Site icon مجلة المنارة

دور الجهاز الإداري في النشاط العمومي

دور الجهاز الإداري في النشاط العمومي

صفاء البوهالي

باحثة في سلك الدكتوراه بجامعة محمد الخامس بالرباط

كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بسلا

المقدمة:

لقد شهدت السياسة العامة كحقل معرفي تطورات و تغييرات منهجية وعملية ملحوظة من حيث تعريفها، و مداخل صنعها، و حتى طرق تحليلها. ومن أهم ميزات تطور السياسات العمومية أن  أصبحت الأجهزة الإدارية تشارك الحكومة في اقتراح سياسات معينة ومشاريع قوانين على الهيئة التشريعية، وأكثر من ذلك فعندما تصدر هذه الهيئة قانونا تصبح الإدارة محور الإهتمام عند تنفيذه فهي من خلال هذا الدور تقوم بتوجيه السياسة العامة الأمر الذي جعل البعض يعتبر رجال الإدارة سياسيين عندما يساعدون في تشكيل القوانين من خلال الدور الذي يمارسونه في التفسير وتعاملهم في هذا الإطار مع جماعات الضغط، التي ترتبط مصالحها مع هذه القوانين سواء كانت تنظيمات دستورية كالأحزاب السياسية أو النقابات أو كانت مجموعات أفراد. 

من هنا يظهر الدور السياسي  للإدارة في تنفيذ السياسة العامة، وهي تشمل كل الإجراءات والأنشطة التي تقوم بها السلطة العامة من أجل تحقيق أهداف المجتمع، وتشمل الإجراءات في كل ما يتعلق بتنفيذ السياسة العامة منذ إعداد صناديق الانتخابات إلى عمل السلطة التشريعية إلى تأليف الحكومة، وقيام السلطة التنفيذية بممارسة أعمالها وإدارتها لجهاز الدولة الإداري، أضف إلى ذلك أنها تشمل كل الأنشطة التي يقوم بها الرؤساء الإداريون التي تشمل النشاط الإداري للحكومة.

يتناول هذا الموضوع  دراسة وتحليل رجل الإدارة كفاعل في ممارسة النشاط العمومي و تقويم السياسات العمومية، فهذه الأخيرة هي مجموعة من المتتاليات التي تنتهي بتطبيق هذه السياسة على أرض الواقع تبتدئ بتحديد المشكلة، وصياغة حلول لها ثم اتخاذ القرار المناسب وتطبيقه، ومن ثم ينتهي العمل السياسي فهي بالتالي عبارة عن برنامج عمل خاص لسلطة أو عدة سلط حكومية.

وبالتالي يتبادر التساؤل حول دور الإدارة كفاعل قراري في الشأن العام، فكيف يمكن تفسير سيطرة الإدارة على سلطة القرار؟ وما هي تجليات موقع الإدارة في صنع القرار العمومي؟

المبحث الأول: محددات العلاقة بين الإدارة والسياسة

لقد عرف القرن العشرين ظهور بعض التغيرات والتطورات على صناعة القرارات العامة للدولة، فلم تعد الأجهزة السياسية تستطيع أن تتفوق على الضغوطات الداخلية والخارجة لها،خصوصا مع تنامي الحاجات العامة للأفراد، فأصبح بعض الإداريين يقدمون حلولا واقعية للمشاكل بغية الوصول إلى الأفضل والأحسن، ذلك من خلال إشباع من حاجيات الموطنين التي هي في تزايد دائما وأن يكون هناك أمن واستقرار داخل البلاد .

المطلب الأول: طبيعة العلاقة بين الجهازين الإداري والسياسي

إن دور الإدارة عبر التاريخ قد ارتبط بوجود مجتمع سياسي منظم، باعتبارها وسيلة مهمة لتسيير أمر الجماعة والفرد نحو أهدافها، وهي مهمة لتسيير أمور المؤسسة نحو تحقيق أهدافها، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، تجارية أو صناعية رياضية أو عسكرية. كما أن صلة الإدارة بالسياسة وثيقة وقديمة، باعتبار أن ميدان الإدارة امتداد لميدان السياسة، إلى أن ظهرت الحاجة إلى استقلال الإدارة وانفرادها بكيان قائم بذاته. إلا أن ذلك لا يعني الانفصال التام بينهما نظرا لعلاقة التأثير المتبادل بينهما والتكامل الذي يربط بينهما.

ونظرا لارتباط السلطة السياسية بالسلطة الإدارية، والذي يتمثل في الحكومة التي تشكل حلقة الوصل بين السياسة والإدارة، فإن ذلك يفضي إلى القول بأن السياسة والإدارة وجهان لعملة واحدة. إلا أن الحديث عن تبعية أو استقلالية الإدارة عن السلطة السياسية مرتبط بطبيعة العلاقة بين الإدارة والسياسة.

فصلة الإدارة بالسياسة وثيقة على اعتبار أن ميدان الإدارة امتداد لميدان السياسة نظرا لعلاقة التأثير المتبادل والتكامل الذي يربطهما. وباعتبار أن الإدارة وجدت مع وجود المجتمع السياسي المنظم فذلك يعني أن صلة الإدارة بالسياسة وثيقة وقديمة. فالإدارة والسياسة يعتبران من مكونات البنية الاجتماعية للدولة. وقد مرت العلاقة بين الإدارة العامة والسياسة من مرحلة تبعية الإدارة العامة وخضوعها للسياسة، إلى مرحلة فصل السياسة عن الإدارة العامة، ثم إلى مرحلة التكامل والترابط بين السياسة والإدارة والتوازن فيما بينهما. مما يدفع بوجود تقارب يظهر من خلال التداخل العضوي والوظيفي بينهما في عدة مستويات يمكن في ما يلي:

فمن حيث مستوى تنفيذ السياسات العامة، نجد كل الأنشطة التي تقوم بها السلطة العامة من أجل تحقيق أهداف المجتمع، في كل ما يتعلق بتنفيذ السياسة العامة منذ إعداد صناديق الانتخابات إلى عمل السلطة التشريعية إلى تأليف الحكومة، يعهد بها إلى السلطة التنفيذية لممارسة عملها وإدارتها لجهاز الدولة الإداري.

ويذهب أنصار هذا الترابط إلى أن الإدارة تصبح أداة السلطة السياسية لتنفيذ السياسة العامة التي تحددها الدولة[1]، ويعد “ليونارد هوايت” أهم أنصار هذا الاتجاه.

غير أن الانتقاد الموجه إلى هذا الاتجاه يتجلى في اهتمامه بالجانب الغائي للإدارة وهو تنفيذ السياسة العامة، وإهماله الجانب العضوي لها. ومما يزيد من هذا الانتقاد صلابة أن الدولة أصبحت تتدخل في الكثير من المجالات، إضافة إلى أن الإدارة ليست الجهاز الإداري الوحيد المكلف بتنفيذ السياسة العامة، وإنما هناك بعض الهيئات والجمعيات التي يمكن أن تؤدي هذا الدور.

  وعليه، يمكن القول أن السياسة العامة هي تعبير عن اتجاه الحكومة في فترة معينة، فهي توجيه محدد ومنظم لموارد الدولة وتكون جزءا من الجهاز الحكومي السياسي التابع لها، وبالتالي فالسياسة العامة هي التي تحدد للإدارة ما يجب عمله والقيام به[2].

أما من حيث مستوى الربط بين الإدارة والنشاط الإداري، فإن الإدارة هي ذلك النشاط الذي تقوم به جهة الإدارة، أي أن الإدارة تشمل كل الأنشطة التي يقوم بها الرؤساء الإداريون في الوحدات الإدارية، التي تشكل النشاط الإداري للحكومة أو أنها تتضمن أنواع النشاط الذي تقوم به الحكومة وإدارتها التنفيذية[3].

وفي هذا الاتجاه يذهب بعض الكتاب العرب إلى اعتبار الإدارة تنحصر في النشاط الإداري للسلطة التنفيذية، فالإدارة تهتم بدراسة النشاط الإداري الذي يقوم بهم موظفو الحكومة في قطاع السلطة التنفيذية للدولة، فلا تشمل الإدارة ما يدور داخل نطاق السلطة التشريعية وكذلك السلطة القضائية[4]. وبالتالي، فأصحاب هذا الاتجاه ذهبوا إلى تركيز الإدارة في ما يتعلق فقط بنشاط السلطة التنفيذية دون السلطتين التشريعية والقضائية، علما أن هاتين السلطتين يمكنها ممارسة أعمال إدارية.

وعلى مستوى الربط بين الإدارة والأجهزة الإدارية، فقد ركز جانب من الفقه، ومنهم الفقيه ” شارل ديباش  CH. DEBBASCH”[5]، على اعتبار الإدارة مجموعة المرافق العامة، التي تعمل على تحقيق الأهداف المرسومة أو المحددة بواسطة السلطة السياسية[6].

غير أن هذا التحديد اعتمد على ربط الإدارة بالأجهزة الإدارية من خلال التطرق إلى فكرة المرافق العامة، وبالتالي الاعتماد على الجانب العضوي للإدارة مع إغفال الجانب الموضوعي للعملية الإدارية. ومن ناحية أخرى نلاحظ أن استخدام اصطلاح المرافق العامة يحتاج إلى مزيد من التحديد لأن الخلاف لا يزال موجودا حتى اليوم في فقه القانون العام حول تحديد المقصود بالمرفق العام والبحث عن معيار محدد له.

ومن حيث الربط بين الإدارة والنظام القانوني للدولة، فإن النظام القانوني يمثل الإطار المشروع لنشاط الإدارة. فكما أن القانون يمثل قيدا يجب على الإدارة عدم مخالفته، فإنه في نفس الوقت يجب عليها أن تسهر على تنفيذه واحترامه من قبل الأفراد، ومرد ذلك إلى أن الدولة حينما تريد تنظيم نشاط معين، فإنها تفعل ذلك عن طريق إصدار قوانين وقواعد جديدة، وتلجأ إلى إنشاء الوحدات والمؤسسات الإدارية اللازمة لتأمين تحقيق هذه الأنشطة. فكلما زادت القوانين والقواعد المنظمة للأنشطة المختلفة، كلما زاد مجال الإدارة وتدخلها[7].

 ففي النظام الاشتراكي تتعدد القواعد والإجراءات التي تحكم النظم الاقتصادية والاجتماعية ونتيجة لذلك، فإن الإدارة في هذه الدول تتميز باتساعها وتضخمها .

أما في الدول الرأسمالية فإن القانون ينظم مجالا محددا، وذلك احتراما لمبادئ الحرية وعدم تدخل الدولة في بعض المجالات ونتيجة. لذلك فإن مجال الإدارة يكون مقصورا على هذه المجالات المتدخل فيها.

المطلب الثاني: الفاعل السياسي وأهمية المشروعية القرارية

لقد أصبحت صناعة القرار ترتبط بشكل مباشر بجدلية السلطة القائمة على الانتخاب والتعيين. فإذا كانت مشروعية الانتخاب تؤسس لمبدأ المسؤولية السياسية، بمعنى أن القادة المنتخبين بواسطة شعوبهم يقومون بوضع القرارات ويحاسبون عليها، وإن الدور الأساسي للأحزاب السياسية يبرز ليس فقط بكونها منظمات سياسية فحسب بل بوصفها المؤطر والفاعل في صناعة السياسية العامة، سواء من خلال أغلبية برلمانية أو بواسطة آلية قوية للمعارضة تعمل على التأثير في كل قرار رسمي، فإن هذه المشروعية أصبحت قاصرة عن إيجاد حلول عقلانية واقعية أمام تعقد وتعدد المشاكل والمطالب التي تطرح كقضايا الشأن العام.

هنا يبرز الغرض من الديمقراطية وهو عدم مركزية القرار في أيدي قلة الفاعلين، وجعل فرصة اتخاذه شائعة بين جميع المواطنين، كل حسب موقعه، من خلال تمثيلية منتخبة، على أساس مبدأ المساواة حفاظا لحق المشاركة في إدارة الشؤون العامة بتحويل السياسة إلى شأن عام والعمل السياسي إلى حق عمومي[8].

فهذه الوضعية أفرزت بروز مشروعية جديدة تعتمد على التدبير والإنجاز. وهذا الأمر جعل سلطة القرار تنبني على الخبرة والمعرفة التقنية، وإن كانت في الأساس تقوم على التعيين في مقابل سلطة الانتخاب التي ترتكز على المشروعية التاريخية أو النضالية للعمل السياسي.

وترتبط عملية صنع القرار بمجموعة من الأهداف إن وجدت، وبعدد من الوسائل إن تمت صياغتها ومعرفتها. كما ترتبط كذلك بعنصر الزمن من حيث التوقيت وهل تتحرك هذه العملية في سياق التطور الزمني الطبيعي والعادي. كما أنها قد تتحرك في إطار رد الفعل الناجم عن البيئـة المحيطة به سواء داخلية كانت أم خارجية. وقد تتداخل اعتبارات الدوافع المسبقة وطبيعتها من حيث غلبة العوامل الشخصية أو الموضوعية على وضع القرار وصياغته[9].

فعملية صنع القرار العمومي تستوجب اختيار الحلول الممكنة للمشاكل المطروحة على النسق القراري. أما صنع السياسة العامة فـيعني اتخاذ مجموعة الأعمال والتدابير التي تتضمن القرارات المعالجة للمشاكل المحددة، وذلك في إطار التفاعل الذي يتضمن مجموعة قواعد اللعبة التي تصطبغ في نهاية المطاف بالطابع المؤسساتي.

ومما يلاحظ أن الحضور المادي والرمزي والتاريخي والديني للملك داخل النظام السياسي المغربي، له تأثير على النشاط العمومي الذي أصبح مجرد آلية تنفيذية لسياسات وقرارات الملك. ويضاف إلى ذلك، أن الحكومة قد استفادت من شخصنة السلطة من خلال اختصاصاتها الواسعة، إلى جانب الدور الكبير والفعال الذي أصبح يلعبه الخبراء والتكنوقراط داخل السيرورة القرارية، مما جعل شخصانية السلطة كما عرفها النظام السياسي المغربي، قد أثرت سلبا على العمل الحكومي وأفرغته من محتواه وفعاليته[10]. وهذه الوضعية أدت إلى جعل الحكومة مجرد وسيلة للتعبير عن الرهانات والاختيارات الشخصية للملك، من خلال حرص الملك ومنذ الاستقلال على اعتبار الوزراء مجرد أعوان شخصيين للملك في بعض القطاعات والقرارات دون أخرى، وهو الأمر الذي انعكس سلبا على استقرار وفعالية التشكيلات الحكومية[11].

كما أن العلاقة السياسية التي تنبني عليها التشكيلات الحكومية في المغرب، ظلت محكومة بالولاء الشخصي للملك. فعلى الرغم من أن بعض الوزراء قد يعينون وهم ينتمون إلى هيئات سياسية، فإن ذلك لا يعني أنهم سيعملون على تطبيق برامج أحزابهم، لأن تعيينهم لا يقوم على أساس اعتبارات سياسية أو انتخابية و إنما اعتبارات شخصية تجعل الوزير كيفما كانت سلطته أو انتماؤه “خديما قبل أن يكون وزيرا”[12].

وبهذا أصبحت العلاقات الشخصية والولاء الشخصي، حسب برتران بادي، المرجعية الأسمى والمحدد الجوهري للعمل الحكومي[13].

ففي إطار تنوع شبكة الفاعلين وثقل المؤثرات وفقا للرهانات القائمة، وأمام تزايد المطالب اليومية لمختلف الفئات داخل المجتمع، أصبحت دراسة الظاهرة القرارية على هذا المستوى جد معقدة. فدوائر القرار لا يمكن عزلها بالشكل الذي يوحي إلى وجود تصنيف موضوعي حول من يملك سلطة القرار، وبالتالي يبقى التداخل حاصل بقوة على مستوى صناعة القرار بين من يملك مشروعية التمثيل من جهة والتدبير والإنجاز من جهة أخرى .

وقد ذهب بعض الباحثين في دراسة السلطة السياسية بالمغرب إلى أن ” ممارسة السلطة السياسية ليست واجبا وطنيا بقدر ما هي مسؤولية وتضحية… فهؤلاء التكنوقراط أغنياء مكونين ويملكون منذ القدم روح المسؤولية”[14]. وقد خلصت هذه الدراسة أيضا إلى نتيجة مفادها أن أعمال الدولة والإدارة شيئين مرتبطين لدى هؤلاء.

وبالتالي فإن سلطة الموظفين الكبار أصبحت مرتبطة بالتجربة والكفاءة وطبيعة المناصب المسندة لهم. فهم عادة ما يشغلون مناصب عليا في السلم الإداري، ويكون اندماجهم في الوسط القراري تبعا للمسؤوليات الممنوحة لهم، الشيء الذي يتيح لهم إمكانية المساهمة باقتراحاتهم واختياراتهم، خاصة إذا علمنا أن أساس قوتهم هو التضامن الذي يشكل أساس بنيانهم[15].

كما أن النظام السياسي المغربي منذ بداية الاستقلال على الموظفين الكبار، أو بتعبير آخر الموظفين السامين، حيث سارع إلى تشجيع نمو هذه النخبة ساعيا بذلك إلى محاولة احتوائها و إدماجها في النسق السياسي كآلية للتصدي لمختلف المطالب الاجتماعية. ومن هنا ظهرت الحاجة إلى موظفين في كل وزارة يتوفرون على كفاءات عالية من أجل القيام بمهامهم الشيء الذي شكل تحديا حقيقيا للدولة المغربية الحديثة.

فالوضعية الحالية لكبار الموظفين تعطي لأطروحاتهم المزيد من الشرعية والمصداقية من خلال قوتهم الوازنة، ذلك أنهم يتموقعون داخل الدواوين الوزارية لمختلف القطاعات الحكومية ويشغلون مراكز نافدة، ويلعبون دورا جوهريا في إعدادات القرارات في مختلف القطاعات مما يجعلهم قوة حقيقية تتجاوز في كثير من الأحيان قرارات الحكومة والبرلمان.

فسيطرة النخب التقنية تعتبر ظاهرة عالمية تتماشى والتطورات التي تعرفها تقنيات الإنتاج ونمو المنظمات والتنظيمات على المستوى الدولي، ذلك أن “الأمر يتعلق بثروة حقيقية صامتة لكنها تشمل العالم كله”[16]. وقد نتج عن هذا في الساحة السياسية احتقان أو صراع ما بين السياسي والتقنوقراطي، حيث ينعث الأول الثاني باللامشروعية وعدم المحاسبة السياسية، وينعث هذا الأول بالديماغوجية والإغراق في الشعبوية. وبالتالي أصبح رجل السياسة تابعا للتقنوقراطي صاحب المعلومة التي يحصل عليها الإداري ويستثمرها بشكل فعال. ويظهر ذلك من خلال تنافس الإداريين أنفسهم في تحصيل المعلومات وتوظيفها، وهو تنافس مابين المصالح والخبراء والموظفين، باعتبار المعلومة هي السلطة والقوة التي يواجهون بها السياسي صاحب القرار.

من هنا نجد الكتابات في السياسات العامة تقول بانتهاء العصر الذهبي للمنتخبين وظهور إدارة محترفة administration de carrier.

فإذا ما أخدنا على سبيل المثال الدواوين الوزارية،” فإننا نجد أكثر من %90 من أعضاء الدواوين الوزارية من أصل إداري/ تقني ومن الوظيفة العليا”[17]، فالسياسي في حاجة ماسة لمشاركة الموظفين السامين في عملية اتخاذ القرارات وتبادل المعلومات والخبرات.

وهكذا فالحصول على المعلومات من الأجهزة الإدارية المختصة يخضع لعدة شكليات يجب احترامها، فعندما توجه دعوة للإدارة للمشاركة بصفة غير مباشرة في اتخاذ قرارات عن طريق إعطاء معلومات للسياسي، فإنه من واجب المقرر أو مستشاريه توجيه الدعوة تبعا للإطار التراتبي للإدارة المعنية.

فالسلطة التنفيذية هي تتكون من أفراد أي العاملين في البيروقراطية الحكومية المتمثلة بالمؤسسات والهيئات واللجان والأجهزة الإدارية الحكومية المتنوعة، التي غالبا ما تضطلع بتنفيذ السياسة الهامة للبلاد، وتنفيذ الخطط وتحقيق الأهداف المنشودة[18]. وبالتالي فإن المعلومات التي ينقلها الإداري للسياسي قد يشوبها تحريف أو نقص أو تعديل يتماشى مع مصالح النخبة الإدارية. كما أن التقارير التي كانت ترفع للملك الراحل عن سير الأمور بالمؤسسات المالية المغربية، تجعلنا نقر مع بعض الباحثين أن “من يحكموننا على المستوى الظاهر والشكلي ليسوا هم نفسهم من يحسب ويقرر”[19].

 فدور السلطة الإدارية في اقتراح السياسات العامة لا يمكن أن يكون شكليا أو ثانويا ما دامت هي المسؤولة أمام السلطة التشريعية عن نتائج أعمالها ، فلا أقل من أن تمنح بعض السلطات العامة في اقتراح السياسات العمومية. فكما أنه لا سلطة بدون مسؤولية فإنه يصبح بالضرورة المنطقية أن لا مسؤولية بدون سلطة.

غير أننا يمكن أن نلاحظ أن رجل السياسة يكون في بعض الأحيان على علم بنقص المعلومات التي وصلته، ويعرف ما يمكن أن يكون قد تعرضت له من بتر أو تعديل، لكنه يجد فيها المبرر لاتخاذ القرار السياسي ذي الصلة، وهذا ما يدخل في إطار المداراة السياسية، لأن رجل السياسة بطبعه براغماتي. فالسياسي البراغماتي يدعّي دائماً بأنه يتصرف ويعمل من خلال النظر إلى النتائج العملية المثمرة التي قد يؤدي إليها قراره، وهو لا يتخذ قراره بوحي من فكرة مسبقة أو أيديولوجية سياسية محددة.  والامر هنا يتعلق بعلاقة الوزراء برؤساء دواوينهم وكذا في علاقتهم بالموظفين السامين بمختلف المصالح الإدارية، بل وأيضا علاقة الوزراء كجسم موحد-ممثل في الحكومة- بمؤسسات وصناديق أخرى موازية للعمل الحكومي، هي الأخرى لا تخرج عن نفس الإطار.

وتجدر الإشارة إلى أن العمل الحكومي والسياسي في عهد الملك محمد الخامس عرف خصوصية استفحلت بشكل أكبر مما كانت عليه في عهد الحسن الثاني، حيث نجد مجموعة من الصناديق النقدية أسندت إليها قرارات إنشائها مجموعة من الصلاحيات تتداخل مع العمل الحكومي، ويتعلق الأمر بوكالات تنمية الأقاليم، مؤسسات الأعمال الاجتماعية، صناديق للتجهيز والاستثمار… وذلك في محاولة للاستجابة الملحة لمتطلبات الأوضاع الحالية اجتماعيا واقتصاديا.

فهذا الوضع انعكس على طبيعة عمل السياسي الذي يسعى للبحث عن الحلول للمشاكل، في حين أنه يصطدم بوضع إداري بيروقراطي رتيب ومعقد على حد تعبير “جيرميون”. ومرد هذا أن المقرر الحكومي، في الواقع، لا يعمل في وضع منسجم ومتراتب. وبالتالي تتخذ الحلول في ظل مسار طويل ومعقد يتداخل فيه مجموعة من الفاعلين، حيث نصبح لا بصدد قرار واحد، بل سلسلة من الاستراتيجيات والتوافقات”[20].

المبحث الثاني: موقع الإدارة في صنع القرارات العمومية

إن المتتبع للنشاط العمومي بالمغرب يقف عند بروز نوع من العلاقات  الانعكاسية  بين البعدين الإداري والسياسي، حيث تظهر على السطح  الاستراتيجيات الحزبية في تصادم مع مستلزمات التقويم ذات الأبعاد التقنية التي تؤول في آخر المطاف لصالح التدبير الحكومي الذي يتم  خاصة على مستوى الفضاء  التقنوقراطي المتميز بابتعاده عن الصراعات  ذات  المنزع السياسي بهدف الوصول إلى غايات السياسات العامة بأقل تكلفة وأقل تجزيء.

المطلب الأول : مكانة الموظفين الكبار والأجهزة الحكومية في العملية القرارية

إلى جانب المؤسسات التقليدية في صياغة القرار، تبرز سلطة الموظفين الكبار، حيث ترتكز مشروعيتهم على “الكفاءة” و “التخصص” في المسلسل القراري من خلال إتباع أساليب “العقلنة” و “التدبير” لصياغة البرامج السياسية، بالإضافة إلى أهمية ودور بعض الأجهزة الحكومية،  حيث أصبحت تشكل ثقلا وقوة على مستوى صناعة القرار، وللإحاطة بعملية صنع القرار السياسي سنتحدث في( الفقرة الأولى) عن سلطة الموظفين الكبار في المناصب القيادية ثم نخصص(الفقرة الثانية) للأجهزة الساهرة على إعداد وتهيئ القرارات.

الفقرة الأولى: سلطة الموظفين الكبار في المناصب القيادية

إن مكانة كبار الموظفين في الدوائر القيادية يجب أن تقوم إنطلاقا من ثلاث وجهات نظر مختلفة:

– الأولى: تنظر لهم بصفتهم أصحاب أشغال رفيعة في التسلسل الإداري: مكلفين على سبيل المثال، بمديرية الخزينة، أو التجارة الخارجية في وزارة المالية، ويكون اندماجهم في الوسط التقريري المركزي للملفات المعالجة، ففي كل مرة تكون فيه إدارتهم معنية، بصفة رئيسية أو جانبية، تتم استشارة هؤلاء الأعضاء القياديين، ويجدون أنفسهم قادرين على دمج نظراتهم في الجهاز التشريعي أو التنظيمي الجاري إعداده.

– الثانية: تنظر لكبار الموظفين المندوبين بصفتهم أعضاء في المكاتب الوزارية، أي مساعدين شخصيين للوزير[21]، ويجدون أنفسهم هنا موضوعين خارج الملاك التسلسلي، ويخضع دمجهم في سيرورات التقرير فقط للثقة، القابلة دائما للنقض.

– الثالثة: فتنظر لكبار الموظفين المندوبين لمهمة في رأس المشاريع العامة الكبيرة، والمؤسسات المالية، والهيئات الدولية…وذلك من دون النسيان أولئك الذين يمارسون مسؤوليات من المقام الأول في القطاع الخاص، وِأولئك الذين دخلوا  إلى عالم السياسة من الباب العريض( الوزراء الموظفون)، وفي هذا الصدد، من المهم الإشارة إلى أن أعضاء الأجهزة الكبرى في الدولة لديهم نزعة قوية بشكل استثنائي لترك وظائفهم الأصلية بحيث يندبون لمدة طويلة تقريبا[22].

وتجدر الإشارة أن القرار يتم التحضير له داخل الدواوين الوزارية من خلال مدراء الدواوين والمفتشين العامين ثم الكتاب العامين…[23]، والذين يعملون على إعداد الإجابات المفصلة للوزير والمتعلقة بالمطالب السياسية والاجتماعية، وقد يظهر هذا بوضوح على المستوى القطاع الذي بلعب فيه الموظفون السامون دورا أساسيا من خلال ما يسمى بلجنة المستشارين التقنيين، والذين يتمتعون بقدر كبير من الفعالية داخل الدواوين الوزارية نظرا لمهامهم التي تطال مراقبة المصالح اليومية لكل وزارة ودراسة الملفات التي يصادق عليها الوزير: ” إنهم يؤثرون في القرارات والسياسات المتخذة…”[24].

إن الملاحظ على المستوى المركزي للدولة هو كون الدوائر العامة تتشكل من آليات للعمل تسهر على تحضير السياسة الإجمالية وإعداد تصورات عامة انطلاقا من خبرات وأدوات تقنية لتنفيذ القرارات المتخذة في آن واحد[25].

ومع ذلك فإن كبار الموظفين الذين لديهم حظ المشاركة في عملية وسيرورة الحكم، هم أولا يمارسون من المقام الأول على قمة الهرم الإداري للدولة وذلك من خلال شغلهم لمناصب قيادية داخل الأجهزة الكبرى للدولة وذلك من خلال تأثيرهم في الهيئات الكبرى للدولة، حيث تعد في فرنسا المسيطر الأكبر على دواليب الحكم بالإدارة الفرنسية.

ويتجلى تأثير الموظفين الكبار في رسم السياسات العامة للدولة في المغرب من خلال تدخلهم الواسع في[26]:

أولا: تحضير السياسات العمومية للدولة في المجال الاقتصادي:

  يعد الفعل التقني أكثر فعالية وقوة لأنه يهدف إلى استقرار الظرفية تمهيدا لنهوض اقتصادي بعيد المدى على المستوى الوطني والمحلي أخذا بعين الاعتبار التحملات العالمية للبلاد، سواء فيما يخص العمل على تقليص المديونية الخارجية أو استقبال مساعدات خارجية في الميدان الاقتصادي وكذلك التعاون التقني خاصة لدى الدول السائرة في طريق النمو.

لكن المناخ الذي ساعد التقنوقراط للسيطرة على المجال الاقتصادي ترجع أسبابه إلى ضعف التكوين عند أعضاء الجمعيات البرلمانية خاصة داخل اللجان القطاعية.

ثانيا: على مستوى الدفاع الوطني:

إن السياسة الحكومية على هذا المستوى الدفاعي هو رهين بالتحولات العالمية نحو تعزيز القدرات العسكرية  في مواجهة الأخطار الخارجية داخل عالم مشحون بالصراعات من أجل الدفاع أو الغزو أو السيطرة، مما جعل من الدول أن تستثمر وبشكل مفرط من المنطق التقني والتجريبي تطويرا لترسانتها العسكرية خدمة لأهداف استراتيجية.

فكل تقنية وخبرة في الاختيارات العسكرية يؤثر فيها الضباط دوي الاختصاص التقني، وبالتالي فإن المظهر التقنوقراطي يوجد على مستوى تنظيم مجال الدفاع لما لهذا القطاع من خصوصيات معينة، سواء على مستوى التمويل والبرامج الاستراتيجية وميكانيزمات العمل.

ثالثا: توجيه التعليم والبحث العلمي:

لازالت السياسة التعليمية في دول العالم الثالث تتخبط في مشاكل الملائمة، وقد حدث هذا في المغرب من خلال محاولة إصلاح المنظومة التعليمية، بحيث أن مستشاري الملك وعلى رأسهم السيد عبد العزيز مزيان بلفقيه، قد لعبوا دورا حاسما كتقنوقراط في اعتماد مشروع تعديل المسار التعليمي بالمغرب بناء على معطيات وبتوجيه من فاعلين آخرين نذكر على سبيل المثال لا الحصر:

الفقرة الثانية: الأجهزة الساهرة على إعداد وتهيئ القرارات

   تهدف البنيات الوزارية كمؤسسات للقرار العام إلى تحقيق غرضين أساسيين وهما: الاستجابة لمختلف المطالب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المرتبطة بالعمل الحكومي ثم إقرار مبدأ التخصص على مستوى الأقسام الوزارية فيما يخص الإعداد التقني والإداري القانوني والتنسيق بين مختلف الوحدات داخل البنيات الوزارية سواء على مستوى الوزارات أو الإدارة المركزية لكل واحدة على حدة.

   فالأمانة العامة للحكومة يتحدد عملها في إعداد مشاريع القوانين المقدمة من طرف الحكومة وتتولى صياغة جدول الأعمال وتعرضه على رئيس الحكومة وتضمنه ملاحظاتها على مختلف النصوص بالإضافة إلى ملاحظات تهم الملائمة السياسية التي يتولى رئيس الحكومة بإعدادها.

فالدور المهم للأمانة العامة يبرز من خلال توجيه جدول الأعمال وتهيئ التحكيمات بين مختلف المصالح في حالة حصول نزاع أو تعارض حول المسائل القانونية الشيء، الذي قد ينعكس سلبا على سير العمل الحكومي، وتتولى التحضير المادي للاجتماعات الوزارية (مجلس الوزراء، مجلس الحكومة، اللجان الوزارية، ومختلف الاجتماعات الوزارية).

فالأمانة العامة للحكومة تقدم مساعدات لرئيس الحكومة في قيادة العمل الحكومي وتزوده بالمعلومات الضرورية، فالمهمة الأساسية لهذا الجهاز هي تنظيم وكتابة جلسات المجالس الوزارية والحكومية وتجمع المصالح الضرورية لعمل الحكومة وتنسيق نشاط مختلف الوزارات[27].

كما تشكل اللجان الوزارية في العمل الحكومي إحدى المراحل الأساسية للتداول من حيث التنسيق والحرص على تحقيق الانسجام بين مختلف السياسات القطاعية، وهي عبارة عن لجان وظيفية يجتمع فيها الوزراء والموظفين السامين تحت رئاسة رئيس الحكومة أو أحد الوزراء المفوضين بحسب قربه من النشاط موضوع الاجتماع، وهي لجان تعمل بصفة مؤقتة ويندرج اختصاصها ضمن المجال التنظيمي الخاص بالوزير الأول[28]، ويغلب على مهامها الطابع التقني والإداري، وهي إحدى الآليات المهمة التي يتم من خلالها التداول بين الوزراء ومساعديهم التقنيين من الموظفين السامين في مختلف القضايا المطروحة علة مستوى السياسات العمومية.

أما الدواوين الوزارية تعد القناة الرئيسة التي يستعين بها المسؤول الحكومي في تدبير الشأن العام الوزاري، فديوان رئيس الحكومة يعتبر الممر الأساسي إلى الإداري على حد تعبير Paul morond[29] وتتحدد مهام ديوان رئيس الحكومة في خمس وظائف أساسية[30]:

فكل وزارة تتوفر على ديوان يشكل المركز الرئيسي لإعداد القرار، وفي بعض الوزارت يعد جوهر العمل الإداري، ويضطلع بدور سياسي مهم، حيث يتولى متابعة الملفات السياسية كما هو الشأن بالنسبة لعدد من القضايا: إنعاش الشغل، الاستثمار، تحقيق التنمية المستدامة، الحفاظ على التوازنات الماكر واقتصادية. وهي ملفات ينبغي إعدادها بشكل تقني ومفصل لكي يسهل تداولها داخل البرلمان أو في مجلس الحكومة أو مجلس الوزراء.

  كما أن الاختيارات الموضوعة رهن إشارة الوزير في القطاع المعني ينبغي أن تكون معدة بناء على مقاييس عقلانية تأخذ بعين الاعتبار معطيات الواقع الاقتصادي والاجتماعي والإكراهات الظرفية والتقنية والمالية. فكل خيار له أبعاد تقنية وانعكاسات مالية ينبغي دراستها ومعرفتها، وهنا يبرز عمل المكلفين بالدراسات خصوصا في المسائل التقنية العالقة بين مختلف الوزارات، وهي اللجان بين الوزارية.

  ويقوم الديوان الوزاري بدور الوسيط بين الوزير ومصالحه الخارجية وبين الدواوين الوزارية الأخرى[31]، من خلال القيام بالتنسيق مع الوزارة المعنية لتقريب وجهات النظر وتوحيد الرؤية وتبادل المعلومات بالإضافة إلى التعبئة لنشاط الوزير عن طريق مختلف قنوات الاتصال كآلية لتوجيه الرأي العام.

فالديوان وكما ينص على ذلك الظهير المنظم لمهامه[32]، تناط بهم مهمة القيام لحساب السلطة الحكومية التي ينتمون إليها بالدراسات  وبتسوية المسائل التي تكتسي طابعا سياسيا و متحفظا به، والتي ليست لها أية علاقة بالاختصاصات المسندة لمختلف المطالب المتعلقة بالسياسة القطاعية التي يشرف عليها وهو بذلك يعتبر السند المادي للوزير.

وإذا كانت الدواوين في فرنسا قد ازدادت خطورتها ووصلت إلى درجة تتجاوز الوزير وبدأت تنحو إلى الصعود إلى درجة يمكن معه القول حيث يوجد قرار يوجد وراءه ديوان[33]، فإن الدواوين في المغرب لا تخلو من الصدام وضعف الانسجام.

المطلب الثاني: دور الخبراء في وضع القرارات العمومية

إن فكرة الاستناد إلى ضرورة تحديث المجتمع شكل تحولا مهما، فإقامة أي إصلاح من خلال العمل على تأهيل الموارد البشرية أكسب النخب الإدارية الكفئة مرتبة متميزة للعب دور مهم في إطار الدولة المعتمدة على تقنيات حديثة ومتطورة في عالم تنافسي لإثبات الذات.[34]

يذهب “جون لويس جيرارد” إلى “أن الفضاء العمومي  بالإضافة إلى طابعه البيروقراطي، يعاني من شح بالغ على مستوى الوساطة بين هياكله والمجتمع من جهة والتطورات المتشعبة للإدارة من جهة أخرى، الشيء الذي أثار عليه انتقادات لاذعة”[35].

وقد كان وراء التطور الذي عرفه مسار الدولة من دولة الرعاية إلى دولة المقاولة أن أصبحت قواعد اللعبة السياسية ترتكز على الاعتبارات والموازين الاقتصادية، كما أن المعيار المحدد للقرارات العامة أصبح يكتسي طابعا قطاعيا، فتقسيم الإدارة إلى أسلاك قطاعية أدى إلى ضرورة الاهتمام بالفئة التي تملك الخبرة والكفاءة الشيء الذي سيحقق تدبيرا عموميا معقلنا.

فظهور التقنية داخل الدول على مستوى المراكز القرارية جعل الدواوين الوزارية، واللجان بين الوزارية تتألف من فئات متمرسة ومتمكنة من المعلومة أهلها تكوينها التقني إلى التأثير في اتخاذ القرارات العمومية.

وبالتالي أصبح تدخل الخبير في القرارات أمرا حتميا، لأنه لن ينير فقط متخذي القرار، بل يساعد على شرعنة الاختيارات المتخذة من طرف القنوات الرئيسية للقرار. ويذهب B. Godin بهذا الصدد إلى “أن العلم يمكن من إضفاء طابع الموضوعية على القرارات العمومية وتجريد الاختيارات من الذاتية والشخصنة”[36].

كما أن التجربة الفرنسية شهدت هيمنة واسعة لفئة الخبراء على مستوى الدوائر القرارية في إطار ما يسمى بلجنة المستشاريين التقنيين conseillers techniques ، التي تعتبر حجر الزاوية بالنسبة للدواوين الوزارية. هؤلاء المستشارون الذين يصنعون القرارات التي تعنى بالتدبير اليومي ليتولى المصادقة عليها الوزراء، لكون المستشار التقني داخل الوزارة يشكل السلطة الخفية للقرار بحكم أن تكوينه المبني على أساس الخبرة والمعرفة  يؤهله لفهم أصول التدبير العام خاصة على مستوى انتقاء القرارات المعدة داخل مختلف الدوائر القرارية.[37]

فتحقيق الفعالية داخل المجال الإداري يتطلب اعتماد الاستشارة الإدارية لدفع الإدارة للوصول لأهدافها المسطرة، فتجنيد العنصر البشري وتعيينهم في الأماكن التي تتلاءم ومؤهلاتهم العلمية، يساعد على حل المشاكل والتغلب على الصعوبات الإدارية، ووضع إطار زمني محدد ومضبوط للوصول للأهداف المرسومة  في برامج العمل ، مع التحكم في  نفقات المؤسسات الإدارية ترشيدها وإجادة استغلالها، فالاستشارة في هذا المجال لا تعني بالضرورة إدخال التغييرات واستبدال نظام قائم بنظام أخر، ولكن الهدف الرئيسي للعمل الاستشاري هو دراسة الحالة الطارئة للمؤسسة المستشيرة وتقديم الحلول الملائمة للاختلالات، التي تواجهها وإعداد التقارير والتحقيقات التي يمكن للإدارة اعتمادها في تنفيذ مخططاتها.

كما أن دور الخبير يساعد على حل المشاكل، ووضع إطار زمني محدد ومضبوط للوصول للأهداف المرسومة في برامج العمل، وتقديم الحلول الملائمة للاختلالات التي تواجهها وإعداد التقارير والتحقيقات التي يمكن للإدارة اعتمادها في تنفيذ مخططاتها. فمن خلال هذا الجهاز وبواسطته يتم التغيير والتحضير والتخطيط عبر برامج، قراءة أرقام، استشعار الغد…”[38].

إن غياب أي إطار إديولوجي ذي مرجعية واضحة يعطى لعمل الخبراء والتقنيين ثقلا وازنا في تحديد الرهانات المسطرة سياسيا، خاصة بالمناطق المأهولة والقريبة من المركبات النووية. كما نجد بأن دور الخبراء على المستوى الدولي قد اتضح وبشكل أساسي على مستوى التدخلات لحصر أولويات دول العالم الثالث خصوصا في المجال السكاني.[39]  وبالتالي فإن الخبير يساعد على تحسين نوعية القرارات المتخذة في رسم السياسات العمومية، بحيث يمكن للإدارة من خلاله التعرف على كافة الآراء القيمة التي يقدمها أصحاب التجارب الواسعة في تقييم اتخاذ القرار الملائم، والأقرب إلى الصواب والواقع[40].

خاتمة:

إن الإدارة في العصر الحديث أصبحت تواجه نوعا من التحدي نتيجة للثورة العلمية والتكنولوجية في جميع الميادين، وما نتج عن ذلك من تعقد مهمات الجهاز الإداري ومتطلبات أدائه على مستوى النشاط العمومي. وبالتالي فإن الوسائل التقليدية في اعتماد مجرد الخبرة الشخصية وأساليب التجربة والخطأ لم تعد قادرة على تحقيق أهداف المجتمع التي تستلزم قرارات سديدة في مجال الاستثمار الأمثل للموارد المتاحة، المادية والمالية والبشرية. إذ أن عملية اتخاذ القرار أصبحت جوهر اختصاص الجهاز الإداري، ووسيلته الأساسية في تحقيق أهداف الدولة المتمثلة في وضع سياسات فعالة وناجعة.

فالجهاز الإداري تقع على عاتقه مسؤولية تحويل السياسات إلى إجراءات عملية مجسدة على أرض الواقع لغرض تحقيق الأهداف المتوخاة. وفي نفس الوقت، تعد السياسة العامة بمثابة استجابة للمشكلات المدركة أو المستشعرة على المستويات العليا في الدولة، بينما معظم نشاطات هذه الاستجابة تجري في مكاتب الإدارة وأجهزتها المعنية باستلام طلبات المجتمع للدفع والتأثير على الحكومة لكي تقوم بأي فعل إزاء هذه الطلبات. وهنا تتجلى أهمية الجهاز التكنوقراطي في الاستجابة للمطالب الشعبية وتحويلها إلى قرارات عمومية تحمل حلولا جذرية بعيدا عن الخطاب السياسي الذي يبقى مجرد دعاية.


[1]  عادل حسن وآخرون، الإدارة العامة، دار النهضة العربية للطباعة والنشر ، بيروت ، 1978، صفحة: 17 – 30.

[2]  – ثروت بدوي، القانون الإداري، دار النهضة العربية، القاهرة 2002 الصفحة 215.

[3]  ربيع أنور فتح الباب، العلاقة بين السياسة والإدارة، دراسة تحليلية في النظم الوضعية والإسلام، دار النهضة العربية، القاهرة 2004، الصفحة 30.

[4]    صبحي العتيبي، تطور الفكر والأنشطة الإدارية، عمان، دار الحامد للنشر والتوزيع، 2002.

[5]  CHARLESDEBBASCH: Droit administratif des biens, 1982 ; 2ème édition, 1994, 3ème éd. 1999. CUJAS, Paris.

[6] – إبراهيم عبد العزيز شيحا، أصول الإدارة العامة، منشأة المعارف، الإسكندرية، الصفحة 45. 

[7]  عمار عوایدي ،القانون الإداري ـ النشاط الإداري ، ط4 ، الجزائر: دیوان المطبوعات الجامعیة ، 2007 ،ص 79

[8] – عبد الإله بلقزيز، العنف والديمقراطية، منشورات جريدة الزمن، 1999، الصفحة 67.

[9] Bahgat Korany and contributors, How Foreign policy Decision Are Made in The Third world, U.S.A, westviw press Boulder and London, 1988, pp. 48 : 60.

[10] Vincent Simoulin “Emission, médiation, réception : les opérations institutives d’une réforme par imprégnation “, in Revue Française de Sciences Politiques, Vol n°2 Avril 2000, pp 333-350.

[11] – خالد فريد، شخصانية السلطة وأثرها على العمل المؤسساتي للدولة الحديثة: دراسة مقارنة إشكالية القرار العام-المغرب وتونس نموذجا- أطروحة لنيل دكتوراه في القانون العام. الرباط الصفحة 244.

[12] – محمد شقير، القرار السياسي بالمغرب السياسي بالمغرب، مطبعة النجاح الجديدة، ط 1، 1992، الدار البيضاء، الصفحة. 45- 46.

[13] – برتراند بادي: الدولة المستوردة ترجمة لطيف فرج، سلسلة “كتاب العالم الثالث” ط. 1 القاهرة 1996، الصفحة. 24-25.

[14]– Benhaddo Ali: Maroc, Les élites du Royaume, Essai sur l organisation du pouvoir au Maroc, ed, L Harmattan, Paris, 1997,P: 71-72.

[15] – عبد المالك إحزرير، محاضرات في السياسات العمومية دراسة الظاهرة القرارية: المفاهيم والنظريات مرجع سابق الصفحة 205 .

[16]– busino ( Giovanni), Elite et elitisme, que-sais-je? Puf, Paris, 1992 p : 38.

[17] – مصطفى مكتوب ، محددات القرار السياسي، دبلوم الماستر، كلية الحقوق مراكش الصفحة 209.

[18]  محمد سعد عبد الفتاح، محمد فريد الصحن، الإدارة العامة المبادئ والتطبيق .رمل الإسكندرية: الدر الجامعية، 2003، ص:147.

[19] -Y.Meny, J.C.Theonig, les politique publiques, Paris,puf,1989.

[20] – Catherine Gremion, Profession : décideurs. Pouvoir des hauts fonctionnaires et réforme de l’État,  paris Gauthier-villars. 1979.

[21]– Rimon, waylin kortan , Isabel boussar ; quarante ans de cabinets ministériels, presse de la F.N.S.P , 1982

[22]– M.C.Kessler, les grands corps de l Etat, press FNSP, M.Bauer, D. Danic, l`Inspection des finances, Seize ans de pantouf lage

[23] – حسن الدغمير، الموظفون السامون بالمغرب رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون العام الرباط 1995 الصفحة 233.

[24] – عمر بنسعيد، الموظفون الكبار والسياسات العامة: دور التقنوقراط في صناعة القرار بالمغرب/ رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون العام، مراكش يولوز 2004، الصفحة 126.

[25] – فيليب برو، علم الاجتماع السياسي، ترجمة محمد عرب صلصيلة، ط1، بيروت:1998، الصفحة 428.

[26] – عبد اللطيف الهلالي، الإدارة والقرار العام: من المنطق المؤسساتي إلى المنطق التدبيراتي/ رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون العام سنة 2004- 2005 الصفحة 59، 60، 61.

[27] –   حسن الدغمير، الموظفون السامون بالمغرب  الصفحة 151.

[28] – نفس المرجع سابق الصفحة 259.                           

[29] – annie Gruber: la décentralisation et les institution administratives 2 eme ed, armond colin, maison, 1996, p 70.

[30] J.L Quermon: l appareil administratif de l Etat, op cit page  43.

[31] – لقد تعزز دور الدواوين بإضافة منصب مكلف بالدراسات بمقتضى مرسوم يناير 1985 تحت رقم 654/280.                 

[32]  الظهير الشريف رقم 1.74.331 الصادر في 11 من ربيع الآخر 1395 الموافق ل 23 أبريل 1975 المتعلق بوضعية أعضاء الحكومة وتأليف دواوينهم كما وقع تغييره وتتميمه.

[33] – فالدواوين المرتبطة برئيس الجمهورية تحولت من مجرد كتابة سياسية إلى حلقات جوهرية التدبير السياسي للقرار العام.

[34] – عبد اللطيف الهلال، الإدارة والقرار العام: من المنطقة المؤسساتي إلى المنطق التدبيراتي رسالة لنيل الدراسات العليا المعمقة في القانون العام، سنة 2004-2005  الصفحة 108

[35]–  Azeddine FAKIRI: Les acteurs de la politique agricole face à la technicisation de l’action publique, Mémoire pour l’obtention du diplôme de Master, faculté Hassan I, Settat, année 2013-2014, p 33.

[36] – Azeddine FAKIRI: Les acteurs de la politique agricole face à la technicisation de l’action publique, op. cit., pp 34-35.

[37] – عبد المالك أحزرير، محاضرات في السياسات العمومية دراسة الظاهرة القرارية: المفاهيم والنظريات مرجع سابق الصفحة، 210-211.

[38] – عبد اللطيف الهلالي، مرجع سابق الصفحة 109.

[39] – luc robon/ la fin de technocratr/ op. cit. pp : 69-82.

[40] –  محمد الاعرج، ”المساطر الادارية غير القضائية، دراسة قانونية لفاعلية قواعد الاجراء والشكل في القرارات الاداية”، المجلة المغربية للادارة والتنمية، سلسلة مؤلفات واعمال جامعية، العدد:47، الطبعة الاولى 2003، ص:117.

Exit mobile version