فصل المقال فيما بين حضور وتغيب الموظف من اتصال
separation between the absence
And the presence of the civil servant at work from contact
ايت الشريفة بوعـــــزة
طالب باحث بسلك الدكتوراه (القانون العام والعلوم السياسية)
-جامعة محمد الخامس بالرباط-كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بسلا.
b.aitchrifa@gmail.com
تقديم
تشكل ظاهرة هدر الزمن في تدبير العمل الإداري إشكالية حقيقية وتحديا كبيرا يواجه الإدارة العمومية المغربية، وذلك من حيث تأثيره السلبي على السير العادي للمرفق العمومي وعلى صرف النفقات العمومية من جهة ثم على جودة الخدمات العمومية وجهود التنمية من جهة ثانية. ويتمظهر هذا الهدر في عدة عوامل وأسباب تتداخل فيها الجوانب التنظيمية والتدبيرية والتخليقية.
ورغم جهود ومحاولات الإصلاح ذات الطابع الأفقي والقطاعي التي بذلتها الحكومات المتعاقبة لتدارك التأخر المسجل في معالجة أعطاب التدبير العمومي والإدارة العمومية باعتبارها أداة لتحقيق الأهداف الاستراتيجية والسياسات العمومية والبرامج الحكومية فإن الاختلالات التي تعرفها هندسة وتدبير هذه الإصلاحات تحد من نجاعة وفعالية أي إصلاح.
وحيث أن الموارد البشرية تعد من بين أهم مكونات وركائز الإدارة فإن استمرار استقطابها وتدبيرها بالطرق البيروقراطية وبالقواعد النظامية التقليدية، يعد أحد العوامل الأساسية لهدر الزمن الإداري الذي يعكسه تدني مستوى الانضباط والالتزام والأداء المهني لدى الموظف، والذي يتجلى بالخصوص عبر ظاهرتي الحضورية والتغيب عن العمل التي تتفشى في مصالح الإدارات العمومية والجماعات الترابية، وانعكست آثارهما السلبية على أداء ومردودية الإدارة وعلى سمعتها وصورتها لدى المرتفق.
وقد فطنت مؤخرا الوزارة الوصية على قطاع الوظيفة العمومية و إصلاح الإدارة إلى تلازم
هذين الظاهرتين السلبيتين في منظومة الوظيفة العمومية كشكلين متداخلين من أشكال هدر الزمن
بالإدارة العمومية، وحاولت معالجتهما ضمن الخطة الوطنية لإصلاح الإدارة 2018-2021.[1]
فما المقصود إذن بهذين الظاهرتين؟ وما هي نقاط الالتقاء والتباين بينهما؟ وما هي العوامل المغذية لاستمرارهما؟
سنحاول ضمن هذا المقال مقاربة هذا الموضوع اعتمادا على منهج التحليل القانوني والمنهج الوصفي في قراءة عدة نصوص قانونية ذات صلة بالموضوع لاستكشاف الجوانب الأساسية الظاهرة والخفية التي تؤثث معالم الظاهرتين على المستويين القانوني والتدبيري، وذلك من خلال إلقاء الضوء على منظومة الوظيفة العمومية المؤطرة للنشاط الوظيفي ولرخص التغيب عن العمل مجهة، ولمواجهة عوامل هدر وقت العمل الإداري، وكذا تحليل وتقييم اختلالات هذه المنظومة ومحدودية نتائجها.
المبحث الأول: التمييز بين حالة القيام بالعمل والتغيب عن العمل في الوظيفة العمومية المغربية
على الرغم من أهمية تحديد مفهومي العمل و الانقطاع عنه في إثبات الحقوق والآثار المترتبة عنهما في تدبير المسارات المهنية لأعوان وموظفي الإدارة من أجرة وترقية ورخص وإجراءات تأديبية ومحاسبية وغيرها، فإن مقتضيات الظهير الشريف رقم1.58.008 بتاريخ 24 فبراير 1958 بمثابة النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية لم تتطرق لأي تعريف قانوني صريح لماهية القيام بالعمل أو التغيب عن العمل بشقيه المشروع وغير المشروع.
وعليه فإن اقتفاء أثر معنى القيام بالعمل والانقطاع عنه ضمن مقتضيات النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية ونصوصه التطبيقية يمر عبر البحث في الوضعيات القانونية التي يمكن أن يوضع فيها الموظف، وفي رخص التغيب بكافة أصنافها وكذا في الاجراءات المحاسبية والزجرية المتخذة في حق الموظف الذي يتعمد التغيب عن العمل خلال أوقات العمل الإدارية بشكل غير مشروع وغير مبرر.
المطلب الأول: وضعيات وحالات القيام بالعمل
في باب الوضعيات القانونية للموظف، نص الفصل 38 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية على أن الموظف يكون في وضعية القيام بالوظيفة ” إذا كان مرسما في درجة ما ومزاولا بالفعل مهام إحدى الوظائف المطابقة لها بالإدارة التي عين بها “.
ويستفاد من هذه المقتضيات أنه يتعين على الموظف في الحالة العادية أن يكون مزاولا بالفعل لمهام إحدى الوظائف المطابقة للدرجة التي ينتمي إليها نظاميا بالإدارة الأصلية التي تم توظيفه بها[2]، حتى يتسنى له الاستفادة من كافة حقوقه القانونية المنصوص عليها في الظهير الشريف رقم 1.58.008 سالف الذكر، بما فيها حقه في الأجرة وفي الترقي وفي التقاعد التي يشرع في الاستفادة منها ابتداء من تاريخ التوظيف والتعيين و الالتحاق بالعمل.
ويكون في نفس الوضعية أيضا، حسب مقتضيات نفس الفصل، الموظف “المستفيد من الرخص الإدارية ومن الرخص لأسباب صحية ورخص الولادة[3] والرخصة بدون أجرة، وكذا الموظف الموضوع رهن إشارة إدارة عمومية غير إدارته أو جماعته الترابية الأصلية أو الموظف في حالة التفرغ النقابي لدى إحدى المنظمات النقابية الأكثر تمثيلا”.
الفرع الأول: رخص التغيب
أجاز الفصل 38 سالف الذكر للموظف أيضا الاستفادة من نفس الحقوق في حالة التغيب عن العمل خلال أوقات وأيام العمل الإدارية[4]، بموجب إحدى رخص التغيب المحددة لائحتها في الفصل 39 من نفس القانون، باستثناء رخصة التغيب عن العمل بدون أجرة التي تمنح بناء على طلب من الموظف مرة واحدة كل سنتين لمدة شهر واحد يسقط فيها حقه في الأجرة ، وكذا في حالة رخص المرض التي يتقاضى فيها الموظف المعني نصف أجرته بعد الانتقال إلى المرحلة الثانية من رخصة المرض بأصنافها الثلاث :القصيرة و المتوسطة و الطويلة الأمد، وذلك حسب الشروط القانونية المتعلقة بهذه الأصناف من رخص المرض، علما أن الموظف المستفيد من رخصة مرض بسبب مرض أو حادثة وقعت له أثناء أو بمناسبة مزاولة عمله أو خلال القيام بتضحية للصالح العام أو لإنقاذ حياة شخص ما فإنه يحتفظ بأجرته كاملة وبباقي حقوقه المقررة قانونا طيلة مدة الرخصة مهما كانت مدتها وفقا لمقتضيات الفصل 45 من القانون المذكور.
أما فيما يخص الرخص الاستثنائية أو الإذن بالتغيب، فإن هذا الصنف من الرخص عالجها الفصل 41 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية وأجاز منحها للموظف مع احتفاظه بحقه في الأجرة وبباقي الحقوق دون أن تدخل ضمن الرخصة السنوية، وحدد لها أربع فئات من الموظفين التي يمكن أن تستفيد منها: وهي فئة الموظفين المكلفين بنيابة عمومية، وفئة الموظفين المنتدبين بصفة قانونية لدى منظمات نقابية أو منظمات مهنية أو دولية، وفئة الموظفين الذين يدلون بمبررات عائلية أو أسباب خطيرة واستثنائية ثم الفئة الأخيرة من الموظفين الذين يؤدون فريضة الحج الذين يستفيدون من هذه الرخصة مرة واحدة طيلة حياتهم الإدارية.
وباستثناء مدة الرخصة الممنوحة للفئة الثالثة من الموظفين والمحددة في 10 أيام، فإن المشرع لم يحدد أي سقف لباقي أصناف الرخص الاستثنائية أو الإذن بالتغيب.
وهناك حالات وفترات أخرى من التغيب عن العمل، لم يتطرق إليها المشرع في قانون الوظيفة العمومية، والتي يظل فيها الموظف في وضعية القيام بالوظيفة رغم تغيبه فعليا عنه ، حيث يظل مستفيدا من أجرته الشهرية، وتحتسب الفترات المذكورة أيضا في الأقدمية للاستفادة من حقي الترقي والتقاعد وباقي الحقوق التي تتطلب الاستفادة منها التوفر على أقدمية معينة في الإدارة أو في الرتبة أو الدرجة، كأيام الأعياد الوطنية والدينية[5] وعطل نهاية الأسبوع[6] والحالات التي تسمح أو ترخص فيها الإدارة للموظف بمتابعة تكوين أساسي، خارج وضعية الاستيداع(الفصل 58)، أو للاستفادة من تكوين مستمر أو للقيام بمهام خارج إدارة العمل.
الفرع الثاني: القيام بالعمل في وضعية الالحاق ووضعية الجندية [7]
رغم أن المشرع ميز وضعية الإلحاق عن وضعية القيام بالوظيفة فإن الموظف في هذه الوضعية يكون أيضا في حالة القيام بوظيفته وعمله لدى الجهة الملحق لديها[8] و يحتفظ بصفته كموظف بحقوقه في الترقي وفي التقاعد بإدارته الأصلية[9] باستثناء أساسي يكمن في تقاضيه لأجرته من الجهة الملحق لديها. ويمكنه أيضا الاستفادة من رخص التغيب المسلمة له طبقا للمقتضيات القانونية المعمول بها لدى جهة الإلحاق.
وبالتالي فإن مناط ومعيار التمييز بين وضعيتي القيام بالوظيفة وبين وضعية الالحاق هو مزاولة العمل بإدارة أو جهة أخرى غير الإدارة الأصلية مع تحمل إدارة الإلحاق لأجرة الموظف المعني، وذلك بخلاف حالتي الموظف الموضوع رهن الإشارة أو الموظف المستفيد من التفرغ النقابي الذي يقوم بمهامه ونشاطه لفائدة الجهة الموضوع رهن إشارتها أو المنظمة النقابية المتفرغ لديها، بينما يظل مستفيدا من كافة حقوقه المهنية، بما فيها الحق في الأجرة، بإدارته الأصلية التي تقع عليها مسؤولية تتبع مزاولة الموظف المعني لمهامه بالجهة أو النقابة التي يعمل بها فعليا قصد التأكد من استحقاقه للحقوق المذكورة.
ويعتبر أداء الموظف المدني في وضعية الجندية[10] للخدمة العسكرية المحدثة بموجب القانون[11] كما لو أنه قام بمهامه فعليا بإدارته الأصلية، وذلك من حيث استمراره في الاستفادة من حقوقه في الترقي وفي التقاعد بعد إعادة إدماجه بسلكه الأصلي، بينما يتقاضى أجرته الشهرية طيلة مدة أداء الخدمة العسكرية من ميزانية الدفاع الوطني.
الفرع الثالث: وضعية التوقف المؤقت عن العمل
يتعين بداية التمييز في هذه الحالة من جهة أولى بين التوقيف عن العمل الصادر بمبادرة من الإدارة في حق الموظف الذي ارتكب هفوة خطيرة تقتضي، في تقديرها، إبعاده عن العمل لمدة لا تتعدى أربعة أشهر أو إلى أن يتم البت نهائيا في حالته تأديبيا في حالة المتابعة الجنائية، وذلك طبقا لمقتضيات الفصل 73 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية، ومن جهة ثانية بين وضعية التوقيف المؤقت أو الاستيداع المحدد في الفصل 54 من نفس النظام. ففي الحالة الأولى يصدر مقرر التوقيف فورا عن الإدارة متى ما تبين لها أن الموظف ارتكب خطأ مهنيا جسيما أو كان محل متابعة جنائية، ويحق للإدارة، وفق منطوق الفصل 73 المذكور، أن تحتفظ للموظف المعني بمرتبه كاملا أو أن تحدد قدر الاقتطاع منه بموجب مقرر[12].
بينما يختلف الأمر في وضعية الاستيداع التي يتوقف فيها الموظف عن مزاولة عمله بإدارته الأصلية، بناء على طلبه أو بشكل حتمي، لمدة أو فترات متجددة قد تتراوح بين سنة وعشر سنوات، حسب الحالة، حيث أن حقوق الموظف المعني في الأجرة والترقي والتقاعد تتوقف كليا، و لا يستأنف الاستفادة من هذه الحقوق إلا بعد إعادة إدماجه في إطاره الأصلي و استئنافه للعمل وفقا للمسطرة المعمول بها في هذا الشأن. والاستثناء الوحيد المقرر على هذه القاعدة هو ذلك المنصوص عليه في الفصل 45 المكرر من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية الذي خول للإدارة صلاحية وضع الموظف الذي لم يستطع لأسباب صحية استئناف عمله بعد انقضاء رخصة المرض قصيرة الأمد أن تجعله في وضعية الاستيداع التلقائي مع الاستفادة من نصف أجرته لمدة ستة أشهر بالإضافة إلى التعويضات العائلية.
وبالتالي فإنه، فيما عدا هذا الاستثناء، فإن القاعدة تقضي بأن الموظف الذي يتوقف عن عمله بموجب وضعية الاستيداع تتوقف فيها أيضا حقوقه المهنية المرتبطة بواجب مزاولة العمل.
المطلب الثاني: منظومة مواجهة التغيب غير المشروع عن العمل
يعد العنصر البشري المحرك الرئيسي للنشاط الإداري، إذ بفضله تحقق الإدارة دورها في تنظيم وتدبير المرافق العامة وضمان استمراريتها وحسن سيرها، لذا فإن التغيب عن العمل وعدم احترام مواقيت العمل الرسمية يشكل أحد عوائق استمرارية المرفق العمومي ويؤثر سلبا على جودة خدماته.
وقد واجه المشرع المغربي ظاهرة التغيب غير المشروع عن العمل بمنظومة قانونية شبه متكاملة تجمع بين الأحكام المحاسبية والتأديبية والتدبيرية.
الفرع الأول: أحكام الاقتطاع من الأجرة
تفعيلا لقاعدة الأجرة مقابل العمل المنصوص عليها في النظام العام للمحاسبة العمومية [13] صدر القانون رقم 81.12 بشأن الاقتطاعات من رواتب الموظفين وأعوان الدولة والجماعات المحلية المتغيبين عن العمل بصفة غير مشروعة، الصـادر بتنفيذه الظهــير الشـريف رقم 1.83.230 بتاريخ 5 أكتوبر 1984[14]. وتطبيقا له صدر المرسوم رقم 2.99.1216 بتاريخ 10 مايو 2000 المحدد لشروط وكيفيات تطبيق القانون المذكور[15].
وحددت مقتضيات المرسوم شروط وقدر الاقتطاع من أجور الموظفين والأعوان المتغيبين عن العمل بدون ترخيص أو مبرر مقبول، خلال يوم كامل أو فترة منه. وتباشر هذه الاقتطاعات، حسب الحالة على أساس 30/1 أو 60/1 من مبلغ الأجرة الشهرية باستثناء التعويضات العائلية. ويتعين على الإدارة توجيه استفسار كتابي للمعني بالأمر لتوضيح أسباب تغيبه قبل إحالة أمر الاقتطاع على المحاسب العمومي في الحالة التي لم يدل فيها المعني بالأمر بأي مبرر قانوني أو مقبول حول سبب تغيبه عن العمل، علما أن المرسوم لم يحدد أجلا معينا أو المدة القانونية المطلوبة للإدلاء بالجواب على الاستفسار.
و استندت عدة قطاعات وزارية لنفس المقتضيات القانونية و المسطرية المذكورة في لجوئها للاقتطاع من أجور الموظفين المضربين عن العمل، بدعوى أن الإضراب عن العمل لا يعتبر تصرفا مشروعا في غياب صدور القانون التنظيمي المحدد لشروط وكيفيات ممارسة الإضراب الذي يظل حقا دستوريا مع وقف التنفيذ[16].
الفرع الثاني: مسطرة ترك الوظيفة
عرف الظهير الشريف رقم 1.58.008 بتاريخ 24 فبراير 1958 بمثابة النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية تعديلا هاما سنة 1997 من خلال إضافة الفصل 75 المكرر المتعلق بمسطرة ترك الوظيفة التي تطبق في حالة انقطاع الموظف بشكل متعمد عن العمل بصفة غير مرخصة أو مبررة.
وتضمنت مقتضيات هذا الفصل سلسلة من الاجراءات المترابطة تبدأ بتوجيه إنذار باستئناف العمل داخل أجل 7 أيام ابتداء من تاريخ التوصل بالإنذار، وإذا لم يستأنف المعني بالأمر عمله داخل هذا الأجل يمكن للإدارة أن تلجأ مباشرة إلى عزله من أسلاك الوظيفة العمومية دون ضمانات تأديبية، ويمكن أن تكون هذه العقوبة مصحوبة بالحرمان من الحق في التقاعد. أما إذا لم تستطع الإدارة تبليغ الإنذار فإنها تصدر أمرا بإيقاف أجرته لمدة شهرين حيث يسوغ لها أيضا صلاحية اتخاذ نفس العقوبة المذكورة التي تسري ابتداء من تاريخ ترك الوظيفة في حالة عدم استئناف العمل داخل أحد أجل شهرين. ولا يتمتع الموظف في هذه الحالة أيضا بالضمانات التأديبية المقررة في فصول النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية إلا إذا استأنف عمله داخل أجل الشهرين. فللإدارة في هذه الحالة عرض ملفه على المجلس التأديبي قصد اتخاذ إحدى العقوبات المقترحة من طرف هذا الأخير أو تطبيق مسطرة التشديد وفقا لسلم العقوبات المحددة في الفصل 66 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية إذا ارتأت أن العقوبة المقترحة من طرف المجلس التأديبي لا ترقى إلى درجة خطورة الخطأ المرتكب.
الفرع الثالث: الاجراءات التدبيرية لتتبع التغيب غير المشروع عن العمل
رغم صرامة المنظومة القانونية المشار إليها سالفا فإن عدم أو سوء تطبيقها من المصالح المختصة بالإدارات العمومية والجماعات الترابية أو نظرا للتستر على حالات التغيب غير المشروع عن العمل ساهم أيضا في استمرار واستفحال هذه الظاهرة. وقد استدعى هذا الواقع البحث عن وسائل تدبيرية إضافية للتصدي لكافة أشكال وصور التغيب عن العمل بصفة غير مرخصة وغير مبررة. وتمثلت بالخصوص في إصدار عدة مناشير[17] عن الوزارة المكلفة بالوظيفة العمومية وعن الوزارة الأولى سابقا ورئاسة الحكومة لاحقا، كان آخرها منشور رئيس الحكومة رقم 26/ 2012 الصادر بتاريخ 15 نونبر 2012 المتعلق بالتغيب غير المشروع عن العمل.
وتضمن هذا الأخير مجموعة من الإجراءات والتدابير والآليات الوقائية والدورية لتتبع وتقييم مجهودات القطاعات الوزارية في مواجهة التغيب غير المشروع عن العمل بمختلف مصالحها.
ومن أهم الإجراءات والآليات الواردة في هذا المنشور إلزام القطاعات الوزارية بإعداد شهادتين جماعيتين في نهاية كل سنة موقع عليها من طرف الرؤساء التسلسليين بمختلف مصالح الإدارات العمومية، تتضمن الأولى لائحة الموظفين الذين مارسوا عملهم بشكل منتظم بينما تتضمن الثانية قائمة بأسماء الموظفين الذين تغيبوا خلال السنة المقصودة بصفة غير مشروعة عن العمل مع بيان الإجراءات المتخذة في حقهم عند الاقتضاء. وتعرض الشهادتان داخل أجل محدد على الخزينة العامة للمملكة لمقارنتها مع جذاذية الأجور الممسوكة لديها. كما أحدث المنشور لجنة ما بين وزارية تعقد اجتماعاتها بالوزارة المكلفة بإصلاح الإدارة وبالوظيفة العمومية لدراسة الحالات المحددة في المنشور وإعداد تقرير سنوي عام يرفع قبل نهاية شهر أكتوبر من كل سنة على رئيس الحكومة بشأن نتائج تطبيق المقتضيات القانونية سالفة الذكر و الاجراءات والتدابير المضمنة في المنشور.[18]
المبحث الثاني: إشكالية الحضورية أو الوجه الآخر للتغيب
إن التغيب عن العمل لا يقل في الواقع سلبية عن إشكالية الحضورية أو الحضور الشكلي غير المنتج للعديد من الموظفين والأعوان الذين يكتفون باحترام مواقيت العمل أو الحضور إلى مكاتبهم وأماكن عملهم دون تحقيق مردودية في العمل. فرغم التناقض الظاهر في المعنى والمبنى للظاهرتين إلا أنهما يلتقيان في العديد من الأسباب والانعكاسات. وهذا ما حدا ببعض الباحثين المختصين في مجال سوسيولوجيا الشغل[19] إلى وصف ظاهرة الحضورية بكونها الوجه الخفي أو الوجه الآخر للتغيب عن العمل « le présentéisme c’est le visage caché de l’absentéisme »
المطلب الأول: تجليات وعوامل ظاهرة الحضورية
في انتظار نتائج الدراسة الميدانية المزمع إطلاقها من طرف وزارة الوظيفة العمومية بخصوص الظاهرتين المذكورتين، فإنه يصعب، في الوقت الراهن، تقديم تشخيص دقيق للظاهرة في الوظيفة العمومية المغربية بقدر ما يمكن مقاربتها من زاوية البحث في بعض مؤشراتها العامة وتمظهراتها الأساسية على ضوء استنتاجات وملاحظات بعض الدراسات المقارنة القليلة التي بحثت في الظاهرة بمقاولات القطاع الخاص ومحاولة إسقاط بعض جوانبها على واقع القطاع العمومي.
الفرع الأول: الحضورية في الدراسات المقارنة
ظهر استعمال مصطلح الحضورية في العقود القليلة الأخيرة في بعض الدراسات الأمريكية والأوروبية الحديثة التي تعنى بالخصوص بالبحث في ظروف وشروط العمل بالمقاولة. وقد ارتبط مدلوله في معظم هذه الدراسات بالحالة الصحية للمستخدم الذي يضطر أو يفضل الحضور إلى عمله رغم تدهور حالته الصحية.
وهذا السلوك الحضوري في نظر عدد من الباحثين والمختصين في مجالي طب الشغل وعلم نفس الشغل لا يخدم مصالح المستخدم والمقاولة على حد سواء انطلاقا من أن تركيزه وانتاجيته ستنخفض أو تنعدم ويكون حضوره جسديا أكثر منه مجديا وهو ما يسمونه تحديدا بالحضورية. بل إن حالته، في نظرهم، يمكن أن تتطور إلى الأسوأ بشكل يؤدي إلى التغيب عن العمل لمدة أطول مما لو استفاد من فترة قصيرة للعلاج ولاسترجاع عافيته. هذا، فضلا عن مخاطر انتقال عدوى المرض إلى زملائه في العمل إذا كان المرض المصاب به من النوع المعدي. ومن ثم فإنهم يعتبرون الحضورية، في ارتباطها بالعامل الصحي، نظريا وعمليا ظاهرة سلبية من حيث مساهمتها في تراجع مردودية العامل، كما أنها تشكل مقدمة ومرحلة تمهيدية لتغيب فعلي عن العمل يصعب التكهن بمدته.
وأغلب الدراسات التي اهتمت بهذا الموضوع وبالبحث في تأثيراته على أداء المقاولة اكتفت بمعالجته من زاوية عامة، ولازالت في بداية الطريق للإحاطة الدقيقة بمكامنه وخباياه.
وبالتالي فإن جهود الباحثين في الموضوع تركز على البحث عن الدوافع الحقيقية التي تدفع العامل إلى الحضور للعمل رغم مرضه أو إلى الاستمرار في العمل بعد انتهاء الوقت القانوني للعمل، علما أن الحضور المبالغ فيه surprentèisme يؤثر سلبا على صحته البدنية والنفسية، وعلى مردوديته وانتاجيته على المدى المتوسط والطويل[20].
وقد اختلفت الدراسات في مقاربة أسباب هذه الظاهرة، وهي على قلتها يكاد نطاقها ومجال بحثها ينحصر في فضاء العمل بالقطاع الخاص.
وفي هذا السياق ينبغي الاعتراف بأن الحضورية ظاهرة معقدة تتداخل فيها العوامل الشخصية المرتبطة بكل مستخدم بالعوامل التنظيمية والتدبيرية والاجتماعية.
فالدراسات القليلة التي بحثت في الموضوع حاولت التمييز بين التبريرات المرتبطة بالحضورية اللاإرادية والأخرى ذات الصلة بالحضورية الإرادية[21].
فالحضورية اللاإرادية بحسب هذه الدراسات تفيد بأن العامل الذي رغم معاناته من مشاكل صحية يكون في وضعية تضطره إلى الحضور للقيام بعمله رغما عنه إما بالنظر لعدم توفر المقاولة على من يخلفه في عمله أو تجنا لأي تغيب عن العمل قد يكلفه فقدان منصبه.
وهكذا فإن العامل الذي يكون مثلا في وضعية مادية أو إدارية هشة Insécurité de l’emploi يخشى عادة على مستقبله المهني مخافة فقدان وظيفته في حالة تكرار تغيبه عن العمل بسبب صرامة إجراءات مراقبة الحضور ونظام تتبع أداء العمال أو المستخدمين. وفي حالات أخرى يضطر العامل للحضور لمقر العمل نتيجة اقتناعه بأن لا أحد غيره يستطيع القيام بعمله على أحسن وجه، أو أنه يخشى أن يتراكم عليه العمل جراء تغيبه ويواجه ثقل وعناء القيام بالمتأخرات بعد استئناف العمل.
أما الحضورية الإرادية فهي ترتبط مباشرة بالقرار الشخصي والاختياري للعامل الذي يفضل الحضور لعمله رغم ظروفه الصحية غير الملائمة للعمل. وقد ذهبت عدة آراء ووجهات نظر الباحثين بشأن هذا الصنف من الحضورية إلى تفسير هذا السلوك بإجراءات التحفيز وأساليب الدعم والرعاية والتأثير التي تتبعها القيادة في العمل تجاه مرؤوسيها، وهذه العوامل تؤدي في نظرهم إلى تحفيز وارتفاع درجة التضحية والالتزام المهني لدى العامل وتعبر بالتالي عن وفاءه وولاءه لقيادته وللمقاولة التي تحتضنه رغم ظروفه الصحية غير الملائمة للقيام بالعمل.
الفرع الثاني: الحضورية في الوظيفة العمومية المغربية
ينذر، إن لم يكن يعدم، أن كانت ظاهرة الحضورية في الوظيفة العمومية المغربية موضوع دراسة علمية تستهدف استجلاء مفهومها واستكشاف أسبابها وأبعادها وتأثيراتها على أداء وخدمات الإدارة العمومية. وهذا على الرغم من أنها تمثل شكلا آخر من أشكال هدر الوقت والكفاءات و الموارد المالية معا، وذلك على النحو الذي يصبح فيه صرف أجرة الموظف مجرد ريع وظيفي تتحول معه قاعدة “الأجرة مقابل العمل ” إلى مجرد “أجرة مقابل الحضور” بصرف النظر عن مردوديته وانتاجيته، مما يكرس الصورة النمطية المرسومة في ذهن الكثيرين عن الوظيفة العمومية بأنها فضاء للريع و ملجأ لضمان الاستقرار والأمن الوظيفي والراتب الشهري[22]
المطلب الثاني: أسباب وعوامل الحضورية في الوظيفة العمومية المغربية
إذا كانت الحضورية لأسباب صحية تسود أيضا في قطاع الوظيفة العمومية بالنظر إلى محدودية شروط وظروف العمل بالمرافق العمومية، وضعف إجراءات الصحة والسلامة في ممارسة بعض الوظائف ونقص الاجراءات الوقائية والعلاجية لأمراض وحوادث الشغل، أو نتيجة لضغط المهام مقابل محدودية إمكانية تعويض الموظف أو العون أو المسؤول المعني في بعض الحالات، فإنها تأخذ حجما أكبر في ارتباطها بعوامل وأسباب أخرى كثيرة تتقاطع مع نفس العوامل التي تقف وراء تفشي ظاهرة التغيب غير المشروع عن العمل.
ويمكن إرجاع تفشي هذه الظاهرة في الوظيفة العمومية المغربية إلى عدة عوامل من أهمها ما هو تدبيري وتنظيمي.
الفرع الأول: محدودية العمل بمرجعية الوظائف والكفاءات
- إشكالية تدبير التوظيف
انتقلت منظومة التوظيف في الوظيفة العمومية المغربية من نظام الازدواجية في التوظيف (توظيف مباشر، التوظيف بالمباراة) إلى نظام تعميم المباراة كطريقة وحيدة لولوج الوظائف العمومية لتكريس مبدأ الاستحقاق والكفاء كمعيار لاختيار أجود العناصر، وذلك عقب التعديل الذي عرفه الفصل 22 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية[23]، وكذا صدور المرسوم رقم 2.11.621 الصادر في 25 نونبر 2011 المتعلق بتحديد شروط وكيفيات تنظيم مباريات التوظيف في المناصب العمومية. غير أن هذا الانتقال لم تواكبه إجراءات عملية لتحديث أساليب تدبير الموارد البشرية بالإدارة العمومية، لاسيما من خلال تبني العمل بمرجعية الوظائف والكفاءات وبآلية التدبير التوقعي للأعداد والوظائف والكفاءات، حيث ظلت في المقابل الاعتبارات الاجتماعية حاضرة بقوة في اللجوء إلى إحداث مناصب مالية بموجب قوانين المالية للمساهمة في امتصاص البطالة المتفشية في أوساط حاملي الشهادات، وذلك بصرف النظر عن وجود حاجيات حقيقية للتوظيف تبررها وجود فعلي لوظائف شاغرة[24].. وهذا الأمر انعكس سلبا على التوازن المطلوب بين متطلبات شغل الوظائف وبين أعداد وكفاءات الموظفين المطابقة، ومن ثم على إنتاجية الموظف وعلى أدائه، بحيث تكتفي أعداد مهمة منهم بتسجيل حضورها الجسدي بأماكن العمل لتبرير الاستفادة من حقوقهم في الأجرة والترقي المحددة سلفا بنصوص قانونية دون ربطها موضوعيا بالمردودية. ويترتب على هذه الممارسة أن يتطور الأمر تدريجيا إلى سلوكيات عدم احترام أوقات العمل أو إلى التغيب بمبرر وبدونه نتيجة الشعور باللامبالاة أو بعدم الحاجة إلى خدماتهم.
- ضبابية واجبات العمل
إذا كان الظهير الشريف رقم 008.58.1 بتاريخ 24 فبراير 1958 يشكل النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية، فإنه ركز على الموظف مفهوما وتوظيفا وتسييرا أكثر من تطرقه إلى الوظيفة التي تم توظيفه من أجلها. فلم يكلف المشرع نفسه عناء تحديد مفهومها ومجالاتها وترتيبها وشروط ومتطلبات ممارستها. والأدهى من ذلك أنه لم يحل هذا الأمر على أي جهة أو نص تنظيمي أو تدبيري ليتولى ذلك. واكتفت الأنظمة الأساسية التطبيقية للقانون المذكور المحدثة لمختلف هيئات أطر الوظيفة العمومية بالإشارة بشكل عام وفضفاض إلى المهام المسندة للهيئة بصرف النظر عن مستويات الدرجات المكونة لها، وذلك دون تحديد أي طريقة لتوصيف هذه المهام وتصنيفها وترتيبها. فمنظومة الوظيفة العمومية المغربية لازالت خاضعة لنظام تقليدي ومتجاوز في تدبير المسارات المهنية للموظفين يتشكل من قواعد ومعايير نمطية غير منسجمة وغير محفزة على مستويات التوظيف والتقييم والترقية والتأجير وولوج مناصب المسؤولية.
ورغم أن النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية عرف أكثر من 13 تعديلا منذ إصداره سنة 1958 كان آخرها تعديلات سنة 2011[25] فإنه لم يتدارك العديد من النقائص والثغرات التي ظل يعاني منها، لا سيما من حيث افتقاره إلى اعتماد آليات و قواعد التدبير الحديث للموارد البشرية التي دخلت نطاق التدبير العمومي منذ سبعينيات القرن الماضي بالخصوص في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة في إطار ما سمي بالتدبير العمومي الحديث NEW PUBLIC MANAGEMENT.
و قد حاولت عدة حكومات في العقدين الأخيرين تدارك الأمر بأن حاولت إدماج الدلائل المرجعية الوظائف والكفاءات في تدبير الموارد البشرية بالإدارة العمومية[26]، إلا أن العديد من المحاولات والمجهودات المبذولة ظلت حبيسة الرفوف ولم تجد طريقها إلى التنزيل على أرض الواقع، هذا فضلا عن أن طبيعة الدلائل المذكورة تقتضي التحيين المستمر تبعا لتطور الوظائف وما يستتبعها من تطوير للكفاءات الموجودة عبر التأطير الداخلي وتخطيط برامج التكوين المستمر من جهة، واستقطاب كفاءات جديدة ملائمة لمواكبة التطور السريع لمحيط الإدارة الداخلي والخارجي عبر آلية التوظيف من جهة ثانية.
ونتيجة لذلك فإن التيه والغموض ظل سيد الموقف لدى العديد من الموظفين الذين ولجوا سلك الوظيفة العمومية لأول مرة في إدراك الأدوار المنتظرة منهم وطبيعة المهام والوظائف التي سيمارسونها سواء في مرحلة توظيفهم أو بعد تعيينهم في درجة جديدة أو درجة أعلى من درجات الترقي، بل إن الموظف الذي تمت ترقيته كثيرا ما يظل يمارس نفس المهام التي كانت منوطة به قبل الترقي أو تعطى له مهام من نفس المستوى في أحسن الأحوال. وهذا الواقع هو الذي أفقد الترقية هدفها ومضمونها الحقيقي وأصبحت في الغالب مجرد أداة لتحسين الأجر.
وبالتالي فإن الهاجس المسيطر في تسيير شؤون الموظفين، عبر نظام الدرجات والرتب، كان مرتبطا بتحديد وتصفية نفقات أجور الموظفين باختلاف هيئاتهم أكثر من ارتباطها بالممارسة الفعلية للوظائف المطابقة لهذه الدرجات.[27]
وقد كرست نصوص المحاسبة العمومية هذا التوجه لاسيما منها القانون رقم 12.81 المتعلق بالاقتطاع من رواتب موظف بسبب التغيب عن العمل بصفة غير مشروعة. وهو ما قد يفهم منه أن الأجرة تمنح للموظف مقابل احترام مواقيت العمل بدلا من أن يكون مرتكزها القانوني والعملي هو إنجاز العمل والمهام المنوطة بالموظف[28].
الفرع الثاني: أزمة التكوين والتقييم
أ– التكوين المستمر
يعتبر التكوين المستمر آلية حاسمة لتطوير كفاءات الموظفين خلال مسارهم المهني لمسايرة تطور متطلبات ممارسة الوظائف الموجودة والجديدة والمستقبلية التي ينبغي تلبيتها عبر آلية التدبير التوقعي للوظائف والكفاءات. ويتعذر تفعيل هذه الآلية في غياب وجود هندسة وبرامج محكمة للتكوين المستمر بالإدارة تستجيب للحاجيات الحقيقية للموظف وللإدارة، وتخضع لنظام مضبوط للتتبع والتقييم الدوري لاستباق الحاجيات المعبر عنها بكيفية تشاركية من طرف الموظفين ورؤسائهم ومن طرف المصالح المختصة وتقييم أثر التكوين على مردودية وأداء الموظفين المعنيين ومن ثم على أداء المصالح العاملين بها.
ويتعين لهذه الغاية ربط التكوين المستمر كحق وواجب للموظف قصد تطوير وتقوية أداءه والتزامه المهني وترسيخ قيم وثقافة ومبادئ المرفق العمومي وكذا لأجل تمكينه من الاستفادة من حقوقه في الارتقاء المهني والمادي والاجتماعي، وهو ما يفرض على الوزارة الوصية على قطاع الوظيفة العمومية القيام بإعادة النظر في المنظومة الحالية للتكوين المستمر[29] وفق مقاربة تشاركية مع جميع الإدارات العمومية ومع شركائها الاجتماعيين وفي انسجام تام مع متطلبات المراجعة الشاملة للنظام الأساسي العام للوظيفة العمومية التي طال انتظارها.
ب- تقييم المردودية
رغم إصلاح نظامي التنقيط والتقييم فإن نفس الانتقادات الموجهة للنظامين ظلت حاضرة في كل الدراسات والتقارير التي تناولت بالتحليل والتقييم منظومة الوظيفة العمومية ذات المسار المهني التي لازالت الوظيفة العمومية المغربية تتبناها بأسلوبها الكلاسيكي رغم مساحيق التجميل التي حاولت بعض الإصلاحات الجزئية إدخالها على النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية وعلى بعض نصوصه التطبيقية التي لم ترق، نصا وممارسة، إلى المأمول منها. فرغم تغيير هامش ومعايير التنقيط وإضفاء طابع المرونة عليه: من 1-3 إلى 1-20 وتوسيع معايير التنقيط من ثلاثة معايير في النظام القديم إلى خمسة ( المردودية، إنجاز مهام الوظيفة، السلوك المهني ، القدرة على التنظيم، وعلى البحث والابتكار)، وإدخال عنصر المقابلة لأول مرة في التقييم مرة كل سنتين على الأقل[30]، فإن استمرار الممارسة والثقافة والعقلية القديمة لدى المسؤولين التسلسليين هي التي ظلت سائدة في تنقيط وتقييم وترقية الموظفين ، حيث أن معايير الذاتية La subjectivité وعلاقة الولاء والثقة والمحاباة القائمة بين الرئيس والمرؤوس تبقى طاغية على حساب معايير الموضوعية والاستحقاق Le mériteفي التقييم والتحفيز والترقية وولوج مناصب المسؤولية. وهذه العوامل تغذي الشعور بالحيف لدى الموظف الذي يتأثر بهذه الممارسات السلبية بشكل يضعف الالتزام المهني لديه ويؤثر سلبا على مردوديته وانتاجيته.
ولا تلبث هذه المخرجات السلبية لمنظومة التنقيط والتقييم وطرق تدبيرها أن تتطور بالمقابل إلى سلوكيات سلبية من قبيل عدم احترام مواقيت العمل والتغيب المتكرر والمستمر وتزايد ممارسات تقديم الشهادات الطبية بداعي المرض وغيرها من الممارسات التي تساهم في هدر الزمن الإداري.
خلاصة
إن الرؤية التدبيرية الحديثة تقتضي التركيز والانكباب على إدماج آليات التدبير الحديث للرأسمال البشري بالإدارة العمومية، عبر الانتقال من نظام وممارسة تقوم على تدبير الحضور اليومي للموظف و على نمطية قواعد ومعايير التوظيف والتقييم والتأجير إلى نظام يقوم على تدبير وتطوير الكفاءات والمواهب و تثمين الأداء بناء على مرجعية الوظائف والكفاءات وتقييم مردودية الموظف وترقيته وتحفيزه بالنظر إلى النتائج المحققة والوسائل الموضوعة رهن إشارته، وذلك دون التفريط في ترسيخ رمزية مبادئ وقيم وثقافة المرفق العمومي المرتبطة بالمصلحة العامة وبخدمة المجتمع والمرتفق والتنمية. إن تنزيل هذا التصور لا يضمن فقط تطويق ظاهرة التغيب غير المشروع عن العمل بل إن مفعوله يشمل مختلف مظاهر التغيب عن العمل والحضورية وضعف المردودية..
ومن هذا المنظور، فإنه بات من الضروري التعجيل بمراجعة طرق تدبير العمل الإداري و أساليب وثقافة تسيير شؤون الموظفين المعمول بها في إطار الوظيفة العمومية المغلقة التي تبناها المغرب منذ ما يزيد عن 60 سنة والتي ظلت عصية على التفاعل مع تقنيات وطرق التدبير العمومي الحديث الذي ظهر منذ سبعينيات القرن الماضي، وذلك في اتجاه التركيز على آليات العمل بالأهداف، وفقا لمنهجية وثقافة تعاقدية بين الرئيس والمرؤوس تجمع بين مؤشرات نجاعة الأداء ومبادئ الحكامة الجيدة وترتكز على قيم وأخلاقيات المرفق العمومي. ولعل هذا هو السبيل المؤدي إلى إدراك نجاعة أداء الإدارة العمومية وتجويد خدماتها وجعل المواطن في قلب اهتماماتها جنبا إلى جنب مع طموحات بناء النموذج التنموي الوطني المنشود المتوازن اجتماعيا و مجاليا.
[1] تتضمن الخطة الوطنية لإصلاح الإدارة 2018-2021 24 مشروعا من بينها مشروع تدبير الزمن الإداري الذي يدخل ضمن خانة مشاريع التحول التخليقي.
[2] يتم تحديد المهام العامة المسندة للموظفين حسب الهيئات التي ينتمون إليها بموجب الأنظمة الأساسية المحدثة للدرجات المشكلة لهذه الهيئات.
[3] المرسوم رقم 2.99.1219 بتاريخ 10 ماي 2000 المتعلق بالرخص لأسباب صحية ورخصة الولادة
[4] تستند مراقبة الحضور والتغيب عن العمل بالإدارات العمومية إلى مقتضيات المرسوم رقم 2.05.916 المشار إليه أعلاه، كما وقع تغييره وتتميمه، الذي يحدد أيام العمل في خمسة أيام، من يوم الاثنين إلى يوم الجمعة، و ساعات العمل في 36ساعة ونصف أسبوعيا، من الساعة 8.30 صباحا إلى غاية الساعة 16.30 بعد الزوال، مع منح نصف ساعة يومية عند منتصف النهار للاستراحة وتناول وجبة الغذاء، وإضافة ساعة يوم الجمعة لأداء صلاة الجمعة، علما أن مقتضيات المرسوم المذكور خولت لرؤساء الإدارات أن يقرروا، كلما دعت الضرورة إلى ذلك فيما يخص بعض المصالح اللاممركزة التابعة لهم، أيام ومواقيت عمل تختلف عن أيام ومواقيت العمل المحددة في هذا المرسوم مع مراعاة مدة العمل الأسبوعية المشار إليها أعلاه.
هذا، وتخضع فئات أخرى من الموظفين والأعوان لمقتضيات نظامية خاصة بهم كالموظفين والأعوان العاملين بمؤسسات التربية والتكوين على سبيل المثال، وذلك اعتبارا لطبيعة الوظائف التي يمارسونها.
وحملت التعديلات التي جاء بها المرسوم رقم 2.18.880 المومأ إليه أعلاه مرونة في وقت الدخول إلى أماكن العمل، بعد تثبيت التوقيت الرسمي للمملكة الموافق لتوقيت جرينتش+ ساعة (GMT+1)، وذلك بالسماح لرؤساء الإدارات بمنح تسهيلات عند الاقتضاء شريطة احترام عدد ساعات العمل اليومية.
[5] لائحة الأعياد محددة بموجب المرسوم رقم 2.77.169 بتاريخ 28 فبراير 1977 بتحديد لائحة أيام العياد المسموح فيها بالعطلة بالإدارات العمومية والمؤسسات العمومية والمصالح ذات الامتياز كما تم تغييره وتتميميه.
[6] لا يدخل يوما السبت والأحد ضمن أيام العمل الفعلية طبقا لمقتضيات المرسوم رقم 2.05.916 الصادر في 20 يوليوز 2005 بتحديد أيام ومواقيت العمل بإدارات الدولة والجماعات المحلية الذي يحدد أيام العمل من يوم الاثنين إلى يوم الجمعة.
وتبعا للتعديل الذي عرفه الفصل 40 من الظهير الشريف رقم 1.58.008 بمثابة النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية بموجب القانون رقم 50.05 سالف الذكر فإن الرخصة الإدارية السنوية أصبحت محددة في 22 يوم عمل مفتوحة بدلا من مدة شهر المعمول بها سابقا أي لا تدخل فيها أيام السبت والأحد والعطل الرسمية.
[7] خصص النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية لوضعية الإلحاق 8 فصول (من الفصل 47 إلى الفصل 53).
[8] تم تحديد لائحة الجهات التي يمكن أن يلحق لديها الموظف في الفصلين 48 و48 المكرر من الظهير الشريف رقم 1.58.008 بمثابة النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية.
[9] الفصل 47 من الظهير الشريف المومأ إليه أعلاه.
[10] الفصل 63 مكرر من الظهير الشريف رقم 1.58.008 سالف الذكر.
[11] المرسوم الملكي رقم 63.138 بتاريخ 9 يونيو 1966 بمثابة قانون يتمم بموجبه الظهير الشريف رقم 1.58.008 الصادر في 24 فبراير 1958 بمثابة النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية.
تم إعادة العمل بالخدمة العسكرية بموجب القانون رقم 44.18 المتعلق بالخدمة العسكرية الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.19.03 بتاريخ 23 يناير 2019 (ج. ر عدد 6746 مكرر بتاريخ 25 يناير 2019)، وتطبيقا لأحكام هذا القانون صدر المرسوم رقم 2.19.46 بتاريخ 19 فبراير 2019 بتحديد كيفيات تطبيق القانون المذكور.
[12] لم تنص مقتضيات الفصل 73 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية على إيقاف أجرة المعني بالأمر، كما يجري العمل به عمليا من طرف العديد من الإدارات، كما لم تقض بإيقاف حقوقه في الترقي وفي التقاعد طيلة مدة توقيفه عن العمل.
[13] الفصل 41 من المرسوم الملــــكي رقم 66-330 بتاريخ 10 محرم 1387 (21 أبريل 1967) بسن نظام عام للمحاسبة العمومية كما وقع تغييره وتتميمه.
[14] اصادر في لجريدة الرسمية للمملكة عدد 3764 بتاريخ 19/12/1984، ص1189)
[15] صادر في الجريدة الرسمية للمملكة عدد 4801 بتاريخ 05 يونيو 2000
[16] أقر الفصل 29 من دستور 2011 الإضراب حقا دستوريا غير أنه أحال تنظيم شروط وكيفية ممارسته على قانون تنظيمي لازال مشروعه قيد المناقشة بالبرلمان إلى غاية كتابة هذه السطور.
[17] نذكر من بين هذه المناشير على الخصوص:
- منشور الوزير الأول رقم 41/98 بتاريخ 22 شتنبر 1998 حول عقلنة تدبير الموارد البشرية بالإدارات العمومية؛
- منشور وزير الوظيفة العمومية والإصلاح الإداري رقم 8/م إإ بتاريخ 10 دجنبر 1998 المتعلق بعقلنة تدبير الموارد البشرية بالإدارات العمومية؛
- منشور الوزير المكلف بتحديث القطاعات العامة رقم 4 بتاريخ 19 ماي 2003 المتعلق بالتغيب عن العمل بصفة غير مشروعة؛
- منشور الوزير الأول رقم 8/2005 بتاريخ 11 ماي 2005 بشأن التغيب غير المشروع عن العمل؛
- منشور رئيس الحكومة رقم 26/2012 بتاريخ 15 نونبر 2012 المتعلق بالتغيب غير المشروع عن العمل.
[18] للمزيد من المعلومات يمكن الاطلاع على مضامين المنشور بالموقع الإلكتروني لوزارة إصلاح الإدارة والوظيفة العمومية www.mmsp.gov.ma
[19] Gosselin, Éric; Lauzier, Martin. Revue Française de Gestion; Paris Vol. 37, N° 211, (Feb 2011)
Éric Gosselin, Martin Lauzier, « Le présentéisme, Lorsque la présence n’est pas garante de la performance», Revue Française de gestion, 2011/2 (n° 211), pages 15 à 27.
[20] قد يبدو الأمر غامضا وغير مفهوم أن يستمر العامل في عمله رغم أن ظروفه الصحية لا تسمح له بذلك أو لا تسمح بأداء العمل بشكل فعال.
فالثابت في الحالة العادية أن أغلب العمال لا يذهبون إلى عملهم في مثل هذه الحالات، غير أن عددا متزايد من العمال لا يخضعون لهذه القاعدة الموضوعية. ومن هنا تأتي أهمية معرفة وفهم الحضورية وأسبابها
[21] Clans D’Hansen, John H. Andersen, « Going ill. to work – Wat personal circonstances, attitudes and work-related factors are associated with sickness presenteeism ? » Revue Social Science and Médicine, volume 67, issue 6, september 2008, p.956-964,
www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii
[22] جاء في نص الخطاب الملكي، بمناسبة افتتاح الدورة الأولى للسنة التشريعية الأولى من الولاية التشريعية العاشرة للبرلمان بتاريخ 14 أكتوبر 2016، أن “ الإدارة تعاني بالأساس من ثقافة قديمة لدى أغلبية المغاربة. فهي تشكل بالنسبة للعديد منهم مخبأ، يضمن لهم راتبا شهريا، دون محاسبة على المردود الذي يقدمونه “
[23] تم هذا التعديل بموجب القانون رقم 50.05 بتغيير وتتميم الظهير الشريف رقم 008.58.1 الصادر في 4 شعبان 1377(24 فبراير 1958) بمثابة النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية (الجريدة الرسمية عدد 5944 بتاريخ 15 جمادى ىلآخرة1432(19 ماي 2011).
[24] د. الحسين الرامي “آليات التوظيف في الإدارة العمومية وسؤال النجاعة والفعالية”، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، العدد105-106، يوليوز – أكتوبر 2012.
[25] القانون رقم 50.05 بتغيير وتتميم الظهير الشريف رقم 008.58.1 بتاريخ 24 فبراير 1958 بمثابة النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية (الجريدة الرسمية عدد 5944 بتاريخ 19 ماي 2011).
[26] يمكن مراجعة هذه الدلائل على موقع الوزارة المكلفة بإصلاح الإدارة وبالوظيفة العمومية على موقعها الإلكتروني: www.mmsp.gov.ma
[27] من هنا جاءت تسمية سلاليم الأجور المطابقة للدرجات التي يعين فيها الموظفون (رغم حذف هذه التسمية من الأنظمة الأساسية لأسباب غير مفهومة).
[28] بل إن نصوص الوظيفة العمومية وعلى رأسها النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية استندت إلى مقاييس ومعايير كمية في تعيين وتقييم وترقية وتأجير الموظفين من قبيل الشهادة والدرجة والرتبة وعدد سنوات الأقدمية والأرقام الاستدلالية للأجور، وهي مقاييس لا تسمح بقياس حقيقي وموضوعي لكفاءات وانتاجية وأداء الموظف مقارنة بطبيعة ونوعية وأهمية الوظيفة التي ينبغي ممارستها. فالنص القانوني يحدد بشكل مسبق شروط والترقية والتأجير، بالنظر إلى الانتماء إلى الهيئة والدرجة والرتبة (التدبير الجماعي (gestion de masse)، وذلك بصرف النظر عن أهمية وصعوبة أو خطورة الوظيفة والمهام التي يمارسها الموظف وعن كفاءاته ومردوديته وأدائه وجدارته gestion anonyme) (
[29] المرسوم رقم 2.05.1366 صادر في 02 ديسمبر 2005يتعلق بالتكوين المستمر لفائدة موظفي وأعوان الدولة (الجريدة الرسمية عدد 5386 بتاريخ 12 يناير 2006).
[30] المرسوم رقم 2.05.1367 صادر في 02 ديسمبر 2005 بتحديد مسطرة تنقيط وتقييم موظفي الإدارات العمومية، وتتميمه (الجريدة الرسمية عدد 5379 بتاريخ 19 ديسمبر 2005)