة ثانية تقلل من حدة المشاكل التي يثيرها هذا النوع من العقوبات و هذا ما سنحاول التعرف عليه في الفقرة الأولى.

الفقرة الأولى: العقوبات القصيرة المدة و علاقتها بظاهرة اكتظاظ المؤسسات السجنية.

هناك ثلاثة أراء في تحديد مدة العقوبة الحبسية القصيرة المدة[25] بناءا على أساس المعيار الزمني.

  •  الرأي الأول يحددها في أقل من ثلاثة أشهر؛
  • –                        الرأي الثاني يحددها في أقل من ستة أشهر؛
  • –                        الرأي الثالث يحددها في أقل من سنة.

و هذا الرأي الأخير هو الذي يرجحه أغلب الباحثين في علم العقاب، لأن مدة سنة[26] هي الحد الأدنى الكافي لتنفيذ برامج التهذيب و إصلاح المحكوم عليه.

  • أنها المدة الكافية لتحقيق الردع العام.
  • أنها المدة الكافية التي تحقق التناسب كي يشعر المجرم بالألم و الزجر.
  • –                        ذهب المشرع الفرنسي إلى اعتبارها الحد الأدنى للنزول بعقوبة الجنايات في وجود ظروف مخففة تخفف من عقوبة السجن.

الاتجاه الثاني: يرى أن الحبس قصير المدة يحدد على أساس مدى كفاية المدة الزمنية التي يستغرقها الحبس في تحقيق أغراضه و خاصة الغرض المتعلق بالإصلاح و إعادة التأهيل الذي يضمن عدم عودة السجين إلى الإجرام، و بناءا عليه ماهو مفهوم العقوبة الحبسية قصيرة المدة؟

  1. مفهوم العقوبة الحبسية قصيرة المدة [27]

قد يصعب من الناحية العلمية تحديد مفهوم العقوبة الحبسية قصيرة المدة بناء على سقف زمني محدد يشكل حدها الأقصى فقد لا يعتبر هذا التحديد من باب التحكم الذي يختلف مع غايات و أهداف العلم و يبدو أن الأسلوب الأفضل لتحديد هذه العقوبة هو الذي يبحث في مدة صلاحيتها للاستثمار من الناحية الزمنية و إلى هدفها الرامي إلى الإصلاح و التأهيل كأحد الأغراض الأساسية للعقوبة الحبسية القصيرة المدة و عليه فهي عقوبات أثارت و تثير عدة مشاكل على المستويين العلمي و العملي[28] .

فقد تبين بأن عامل الزمن لا يمكن الاعتداد به في تحديد مدة العقوبة إذا تم التعامل معها بناءا على مبدأ تفريد العقاب، حيث أن المدة التي تكفي لإصلاح و تأهيل شخص قد لا تكفي لشخص أخر و عليه يبدو من الصعب تحديد سقف زمني يميز بين العقوبات قصيرة المدة و التي هي أطول منها لكن من الوجهة العلمية قد اتجهت الاجتهادات إلى الاعتداد بالحجم الزمني لهذه العقوبة ليكون بمثابة معيار للبحث العلمي.

و قد جاءت وجهات النظر العلمية و التشريعية مختلفة من حيث تحديد المدة المطلوبة لإصلاح الجانح فحددها فيما هو أقل من ثلاثة أشهر و حددها آخرون في ستة أشهر، و هناك رأي ثالث حددها البعض في سنة و تتأرجح الاتجاهات العلمية في هذا الصدد بين الأخذ بالرأي الثاني و الرأي الثالث الذي أخذ به بيير كانتpierrecannatإلا أن التحديد الدقيق لحجم العقوبة الحبسية القصيرة المدة يجب أن يرتكز على عدة معطيات علمية تتعلق بشخصية الجانح انطلاقا من قاعدة المعطيات الخاصة به و الراصدة لكل خلفياته الشخصية و البيئية و التاريخية و طموحاته و آماله ليتم العمل على صياغة مخطط للإجابة على التدبير المناسب و ما يحتاجه من مدة.

و يبدوا أن هذا التحديد لا يمكن أن يتحقق إلا إذا تم النص على وجوب اعتماد الخبرة النفسية و الاجتماعية الخاصة بالجانح و الخفايا ذات الطابع الجرمي تم إخراج القانون الجنائي الخاص من وضعه التقليدي المحاصر بين الحد الأدنى و الحد الأقصى للعقوبة و ذلك ببديل يتيح للقاضي الجنائي الذي يجب أن يكون متخصصا كل الاختيارات التي تمكنه من إدراك أن الجزاء الحبسي.

و مهما يكن المعيار المعتمد عليه وجيها إلا أن الضابط الأساسي هو سواء حددنا الحبس قصير المدة بمدة سنة أو بمدى تحقيق برنامج التأهيل لغرض الإصلاح فإن المهم هنا هو أنه في الحالة التي تكون فيها عقوبة الحبس قصير المدة غير كافية توجب تركها و استبدالها بعقوبة أخرى غير الحبس. هذا البديل الذي تطرحه السياسة الجنائية المعاصرة قد لا يجد له مكانا في التشريعات التي لم تعط بعد للقاضي سلطة في إعمال البدائل.

هذا و تشير الإحصائيات الدولية و الوطنية و كذا كثير من الدراسات في مجال عقوبة الحبس قصير المدة إلى أن هذه العقوبة تأخذ الحيز الأكبر في أحكام المحاكم، فقد ورد في تقرير سكرتيرية الأمم المتحدة بمؤتمر لندن لمكافحة الجريمة و معاملة المذنبين( سنة 1960) أن نسبة الأحكام الصادرة بالحبس قصير المدة ( أقل من سنة) من مجموع الأحكام الصادرة بالحبس كانت كالأتي:

  •  بلجيكا: 80%اسبانيا:  50% يوغسلافيا: 80% ايطاليا:  60% سويسرا: 85% السويد: 85% ألمانيا: 71% فرنسا: 75% مصر: 87%.[29]
  • الصعوبات و الآثار السلبية التي تثيرها العقوبة الحبسية قصيرة المدة

تعتبر المدة الزمنية للعقوبة الحبسية غير كافية في تحقيق تأهيل فعلي للمدان من أجلها و بالتالي يطرح السؤال حول القيمة العقابية للحبس قصير المدة أحد الأسئلة الجوهرية التي تطرح اليوم على طاولة السياسة الجنائية، فقد اختلفت الآراء حوله و ما إذا كان من الأصلح البحت عن بدائل له أم الأصلح هو الإبقاء عليه، و قد انقسم الفقه إلى فريقين:

  • الاتجاه المنادي باستبدال عقوبة الحبس قصير المدة:

هذا الاتجاه ينطلق من المشكلات التي تثيرها هذه العقوبة و هي:

  • على المستوى الفردي : الوصمة السيئة التي تتركها هذه العقوبة في المحكوم عليه[30] من النواحي النفسية و البيولوجية و ما يترتب عن ذلك من عدم تلبية الاحتياجات النفسية أو العضوية، مما يولد شعورا داخليا لديه[31] بالإحباط و المهانة نتيجة فقد هيبته أمام عائلته و أصدقائه و وسطه، إذ لاشك أن الفجوة الواسعة بين نمط الحياة داخل السجن و قبل الدخول إليه يشكل عائقا يحول بينه و بين الإدماج، الأمر الذي قد يسبب الاكتئاب و الاغتراب النفسي و الاجتماعي فتأسره مما يجعله فريسة سهلة للجريمة، إضافة إلى أن العقوبة تفقده في الغالب عمله فيتعذر عليه العودة إليه أو إيجاد عمل آخر.
  • هذا و قداتبثت الدراسات حول الآثار السلبية التي تصيب المحكوم عليه داخل السجن بالولايات المتحدة الأمريكية إلى أن 76% من أفراد العينة كانوا يعانون من شعور باليأس و الحزن. و أن41% لديهم شعور بالفشل. و 14% سيطر عليهم شعور بكراهية الذات و 17% سيطر عليهم شعور بخيبة الأمل.

كما يقع على عاتق المحكوم عليه، عبئ التأقلم خلال فترة قصيرة مع التقاليد السائدة داخل السجن، و كذلك التكييف مع ما ينشأ في هذا المجتمع الجديد من ثقافات فرعية و التي غالبا ما تتسم بفساد قيمها و معاييرها.

و يشكل الحرمان من ممارسة السلوك الجنسي الطبيعي، أحد المشاكل الهامة التي يعاني منها المحكوم عليه الأمر الذي يجعله معرضا لأمراض نفسية، أو يؤدي به إلى الوقوع في علاقات جنسية شاذة، بالإضافة إلى انتشار العديد من الأمراض مثل الإيدز و الالتهاب الفيروسي الكبدي، فمثلا نسبة الإيدز في السجون الفيدرالية الأمريكية 2.1%  من مجموع السجناء.

كما تتأثر الأسرة بدورها، خاصة إذا كان المحكوم عليه هو عائل الأسرة أو ربة بيت، و ما يتركه من آثار للأطفال نفسيا و اجتماعيا.[32]

  • على المستوى الاجتماعي: تظهر حين يكون المحكوم عليه رب عائلة، فتنعكس الآثار سلبا على أسرته بسبب فقدها لمعيلها، و التي قد تضطرها الحاجة إلى النزول إلى سوق العمل و القبول في ظروف غير إنسانية قد تؤدي بهم بالسقوط في هاوية الجريمة، كما أنها في الغالب _ عقوبة الحبس_ لا تنحصر آثارها على فترة التنفيذ فقط، بل تمتد إلى ما بعد الإفراج، حيث تصبح النظرة[33]  إلى المحكوم عليه نظرة سخط و اشمئزاز، و العقوبة تكاد تكون وصمة عار لا تفارق المحكوم عليه طوال حياته مما يعيق مستقبله و بالتالي إعادة إدماجه في المجتمع.

 فهذه التبعات التي تلازم المفرج عنه في المجتمع يزيد من عبئها، ذكر العقوبة في الصحيفة العدلية- نسخة السوابق القضائية- التي تكون للشخص مجبرا على تقديمها للإدارة أو المؤسسة التي تعتزم توظفه وهذا
أبرز عائق على إمكانية استعادة مكانته في المجتمع، إذ من الصعب عليه أن يسترجع اعتباره الاجتماعي إذا لم يبد المجتمع في حقه نوعا من الصفح. ذلك أن مساعدة المجتمع و تسامحه مع المفرج عنه تكتسي أهمية بالغة في حياته الاجتماعية و هكذا يجب على المجتمع أن يقدر مدى قساوة العقوبة التي نالها من جراء اقترف جريمته، و أن هذه العقوبة تنطوي في حد ذاتها على سخط المجتمع عليه و لومه له، و لا حاجة لإضافة اللوم و التوبيخ بالتأكيد على ذلك بعد انتهاء عقوبته. ونحن نشاطر هذا الرأي، فقد آن الأوان لمواساة المفرج عنه بدلا من احتقاره و تذكيره بخطئه. و هو واجب بنبغي على الدولة و المجتمع المدني أن يكرساه بكل ما يملكانه من وسائل. ” إذ يتوقف نجاح عملية إعادة الإدماج على درجة الوئام و التضامن اللذين يتوفر عليهما المجتمع و على عادات المشاركة الفعالة للمواطنين في العمل الاجتماعي”[34] . كما تصيب عائلة المحكوم عليه بوصمة العار مما يؤدي إلى تصدع الأسرة و تفككها.

  • على المستوى الاقتصادي: تزايد استعمال هذه العقوبة يؤدي إلى ازدحام السجون ما يستدعي نفقات على عاتق الدولة، مما يؤدي إلى عرقلة مسيرة التنمية بالنسبة للدول الفقيرة.

هذا إضافة إلى فقدان المحبوسين لأجورهم، كما أن ازدحام الحبس من شأنه أن يعيق حتى برامج التأهيل فيصبح الحبس مرتعا للجريمة.

و إضافة إلى هذه الاعتبارات يقدم القائلون بإلغاء عقوبة الحبس أسانيد ذات وزن و ذات اعتبارات متداخلة أهمها:

  • إن الردع العام لا يتحقق بالحبس قصير المدة و ذلك لأن قصر المدة يؤدي إلى استهانة الرأي العام بها فهي لا تؤثر  إلا في المجرم المبتدئ و هي في نظر المجرم الخطير أو معتاد الإجرام أشبه بالبراءة.
  • –      إن هذه العقوبة تفقد المحكوم عليه تدريجيا رهبة السجن خصوصا عند تكررها و بالتالي تكون استجابته قليلة إذا حكم عليه بعقوبة طويلة المدة فيما بعد، يضاف إلى ذلك الآثار السلبية الاقتصادية الأخرى، و المتمثلة في حرمان الدولة من طاقات انتاجية كان من الممكن أن يكون لها دور كبير في دعم الاقتصاد الوطني، و تشير الدارسات الصادرة [35] عن مديرية الأمن العام في الأردن عام 2007 إلى أن صافي تكلفة النزيل الواحد في مراكز الإصلاح و التأهيل تبلغ ( 182.958) دينارا يوميا، و قد بلغت تكلفة النزلاء خلال عام 2007 ما يقارب 17.556.000 دينار.
  • على المستوى التنظيمي: يعد الحبس قصير المدة من أكثر العقوبات التي تطبق في مختلف الدول، فتشير الإحصاءات المقدمة إلى مؤتمر لندن سنة 1960 إلى أن نسبة الإدانة بعقوبة الحبس لمدة تقل عن ستة أشهر قد بلغت 80% في بلجيكا، و 84% في الهند، 85% في سويسرا، 90% في جنوب افريقيا، 78 .4% في الأردن. و النتيجة المترتبة على هذه النسبة المرتفعة لهذه العقوبة هي أثار سلبية تتمثل في أمرين:
  • الأمر الأول: تكدس السجون ( الاكتظاظ) إن من أهم الآثار المترتبة على العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة، زيادة أعداد المحكومين، و هذا يؤدي إلى ازدحام السجون بأعداد كبيرة تفوق طاقتها الاستيعابية، مع ما يترتب على ذلك من ازدياد في الإصابة بالأمراض، و لاسيما الجلدية و الجنسية منها، فلقد ذكر ( نورفال موريس) الأستاذ بجامعة شيكاغو، في محاضرة ألقاها في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر السجون عام 2000، و الذي عقد في جامعة لستر بانجلترا( إن المشكلة الجنسية أصبحت واضحة في سجون العالم المتقدم و بالذات بريطانيا، و إن من أهم أسبابها ازدحام السجون، إذ أن ظروف النوم داخل المكان المزدحم، و التلاصق و الاحتكاك بين النزلاء يجعلهم يعيشون في بيئة ساخنة تؤجج غريزتهم الجنسية مما يدفعهم إلى ممارسة الجنسية المثلية).

كما أن ازدحام السجون، و ما يترتب عليه من أثار سيئة على صحة السجين العضوية و النفسية، يزيد من مقدار الإيلام الذي تنطوي عليه العقوبة، و لو قصرت مدتها، و هذا ما يتنافى مع السياسة العقابية الحديثة، و يتعارض مع ما تضمنته قواعد الحد الأدنى لمعاملة السجونين، من أن سلب الحرية هو بذاته سبب للألم، فلا يجوز أن يزداد هذا الألم من جراء تطبيق نظام السجن، إلا في حدود ما يفرضه النظام أو تفرضه ضرورة العزل( المادة 57 من قواعد الحد الأدنى لمعاملة المسجونين سنة 1951).

و لاشك أن الاكتظاظ، و ما يترتب عليه من أثار سيئة ينقص من حق النزيل في أن يعيش في بيئة نظيفة، لا يتعرض فيها للضرر، و هو ما يتناقض مع المبدأ رقم ( 3) من مجموعة المبادئ المتعلقة بحماية جميع الأشخاص الذين يتعرضون لأي شكل من أشكال الاحتجاز أو السجن، التي اعتمدت بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 43/173 بتاريخ 9 ديسمبر 1988.

الأمر الثاني: الإصلاح و التأهيل: إن قصر مدة العقوبة السالبة للحرية لا يسمح بتنفيذ برامج الإصلاح و التقويم الخاصة بالمحكوم عليه، و هذا يؤدي في النهاية إلى عدم تطبيق الردع الخاص، المتمثل في إصلاح الجاني، و منعه من سلوك الجريمة مرة أخرى، و يتناقض تماما مع ما ورد في المادة ( 10/3) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية التي نصت على أنه: ” يجب أن يراعى نظام السجون معاملة المسجونين معاملة يكون هدفها الأساسي إصلاحهم، و إعادة تأهيلهم الاجتماعي.

  • الاتجاه الثاني من الفقه يرى أن الإشكاليات التي يقدمها المنادون بالإلغاء ليست كافية لإلغاء  هذه العقوبة أو استبدالها نهائيا فتمة حالات لا يمكن الاستغناء فيها عن عقوبة الحبس قصير المدة أهمها حالة المجرم بالصدفة و الذي لا ينبئ إجرامه عن خطورة إجرامية و إنما عن تهور  و سوء تقدير للعواقب و استهتار بحقوق الغير فهذا يحتاج إلى صدمة أو إنذار  ينبهه إلى تهوره لا إلى برنامج إصلاح، هذه الصدمة أو هذا الإنذار لا يتطلب مدة طويلة ليؤتي ثمرته و هذا ما يحققه الحبس قصير المدة غالبا، كذلك فإن الحبس قصير المدة قد يكون ضرورة تمليها اعتبارات الردع العام و العدالة كما الشأن في جرائم حوادث المرور التي تتسبب في وفاة عدد من الضحايا فهذا النوع من الجرائم قد يتسبب في أضرار بالغة بالرغم من أنها لا تكشف عن خطورة إجرامية لدى المجرم.

لكن الاكتفاء فيها بالغرامة أو إحدى البدائل الأخرى غير الحبس ينطوي على انتهاك جسيم لقيم العدالة و الردع العام فضلا عما يحدثه هذا التساهل من أثر سلبي على الرأي العام يتمثل في عدم ثقته بالقضاء و ربما يشجع على تقليد الجاني .و لذلك يرى هذا الاتجاه أن هذه العقوبة أصلا ليست مقررة كبرنامج تأهيل و إنما ينحصر دورها في الإنذار فقط و حتى و إن كان من أغراضها الإصلاح و التأهيل فإن تعميم الحكم عليها يفتقر إلى الدقة و الموضوعية فهي و إن لم تنجح مع جميع المحكوم عليهم فإنها الأنجع في مواجهة المجرمين بالصدفة.[36]

كما أن مسألة اختلاط المجرمين و كون أن الحبس يتحول إلى بيئة لإنتاج الإجرام فإنها أيضا تفتقر للموضوعية ذلك أن الحل في تطوير المؤسسة العقابية و اعتماد نظام تصنيف و فصل المجرمين بشكل يتيح لهم الاستفادة من برنامج التأهيل. 

كل هذه المشاكل و الصعوبات من جراء عقوبة حبسية قصيرة المدة جاءت كرد فعل على سلوك لم يخلق في الغالب أي اضطراب اجتماعي و قد يكون تم التصالح فيه مع الضحية و بهذا يبدو أن البحث في مجال العقوبات الحبسية القصيرة المدة بهدف إيجاد البدائل التي من شأنها إعطاء المصداقية لغاية المشرع من السياسة الجنائية و هذا يبدو  من الأمور الملحة داخل واقع دولي و وطني تأكد فيه بشكل علمي عدم مردودية هذا الصنف من العقوبات الحبسية قصيرة المدة التي تشكل أكثر من النصف من مجموع المحكومين  يفرض التدخل العاجل لإيجاد بدائل لهذه العقوبات للتخفيف من الاكتظاظ التي تعرفه بعض المؤسسات السجنية بالمغرب.

  • الآليات المناسبة لتجاوز مشكل العقوبات الحبسية قصيرة المدة للحد من ظاهرة الاكتظاظ 

هناك العديد من التدابير الممكن تفعيلها كبديل عن العقوبة الحبسية قصيرة المدة بحيث يمكن أن تساهم بشكل كبير في التقليص من عدد المعتقلين كما يمكنها أيضا أن تكون بمثابة آلية لاندماج فعال و مباشر و عقد اجتماعي يفسح المجال لتوسيع دائرة المشاركة في تنفيذ العقوبة عبر انخراط المجتمع بمختلف فعالياته من مصالح عمومية و جمعيات و مؤسسات خصوصية ذات صلة بالموضوع قد سبقت الإشارة إلى أن نسبة لا بأس بها من المحكومين مدانون بعقوبات سالبة للحرية قصيرة الأمد و هي عقوبة بالإضافة إلى إنها لا تكفي لإصلاح الجاني و استفادته من البرامج التربوية التأهيلية فإنها تؤدي إلى الاحتكاك بالوسط السجني، و الاختلاط بمن  اعتادوا العيش في هذا الوسط مع ما يتيح ذلك من اكتساب سلوكيات انحرافية أكثر خطورة فضلا عن أنها تؤدي إلى تفكيك الروابط المهنية و الأسرية للسجين و تمس بمروءته و من تمة فإن اعتماد بدائل لهذه العقوبة على غرار ما هو معتمد في السياسات العقابية  للعديد من الدول من شأنه أن يساعد الجاني على تقويم سلوكه باعتباره الركيزة الأساسية لكل إصلاح و على تمكينه من فرصة مراجعة الذات و المصالحة مع المجتمع و من بين هذه البدائل يمكن طرح ما يلي:

  • التوبيخ إذا تعلق الأمر بسلوك انحرافي لم يبلغ حد الإجرام إذا ارتأى القاضي أن فيه إصلاح للجاني مع الإشارة إلى أنه في حالة العود خلال مدة معينة فإن المعني بالأمر ينفذ عقوبة سالبة للحرية.
  • الإعلان عن ارتكاب الجريمة و التشهير بالمجرم لجعل كافة الناس على علم بفعل المتهم و تحسيسه بالندم.
  • تفعيل المقتضيات القانونية المتعلقة بتوقيف العقوبة الحبسية خاصة بالنسبة لعديمي السوابق مع الأمر بتنفيذها في حالة ارتكاب جريمة جديدة داخل الآجال القانونية وفق مسطرة سريعة و فعالة.
  • v                  تفعيل الغرامة كعقوبة مالية و بديلة في معظم الجنح مع تحديد قيمتها بحسب درجة الفعل المرتكب اعتمادا على مداخيل الجانح.
  • أعمال و تفعيل المقتضيات المتعلقة بالإبعاد إذا كان المتهم يشكل خطورة على الجماعة التي ينتمي إليها أو المنع من المكوث بالتراب الوطني نهائيا أو مؤقتا بالنسبة للأجانب.
  • إيقاف تنفيذ العقوبة و إقرانها بالقيام بخدمة لصالح المنفعة العامة بدون مقابل لفائدة شخص معنوي أو جمعية ذات نفع عام.
  • v                  القيام بعمل لصالح المتضرر لجبر الضرر الذي لحقه.
  • إخضاع الجاني للمراقبة باعتماد الحراسة الالكترونية فالقيد الالكتروني هو عقوبة سالبة للحرية من نوع خاص و هو سجن المحكوم عليه خارج أسوار السجن كإبقائه في محل سكناه طيلة مدة معينة و منعه من الخروج لأي سبب كان.
  • إيقاف النطق بالحكم و هو تدبير يمكن قاضي الموضوع بعد ثبوت الإدانة من عدم النطق بالحكم و الاقتصار على توجيه إنذار علني للجانح مع إثارة انتباهه إلى أن ارتكابه لفعل أخر خلال مدة الاختبار القضائي سيؤدي إلى معاقبته من أجل الفعلين.
  • v                  إيقاف النطق بالحكم بشروط يختلف هذا التدبير عن سابقه لكونه يضع بعض الشروط التي يتعين على الجانح الالتزام بها خلال فترة الاختبار إضافة إلى عدم ارتكاب فعل أخر.
  • إيقاف تنفيذ الحكم بشروط: و هو نفس التدبير المنصوص عليه في الفصل 55 من القانون الجنائي مع وضع قيود إضافية من شأنها أن تقوم سلوك الجانح خلال مدة الاختبار مع اشتراط اعتراف الجانح بارتكابه للفعل و موافقته على الإجراء المتخذ.
  • الحبس في نهاية الأسبوع أو الحبس الدوري عوض قضاء مدة العقوبة السالبة للحرية دفعة واحدة حفاظا على أواصر الأسرة و على وظيفة المعني بالأمر.
  • تطبيق نظام نصف الاعتقال كقضاء ساعات العمل خارج المؤسسة و الباقي بالمؤسسة.
  • v                  تطبيق نظام الاعتقال في محل السكنى خاصة بالنسبة للجناة المرضى و الذين يكلفون ميزانية إضافية ليس إلا، اقتداء بالقانون المقارن خاصة القانون الفرنسي الذي أقدم على سن قانون جديد بتاريخ 04/02/2002 يتعلق بحقوق المرضى و تضمين المسطرة الجنائية الفرنسي مقتضى إيقاف تنفيذ العقوبات الصادرة بشأنهم لأسباب صحية.
  • اعمال مبدأ التفريد على مستوى تنفيذ العقوبة السالبة للحرية يشكل أهمية قصوى حيث أن هناك العديد من الإجراءات التي يمكن من خلال تفعيلها التقليص من هذه العقوبات و بالتالي إتاحة إمكانية إذكاء الأمل في نفوس المحكومين بهذه العقوبات لمعانقة الحرية من جديد و إتاحة فرص أكبر لاندماجهم بشكل سليم ضمن النسيج الاجتماعي و يمكن في هذا الصدد الأخذ بتدبير التخفيض التلقائي للعقوبة السالبة للحرية الذي يتيح إمكانية استفادة كل معتقل محكوم عليه أبان عن حسن سلوكه من تخفيض قدر يصل إلى ثلاثة أشهر كحد أقصى عن كل سنة اعتقال أو تخفيض سبعة أيام في الشهر إذا كان محكوما عليه بعقوبة تقل عن سنة، و يصدر إما عن شكل حصص سنوية إذا كانت مدة الاعتقال تزيد عن سنة و هو بذلك لا يشكل وسيلة للتقليل من عدد المعتقلين و من مدة الاعتقال و معالجة الاكتظاظ فحسب و إنما عامل أساسي في نشر السكينة و الاطمئنان و يضفي مدلولا حقيقيا على مسار تنفيذ العقوبة السالبة للحرية.  

الفقرة الثانية: العقوبات الطويلة الأمد و علاقتها بظاهرة اكتظاظ السجون المغربية. 

نص الفصل 9 من قانون 23/98 الذي ينظم تسيير المؤسسات السجنية على أنه تخصص مؤسسات مركزية للمدانين بعقوبات طويلة الأمد و رغم أن المشرع لم يحدد مدة العقوبة الطويلة الأمد فإن بعض الباحثين اعتبروا أن 10 سنوات فما فوق بمثابة عقوبة سالبة للحرية طويلة الأمد فطبيعي أن تتوفر السجون المركزية المخصصة للمدانين بعقوبات طويلة المدة على “تنظيم إداري و نظام أمني داخلي يهدفان إلى تأمين و تطوير سبل إعادة الإدماج المدانين داخل المجتمع” .[37]

فمن خلال مضامين المادتين السالفتين نستنتج أن المشرع المغربي مدرك للصعوبات التي تواجهها هذه الفئة من النزلاء و كذا حاجتها إلى نظام خاص بها يتوفر على برامج متنوعة تربوية تعليمية تكوينية و ترفيهية و صحية و تواصلية و غيرها حتى يمكن الحفاظ على مقدراتهم من خلال التعرف عليها و بالتالي تنمية شخصياتهم بإزالة الأسباب الدافعة إلى انحرافهم كل حسب ظروفه و إمكانياته الذاتية و النفسية و العقلية و لابد أن نشير إلى مبدأ أساسي أكد عليه المشرع لمعاملة هذه الفئة من النزلاء و هو “عزلهم عن بعضهم ليلا و جمعهم نهارا من أجل مزاولة أنشطة مهنية أو بدنية أو رياضية أو تعليمية أو ثقافية أو ترفيهية و لا يجوز الإخلال بقاعدة العزل أثناء الليل إلا  بناء على تعليمات الطبيب أو بصفة مؤقتة بسبب اكتظاظ المؤسسة.”[38]

كما يجب تنظيم حياتهم بصورة دقيقة بحيث يكون الجدول الزمني موزعا على حصص مخصصة لمختلف الأنشطة المذكورة و مشتملا على ما يسمح بالحفاظ على مؤهلاتهم الفكرية و النفسية و البدنية و تنميتها قصد تسهيل إعادة إدماجهم في المجتمع.

و لقد تنبه المشرع المغربي إلى مشكلة الاضطرابات الناتجة عن السجن التي تزيد حدتها خصوصا في مواجهة هذه الفئة من النزلاء، حيث قرر المشرع في الفقرة 5 من الفصل 75 من قانون 23/98 بأنه يمكن لمديري المؤسسات السجنية، تحت ضمانة كافية، الترخيص بالزيارات في محل خاص.

  1. العقوبات الطويلة الأمد و مساهمتها في ارتفاع ساكنة السجون.

تساهم العقوبات الطويلة الأمد بنسبة مهمة في ارتفاع عدد نزلاء المؤسسات السجنية حيث تصل هذه النسبة إلى 8.75% من مجموع العقوبات الحبسية الذي يبلغ حوالي 76794 نزيل و بالتالي فهي تساهم بشكل كبير في ظاهرة الاكتظاظ و هذا ما سيوضحه الجدول الإحصائي التالي:

الجدول رقم2 يبين نسبة المحكومين بعقوبات طويلة الأمد  حسب مدة العقوبة- غشت 2015-

  معدل العقوبة الحبسيةالعقوبة الحبسية الطويلة الأمد  المجموع
أكثر من 10 سنوات إلى 30 سنةالمؤبدالإعدام
عددنسبةعددنسبةعددنسبةعددنسبة
58737,65%7260,95%1180,15%66818.75%

يلاحظ من خلال هذا الجدول أن نسبة العقوبة الطويلة الأمد تشكل نسبة 8.75%و هذه الفئة تساهم بشكل كبير ظاهرة الاكتظاظ نظرا لأنها ثابتة و لا تعرف أي تحول في حالتها الجنائية، فهي كما شبهها د. أحمد الإمام بفئة التلاميذ الذين يكررون في جميع المستويات الدراسية و يساهمون في عملية الاكتظاظ بالمؤسسات التعليمية لأنهم لا ينتقلون من مستوى لأخر حتى يمكنوا الجيل الموالي من ملئ فراغ أمكنتهم، هذا التوجه هو ما توصلت إليه مجموعة من الدراسات الإحصائية المتميزة التي أكدت أنه كلما طالت مدة العقوبة السجنية إلا و ساهمت في استفحال ظاهرة اكتظاظ المؤسسات السجنية، ففي سويسرا [39] لوحظ أن ظاهرة اكتظاظ المؤسسات السجنية هي وليدة مشاكل ” التراكم” التي تولدها هذه المدد الطويلة بين النزلاء أكثر من أنها وليدة نسبة السيولة أي الحركة اليومية أو الشهرية أو السنوية لعدد نزلاء السجون.

  • الآثار السلبية للعقوبات الطويلة الأمد على ساكنة السجون.

بالنسبة للعقوبات الطويلة الأمد و التي يتبين من خلال الأرقام السالفة الذكر أنها تشكل نسبا مهمة يلاحظ بشأنها تباين في مددها من قاض لأخر و في قضايا متشابهة بحكم السلطة التقديرية لكل قاض في تقدير و تفريد العقوبات الملائمة و في إلزامية تحققها لجانب الردع و الإصلاح و يضاف إلى ذلك أن هذه العقوبات في غالب الأحيان تؤدي بالمحكومين إلى اليأس و الانطواء وعدم قابلية الانخراط في البرامج التربوية و تفقد لديهم الأمل في معانقة الحرية من جديد و اندماجهم داخل وسطهم العائلي فضلا عن  الإكراهات الأمنية التي تترتب عن تدبير فترة اعتقالهم جراء تنفيذهم لهذه العقوبات.

و في هذا الاتجاه جاءت الأبحاث التي قام بها كل من كونفانGoffman1960 حول السجون الملقة و سيكس 1974 حول السجناء و التي كانت بمثابة الضوء الأخضر لظهور هذه الدراسات حول ظروف الحياة و كذا تقنيات المعاملة العقابية داخل السجون و قد أظهرت هذه الدراسات بأن الظروف الحياتية بالسجن تصبح أكثر صعوبة في حالة تنفيذ العقوبة الطويلة المدة و ذلك من النواحي التالية:[40]

  • العزل أو الفصل عن العالم الخارجي بصورة تلقائية و تدريجية: الإدارة الكلية لهذا النوع من الاعتقال من طرف القائمين على التنفيذ يفقد استقلالية المحكومين و اعتمادهم على انفسهم في تسير شؤون حياتهم اليومية، و يجعل منهم أشخاص يعتمدون بشكل تام و في أدق تفاصيل حياتهم على القائمين على المؤسسات التي يوجدون بها.
  • العنف و التوتر النفسي الذي يمارسه المعتقلون على بعضهم البعض: محاولة الانتحار من خلال تصور المحكوم عليه بعقوبة طويلة الأمد أنه لن يطول به العمر ليرى الحياة خارج أسوار السجن من جديد مما يدفعه إلى التفكير بأن بقائه على قيد الحياة عبئا لا طائلة منه.
  • الآليات المناسبة لتجاوز العقوبات الطويلة الأمد للحد من ظاهرة الاكتظاظ

تبين من خلال الأرقام و المعطيات الإحصائية أن العقوبات السالبة للحرية الطويلة الأمد تزيد من حدة الاكتظاظ داخل المؤسسات السجنية بالمغرب و هذا يتطلب التدخل و بسرعة من طرف المشرع للحد من سلبيات هذه العقوبة و ذلك بإعادة النظر في السلطة التقديرية للقاضي بتقليص الفارق بين الحد الأدنى و الحد الأقصى للعقوبة و على نحو يؤدي إلى عدم إصدار عقوبات قاسية و أن تكون ملائمة لشخصية الجاني و سنه و خطورته الإجرامية و حالته الصحية و كذا ظروفه الصحية و الاجتماعية و كذا ظروف ارتكاب الجريمة و هذه ضرورة حتمية من أجل عقلنة هذه العقوبات الطويلة الأمد و استعمالها في الحدود الدنيا الملائمة لتحقيق الردع و الإصلاح في آن واحد و يمكن اقتراح و في السياق ذاته تحديد مدة السجن المؤبد في عقوبة أقصاها 25 سنة على غرار ما اعتمدته بعض الدول الأجنبية، و من جهة أخرى فإنه بالإمكان التخفيف من شدة الأحكام و جعلها ملائمة لخطورة الأفعال الإجرامية من خلال تفعيل سياسة التجنيح[41]، التي طالما تم الحث عليها بالنسبة للجنايات التي يكون الضرر الناتج عنها بسيط رغم كون الفعل الجرمي يكتسي صبغة الجناية لتوفر أحد ظروف التشديد غير أنه حتى في الحالة التي تبادر فيها بعض النيابات العامة إلى التجنيح فإن هذه المبادرة لا تؤتي أكلها إذ تواجه بالحكم بعدم الاختصاص علما أنه قد يصادف أن يكون الفعل الجرمي صادرا عن مجرم بالصدفة أو حدث أو عن فئات تشكل حالات إنسانية صعبة مقرونة بالتنازل و من هنا تأتي ضرورة إيلاء سياسة التجنيح الأهمية اللازمة لتتوحد الرؤى و يتحقق حسن سير العدالة.

كما أن إعمال مبدأ تفريد العقاب على مستوى تنفيذ العقوبة السالبة للحرية يشكل أهمية قصوى حيث أنه ثمة العديد من الإجراءات التي تمكن من خلال تفعيلها التقليص من مدد العقوبات و بالتالي إتاحة إمكانية إذكاء الأمل في نفوس المحكومين بهذه العقوبات لمعانقة الحرية من جديد و إتاحة فرص أكبر لاندماجهم بشكل سليم ضمن النسيج الاجتماعي و يمكن في هذا الصدد تفعيل الإفراج المقيد بشروط الذي يعد من أهم الإجراءات التي تتحكم في حركية المعتقلين حيث يرمي إلى منح المعتقل فرصة لمراجعة الذات و تشجيعه على الانضباط داخل السجن و احترام القواعد التي تنظم علاقاته مع الغير  كما تدفع إلى مواصلة التشبث بحسن السلوك بعد الإفراج إذ أن كل إخلال بهذا الالتزام سيكون سببا في عودته إلى السجن لاستكمال عقوبته.

و لا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة للتخفيض التلقائي للعقوبة السالبة للحرية الذي يتيح إمكانية استفادة كل معتقل محكوم عليه بعقوبات طويلة الأمد أبان عن سلوكه من تخفيض يصدر على شكل حصص سنوية إذا كانت مدة الاعتقال تزيد عن سنة و هو بذلك لا يشكل وسيلة للتقليل من عدد المعتقلين و من مدة الاعتقال معالجة الاكتظاظ فحسب و إنما هو عامل أساسي في نشر السكينة و الطمأنينة في نفوس المحكومين و يضفي مدلولا حقيقيا على مسار تنفيذ العقوبة السالبة للحرية.

و لأن حضور القضاء في مجال تطبيق العقوبة يكتسي أهمية قصوى في تكريس مبدأ تفريد العقوبة فإن مبادرة المشرع بإحداث مؤسسة قاضي تطبيق العقوبة و إناطته باختصاصات لتتبع تنفيذ العقوبة يشكل خطوة أساسية تكرس التوجه الرامي إلى إشراك السلطة القضائية في إعادة إدماج المحكوم عليه بعد الإفراج عنه.

و بإحداث هذه المؤسسة لم يبق دور القضاء  منحصرا في إصدار الأحكام بل تعداه إلى تحقيق التفريد الحركي للعقوبة عن طريق تفعيل بدائل العقوبة السالبة للحرية، و ذلك متى استنفذت هذه الأخيرة وظيفتها الردعية و النفعية، عن طريق التدخل في تعديل المقرر القضائي المتضمن للعقوبة، كإيقاف تنفيذ العقوبة أو تأجيلها أو تجزئتها، أو استبدالها بأحد التدابير المقيدة للحرية كالوضع تحت الاختبار أو تحت المراقبة القضائية أو العمل   من أجل المصلحة العامة…، أو حتى اقتراح المحكوم عليه للاستفادة من نظام العفو أو الإفراج المقيد بشروط، و ذلك سعيا نحو إصلاح المحكوم عليه و ضمان إعادة إدماجه الاجتماعي، و تجاوبه مع قواعد السلوك العام.[42]

استخلاص النتائج و التحقق من الفرضيات

الفرضية الأولى: تعود ظاهرة اكتظاظ السجون في جانب منها إلى كثرة المعتقلين الاحتياطيين.

تبين من خلال الإحصائيات المحصل عليها من المندوبية العامة لإدارة السجون و إعادة الإدماج، أن نسبة الاعتقال الاحتياطي بالمفهوم القانوني و كذلك الوضعي تصل إلى 40.80% هذه النسبة الهائلة تتوزع على قسمين:

  • القسم الأول: و يشمل الابتدائيات، التحقيق و الجنايات و تصل النسبة إلى 16.29% .
  • القسم الثاني: و يشمل المستأنفون و الناقضون و تصل النسبة إلى 24.51%.

هذه النسب تؤكد بالملموس صحة الفرضية القائلة بأن ظاهرة اكتظاظ السجون تعود في جانب مهم منها إلى كثرة المعتقلين الاحتياطيين.

الفرضية الثانية: أن العقوبات الحبسية القصيرة المدة أو الطويلة الأمد تساهم في تفشي ظاهرة الاكتظاظ.

لقد تبين من خلال تحليل المعطيات الإحصائية أن النسبة الخاصة بالعقوبات القصيرة المدة تصل إلى 48.35%أي تشكل تقريبا نصف ساكنة السجون، فبالإضافة إلى أنها تساهم في تنامي ظاهرة الاكتظاظ، فإنها لا تحقق أي هدف سواء على مستوى الإصلاح أو إعادة الإدماج. و تتوزع هذه النسب الهامة على الشكل التالي🙁 6 أشهر فأقل11.11%)، و من( أكثر من 6 أشهر إلى سنة 18.78%)، و من( أكثر من سنة إلى سنتين 18.46 %) هذه النتائج تؤكد أن أغلب المعتقلين في المؤسسات السجنية المغربية ذو عقوبات حبسية قصيرة المدة. و نفس الشيء يمكن أن نلاحظه على العقوبات الطويلة الأمد، و هكذا و من خلال استقراء نتائج المعطيات الإحصائية المحصل عليها من المندوبية العامة لإدارة السجون و إعادة الإدماج بواسطة ترخيص كتابي، تبين أن النسبة المئوية لهذه العقوبات تصل إلى 8.75%، أي أنها بالمقارنة مع العقوبات القصيرة تشكل فقط 3/1 أي الثلث، و لكن المتأمل لهذا الرقم يخرج بنتيجة تؤكد أن هذه النسبة رغم أنها غير مرتفعة و لكنها تساهم بشكل كبير في الاكتظاظ، و هذا ما أكدت عليه مجموعة من الدراسات الميدانية الأجنبية، التي ذهبت إلى أن طبيعة هذه العقوبة القارة و الجامدة، تحتكر السجون و لمدة طويلة و بالتالي تساهم في الاكتظاظ، و هكذا مرة أخرى تتأكد صحة الفرضية. و تتوزع نسب هذه العقوبة على الشكل التالي( أكثر من 10 إلى 30 سنة 7.65%) و ( المؤبد 0.95%) و

( الإعدام 0.15%).

الفرضية الثالثة: تعود ظاهرة اكتظاظ السجون أيضا إلى وجود نسبة هائلة من المكرهين البدنيين.

لقد تبين من تحليل المعطيات الإحصائية، أن نسبة الإكراه البدني في السجون المغربية تصل إلى 1011 سجين من مجموع 76794 أي نسبة 1.32 %، رغم أن هذه النسبة ضعيفة بالمقارنة مع النسبة المئوية الخاصة بالاعتقال الاحتياطي أو العقوبات القصيرة أو الطويلة، إلا أن خطورتها تكمن في أنها لا تأخذ طابعا إجراميا، و لكن أصحابها يودعون مع مجرمين محترفين و بالتالي تكمن الخطورة القصوى على هذه الفئة.

الفرضية الرابعة: يؤدي سوء توزيع و تصنيف السجناء إلى تفشي ظاهرة الاكتظاظ

يتبين من خلال المعطيات الإحصائية التي أمدتنا بها المندوبية أنه من مجموع 73 مؤسسة سجنية نجد 16 مؤسسة تعاني من الاكتظاظ( فائض من السجناء) بشكل كارثي و بنسب متفاوتة ما بين 32 % حتى 65%كالسجن المحلي بمراكش، فاس56%، العرائش45%، تزنيت45%، لوداية بمراكش%40، عين السبع40%، بالناضور37%، وجدة%36، سوق الأربعاء الغرب%36، الصويرة35%، أزيلال36%، تطوان34%، بن سليمان34%، الجديدة34%، القلعة34%، أيت ملول32%)، يتضح إذن من هذه الأرقام أن سياسة سوء التوزيع تؤدي إلى ظاهرة الاكتظاظ و يتضح هذا الأمر جليا أكثر من خلال وجود نسب متفاوتة في مدينة واحدة بها سجنين على الأقل، كما هو الشأن بالسجن المحلي بمراكش %65 و السجن المحلي لوداية بمراكش 40%. أما إذا انتقلنا إلى قضية التصنيف داخل السجن الواحد، فكل التجارب المهنية و الدراسات المنجزة في هذا الباب تثبت أن بعض الغرف في مؤسسات سجنية تعرف اكتظاظا مهولا فعلى سبيل المثال لا الحصر السجن المركزي بالقنيطرة، و س. م عين السبع، و س. م. مراكش، و س.ف. بعلي مومن سطات، في حين غرفا أخرى لا تعرف اكتظاظا، هذا الأمر يمكن ملاحظته حتى بالنسبة للأحياء الموجودة داخل السجن، كل هذه الأرقام و هذه النتائج تؤكد صحة فرضية سوء توزيع و تصنيف السجناء يؤدي إلى تفشي ظاهرة الاكتظاظ.

الفرضية الرابعة: أن سياسة بناء سجون جديدة لا تحد في واقع الأمر من ظاهرة الاكتظاظ.

 لقد تأكد من خلال تحليل المعطيات الإحصائية المحصل عليها أن نسبة ساكنة السجون تعرف تطورا، فمنذ 2009 إلى متم شهر غشت 2015 وصلت …، و لم تستطع الجهة الوصية عن هذا القطاع، التقليل من هذه النسبة بل كل المؤشرات تشير إلى أن النسبة الحالية لساكنة السجون و هي 76794 متم شهر غشت 2015 ستعرف ارتفاعا في السنوات المقبلة، رغم سياسة بناء السجون التي تعرف هي الأخرى تطورا كبيرا فمن المتوقع أن تصل إلى 85 موسسة سجنية في أفق 2018.

صحيح أن هذه السياسة استطاعت أن تحد من ظاهرة الاكتظاظ و لكن مرحليا فقط ، رغم المجهودات التي بذلتها المندوبية حيث رفعت هذه السنة من الطاقة الإيوائية  بما يقدر ب 13.000 سرير مما سيمكن من التخفيف و لو نسبيا من ظاهرة الاكتظاظ الذي تعاني منها أغلب المؤسسات السجنية.

كما تم افتتاح أربع مؤسسات سجنية جديدة بكل من بويزكارن، جرسيف، و تاوريرت و زاكورة ثم افتتاح البناية الجديدة لمركز الإصلاح و التهذيب بالبيضاء المخصصة للأحداث، و تضم هذه المؤسسات طاقة استيعابية  تقدر ب 2632 سرير.

كما تم إنهاء الأشغال ب 6 مؤسسات سجنية: ميدلت، طاطا، العرجات 1، تيفلت 2، الرماني2، وفاس رأس الماء، و تصل طاقتها الاستيعابية إلى 6775 سرير و من المرتقب افتتاحها قبل متم هذه السنة.

تسريع وثيرة بناء ثلاث مؤسسات سجنية و يتعلق الأمر بطنجة2، العرجات2، ايت ملول2، التي من المنتظر شروع العمل بها مطلع سنة 2016 بطاقة استيعابية تصل إلى 4017 سرير، ثم بداية أشغال بناء السجن المحلي بركان و الناظور بطاقة استيعابية تقدر ب 2880 سرير.

أعتقد أن هذا التوجه في بناء المؤسسات السجنية قد يساهم في الحد من ظاهرة الاكتظاظ تدريجيا و مرحليا فقط، و لكن في واقع الأمر و كما تبث من خلال تحليل و استقراء المعطيات الإحصائية المشخصة لهذه الظاهرة، فإنه لا يستطيع أن يقدم الحل الحقيقي لها، لأن معالجة هذه الظاهرة يقتضي معالجة أسبابها الحقيقية و التي تكمن في مراجعة السياسة الاقتصادية) الفقر، البطالة، الأمية، التفكك الأسري…) و السياسة الوقائية العلاجية التربوية، و السياسة القانونية( السياسة الجنائية التي لم تعد مواكبة للمفهوم الجديد للجريمة و العقوبة و التي ترتبت عنها مجموعة من الآثار تحت مسمى ما يعرف بأزمة العقوبة)، ففي الوقت الذي تهدر فيه هذه الإمكانيات الهائلة لبناء السجون لماذا لا يتم التفكير في استثمار هذه الأموال في مجال التنمية و خلق مؤسسات تربوية إصلاحية علاجية وقائية تقويمية.

لذا فالتفكير في الحد أو على الأقل التخفيف من آفة الاكتظاظ بإيجاد بدائل أو عقوبات بديلة للعقوبات السالبة للحرية لم يتم إلا بعد ترسخ أن السجن ليس الفضاء الأنسب لإجراء معاملة عقابية يجب أن تفضي بالضرورة إلى إعادة إدماج السجين في المجتمع.

و مسايرة للتطورات التي عرفتها القوانين الجنائية الدولية و التحولات التي طرأت على مجال حقوق الإنسان، جعلت معظم الدول تراهن على خيار البدائل لمكافحة الجريمة و معاملة المتهمين، دون الاستغناء عن عقوبة الحبس أو السجن، بالنسبة للحالات التي يكون فيها ضروريا متى توفرت الخطورة الإجرامية و تأكد أن هناك تهديدات بإلحاق الضرر بالمجتمع.

إن القوانين الجنائية الحديثة تسعى إلى تجاوز سلبيات العقوبات القصيرة المدة[43]، التي تأكد علميا و عمليا عدم فعاليتها، بحيث أصبحت العقوبة في الوسط المفتوح تمثل أهمية قصوى و مكانة متميزة في الأنظمة العقابية، مما جعل البحث عن استراتيجيات بديلة للعقوبة محور العديد من الأنظمة القانونية لإعادة النظر في فلسفة و مفهوم وظائف العقوبة. و في هذا الإطار أعدت وزارة العدل مشروعا أوليا لتعديل القانون الجنائي، بهدف إعادة النظر في السياسة العقابية و ضرورة تأسيس لإصلاح معقلن للتوجهات الكبرى في المجال الجنائي، و التي أشار إليها المشرع كتفعيل سلطة تفريد العقاب لملاءمة العقوبات، لخطورة الجريمة و شخصية المجرم، و البحث عن بدائل للعقوبات السالبة للحرية فيما يتعلق بالجرائم البسيطة، و الانفتاح على تجارب التشريع المقارن المتعلقة ببدائل المتابعات والعقوبات السالبة للحرية، لتأسيس منظومة قانونية[44] و حقوقية تتلاءم و المستجدات التي يفرزها الواقع و تتطابق مع النصوص الدولية لتنصهر بذلك عدالتنا الجنائية ضمن ما أصبح يعرف بالعالمية.

إن البحث عن عقوبات بديلة من شأنه أن يعطي لمفهوم العقوبة بعد إصلاحيا تربويا و يعيد التوازن لشخصية الجانح، و قد نجح هذا الاختيار في العديد من الدول[45] التي طبقته و ساهم في إصلاح عدد كبير من المحكوم عليهم و إدماجهم اجتماعيا و اقتصاديا و نفسيا[46] ، و بالتالي الحد من اكتظاظ المؤسسات السجنية.

خاتمة:

يتضح من خلال الإجابة على مجموعة الفرضيات التي تخللت محاور البحث، أن السياسة الجنائية في المغرب و المعتمدة على العقوبات التقليدية و خاصة العقوبات قصيرة المدة و ما تخلفه من الآثار السلبية على مستقبل المحكوم عليه، كما أن اكتظاظ السجون و الذي أكدت المؤشرات الميدانية و الدراسات الإحصائية أنها لم تعد تؤدي وظيفتها الإصلاحية، الأمر الذي يحول دون أداء العقوبة لوظيفتها، فتصبح غاية في حد ذاتها و ليست وسيلة.

و لعل جل هذه الأسباب هي التي جعلت أغلب التيارات الفكرية الجنائية تنادي بضرورة إصلاح هذه المؤسسات و إصلاح المنظومة العقابية ككل، إلا أن غياب بدائل فعلية للعقوبة السالبة للحرية و عدم تفعيل حتى تلك المنصوص عليها في صلب القوانين، هو ما جعل الإصلاح يتقهقر عن ركب التطور الذي عرفته فكرة حقوق الإنسان و فكرة أنسنة العقوبة السالبة للحرية.

و واقع العقوبة السالبة للحرية على النحو السابق، دفع الكثير من التشريعات الجنائية الحديثة إلى إعادة تقييم هذه العقوبة، و تنظيمها على أساس الهدف الجديد للسياسة الجنائية المعاصرة و هو التأهيل الاجتماعي للمحكوم عليه دون سلبه حريته، و هذا ما دفع ببعض التشريعات المقارنة( الفرنسي- الايطالي- النمساوي- و الألماني- و الهولندي- الدنماركي- التونسي- الجزائري- الزيمبابوي…) إلى إعادة النظر في سياستها الجنائية و الأخذ بإستراتيجية البدائل، لتجنب أضرار العقوبة السالبة للحرية، و لكونها تشكل الحل الناجع لتجاوز الوضعية السلبية التي تعيش في ظلها جل المؤسسات السجنية، لأجل فسح المجال أمامها للقيام بدورها الإصلاحي و التربوي على أتم وجه بالنسبة للجرائم التي تكتسي صبغة خطيرة.

و مما لاشك فيه أن العقوبات البديلة تؤدي وظيفتي الزجر و الردع، دون أن تؤدي إلى تعطيل مجهود المحكوم عليه، فهي بذلك تحقق نوعا من التوازن بين الدور الزجري و الهدف الإصلاحي و التأهيلي دون حرمان الجاني من حريته، و بالحرص على إبقائه في محيطه الأسري و المهني،فضلا عن كونها تضع حدا لنظرة التهميش و الإقصاء الموجهة للجاني، كفرد منبوذ و غير مرغوب فيه داخل المنظومة المجتمعية، كما أنها تتيح إمكانية استغلال طاقات و مؤهلات الجاني في مجالات قطاعية معينة، لجعل المحكوم عليه في قلب التنمية الاقتصادية و الاجتماعية التي تشكل في الوقت الراهن إحدى الرهانات الأساسية داخل بلدنا.

و إذا كان المشرع المغربي بدأ في إبراز التوجه الحديث من خلال التعديلات الأخيرة التي مست قانون المسطرة الجنائية الجديد، أو من خلال المستجدات التي جاءت بها كل من مسودة مشروع القانون الجنائي و قانون المسطرة الجنائية المنتظر المصادقة عليهما و إخراجهما للوجود، فإن هذه الخطوة تعد قفزة نوعية في سياستنا الجنائية، -نتيجة استفادتها من التشريعات المقارنة التي اعتمدت بدائل العقوبات السالبة للحرية كخيار استراتيجي لتجاوز إشكالية العقوبة الحبسية قصيرة الأمد-  لن تحقق الرهان المطلوب إلا بتتبع المقترحات التالية التي تعد من المرتكزات الأساسية لنجاح سياسة العقوبات البديلة.

  • تبني سياسة متكاملة للبدائل و الاستعانة بالتجارب التي عرفت نجاحا بهذا الخصوص، مع مراعاة الخصوصية الثقافية و الاجتماعية لبلادنا.
  • توفير المشرع لسلم من البدائل حتى يتمكن القاضي من اختيار ما هو مناسب لمصلحة الجاني و المجتمع معا.
  • إن مكافحة الجريمة هي مهمة يجب أن تتظافر فيها كل الجهود و من جميع الفئات، و ليست قاصرة على أجهزة الأمن و القضاء، بل يتعين إشراك الجماعات المحلية و المجالس الجهوية و السلطة المحلية في إطار مقاربة تشاركية لإيجاد صيغ عملية تستهدف الحد من ارتفاع معدلات الجريمة.
  • الاستفادة من جميع وسائل الإعلام بنشر الوعي الاجتماعي و تهيئة الرأي العام إلى تقبل المفرج عنهم و مساعدتهم في إعادة التكييف و الاندماج في المجتمع تفعيل الرعاية اللاحقة.
  • أن نجاح العقوبات البديلة أو التدابير البديلة عن السجن رهين بمساهمة المجتمع و المواطنين في إنجاحها لأنها تعتمد أصلا على هذه المساهمة.

[1]-عبد العزيز كباري،” الاكتظاظ داخل المؤسسات السجنية بالمغرب: أية استراتيجية لتفاديه؟” بحث لنيل دبلوم الدراسات العليا المتخصصة في علوم التربية، قسم النفس التربوي، وحدة التكوين و البحث إعادة تربية الجانحين و التأهيل المهني، السنة الجامعية 2005-  2006، ص 2.

[2]– مقال منشور للصحفي إسماعيل روحي بجريدة المساء، العدد 2835، الجمعة 8 صفر 1437 الموافق ل 20 نونبر 2015، الصفحة  1 و 3.

[3]– د. لطيفة المهداتي،” الشرعية و تنفيذ العقوبات السالبة للحرية” أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في القانون الخاص، السنة الجامعية 2001/2002، ص 53.

[4]– أسند الفقه القانوني مجموعة من التعاريف للسياسة الجنائية، أهم هذه التعاريف: * تعريف أحمد فتحي سرور ” السياسة الجنائية هي التي تبين المبادئ اللازم السير عليها في تحديد ما يعتبر جريمة و في اتخاذها التدابير المانعة و العقوبات المقررة له”،للمزيد راجع أحمد فتحي سرور، أصول السياسة الجنائية، دار النهضة العربية، طبعة 1972، ص 17. * تعريف فوزية عبد الستار” السياسة الجنائية هي الأساليب و التوجهات التي تحدد للمشرع الجنائي ما يجب أن تكون عليه نصوص التجريم و العقاب و التدابير التي تلائم كل جريمة و أفضل النظم التي تتبع في تنفيذ العقوبة أو التدابير بعد صدور الحكم بإدانة المتهم”، للمزيد راجع فوزية عبد الستار، مبادئ علم العقاب، دار النهضة العربية، القاهرة، طبعة 1972، ص 1.

[5]– طارق عبد الوهاب سليم، المدخل في علم العقاب الحديث، دار النهضة العربية، الطبعة الأولى، سنة 1996، ص 98.

[6]-دة. رجاء ناجي المكاوي،” الجزاءات التقليدية: العقوبات السالبة للحرية و الغرامة”، ص 15، PDF مكون من 25 ورقة منشور بالانترنيت.

[7]-لقد بلغ عدد الأشخاص المدانين بعقوبات حبسية لا تتجاوز مدتها سنة حوالي 10244 سجين خلال سنة 2012،  في حين بلغ عدد المدانين بعقوبة حبسية لأقل من 6 أشهر حوالي 4499 سجين خلال نفس السنة، أما الذين صدرت في حقهم عقوبة حبسية لأكثر من 6 أشهر فقد بل عددهم حوالي 14425 في متم شهر غشت 2015، و من صدرت في حقهم عقوبات حبسية أقل من 6 أشهر بل عددهم حوالي 8533 عند متم شهر غشت 2015، هذه المعطيات الإحصائية تؤكد بشكل لا يدع مجالا للشك على فشل إستراتيجية التوجه الجنائي بشأن محاربة ظاهرة الجنوح البسيط، و كذا الاستيعاب المعيب لمقاصد المشرع من تقرير آلية العقوبات السالبة للحرية قصيرة الأمد و التفعيل المعيب لها، فلنتصور و لنقم بعملية حسابية بسيطة تبين لنا مقدار الأفواج التي تضاف سنويا للسجون، و مقدار التكلفة، و الحاجة إلى الأمن داخل السجون، و مقدار عدوى الإجرام التي تنتقل من الاحتكاك مع عتاة المجرمين.

هذه الإحصائيات ورت في:  – النشرة الإحصائية لسنة 2012، المندوبية العامة لإدارة السجون و إعادة الإدماج ، ص 20.

  •  معطيات إحصائية من المندوبية العامة لإدارة السجون و إعادة الإدماج، مقدمة للجنة العدل و التشريع و حقوق الإنسان بمجلس النواب 04 نونبر 2015، ص 6.

[8]– الطيب الشرقاوي، ” السياسة الجنائية: مفهومها و آليات وضعها و تنفيذها و الخطوط العريضة للسياسة الجنائية القائمة بالمغرب”، مداخلة ضمن أشال المناظرة التي نظمتها وزارة العدل تحت عنوان ” السياسة الجنائية بالمغرب: واقع و أفاق”، المجلد الثاني، الطبعة الأولى، منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية و القضائية، سلسلة الندوات و الأيام الدراسية، العدد 4، 2005، ص 32.

[9]– محمد الأزهر، ” مبادئ في علم الإجرام”، الطبعة الأولى، سنة 1997، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، ص 24.

[10]– أحمد التقي،” التخطيط لتفادي ظاهرة الاكتظاظ في السجون المغربية”، بحث لنيل دبلوم الدراسات العليا المتخصصة في علوم التربية، شعبة علم النفس التربوي، وحدة إعادة تربية الجانحين السنة الجامعية 2001/2002، ص 30

[11]– د. محمد التغدويني،” إشكالية التجريم في التشريع الجنائي المغربي”، الطبعة الثانية، س 2005، ص 3.

[12]– د. رمسيس بهنام،” علم مكافحة الإجرام- الوقاية و التقويم ” منشأة المعارف الإسكندرية، الطبعة الأولى السنة 2000، ص 162.

[13]–  مجلة الشؤون الجنائية، ” سياسة التجريم و العقاب”، عدد خاص بمناسبة الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة ” العدالة الجنائية بالمغرب: أرقام و معطيات” منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية و القضائية، العدد الثاني أكتوبر 2012، مطبعة إليت، دار القلم. ص 134 و ما يليها.

[14]– أحمد التقي، المرجع السابق، ص 34.

[15]– الدكتور أحمد قلش و الدكتور عبد الرحيم بن بوعيدة، “مبادئ في علم الإجرام و العقاب”، الطبعة الأولى 2014، مطبعة الأمنية الرباط، ص 124.

[16]– فالدور الوقائي أو ما يسميه بعض الفقه بالسياسة الاجتماعية يروم القضاء على الظروف الاجتماعية المنتجة للجريمة، أما الدور العقابي فهو الذي يستهدف المجرم بغية استئصال الفعل الجرمي من شخصه و الحيلولة دون معاودته عن طريق ممارسة التأثير الفردي الذي يقع على المحكوم عليه من خلال اعتماد العقوبة كوسيلة ردعية تقابل جسامة الفعل المرتكب.

[17]– أحمد التقي، المرجع السابق، ص31. 

[18] -أحمد التقي، المرجع السابق، ص 33 و ما يليها.

[19]– عبد العزيز كباري،” الاكتظاظ داخل المؤسسات السجنية بالمغرب: أية إستراتيجية لتفاديه”، بحث لنيل دبلوم الدراسات العليا المتخصصة في علوم التربية، قسم النفس التربوي، وحدة التكوين و البحث إعادة تربية الجانحين و التأهيل المهني، السنة الجامعية 2005- 2006، ص 32.

[20]-حيث عرفها فقهاء القانون بكونها ” الوسائل الزجرية التي تستخدمها الدولة لمكافحة الجريمة”. و هي بهذا المفهوم جزء من السياسات العمومية للدولة بكونها:- سياسة عمومية للدولة هدفها مكافحة الجريمة؛ – تعتمد الوسائل الزجرية لتحقيق غايتها. و لذلك فالسياسة الجنائية تكمن في الوسائل الزجرية و العقابية التي توفرها الدولة، و هي على العموم إما: – إجراءات تشريعية وقانونية زجرية- أو تدابير تنفيذية للأدوات التشريعية الزجرية؛ و لذلك فوضع السياسة الجنائية يتم عن طريق: – البرلمان بمقتضى النصوص القانونية؛ – الحكومة عن طريق النصوص التنظيمية و التدابير التطبيقية.

[21]-عبد العزيز كباري، المرجع السابق، ص 38-39.

[22]– الدكتور محي الدين أمزازي،” جدوى إيجاد بدائل للعقوبات الحبسية القصيرة المدى” المجلة العربية للدفاع الاجتماعي، العدد 17 يناير 1984، ص 74

[23]– أحمد المتقي، نائب مدير السجن المحلي بمكناس،” مداخلة حول” قانون 23/98 المتعلقة بتسيير المؤسسات السجنية مظاهره و تجلياته” مجلة إدماج العدد السادس، سنة 2006، ص 40.

[24]-معطيات إحصائية من المندوبية العامة لإدارة السجون و إعادة الإدماج، نفس المرجع، ص 6. 

[25]– الدكتور فهد يوسف الكساسبة.” وظيفة العقوبة و دورها في الإصلاح و التأهيل” دراسة مقارنة، الطبعة الأولى 2010، دار وائل للنشر و التوزيع، عمان، ص 65.

[26]– الدكتور سعداوي محمد، صغير ” العقوبة و بدائلها في السياسة الجنائية المعاصرة”، الطبعة 1433ه/ 2012م، دار الخلدونية للنشر و التوزيع، القبة القديمة الجزائر، ص 61.

[27]– نعني هنا بمفهوم الحبس قصير المدة: المدة التي يقضيها المحكوم عليه في الحبس و تكونغير كافية لإصلاحه و تأهيله أي غير كافية لتطبيق برنامج التأهيل و التهذيب الذي تقتضيه أغراض العقوبة السالبة للحرية. للمزيد من التفصيل راجع الدكتور سعداوي محمد صغير” العقوبة و بدائلها في السياسة الجنائية المعاصرة، ص 60.

[28]-عبد العزيز كباري، المرجع السابق، ص 135.

[29]– الدكتور سعداوي محمد صغير، المرجع السابق ص 63.

[30]– الدكتور عبدالله بن عبد العزيز اليوسف،” التدابير المجتمعية كبدائل للعقوبات السالبة للحرية” أكاديمية نايف للعلوم الأمنية، مركز الدراسات و البحوث، الرياض 1424 ه- 2004م، ص 78.

[31]– الأستاذ محمد الحمياتي،” أي دور للقضاء في الحد من أزمة السجون مقارنة ما بين النظري و الواقعي” مجلة الملحق القضائي، العدد 42 ماي 2009، ص 128.

[32]-الأستاذ محمد الحمياتي، المرجع السابق، ص 129.

[33]– الدكتورة لطيفة المهداتي، المرجع السابق، ص 52.

[34]– الدكتورة لطيفة المهداتي، المرجع السابق ص 50.

[35]– الدكتور فهد يوسف الكساسبة، المرجع السابق، ص 69.

[36]-الدكتور سعداوي محمد صغير، المرجع السابق، ص 64

[37] -انظر المادة 8 من قانون 23/98 المتعلق بتنظيم و تسيير المؤسسات السجنية.

[38]-انظر المادة 33 من قانون 23/98 المتعلق بتنظيم و تسيير المؤسسات السجنية

[39]– أحمد التقي، المرجع السابق، ص 124.

[40]– عبد العزيز الكباري، المرجع السابق، ص 143.

[41]-تعتبر آلية  التجنيحCorrectionnalisationLaمن بين أهم آليات التفريد القضائي، التي تخول سواء لجهات المتابعة( النيابة العامة أو قضاء التحقيق) أو لهيئات الحكم كلما تبين لهم أن خطورة الفعل لا تتناسب مع العقوبة المقررة للجناية، صلاحية تغيير وصف الجريمة من درجة إلى درجة أقل أي من وصف جناية إلى جنحة .و تكمن أهمية اعتماد هذه لآلية في منح سلطة تقديرية في تغيير وصف الجريمة إلى جريمة أقل لعدم ملاءمة الوصف القانوني في العديد من الحالات مع خطورة الأفعال المرتكبة، و لتلافي تعقيدات وطول المسطرة أمام الغرف الجنائية و تقليص عدد مهم من القضايا البسيطة أمامها و هو نوعان التجنيح القضائي و التجنيح التشريعي، للمزيد المرجو الاطلاع على  مجلة الشؤون الجنائية، ” آلية التجنيح“، عدد خاص بمناسبة الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة ” العدالة الجنائية بالمغرب: أرقام و معطيات” منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية و القضائية، العدد الثاني أكتوبر 2012، مطبعة إليت، دار القلم. ص 139 .

[42]– د. عبد العلي حفيظ،” صلاحيات قاضي تطبيق العقوبات في القانون المغربي” الطبعة الثانية 2012، م دار القلم بالرباط، ص 19.

[43] – للمزيد من المعلومات راجع: جمال المجاطي، بدائل العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة في ضوء التشريع المغربي و المقارن، دراسة تحليلية مقارنة، تقديم الأستاذ عبد الواحد كريمي، مستشار بمحكمة الاستئناف، سطات، الطبعة الأولى 1436/2015 م، مكتبة الرشاد، سطات،ص25.

– أنظر كذلك رياضي عبد الغاني، بدائل العقوبات في القانون المغربي و القانون المقارن و أفاقها المستقبلية، دراسة مقارنة و تحليلية نقدية من خلال مستجدات قانون المسطرة الجنائية و القانون الجنائي و التشريعات الخاصة و القانون المقارن و اتفاقية طوكيو، الطبعة الأولى 2009، مكتبة دار السلام الرباط، ص7.

[44]– د. لطيفة المهداتي، نفس المرجع، ص 57.

[45] -مثلا فرنسا و ألمانيا و سويسرا، انجلترا، و كندا و الولايات المتحدة و مصر، و تونس و الجزائر… إلخ كذلك بعض الدول الإفريقية ك: زيمبابوي، كينيا، بوركينافاسو( المنظمة الدولية للإصلاح الجنائي) مداخلة للأستاذ طاهر بومدرة الممثل الإقليمي للمنظمة الدولية للإصلاح الجنائي في الندوة الدولية المنعقدة بمراكش حول أية سجون للقرن 21 بتاريخ 21-22-23 ماي 2006.

[46]–  تعد معاقبة المحكوم عليه دون سلب لحريته، مع إبقائه في وسطه الاجتماعي و الحفاظ على عمله دون إحداث أي اضطراب نفسي من خلال إيداعه بالسجن، نظرا لاعتبار الاعتقال مجرد تدبير استثنائي لا يلجأ إليه إلا عند الضرورة.

إقرأ أيضاً

الرقابة على الدستورية والأمن القانوني دراسة في ضوء الإجتهاد القضائي الدستوري المغربي

الرقابة على الدستورية والأمن القانوني دراسة في ضوء الإجتهاد القضائي الدستوري المغربي Constitutional control and …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *