قانون الأحزاب السياسية المغربية و سؤال الحكامة الجيدة. “دراسة مقارنة مع قانون الأحزاب السياسية الإسباني”

قانون الأحزاب السياسية المغربية و سؤال الحكامة الجيدة. “دراسة مقارنة مع قانون الأحزاب السياسية الإسباني”

دكتور سعيد الرابح

باحث في القانون الدستوري

أثرت خصوصية ميلاد الأحزاب السياسية بالمغرب في مسارها وبنيتها التنظيمية وفي الأدوار التي ستضطلع بها والمصير الذي آلت إليه في ما بعد، هذا  بالإضافة إلى الأجواء السياسية، التي عرفها المغرب بعد الاستقلال، والتي شكلت فترة حاسمة بالنسبة للمنظومة الحزبية التي سيعيش فيها المغرب المستقل.

إلا أن الحياة الحزبية المغربية عرفت أزمة حقيقية أرخت بظلالها على الحياة السياسية بصفة عامة، تجلت هذه الأزمة في العديد من المظاهر*، والتي استدعت تشريع قانون جديد خاص بالأحزاب السياسية، وهو ما عبر عنه الملك “محمد السادس” في خطاب العرش لسنة 2000 حين دعا المجتمع السياسي لتأهيل أدواته وتجديد هياكله وتغيير أساليب عمله، وهكذا توالت التأكيدات الملكية على إقرار قانون خاص بالأحزاب السياسية في العديد  من المناسبات* إلى أن تم إخراجه إلى حيز الوجود في 20 فبراير 2006.

يكتسي موضوع قانون الأحزاب السياسية أهمية  نظرية وعملية، فالأولى تتجلى في الأبحاث والنظريات التي تعرضت لموضوع الأحزاب السياسية بصفة عامة، بالإضافة إلى النقاش الأكاديمي حول الحاجة إلى إقرار قانون للأحزاب السياسية حيث أن هناك وجهة نظر أكدت على ضروريته وأهميته في تطوير وتفعيل الحياة السياسة، ووجهة نظر ثانية دعت إلى ترك الحياة السياسية تستمر بشكل طبيعي ما دام هناك فرز طبيعي يتم على مستوى القاعدة الاجتماعية التي تحكم على الأحزاب وتقيم أداءها، وأكدوا على انعدام الحاجة الماسة لقانون ينظم الحياة الحزبية، وعلى كون قانون من هذا النوع لن يمثل لحظة  قوية في الحياة السياسية، مادم التقنين الحقيقي هو التقنين الذاتي الذي يحسم الأمور في نهاية المطاف، كما أشاروا على كون المسار السياسي المغربي يتسم بالهشاشة، وتتمفصل داخله عدة ملفات خارجية وداخلية ذات بعد مؤسساتي وثقافي وأن تنظيم هذه المنطقة (الأحزاب) كمنطقة حرية سياسية بامتياز وتقنينها بلغة الاحتياط لا يرقى إلى مستوى الحاجة الماسة، ويفرز مخاطر تحوم حول السيرورة  الديمقراطية[1].

أما الأهمية العملية لهذا الموضوع فتتجلى في كون وضع قانون خاص بالأحزاب السياسية يعد مسألة مهمة وأساسية بل وحاسمة في تنظيم المشهد الحزبي، كما أن هذا القانون مرتبط بمسائل أساسية في العمل الحزبي كالديمقراطية الداخلية للأحزاب، وضمان النزاهة والشفافية في التمويل…،من هذا المنطلق نتساءل حول مدى اعتماد قانون الأحزاب السياسية على معايير الحكامة الجيدة،وذلك من خلال مقارنته بقانون الأحزاب السياسية الإسباني .

سنحاول في هذا المقال تسليط الضوء على مدى تضمين قانون الأحزاب السياسية مرتكزات الحكامة الجيدة، وذلك في إطار مقارنة مع القانون الإسباني، حيث سنتطرق إلى ما جاء به في مجال تدعيم آليات المشاركة والمساواة والانضباط الحزبي (الفقرة الأولى) بالإضافة إلى آليات الرقابة والشفافية (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: تدعيم آليات التضمينية.

بإسقاط مفهوم التضمينية على قانون الأحزاب السياسية فإنها تقتضي البحث في مدى احترامه لمبدأي المشاركة والمساواة في تسيير شؤون الحزب (الفقرة الأولى) ثم مدى مساعدتها في الانضباط الحزبي (الفقرة الثانية).

أ-المساواة وآليات المشاركة

تعتبر المساواة إحدى  المقومات الأساسية للديمقراطية وتهدف إلى توزيع الخيرات على أفراد المجتمع، إنها مساواة شاملة لا تنحصر في المجال السياسي، بل تتعداه إلى المجال الاقتصادي والاجتماعي[2]، ولقد كانت المساواة السياسية الانطلاقة الأولى للفكرة الديمقراطية وهي تسعى إلى إشراك أفراد الشعب بالتساوي في اتخاذ القرارات، وحق الانتخاب هو المعيار الحقيقي لهذه المشاركة، كما أن المساواة السياسية لا تعني حق الانتخاب فحسب، بل تعنى حق الترشيح بنفس الشروط المحددة للانتخاب، فالأفراد يولدون أحرارا ومتساويين في الحقوق، ومن هذه المساواة تنحدر المساواة أمام القانون وأمام العدالة وأمام التكاليف العامة، فهي مساواة في الحقوق والواجبات.

وباعتبار الحياة الحزبية جزء لا يتجزأ من  الحياة السياسية بصفة عامة، فإنه كان لزاما على الأحزاب السياسية تبني مبدأ المساواة و”الديمقراطية التشاركية” أو ما يسمى بالحكامة التي تستغني عن الحزب السياسي بمفهومه التاريخي الوطني أو الإداري  التجمعي، وتربطه بالسياسات العمومية وتأطير المواطن وتتبع وتقييم السياسات الحكومية وتقديم المشاريع السياسية الاجتماعية والاقتصادية البناءة[3]، وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل حول مدى استجابة قانون الأحزاب السياسية الجديد مقارنة بنظيره الإسباني لمبدأي المساواة  والمشاركة؟

وهكذا فإن مظاهر المساواة في القانون المغربي تتجلى  في المادة الخامسة التي تنص في فقرتها الأولى على أن : “للمغاربة ذكورا وإناثا البالغين سن الرشد أن ينخرطوا بكل حرية في أي حزب سياسي مؤسس  بصفة قانونية”[4]. حيث أن هذه المادة تهدف إلى التأكيد على المساواة بين المرأة والرجل في المشاركة السياسية، إلا أن نسبة مشاركة النساء والشباب في  العمل السياسي تبقى ضئيلة، وذلك راجع إلى مجموعة من الأسباب الثقافية الاجتماعية والاقتصادية… وهذا ما دفع بالقانون الجديد إلى التنصيص على أنه ” يجب على الحزب أن ينص في نظامه الأساسي على نسبة النساء والشباب الواجب إشراكهم في الأجهزة المسيرة للحزب”[5]. إن هذا الإجراء من شأنه أن يحد من ثقافة الإقصاء في اتجاه حكامة جيدة وتجديد نخب قادرة على العطاء والمشاركة الفعالة.

وفي هذا الصدد، ومن أولى الأشياء التي يجب أن يتم الانتباه إليها، هي إسناد مسؤوليات أساسية للمرأة وسيما في الأجهزة المسيرة واللجن التي تتعلق بالقضايا الاستراتيجية التي ستبرز المرأة كفاعل سياسي مؤهل، مما سيكرس  لدى الرأي العام ثقافة جديدة تؤهل للرفع من نسبة مشاركة النساء، ألا أن التساؤل الذي  يثار هو هل يتوافق أو بتعارض نظام “الكوطا” مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان؟.

بالرغم من اعتبار نظام “الكوطا” من الحلول المؤقتة، لكنها في بعض الحالات تتحول إلى سقف، وهذا ما أدى ببعض الدول لعدم تطوير ثقافة سياسية يتم عبرها إدماج المرأة في النظام السياسي.

وباعتبار “الكوطا” نظاما مؤقتا نورد ما تضمنته المادة الرابعة من اتفاقية القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة: “لا يعتبر اتخاذ الدول الأطراف تدابير خاصة مؤقتة تستهدف التعجيل بالمساواة الفعلية بين الرجل والمرأة  تمييزا بالمعنى الذي تأخذ به هذه الاتفاقية، ولكنه يجب ألا يستتبع على أي نحو، الإبقاء على معايير غير متكافئة أو منفصلة، كما يجب وقف العمل بهذه التدابير متى تحققت أهداف التكافؤ في الفرص والمعاملة”[6].

كما أن المادة الثالثة من العهد الدولي، الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، تنص على تعهد الدول الأطراف في هذه الاتفاقية ب “ضمان مساواة الرجال والنساء في حق الاستمتاع بجميع الحقوق المدنية والسياسية” وأكدت الاتفاقية بشأن الحقوق السياسية للمرأة في مادتها الثانية أن “للنساء الأهلية في أن  ينتخبن لجميع  الهيئات المنتخبة بالاقتراع العام، المنشأة بمقتضى التشريع الوطني بشروط تساوي بينها وبين الرجال دون أي تمييز”[7]

ومثلما تمت الإشارة أعلاه يتضح أن نظام “الكوطا” مؤقت، وحتى لا يتحول إلى عائق دون ضمان المساواة بين المرأة والرجل يجب أن يكون بمثابة حد أدنى، وهذا ما يتطلب ترجمة واضحة في أي قانون يوضع لهذا الغرض بتضمين عبارة “على الأقل” قبل النسبة المحددة مع وجوب ترك المجال مفتوحا لما يفوق تلك النسبة في الممارسة، علما أن المساواة كمبدأ دستوري أساسي قد يعرض أي نص قانوني للطعن إذا ما حول “الكوطا” إلى حد أقصى.

أما بخصوص مسألة المشاركة، فقد نص القانون الجديد غير ما مرة عليها، وفي هذا الإطار نجد المادة الأولى تقول: “…ويتقاسمون نفس المبادئ، قصد المشاركة في تدبير الشؤون العمومية بطرق ديمقراطية ولغاية غير توزيع الأرباح.”[8].

ونفس المقتضى نصت عليه المادة الثانية: “… وهي بهذه الصفة تساهم في نشر التربية السياسية ومشاركة المواطنين في الحياة العامة وتأهيل نخب قادرة على تحمل المسؤوليات  العمومية وتنشيط الحقل السياسي”[9].

وهكذا يبدوا جليا أن للقانون الجديد حرص على تدعيم المشاركة خاصة وجميع الآليات الديمقراطية بصفة عامة، حيث أن المادة الواحدة والعشرون تنص على أنه “يجب أن ينظم الحزب السياسي ويسير بناء على مبادئ ديمقراطية تسمح لجميع الأعضاء بالمشاركة الفعلية في إدارة مختلف أجهزته”[10].

لقد جاء القانون بالتأكيد على اعتماد المبادئ الديمقراطية نظرا لما يعرفه واقع الأحزاب السياسية من شخصانية وفردانية بجعل هذه الأحزاب هشة دون أساس قوي،  فالزعيم هو المالك لمفاتيح ودواليب الحزب، رغم أن قوانين هذه  الأحزاب تنص على مبادئ وقواعد ديمقراطية، في التدبير والتسيير والتعبير بكل حرية عن الآراء والنقد، فإن مجال الممارسة لا يعرف إلا تسييرا وتدبيرا أحاديا، من هذا المنطلق يمكن القول بان اعتماد المبادئ الديموقراطية هي الأصل في الممارسة ، الأمر الذي جعل المشرع يؤكدها، لكن بالرغم من ذلك فإن الأمر يبقى رهينا بأعضاء الحزب لتكريس هذه الممارسة، ومادام المشرع قد وضع الإطار الذي يجب أن تنبني عليه القوانين الأساسية كان من الأفيد وضع أحكام تعطي الحق في ولايتين لترأس الحزب حتى تتجدد الدماء، وتعرف القيادة  تناوبا في تدبير وتسيير الحزب السياسي[11].

كما أن المادة الرابعة والعشرون نصت على أنه: “يجب أن تكون طريقة اختيار مرشحي الحزب لمختلف الاستشارات الانتخابية مبنية على مبادئ ديمقراطية”[12]. وهي أحكام أفرزت ظاهرة التزكيات الموسمية لغير مناضلي الحزب ودون الارتكاز على مبادئ ديمقراطية، في حين يدفع بالفاعلين الحزبين الحقيقيين إلى الوراء، وغالبا ما تكون هذه التزكيات لبعض الأعيان أو الأغنياء أو بدوافع إثنية، أو مالية في بعض الأحيان.

كما يجدر بأعضاء الحزب المتضررين من هذه الظاهرة الالتجاء إلى القضاء، ما دام القانون ينص بصيغة الوجوب على اعتماد مبادئ ديمقراطية في اختيار وتزكية مرشحي الحزب[13].

وبالإضافة إلى ضرورة إعمال الأحزاب لمبادئ الديمقراطية، يربط المشرع عدم عقد مؤتمرات الأحزاب السياسية خلال خمس سنوات بفقدان حقها في الدعم السنوي، هو نوع من التحفيز لعقد المؤتمرات، وبهذا يكون المشرع قد وضع حكما يحدد مدة الانتداب بشكل غير مباشر، إذا علمنا انه في المؤتمرات تجدد الهياكل بما في ذلك قيادة الحزب، هذا إضافة إلى تحاشي التمادي في التأجيلات التي تفوق في بعض الأحيان مدة الانتداب[14]، وكل ذلك من اجل توسيع مشاركة كافة الأعضاء في تدبير شؤون الحزب واتخاذ القارات بشكل تشاركي ديمقراطي.

أما بمقارنة مدى تضمن القانون المغربي لأليات الحكامة الجيدة بنظيره الإسباني، فإننا نجد أن هذا الأخير جاء خال من أي تنصيص على المساواة بين الرجل والمرأة ليس لأنه لا يعترف بهذه المساواة، وإنما هي تحصيل حاصل ولا تطرح أي إشكال لأن الثقافة السياسية السائدة في إسبانيا لا تفرق بين الجنسيين، ومن ثم لا داعي للتأكيد عليها في القانون المتعلق بالأحزاب السياسية، بيد أنه ركز على المعايير الديمقراطية وضرورة احترامها والامتثال لها، وهذا ما تنص عليه مجموعة من الفصول، فالفصل السادس من القانون التنظيمي 6/2002 ينص على أنه “تخضع الأحزاب السياسية في تنظيمها وتسييرها ونشاطها للمبادئ الديمقراطية وأحكام الدستور والقوانين”[15]. ونفس المقتضى نص عليه الفصل السابع في فقرته الأولى ولكن بشيء من التخصيص حيث يقول “1-البنية  الداخلية وتسيير الحزب يجب أن تتبنى على أسس ديمقراطية”[16] كما أن الفقرة الثانية من نفس الفصل أكدت على وجوب عقد مؤتمر عام يضم مجموع أعضاء الحزب الذين يستطيعون التسيير المباشر أو عن طريق ممثلين والتأكيد على سيادة المؤتمر العام. وفي الفقرة الثالثة منه ركزت على أن الولوج إلى الأجهزة المسيرة للحزب يكون عن طريق اقتراع حر وسري، وبالإضافة إلى أن الفقرة الرابعة والأخيرة من الفصل السالف تقول: “القوانين الأساسية والقوانين الداخلية يجب أن تحدد للأجهزة المنتخبة أجلا كافيا قبل عقد الاجتماعيات لتهيئة القضايا المطروحة للنقاش، العدد اللازم قصد إدراج مسألة معينة في جدول الأعمال، قواعد النقاش تسمح باختلاف الآراء والأغلبية اللازمة لتبني الانتخابات، هذه الأخيرة وبصفة عامة تكون بالأغلبية البسيطة للحاضرين أو الممثلين”[17].  

أما الفصل الثامن من القانون الإسباني فقد أشارت فقرته الأولى أن لجميع الأعضاء حقوق وواجبات متساوية، كما أن الفقرة الثانية من هذا الفصل ألزمت الأحزاب السياسية أن تحتوي قوانينها الأساسية وفي جميع الحالات على ما يلي[18]:

-المشاركة في أنشطة الحزب وأجهزته التسييرية والتمثيلية وممارسة حق التصويت، وكذا الحضور للمؤتمر العام طبقا للأنظمة.

-يكونون ناخبين ومنتخبين لتحمل المسؤوليات

-يجب أن يعلموا بخصوص تكوين الأجهزة المسيرة والإدارية والقرارات المتخذة من هذه الأجهزة حول الأنشطة التي تحققت وحول الوضعية المالية.

-رفض مقررات الأجهزة المسيرة التي يعتبرونها منافية للقانون والأنظمة

وفي نفس الإطار يضيف الفصل التاسع في فقرته الأولى أن الأحزاب السياسية تمارس أنشطتها بكل حرية في إطار احترام القيم الدستورية والاحترام التام للتعددية والشكل الديمقراطي.

إلا أن المقتضى الأهم والجوهري في القانون الإسباني أنه في حالة خرق أي حزب سياسي لمبادئ الديمقراطية خاصة عندما يهدم أو يحطم نظام الحريات أو يمنع أو يقصي النظام الديمقراطي، يعتبر غير قانوني (الفصل 9- الفقرة 2).

وهكذا يتضح من خلال المقارنة أن القانون الإسباني شرح بتفصيل دقيق آليات الحكامة الجيدة، وذهب إلى اعتبار الحزب الذي يخرق المبادئ الديمقراطية انه غير قانوني، في حين أن نظيره المغربي وإن شدد على المشاركة والمساواة والديمقراطية ولكنه أوردها بشكل عام يمكن من أن يفتح باب التأويل، إلا أن هذا النقص يمكن التغلب عليه بالدور الذي من المنتظر أن يقوم به مناضلوا الحزب في الدفاع عن حقوقهم ومكتسباتهم الديمقراطية وخاصة برفع الدعاوى أمام القضاء من أجل سد هذه الثغرات بالاجتهاد القضائي والمعول عليه كثيرا.

ب-الإنضباط الحزبي.

إذا كانت الحكامة الجيدة تضمن المشاركة والمساواة للجميع فإنها أيضا لا تعني – في إطار حديثنا عن الأحزاب السياسية- أن تدع الباب مشرعا أمام أعضاء الحزب وبدون ضوابط تعطي معنى للانتماء الحزبي لتنظيم سياسي معين، وخاصة وان الأحزاب السياسية المغربية عرفت مجموعة من الظواهر السلبية والتي أثرت بشكل سلبي على الحياة الحزبية والسياسية بصفة عامة.

* الحد من ظاهرة “البرلمانيين الرحل”:

تأتي المادة الخامسة في فقرتها الثانية لتضع حدا لما يسمى ب ” ترحال البرلمانيين” من حزب إلى حزب، وتنص هذه  المادة على ما يلي: “غير انه لا يمكن لشخص يتوفر على انتداب انتخابي ساري المفعول في إحدى غرفتي البرلمان تم انتخابه فيها بتزكية من حزب سياسي قائم أن ينخرط في حزب سياسي آخر إلا بعد انتهاء مدة انتدابه أو في تاريخ المرسوم المحدد، حسب الحالة لتاريخ الانتخابات التشريعية العامة الخاصة بمجلس النواب أو المستشارين بالنسبة لأعضاء البرلمان المؤهلين للترشيح لهذه الانتخابات”[19].

يلاحظ أن الخطاب في هذه المادة موجه إلى غرفتي البرلمان، إلا انه عمليا موجه بالأساس لمجلس النواب الذي يرشح إليه الأشخاص بتزكية حزب سياسي، في حين  أن مجلس المستشارين يتألف من  ممثلي الجماعات المحلية وممثلي الغرف المهنية وممثلي المأجورين حيث يكون من بين هؤلاء من لا ينتمي إلى أي حزب سياسي.

كما انه يمكن أن يتم طرد أو توقيف العضو المرتبط بتزكية حزب سياسي في مجلس النواب من الحزب، وقد تستفحل هذه الظاهرة بسبب المواقف المتباينة بين الأعضاء وأحزابهم، وفي هذه الحالة، هل يمتنع عليه الانخراط في حزب آخر؟

يبدوا انه له ذلك لأن الأمر هنا لا يتعلق  بالتعبير عن إرادته من حيث الانتقال، بل خرج من الحزب مجبرا، وحتى إن منع من ذلك أو ارتأى أن لا ينخرط في حزب آخر، فإنه سيبقى عضوا لا منتميا وقد تتفشى هذه الظاهرة[20].

والواقع أن المشرع يحاول من خلال المقتضى أن يعمل على تضييق الأداء الحزبي، ويمنع ظاهرة الانتقال من حزب إلى حزب أثناء فترة الانتداب، الأمر الذي يخلق شرخا في الفرق البرلمانية وقد يؤثر على عميلة التصويت داخل البرلمان، بفعل تغيير الانتماءات، حيث سجلت الولاية التشريعية السادسة (1997-2002) حركة  118 نائبا، أي ما يعادل ثلث أعضاء مجلس النواب مما يؤثر على الاستقرار المؤسساتي  داخل هذا المجلس بالنظر إلى كون تركيبة اللجان الدائمة تحدد على أساس التمثيل النسبي للفرق[21].

وفي المقابل هناك من يضطر إلى التحول إلى حزب قريب من مبادئ حزبه، لكون حزبه بدأ يغير خطه السياسي أو لغياب الديمقراطية الداخلية أو لأسباب متعددة، تجعل الأمر يتحول من “الترحال” إلى الاستقالة التي تبقى حقا للعضوية خصوصا وأن المادة 27 من هذا القانون تعطيه هذا الحق، الأمر الذي من شأنه أن يظهر نسبة اللامنتميين بل قد يتعدى الأمر ذلك إلى تأسيس أحزاب جديدة طمعا في تزكيات للانتخابات التي تأتي عقب فترة الانتداب.

وتطرح مسألة منع “الترحال البرلماني” إشكالا دستوريا يرتبط بالفصل التاسع من الدستور الذي يضمن “حرية تأسيس الجمعيات وحرية الانخراط في أية منظمة نقابية وسياسية حسب اختيارهم، ولا يمكن أن يوضع حد لممارسة هذه الحريات إلا بمقتضى القانون” وتجدر الإشارة بخصوص هذه النقطة أنه سبق للمجلس الدستوري رفض المادة   (44) من القانون الداخلي لمجلس المستشارين التي نصت على منع انتقال مستشار من فريق إلى فريق إلا بعد نهاية الانتداب معللا قرار الرفض بكون المادة (44) تتعارض ومقتضياته الدستور. لكن انتشار ظاهرة ” الترحال البرلماني” وتقنينها تحتم وضع إطار قانوني يمنع هذه الظاهرة المرضية التي تسيء للمشهد الحزبي وللسلوك السياسي. بالإضافة إلى أن هذه الظاهرة تتعارض ومفهوم الميثاق الذي يربط البرلماني مع الناخب الذي صوت لفائدته باسم الحزب الذي ينتسب إليه[22]. بيد أنه يؤخذ على هذه المادة أنها أغفلت منع “ترحال” أعضاء المجالس الجماعية والإقليمية والجهوية.

إن هذه الظاهرة ترتبط في العمق بالثقافة والتنشئة السياسيين، وبمدى التزام الأحزاب السياسية بترشيح المناضلين الحقيقيين، ووضع قوانين داخلية تمنع تزكية أي مستشار ترشح باسم حزب آخر ووضع ميثاق شرف بن الأحزاب السياسية يمنع الظاهرة[23].

* مظاهر الانضباط  الحزبي في القانون الجديد:

لقد حاول القانون الجديد وضع مجموعة الضوابط والآليات التي من شانها أن تعطي للانتماء إلى حزب سياسي معناه، وسد الفراغ أمام بعض المحسوبين إلى العمل السياسي، والذين يغيرون انتماءهم الحزبي من أقصى اليمين على أقصى اليسار حسب الظروف ومصلحتهم الشخصية.

وهكذا نصت المادة الخامسة والعشرون، على انه “يجب أن يتضمن النظام الأساسي للحزب على الخصوص البيانات الواردة بعده:

1-تسمية الحزب ورمزه؛

2-اختصاصات وتأليف مختلف الأجهزة؛

3-حقوق وواجبات الأعضاء؛

4-طريقة اختيار مرشحي الحزب لمختلف  الاستثمارات الانتخابية والأجهزة المكلفة بذلك؛

5-دورات انعقاد اجتماعات الأجهزة؛

6-شروط قبول وإقالة أو استقالة الأعضاء؛

7-العقوبات التأديبية التي يمكن تطبيقها على الأعضاء والأسباب التي تبرر اتخاذها وكذا أجهزة الحزب التي يرجع إليها اختصاص إصدارها؛

8-كيفيات الانضمام إلى اتحادات الأحزاب السياسية وكيفيات الاندماج؛

يجب أن ينص النظام الأساسي بالخصوص على الجهازين الآتيين:

1-الجهاز المكلف بمراقبة مالية الحزب؛

2-الجهاز المكلف بالتحكيم”[24].

وتعتبر هذه المادة أنها جاءت بمجموعة الشروط الواجب توفرها في الحزب السياسي من أجل تسيير أفضل وشفاف، مع تركها هامشا واسعا للحزب لتحديد وتنظيم آليات تسييره الداخلي، حيث يمكن تقسيم مضمون هذه المادة إلى جزأين الأول مرتبط بأعضاء الحزب، والثاني مرتبط بأجهزة الحزب.

فالجزء الأول يهتم بحقوق وواجبات الأعضاء، وبشروط قبول إستقالة وإقالة الأعضاء، بالإضافة إلى العقوبات التأديبية التي يمكن أن  تصدر في حقهم وأسبابها، ثم الأجهزة المختصة بإصدارها، وطريقة اختيار مرشحي الحزب لمختلف الاستشارات الانتخابية والأجهزة المكلفة بذلك.

هذا الجانب من شأنه أن يوضح العلاقة بين الأعضاء والحزب، ولا يدع مجالا لقيادة الحزب وأجهزته لإقصاء المعارضين داخل الحزب نفسه أو الشطط في استعمال نفوذهم بصفة عامة، هذا من جهة ومن جهة أخرى، فإنه يضع العضو أمام التزاماته ويقيده بواجبات وعقوبات في حالة الإخلال بها.

أما الجزء الثاني من هذه المادة فهو يهتم باختصاصات وتأليف مختلف أجهزة الحزب، ودورات انعقاد اجتماعات هذه الأجهزة، كما يضم كذلك الجهاز المكلف بمراقبة مالية الحزب والجهاز المكلف بالتحكيم، إضافة إلى كيفيات الانضمام إلى اتحادات الأحزاب وكيفيات الاندماج.

وهذا الجزء سيمكن الحزب من الحد من ظاهرة استئثار القيادة الحزبية أو أي جهاز من أجهزته بالتسيير واتخاذ القرار، حيث انه حدد اختصاصات كل جهاز وطريقة تكوينه والتي يجب أن تكون وفق مبادئ ديمقراطية كما نصت على ذلك المادة (21)، وفي نفس الإطار أكدت هذه المادة على مسألة ضرورية ومهمة وهي تتمثل في دورية انعقاد اجتماعات هذه  الأجهزة والتي ستمكن من إشراك الجميع في اتخاذ القرارات وإثراء النقاش الحقيقي حول القضايا المطروحة أمامها. كما أن مسألة وجوب توفر الحزب على جهاز مكلف بالتحكيم، سيسمح بمراقبة كيفية تطبيق الأحزاب للمبادئ الديمقراطية وكيفية تدبير الاختلاف بين أجهزة ومناضلي الحزب، خصوصا في حالة وجود “تيارات” داخلها، مع العلم أن أغلب قيادات الأحزاب السياسية  ترفض الحوار مع وجهات النظر المعارضة مما يعجل بانشقاقات طالت الأحزاب اليسارية واليمينية على السواء، لكن ما سكتت عنه المادة السالفة  الذكر هو كيفية تشكيل لجنة التحكيم وكيفية تحديد آليات اشتغالها وما هي السلط المخولة لها[25].

كما أن المادة “السادسة والعشرون” و”السابعة والعشرون” جاءتا مكملتان للمادة السالفة الذكر فنصت أولاهما على ما يلي: “لا يجوز لأي  شخص أن ينخرط في اكثر من حزب سياسي واحد”[26]. بينما نصت الثانية على انه : “يمكن لكل عضو في حزب سياسي وفي أي وقت أن ينسحب منه مؤقتا أو بصفة نهائية شريطة الامتثال للمسطرة التي يقررها النظام الأساسي للحزب ي هذا الشأن”[27].

وهكذا يتضح أن هاتين المادتين تهدفان بالإضافة إلى سابقتهما إلى تحسين ظروف وملابسات العمل الحزبي الداخلي والذي يشكل ضمانة أساسية لتطوير العمل السياسي بصفة عامة.

وبالرجوع إلى مقتضيات القانون التنظيمي 6/2002 الإسباني المتعلق بالأحزاب السياسية نجده أنه  شدد على حقوق أعضاء الحزب كما شدد على واجباتهم والتي حددها  عكس المشرع المغربي، حيث تنص الفقرة الرابعة من الفصل الثامن على ما يلي:

“4- المنخرطون في حزب سياسي عليهم واجبات ناتجة عن الأنظمة وفي جميع الحالات التالية:

أ-تبني أهداف الحزب والمساهمة في تحقيقها؛

ب-احترام الأحكام الواردة في أنظمته والقوانين؛

ج-الالتزام بالقرارات المتخذة من طرف الأجهزة التسييرية للحزب؛

د-أداء واجبات الانخراط والواجبات الأخرى المتعلقة بكل واحد وحسب الأنظمة”[28].

أما بخصوص العقوبات المتخذة في حق مناضلي الحزب فقد نظمتها الفقرة الثالثة من المادة السالفة الذكر حيث تقول: “العزل وباقي الإجراءات الجزرية التي تجرد المنخرطين من حقوقهم، يمارس بواسطة مساطر تضمن للمنخرطين: معرفة المنسوب إليهم من الأعمال المؤدية لاتخاذ هذه القرارات، والحق في الإنصات إليهم بشكل مسبق لاتخاذ هذه القرارات، والحق في أن تكون العقوبة معللة، ولهم الحق في الطعن الداخلي”[29].

وهكذا يتضح جليا مدى تفصيل وتوضيح المشرع  الإسباني لهذه المقتضيات مقارنة مع نظيره المغربي، نظرا لما تشكله هذه الإجراءات من أهمية في إقامة ديمقراطية داخلية حقيقية للأحزاب السياسية ودعامة حقيقية لحكامتها الرشيدة باعتبارها تفعيل للتضمينية، والتي لا محيد لها عن آليات المساءلة والرقابة.

الفقرة الثانية: تدعيم أليات الرقابة والشفافية:

تعتبر المساءلة العنصر المكمل والأساسي للحكامة الجيدة، فبدونها تفقد التضمنية معناها[30]، ومن هنا سنحاول إبراز معالم الرقابة وخاصة المالية في قانون الأحزاب السياسية المغربي مقارنة بنظيره الإسباني* (أ) إضافة على معايير الشفافية ودور الرأي العام في كل من المغرب وإسبانيا كضمانة رقابية (ب).

أ-الرقابة المالية.

تعتبر الرقابة على مالية الأحزاب السياسة ضمانة أساسية من أجل الرقي بالعمل الحزبي السليم وتفعيل الحياة السياسية بصفة عامة، وفي هذا الإطار خص قانون الأحزاب السياسية مسألة التمويل بباب خاص مكون من ثلاثة عشرة مادة بالإضافة إلى بعض المقتضيات المتفرقة على باقي مواد القانون، بينما نظيره الإسباني فقد خص مسألة التمويل بقانون تنظيمي خاص.

وهكذا فإن المادة الخامسة والعشرون من القانون المغربي أكدت على وجوب أن ينص النظام الأساسي على إحداث جهاز مكلف بمراقبة مالية الحزب، حيث ستمكن هذه المادة من تفعيل المراقبة الداخلية لمالية الحزب وردع جميع التصرفات المنافية للقانون في مهدها، حيث أنها ستمكن من التأكد أن الأموال التي حصلت عليها قد تم صرفها في الأغراض التي منحت من أجلها (المادة 36) و أن كل استخدام غير مبرر للإعانات الممنوحة يعتبر بموجب هذا القانون بمثابة اختلاس للمال يعاقب عليه طبقا للقانون (المادة 38)، وهكذا فإن المادة (36) تشكل مسألة إيجابية لمحاربة الارتزاق السياسي والاختلاس للمال العام  والاغتناء بلا سبب  قانوني مشروع[31]، كما أكدت على ذلك المادة (38).

كما أن المادة 37 أعطت للمجلس الأعلى الاختصاص في مراقبة نفقات الأحزاب حيث نصت على ما يلي: “يتولى المجلس الأعلى للحسابات مراقبة نفقات الأحزاب السياسية برسم الدعم السنوي لتغطية مصاريف تسييرها وكذا الحساب السنوي المشار إليه في المادة 34 من هذا القانون”.

لهذه الغاية توجه الأحزاب السياسية للمجلس الأعلى للحسابات في 31 مارس من كل سنة على أبعد تقدير جردا مرفقا بمستندات إثبات النفقات المنجزة برسم السنة المالية المنصرمة وجميع الوثائق المتعلقة بالحساب السنوي المشار إليه في الفقرة الأولى أعلاه.

يمكن لكل من يعنيه الأمر الإطلاع على الوثائق المذكورة بمقر المجلس الأعلى للحسابات وأخذ نسخة منها على نفقته الخاصة”[32].   

ويتضح من خلال هذه المادة الدور الأساسي والملقى على عاتق المجلس الأعلى للحسابات، ومن هنا تثور إشكالية الإمكانيات المادية والبشرية المؤهلة  لمتابعة هذا الكم  الهائل من الوثائق المحاسبية للأحزاب السياسية.

وبالرغم من ذلك فإن القانون الجديد جاء بالعديد من الإيجابيات إلا أنه تعتريه بعض النقائص مثل عدم تنصيصه على ضرورة تصريح المرشحين بممتلكاتهم وفرض عقوبات زجرية صارمة على كل مرشح لم يلتزم بهذا التصريح[33]. كما انه لم يلزم المجلس الأعلى للحاسبات بأجل للبث في قضايا مالية الأحزاب السياسية كما فعل نظيره الإسباني الذي أعطى أجل ثمانية أشهر للمحكمة. ونفس هذا المقتضى نصت عليه المادة العاشرة من القانون الإسباني الخاص بتمويل الأحزاب السياسية، حيث تقول: “يجب على الأحزاب السياسية أن تكرس نظاما للرقابة الداخلية يضمن التدخل الملائم للمحاسب على كل الأعمال والوثائق التي تتفرع عنها الحقوق والالتزامات ذات المضمون الاقتصادي وذلك في أنظمتها الأساسية”[34].

كما تضمن الباب الخاص بتمويل الأحزاب السياسية من القانون المغربي مجموعة من المقتضيات تتعلق بمبدأ الشفافية والعلانية، حيث نصت المادة (29) على أن المبلغ الإجمالي للدعم يقيد سنويا في قانون المالية، وأضافت المادة (32) أنه يجب أن يتم بواسطة شيك بنكي أو بريدي كل تسديد نقدي لمبالغ مالية لفائدة حزب سياسي تتجاوز قيمته 5000درهم، كما يجب أن يتم بواسطة شيك كل إنجاز لنفقة لفائدة حزب سياسي يتجاوز مبلغها 10.000درهم.

في حين نصت المادة (32) على ما يلي: “يجب على الأحزاب السياسية أن تمسك محاسبة طبق الشروط المحددة بنص تنظيمي، كما يتعين عليها أن تودع أموالها باسمها لدى مؤسسة بنكية من اختيارها”[35].

وللمزيد من الشفافية أجبرت المادة (34) الأحزاب السياسية أن تحصر حساباتها سنويا، ويشهد بصحتها خبير محاسب مقيد في جدول هيئة الخبراء المحاسبين، كما يجب الاحتفاظ بجميع الوثائق المحاسبية لمدة 10 سنوات تبتدئ من التاريخ الذي تحمله، ومن شأن هذه المقتضيات أن تسهل عملية الرقابة والوصول إلى الوثائق المتعلقة بمالية الحزب، إلا أننا نلاحظ أن هذه المادة كانت تتضمن فقرة مهمة في مشروع القانون الخاص بالأحزاب السياسية، تفرض عليها نشر البيانات المالية وملحقاتها في جريدة مؤهلة لتلقي ونشر الإعلانات القانونية، حيث أن هذا الإجراء كان سيساهم في علانية وشفافية العمل لحزبي.

كما أن المادة 35 نصت على أن “يوجه إلى المجلس الأعلى للحسابات بيان بالمبالغ المخصصة لكل حزب سياسي”[36]. واشترطت المادة (36) على الأحزاب السياسية التي تستفيد من الدعم السنوي أن تلتزم بإثبات أن المبالغ المالية صرفت في ما منحت لأجله لدى مجلس الحسابات، كما نصت على ذلك الفقرة الثالثة من المادة (11) من القانون الإسباني “تبدي محكمة الحسابات  رأيها في مدة ثمانية أشهر ابتداء من يوم تسلم الوثائق المشار إليها في العدد السابق مع الإشارة إلى التنظيم المضبوط والملائم لما هو منصوص عليه في هذا القانون، كما يمكن أن تشير إلى المسؤوليات في حالة وجود المخالفات”[37].

كما أن القانون الإسباني ألزم الأحزاب السياسية في مادته التاسعة بأن ترفع سجلات مفصلة إلى المحاسبين حتى تسمح في كل لحظة بالتدخل في نشاطها المالي وتكملة الالتزامات المنصوص عليها والموجودات وفقا لمبادئ المحاسبة العمومية”[38].

ويتضح من هذه المادة أن المشرع الإسباني اعتمد أسلوب التفصيل والدقة، حتى لا يدع أية إمكانية للتلاعب بالمال العام عكس نظيره المغربي الذي اكتفى بمبادئ عامة.

وللمزيد من الشفافية والرقابة ألزمت المادة (11) والقانون التنظيمي لتمويل الأحزاب بإسبانيا، أن تقدم الأحزاب السياسية التي تستفيد من الدعم الرسمي المنصوص عليه في المادة الثالثة حسابا مفصلا أمام محكمة الحسابات خلال سنة، وكذلك تقدم وثائق عن مداخيلها ونفقاتها، ويمكن كذلك لهذه المحكمة أن تطلب من الأحزاب السياسية في المدة المشار إليها، تقريرا  عن المساهمات التي لها علاقة بالمادتين الرابعة والخامسة، واثباتات كل واحدة منها، وكذلك أسماء وعناوين الأشخاص الذين قاموا بها.

كما أن القانون التنظيمي 6/2002 المتعلق بالأحزاب السياسة في فصله 13 الفقرة الثانية منه نص على ما يلي: “تطبيقا لهذه المقتضيات كما هو منصوص عليها في القانون التنظيمي 2/1982 بتاريخ 12 ماي، الخاص بمحكمة الحسابات والقانون 7/1987 المتعلق بتسيير محكمة الحسابات، تتحمل الأحزاب السياسية الالتزامات الشكلية وتحترم جميع المقتضيات المنصوص عليها في ما يتعلق بمراقبة الأموال التي توصل بها”[39].

إلا أن هذه الرقابة سواء داخل الحزب أو الخارجية المتعلقة بالقضاء لن تحقق المرجو منها إلا بتكملتها برقابة شعبية واعية متمثلة في رأي عام مؤثر على صناعة القرار الحزبي ويدفعه دائما إلى تحري النزاهة والمصداقية والفعالية.

ب-الرأي العام.

يرتبط عموما الرأي العام بالقرار السياسي برابطة وعلاقة جدلية، حيث أن كل واحد منهما يؤثر في الآخر وإن اختلف مقدرا هذا التأثير، لكن الإشكال  هو هل هناك توازن بين تأثير الرأي العام في السياسة العامة للدولة وصنع القرار السياسي، وبين تأثيره بمكونات الحياة السياسة؟ والجواب على هذه الإشكالية يختلف تبعا لعدة عوامل من بينها النظام السياسي السائد ونوع القضية المطروحة، ودرجة تماسك الجماهير، ووجود المؤسسات الدستورية التي تسمح بتدقيق رأي عام مؤثر في السياسة العامة، وهكذا فإن درجة تأثير الرأي العام تختلف من قضية إلى أخرى.

كما أن الرأي العام في إطار صناعة القرارات السياسية يرتبط بمدى وجود قنوات تسمح بإيصال الصوت  الحقيقي للرأي العام، وتدخل هنا الأحزاب السياسية باعتبارها محركا وعاملا أساسيا ومؤثر في الرأي العام سواء كانت في المعارضة أو في السلطة.

 وهكذا فإن الرأي يمكن أن تكون له ثلاث وظائف رئيسية في كل نظام سياسي، فهو إما أن يضع حدودا على القرارات الحكومية بفعل المظاهرات المعارضة لمثل هذه القرارات، والتي يمكن أن تلعب فيها الأحزاب المعارضة دورا مهما، وهذا الدور يكون دورا لاحقا، وإما أن يلعب الرأي العام دورا وقائيا كأن يرفض بعض المسؤولين اتخاذ بعض القرارات تحسبا لما يمكن أن تنتج عنها من معارضة قوية، وأما الدور الثالث فيتمثل في أسلوب تعامله مع مخرجات السياسة العامة عندما تصل حيز التنفيذ، فتقبل الرأي العام للسياسات العامة، وتنفيذها باقتناع يمثل العامل الحاسم في استقرارها وتجاهلها والعكس[40].

وعلاقة بموضوع الرقابة والشفافية في قانون الأحزاب السياسية المغربي مقارنة بنظيره الإسباني، يطرح التساؤل التالي، هل القانون الجيد أعطى أية أهمية لرقابة الجماهير على العمل الحزبي ترسيخا لحكامة جيدة؟

نلاحظ أن القانون الجديد المتعلق بالأحزاب السياسية أشار إلى نقطة مهمة وتتعلق بالفقرة الأخيرة من المادة 37 والي نصت على ما يلي: “يمكن لكل من يعنيه الأمر الاطلاع على الوثائق المذكورة بمقر المجلس الأعلى للحسابات وأخذ نسخة منها على نفقته الخاصة”[41].

حيث أن هذا يمكن من الاطلاع على جميع الوثائق المتعلقة بمالية الأحزاب السياسية، وبالتالي ركيزة أساسية لمبدأ الشفافية والعلانية من اجل تكريس الحكامة الرشيدة. إلا أن الغريب في الأمر أن المشروع الأول لقانون الأحزاب السياسية كان يتضمن إجراءا ثوريا وفي غاية الأهمية لتحريك الرأي العام حول العمل الحزبي، ويتعلق بالمادة 34 التي كانت تنص على: “…يتعين نشر بيان الحسابات وملحقاته في جريدتين مخول لهما نشر الإعلانات القانونية تصدر إحداهما على الأقل باللغة العربية…”[42].

هذا المقتضى كان سيضمن لمناضلي الحزب وغيرهم إمكانية الحصول على المعلومات الصحيحة التي تعتبر أساسية في بلورة رأي عام سليم مبني على أسس حقيقية وليس على إعلام قد يكون مأجورا أو مضللا. كما يعتبر نشر المعلومات وتدفقها من أهم ركائز الشفافية التي تبنى عليها الحكامة الجيدة، لكن المؤسف في الأمر أن هذا الإجراء لم تتضمنه الصيغة النهائية للقانون.

أما القانون التنظيمي الإسباني الخاص بمالية الأحزاب السياسية فقد أشار في ديباجته أن الموضوع الأساسي لهذا القانون هو تكريس مبدأي الاستقلالية والعلانية لمالية الأحزاب السياسية الإسبانية، وبالرغم من عدم تنصيص هذا القانون على نشر الحزب لبياناته في الصحافة، إلا أن الرأي العام الإسباني يقوم بدور فعال ومؤثر في مراقبة العمل الحزبي والعمل السياسي بصفة عامة.

وهناك مجموعة من القضايا التي لعب فيها الرأي لعام في إسبانيا دورا حاسما من بينها:

– قضية “فليثا” « Filesa » : وهي اسم لشركة استعملت كغطاء من طرف الحزب الاشتراكي من اجل تمويل غير مشروع[43].

 كما أن الانتخابات الإسبانية الأخيرة بتاريخ 14 مارس 2004 تعتبر أفضل واجهة يتمظهر من خلالها الرأي العام بصورة جلية وواضحة.

عادة الانتخابات في أوربا تكون نتائج استطلاعات الرأي قريبة من نتائج الانتخابات وإن شذت لا تكون مفاجئة، بيد أن نتائج الانتخابات الإسبانية وقعت وقوع الصاعقة في كثير من العواصم الغربية التي كانت تتوقع انتصار الحزب الشعبي الحاكم في البلد منذ عام 1996، والحق يقال أن الشعب الإسباني نفسه تلقى خبر هزيمة الحزب الشعبي على أيدي الاشتراكيين بالدهشة، إذ كانت الإحصاءات واستطلاعات الرأي التي أجريت قبل الانتخابات أجمعت على فوز الحزب الشعبي، وإن كانت تختلف فيما بينها بشأن فارق الأصوات.

 وتجدر الإشارة أن مدونة الانتخابات الإسبانية قد نظمت مسألة استطلاعات الرأي الانتخابية حيث نصت المادة 69 في فقرتها السابعة على ما يلي: “يمنع إعلان وإيداع جس النبض الانتخابي بأية وسيلة من وسائل الاتصال خلال خمسة أيام السابقة عن التصويت”[44].

إلا أن تفجيرات 11 مارس 2004 جاءت لتغلب كل هذه التوقعات، وهكذا حقق الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني  فوزا  ملحوظا بنسبة %43 من الأصوات المعبر عنها، هذه النتيجة ساهمت فيها العديد من الأسباب الموضوعية،  فالحزب الشعبي الذي ظل في السلطة مدة ثمان سنوات اتضح انه يتخذ قرارات تعارض المواقف المعلنة للرأي العام الإسباني سواء تعلق الأمر بالحرب على العراق، أو أزمة الشرق الأوسط، فبالنسبة للتحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية في حربها على العراق، كانت الحكومة في اتجاه والرأي عام في اتجاه آخر حيث أكدت استطلاعات الرأي آنذاك أن %90 من الإسبانيين يعارضون هذا التحالف[45].

كما أن الأسباب المتعلقة بالملابسات التي رافقت أحداث 11 مارس، والتي حاولت حكومة أثنار توظيفها باللجوء إلى الكذب وتزوير الحقيقة مما كان لها انعكاسات سلبية، ففي الوقت الذي كانت فيه الحكومة تشير بأصابع الاتهام إلى حركة “إيتا” ظهرت حجج دامغة تشير إلى عكس ذلك، الشيء الذي قوى الإحساس لدى المواطنين بأنه لولا وقوف إسبانيا إلى جانب الولايات المتحدة في عدوانها على العراق لما وقعت أحداث 11 مارس.

هكذا لم يتقبل  الرأي العام الإسباني- بمن في ذلك قسم من مؤيدي أثنار- أن يقع التضليل عليه في شأن يتصل بالأمن الداخلي، وان يكون حجب الحقيقة عنه فعلا سياسيا مرتبط بالحملة الانتخابية لذلك عاقبه الناخب الإسباني بالتصويت “لثاباتيرو”، كما أن نسبة المشاركة كانت مرتفعة حيث تجاوزت %77.

ومن هنا يتضح الدور الكبر الذي يلعبه الرأي العام الإسباني والتأثير القوي على الأحزاب السياسية بصفة خاصة وعلى الحياة السياسية بصفة عامة، وذلك راجع إلى مجموعة من العوامل المساعدة مثل الصحافة المستقلة وحرية الرأي والتعبير وغيرها، عكس ما هو حاصل في المغرب والذي يجب عليه أن يقطع أشواطا كبيرة خاصة في جانب توعية الجماهير وتوسيع هامش الحريات والضمانات التي تحميها، كما يجب أن تعمل القوانين على تدفق للمعلومات يمكن من بلورة رأي عام فاعل، ويدخل في هذا الإطار- استغلال التكلنولوجيا الحديثة. وإحداث “أحزاب إلكترونية” على غرار ” الحكومات الإلكترونية” للتعريف بالأحزاب ودرها ونشر بيانات وقيامها بدورها التأطيري للجماهير، وذلك من أجل التأسيس لحكامة رشيدة تساهم في تفعيل الحياة الحزبية.


*  من بينها :غياب الديمقراطية الداخلية، عدم احترام دورات عقد المؤتمرات الحزبية، عدم شفافية التدبير المالي، غياب التناوب على القيادة الحزبية، غياب المشروع المجتمعي، الترحال البرلماني، غياب المرجعية الإيديولوجية، تشابه الخطاب الحزبي، تغييب الشباب والنساء، تشابه البرامج الحزبية…

*  للمزيد من الإطلاع أنظر، سعيد الرابح، قراءة في قانون الأحزاب السياسية المغربية، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة، كلية العلوم القانونية و الإقتصادية و الإجتماعية، جامعة الحسن الثاني، عين الشق الدار البيضاء، سنة 2007، ص.80ـ83.

[1]  عبد الله ساعف: التقنين يخفي هاجس التعبئة من فوق، الصحيفة، عدد 184. 10/16 نونبر 2004، ص:14.

[2]  محمد كمراد، إشكالية المشاركة السياسية بالمغرب، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة، إشراف الدكتور مصطفى جفال، جامعة  الحسن الثاني، عين الشق، الدار البيضاء، السنة الجامعية 99-2000، ص:3.

[3] عبد الرحيم  المنار اسليمي، البناء السياسي والتنظيمي للمؤسسة الحزبية بالمغرب في شروع القانون الجديد؟ المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، “أي إطار قانوني للأحزاب السياسية بالمغرب؟”، سلسلة مواضيع الساعة، العدد 51، 2005، ص: 39.

[4]  قانون رقم 04-36 المتعلق بالأحزاب السياسية، الجريدة الرسمية عدد 5397 بتاريخ 20 فبراير 2006.

[5]  نفس المرجع.

[6]  أحمد جزولي، “المرأة والمشاركة السياسية” أعمال اللقاء الدولي، بعنوان ” المرأة في الحقل السياسي” بتاريخ 13-14 يونيو 2002.بدعم من وزارة الثقافة، وصندوق الأمم المتحدة للسكان. مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، 2003، ص:26.

[7]  نفس المرجع، نفس الصفحة.

[8] قانون رقم 04-36 المتعلق بالأحزاب السياسية، مرجع سابق.

[9] نفس المرجع.

[10]  نفس المرجع.

[11] محمد الأزهر، قانون الأحزاب السياسية، القانون 04-36، قراءة ونصوص، مطبعة دار النشر المغربية، 2006، ص 29.

[12]  قانون رقم 04-36 المتعلق بالأحزاب السياسية، مرجع سابق.

[13]   محمد الأزهر، مرجع سابق، ص:30.

[14]  نفس المرجع ، ص:32.

[15] Ley organica 6/2002, de 27 de junio, de partidos  politicos (B.O.E num. 154, de 28 de junio).

[16] Ibidem

[17] Ibidem.

[18] Ibidem.

[19]  قانون رقم 04-36 المتعلق بالأحزاب السياسية، مرجع سابق.

[20]  محمد الأزهر، مرجع سابق، ص:17.

[21]  محمد الغالي، التأسيس القانوني للأحزاب المغربيةن دفاتر سياسية ، عدد 67، يناير 2005، ص:5.

[22]  ميلود بلقاضي،قراءة في قانون رقم 04-36 المتعلق بالأحزاب السياسية، سلسلة دراسات وأبحات، منشورات فكر، الطبعة الأولى، نونبر 2006 ص:90.

[23]  نفس المرجع، ص:110.

[24]  قانون رقم 04-36 المتعلق بالأحزاب السياسية، مرجع سابق.

[25] ميلود بلقاضي، مرجع سابق، ص:106.

[26] قانون رقم 04-36 المتعلق بالأحزاب السياسية، مرجع سابق.

[27]  نفس المرجع.

[28] Ley organica 6/2002, de 27 de junio, de partidos  politicos, (B.O.E num 154, de 28 de junio).

[29] Ibidem.

[30] تقرير عن التنمية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إدارة حكم افضل لأجل التنمية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تعزيز التضمينية والمساءلة، البنك الدولي، دار الساقي، بيروت، 2004، ص:48.

*  تجدر الإشارة أن المقارنة ستكون مع القانون التنظيمي 3/1987 الصادر في 2 يوليوز المتعلق بتمويل الأحزاب السياسية، كما أحال على ذلك الفصل (13) من القانون التنظيمي 6/2002 المتعلق بالأحزاب السياسية.

[31]  احمد مفيد، مسودة مشروع قانون الأحزاب السياسية، دراسة تحليلية في السياق، النص والآفاق،المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، “أي إطار قانوني للأحزاب السياسية بالمغرب؟”، سلسلة مواضيع الساعة، العدد 51، 2005، ص:62.

[32]   قانون رقم 04-369، المتعلق بالأحزاب السياسية، مرجع سابق.

[33]  ميلود بلقاضي، مرجع سابق، ص:112.

[34]  أحمد السوداني، نظام الاقتراع النسبي  وتطبيقه في انتخابات الكورتيس العام الإسباني، دراسة يناير 2002 الملحق الخاص بالقانون التنظيمي المتعلق بتمويل الأحزاب السياسية، 167.

[35]  قانون رقم 04-36 المتعلق بالإحزاب السياسية، مرجع سابق.

[36]  نفس المرجع

[37]  أحمد السوداني، الاقتراع النسبي وتطبيقه في الكورتيس العام الإسباني، مرجع سابق، ص:167.

[38]  نفس المرجع، ص:167.

[39]  Ley organica 6/2002, de 27 de junio, de partidos pliticos, (B.O.E num 154, de 28 de junio).

[40]  أحمد بدر: الرأي العام، طبيعته وتكوينه وقياسه ودوره في السياسة العامة، مكتبة غريب، الطبعة الأولى، سنة 1973.

[41]  قانون رقم 04-36 المتعلق بالأحزاب السياسية، مرجع سابق.

[42] المسودة الثالثة لمشروع قانون الأحزاب السياسية.

[43] Erwan Basnier, système de partis politiques et comportement électoraux en Espagne de 1977 à 2001, vingtième siècle. Revue d’histoire, 74 avril – juin 2002.. p.47.

[44] أحمد السوداني، نظام الاقتراع النسبي وتطبيقه في انتخاب الكورتيس العام الإسباني، دراسة، مرجع سابق، ص:132.

[45]   جريدة الشرق الأوسط، عدد 9257، بتاريخ 2 أبريل 2004.

إقرأ أيضاً

الرقابة على الدستورية والأمن القانوني دراسة في ضوء الإجتهاد القضائي الدستوري المغربي

الرقابة على الدستورية والأمن القانوني دراسة في ضوء الإجتهاد القضائي الدستوري المغربي Constitutional control and …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *