تقديم
قبل التطرق لتفصيل مُقتضَب حول ماهية دولة الحق و القانون،حَرِيٌّ بي أن أُشير إلى السياق الدولي و الإنساني اللذين كانا بَوَّابَتَيْن لِتفتُّقِ ما يَخْتَلِجُ صدري و عقلي على السواء، أولاهما و هو اليوم العالمي لحقوق الإنسان المصادف للعاشر من شهر دجنبر من كل سنة و ثانيهما و هو هذا المؤلف الجماعي لمجموعة من الأساتذة الكرام، الذين أبوا إلا أن يساهموا بمقالاتهم العلمية تكريما لروح الفقيد الأستاذ “محمد الحاج مسعود” رحمة الله عليه و الذي سأتحدث عن بعضٍ من مَناقِبِه بُعَيْدَ الإنتهاء من الموضوع مباشرة. بعيداً عن المفهوم و الإطار التاريخي، الذي تناولَ قيد الدراسة دولة الحق و القانون، فالضّمني يقتضي أن نستحضرَ تواجدَ نقيضٍ لهذه الصيغة السياسية، ألا و هو الدولة التقليدية مُطْلَقةُ السلطات و المستبعِدةُ للديمقراطية، تلكم الأخيرة التي تعكس إرادةَ الشعب و يَتَساوَقُ التكريسُ الدستوري و سيادةُ القانون مع ركائزها. و إذا كان لِزاماً أن نتحدث عن دولة الحق و القانون، فإنه يجب و الحالة هذه أن نتحدث عن دولة المؤسسات، تماشياً مع الدولة العصرية الديمقراطية التي تسمو فيها المؤسسات على الأشخاص، كالمؤسسة التشريعية و المؤسسة التنفيذية و المؤسسة القضائية. لكن،يبقى الخيط الناظم هنا هو مبدأ الفصل بين هذه السلط،إذ الغايةُ، أوّلاً و أخيراً، هي إرساءُ نوعٍ من العلاقة التفاعلية لخلقِ توازناتٍ، درءاً للتجاوزات التي من الممكن أن تشوبَ هذه السّلط أثناء إشتغالها و كذلك إحقاقاً لمبدأ الشرعية، الذي هو رهينٌ بعدم المساس بالقانون. لذلك نجد أن القانون،حسب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، هو تعبير عن الإرادة العامة للشعب و بالتالي فالتدعيم الدستوري للبرلمان هو ضرورة حتمية يُضفي على ديمقراطية البلد طابعا خاصا ذا مصداقية. لذلك،يمكن القول بأن دولة الحق و القانون هي قرينة الديمقراطية، فهي بذلك تتجاوز الدولة البوليسية الغارقة في الهواجس الأمنية إلى دولة ضامنة للحق العام و الحقوق الفردية السياسية منها و الإقتصادية و القانونية. و إذا كانت الدولة التقليدية تتوق إلى التمييز الإثني و الديني،فبالمقابل نجد أن دولة الحق و القانون لا تتورّع عن إحقاق المساواة من حيث الكينونة الإنسانية،الشيء الذي يحيلنا على مسألة جوهرية مَفادُها أن حقوق الإنسان لا يُعَدُّ تَرَفاً يدغدغُ الأحاسيس، أو تأثيثاً لمشهد ترقيعي ما، بالقدر أنه إطار قانوني ضامن للحق، تشريعيا و مؤسسيا و ثقافيا. بالمقابل،نجد أن المغرب قطع مع سنوات الجمر و الرصاص منذ أن خلف الملك محمد السادس أباه الراحل الحسن الثاني. فإحداث هيئة الإنصاف و المصالحة و جبر الضرر ما هو إلا تجسيد لإرادة سياسية حقيقية و إرهاصات أولية لإرساء دولة الحق و القانون لطيّ صفحة الإنتهاكات الجسيمة التي عرفها المغرب. و للنهوض أكثر بحقوق الإنسان ببلدنا،تَمَّ الإنتقال من المجلس الإستشاري لحقوق الإنسان إلى المجلس الوطني لحقوق الإنسان CNDH، كذلك تم إصلاح مدونة الأسرة و هندسة دستور جديد (2011) جد متقدم و الذي وَطَّنَ للمناصفة و تكافئ الفرص و محاربة كافة أشكال التمييز ترسيخا للحقوق و الحريات المدنية و الإقتصادية و السياسية و الثقافية و الإجتماعية و البيئية، في خطوة نوعية تعكس توجهات البلد قصد إرساء ثقافة حقوق الإنسان و النهوض بها،ناهيك عن إحداث ترسانة قانونية و تشريعية كَدِرع واقٍ للخيار الديمقراطي الذي بات لا مَحيد عنه. وجب أيضا الوقوف عند مشروع الحماية الإجتماعية الذي يعتبر مشروعا رائدا و ورشا هاما حملته الدولة على عاتقها، إستجابة لإنتظارات الفئات الهشة و للمعوزين، في ظل واقع و وضع عالمي يتسم بعدم الإستقرار الصحي و الإقتصادي. يبقى أن أشير في الأخير، كما سلف فوقَه، فسبب إثارة هذا الموضوع ما هو إلاّ وفاءٌ لروح فقيد كلية العلوم القانونية و الإقتصادية و الإجتماعية الأستاذ “محمد الحاج مسعود” ،ذلكم الأستاذ الجَهْبَذ، النِّحْرِير ذو الثقافة الحقوقية العالية و الذي كانت تغلبُ إنسانيتُه كل ما يعْتَرِي واقعَه المَعِيش،فالأسبقية عنده للإنسانية أولاً،و لْيَحدُثْ بعدها ما يحدث. هكذا كان أستاذُنا الجليل رحمة الله عليه، أَبِيّاً ذا سَمْتٍ و مِراسٍ ينِمّانِ عن ثقة الكبار، فلا مجال عنده للخضوع و الخُنوع و المساومة إنْ حَصْحَصَ الحقّ،حَسَنُ المَعْشَر،ليِّنُ القلب مع الطلبة، كريمٌ معهم إلى أبعد حدّ.. كُلُّها خصال خَبِرناها عن كَثَبٍ لدى الفقيد، نرجو من الله العلي القدير أن يحتسبَها صدقةً جاريةً خالصةً له، تُنير قبرَه و تُحْيِيهِ حياةَ النعيم فيه إلى أن يلقى ربّهُ بقلبٍ سليم. (
جمال فكري
الكاتب العام لمركز المنارة للدراسات و الأبحاث .
نائب رئيس المركز المغربي للدراسات و الأبحاث في حقوق الإنسان و الإعلام