خصوصيات التحكيم في نزاعات الشغل الجماعية
د/ صباح بنقدور
أستاذة باحثة بكلية الحقوق – عين الشق
جامعة الحسن الثاني – الدار البيضاء
يعتبر التحكيم إحدى أهم الوسائل البديلة لحل المنازعات، بحيث أصبح يشكل حلقة قوية في باب فض النزاعات الناشئة بين الأطراف، باعتباره كآلية بديلة للقضاء.
كما نجد المشرع اتجه نحو فتح باب حل النزاعات بعيدا عن القضاء، فإذا كان التحكيم منظم بموجب القواعد العامة المنصوص عليها في قانون المسطرة المدنية، فإنه بالمقابل نجد أغلب النصوص القانونية الخاصة تنص على التحكيم كأداة لفض المنازعات.
ولقد عرف المشرع المغربي التحكيم في الفصل 306 من قانون المسطرة المدنية بأنه “حل نزاع من لدن هيأة تحكيمية تتلقى من الأطراف مهمة الفصل في النزاع بناء على اتفاق التحكيم”. بالإضافة إلى ذلك نجد المشرع قد ميز بين شرط التحكيم[1]، وعقد التحكيم[2] على اعتبار أن لكل واحد مفهوم خاص به، حيث إن لكل واحد منهما فترته التي يبرم فيها.
هذا، وقد فرضت بعض النصوص إلزامية التحكيم، ومن هذه النصوص مدونة الشغل، التي خصصت له حيزا كبيرا، وذلك المواد من 567 إلى 580 من المدونة، ومن خلال هذه المواد حدد المشرع نظم كيفية رفع طلبات التحكيم[3] إلى المحكم الذي سيختاره الأطراف[4] وفي حالة تعذر على الأطراف الاتفاق على الحكم يتولى الوزير المكلف بالشغل تعيين هذا الحكم[5]. وهذه الوسيلة يعمل بها بشكل كبير في نزاعات الشغل الجماعية، فضلا على أن التحكيم في هذه النزاعات يتميز بمجموعة من الخصوصيات، ومن هنا يطرح الإشكال فما هي الخصوصيات التي ينفرد بها التحكيم في نزاعات الشغل الجماعية؟
للإجابة عن هذا الإشكال يقتضي منا معالجته من خلال المحاور التالية :
- المحور الأول: الجهة المختصة للنظر في الطعون المقدمة ضد القرارات التحكيمية
- المحور الثاني: الأجل الذي يتعين فيه تقديم الطعن في قرارات التحكيم
- المحور الثالث: تقليص أسباب الطعن في قرارات التحكيم
- المحور الرابع: اقتران الطعن في قرارات التحكيم بآجال قصيرة
المحور الأول: الجهة المختصة للنظر في الطعون المقدمة ضد القرارات التحكيمية
لقد حدد المشرع المغربي في مدونة الشغل من خلال المادة 575 الجهة التي لها صلاحية البت في الطعون المقدمة ضد القرارات التحكيمية، والتي تتعلق بنزاعات الشغل الجماعية، حيث أوكل للغرفة الاجتماعية بمحكمة النقض النظر في هذه الطعون دون غيرها[6].
وعليه تقوم الغرفة الاجتماعية، بوظيفة الغرفة التحكيمية، إذ تتولى النظر في الطعون المقدمة أمامها، بناء على إحدى الأسباب التي حددها المشرع.
وتجب الإشارة إلى أن المشرع المغربي قد خصص المواد من 575 إلى 580 من مدونة الشغل للطعن في القرارات التحكيمية، من خلال تحديد الأجل الذي يجب فيه تقديم هذه الطعون، وكذا الطريقة التي يجب بها تقديم هذه الطعون حيث تنص المادة 577 على أنه “يجب أن تقدم الطعون في القرارات التحكيمية في أجل خمسة عشر يوما من تاريخ تبليغها.
يقدم الطعن بواسطة رسالة مضمونة مع إشعار بالتوصل، توجه إلى رئيس الغرفة التحكيمية.
المحور الثاني: الأجل الذي يجب فيه تقديم الطعن
لقد أفردت مدونة الشغل آجالا قصيرة، إذ يتعين تقديم الطعن المتعلق بالقرارات التحكيمية في نزاعات الشغل الجماعية داخل أجل 15 يوما من تاريخ التبليغ[7]، وإذا ما تمت مقارنته بالطعن أمام محكمة النقض فنجده قصيرا جدا، لأن الطعن أمام محكمة النقض بصفة عامة يكون هو 30 يوما من تاريخ التبليغ، على اعتبار أن الغرفة الاجتماعية بهذه المحكمة إحدى غرفها الست، مما يدل على أن المشرع المغربي من خلال المدونة حاول التسريع بالفصل في هذه النزاعات، وبالتالي تسويتها بدلا من أن تبقى طويلة الأمد وهي معروضة أمام الهيئات المخول لها صلاحية البت فيها.بل أكثر من ذلك فإنه من خلال مدونة الشغل، قد يسر تقديم هذه الطعون، فإذا كان في القواعد العامة قد ألزم بضرورة تقديم عرائض النقض في شكليات معينة ومحددة بطريقة دقيقة، فإنه سمح بإمكانية تقديم الطعون المتعلقة بنزاعات الشغل الجماعية عن طريق رسالة مضمونة مع الإشعار بالتوصل.
والملاحظ هنا أن المشرع المغربي في مدونة الشغل قد أزال الشكليات المعتادة لتقديم الطعون المتعلقة بنزاعات الشغل الجماعية، مقارنة مع مثيلاتها من الطعون أمام محكمة النقض، بل أكثر من ذلك أن الطعون المقدمة ضد القرارات التحكيمية تقدم أمام نفس المحكمة التي تقدم أمامها الطعون الأخرى ألا وهي محكمة النقض. مما يعني أن المشرع يطغى عليه هاجس التسريع بوتيرة القضاء على النزاعات الناشئة في إطار نزاعات الشغل الجماعية، ولما ذلك من تأثير على الاقتصاد الوطني.
المحور الثالث: تقليص أسباب الطعن في قرارات التحكيم
لقد نظم المشرع المغربي التحكيم في قانون المسطرة المدنية[8]، وكذا إجراءات الطعن في الأحكام أمام محكمة النقض، وبالرجوع إلى قانون المسطرة المدنية نجده قد حدد في الفصل 359 منه أسباب الطعن في الأحكام أمام محكمة النقض باعتباره يشكل القواعد العامة في المجال الإجرائي، إذ حددها في خمسة أسباب وهي:
- خرق القانون الداخلي
- خرق قاعدة مسطرية أضر بأحد الأطراف
- عدم الاختصاص
- الشطط في استعمال السلطة
- عدم ارتكاز الحكم على أساس قانوني أو انعدام التعليل
فإننا نجد مدونة الشغل في إطار نزاعات الشغل قد قلصت من هذه الأسباب، لأن كل من يريد أن يطعن في القرارات التحكيمية، أن تكون هذه الأخيرة مستندة إما على الشطط في استعمال السلطة أو خرق القانون، دون غيرها من الأسباب المنصوص عليها في الفصل 359 من قانون المسطرة المدنية.
وعليه فإن المادة 576[9] من مدونة الشغل قد حددت الأسباب التي يجوز الطعن بناء عليها في القرارات التحكيمية الاجتماعية وهي الشطط في استعمال السلطة وخرق الفانون، وبالتالي تكون المدونة بهذا التأطير قد خالفت مقتضيات الفصل 359 من قانون المسطرة المدنية، الذي نص إلى جانب هذين السببين على خرق قاعدة مسطرية أضرت بأحد الأطراف وعدم ارتكاز الحكم على أساس قانوني أو انعدام التعليل وعدم الاختصاص.
ومما لا شك فيه أن المشرع المغربي من خلال هذا التحديد حاول قدر الإمكان التقليص من أسباب الطعن في المقررات التحكيمية، ولعل الغاية من ذلك هي الحيلولة دون كثرة النزاعات بناء على التوسع في استعمال أسباب الطعن فضلا عن حماية الاقتصاد الوطني عبر استقرار العلاقات الاجتماعية .
المحور الرابع : اقتران الطعن في قرارات التحكيم بآجال قصيرة
إن القرارات التحكيمية التي تصدر في نزاعات الشغل مرتبطة بآجال قصيرة جدا، إذ يوجه الطعن إلى رئيس الغرفة الاجتماعية بمحكمة النقض بصفته رئيسا الغرفة التحكيمية[10]، بحيث يجب على الغرفة الاجتماعية بمحكمة النقض باعتبارها غرفة تحكيمية أن تصدر قراراها داخل أجل أقصاه ثلاثون يوما من تاريخ رفع الطعن إليها. ويبلغ إلى الأطراف القرار خلال الأربع والعشرين ساعة الموالية لتاريخ صدوره[11]. إذ أن هناك خصوصيات يمتاز بها نزاع الشغل يستلزم بالضرورة الحزم في فرض مدد قانونية دون السماح بالخروج عليها قصد إنهاء النزاع في أقرب وقت ممكن[12].
وفي إطار مقاربة هذه الآجال مع الآجال المعمول بها في نزاعات الشغل الفردية وفقا لقانون المسطرة المدنية، فإنه سيتم الوقوف على أن أجل البت في نزاع شغل فردي أطول من الأجل المنصوص عليه في مدونة الشغل، إذ وفقا للفصل 327-20 من ق.م.م فإن صلاحية المحكمين تنتهي بمرور 6 أشهر من تاريخ قبول آخر محكم لمهمته، وهذه المدة يعمل بها في حالة عدم اتفاق أطراف النزاع على مدة أقل أوأكثر[13].
ومما لا شك فيه أهذا الأجل القصير الذي يجب أن تصدر فيه هذه القرارات التحكيمية، لا وجود لمثيل له في قانون المسطرة المدنية، على اعتبار أن المشرع المغربي في قانون المسطرة المدنية لم يوقف صدور القرار عن محكمة النقض بأجل معين، ولكنه ترك السلطة التقديرية للمستشارين بهذه المحكمة في إصداره، إذ يبتون وفقا للقضايا المعروضة عليهم، وكذا بناء على انتهاء إجراءات التحقيق وتهيئ القضية.
وتجدر الإشارة إلى أن المشرع المغربي في مدونة الشغل، عمل على التسريع بوتيرة فض هذا النوع من القضايا، حتى لا تبقى لزمن طويل وهي في ردهات المحاكم. مما يعني أن المشرع أفرد لها إجراءات خاصة، ولعل أبرزها هذه الآجال القصيرة.
خاتمة
وصفوة القول إن نزاعات الشغل الجماعية، تنفرد بالعديد من الخصوصيات، سواء فيما يتعلق، بالجهة التي خول لها المشرع صلاحية البت في الطعون المقدمة ضد القرارات التحكيمية، أو الأجل الذي يجب أن تقدم فيه هذه الطعون بل أكثر من ذلك قد قلص من أسباب الطعن في هذه المقررات حتى لا يفتح الباب على مصراعيه في مجال الطعون ضد المقررات التحكيمية. بالإضافة إلى ذلك أن القرارات التي تصدر عن الغرفة الاجتماعية يجب أن تصدر داخل آجال معينة.
وعليه نجد المشرع المغربي قد غلب عليه الطابع الاستعجالي في باب تسوية نزاعات الشغل الجماعية، حتى لا تغرق مثل هذه النزاعات في المحاكم لمدة طويلة، لا سيما وأن هذه القضايا لها تأثير بالغ من الناحية العملية وذلك على مستويين فالأول يتعلق بالطابع المعيشي لهذا النوع من القضايا لأنها مرتبطة بالسلم الاجتماعي أما الثاني فهو يتعلق بالجانب الاقتصادي لأن هذا النوع من العلاقات تساهم في دوران العجلة الاقتصادية.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه القرارات التحكيمية حينما تصدر، تصير قابلة للتنفيذ، حيث نجد المشرع المغربي في مدونة الشغل قد أحال على مقتضيات قانون المسطرة المدنية فيما يتعلق بالتنفيذ، مع التأكيد على أن هذه الإحالة لم تكن صائبة وفق اعتقاد على اعتبار أن التنفيذ في القواعد العامة يتطلب إجراءات كثيرة وهو الأمر الذي يتناقض وطبيعة نزاعات الشغل الجماعية من جهة، ومن جهة ثانية يضرب عرض الحائط المبدأ الذي تبناه المشرع نفسه في تسوية نزاعات الشغل الجماعية، حيث نجده حاول جادا أن يسوي هذه النزاعات في أقصر أجل إلا أنه في آخر المطاف أحال على القواعد العامة فيما يخص التنفيذ، الأمر الذي لا نوافقه، إذ كان عليه أن يفرد له قواعد خاصة حيادا عن مقتضيات قانون المسطرة المدنية الذي يبقى الإطار العام في المجال الإجرائي.
[1] نص الفصل 316 من ق.م.م. على أنه: “شرط التحكيم هو الاتفاق الذي يلزم فيه أطراف عقد بأن يعرضوا على التحكيم النزاعات التي قد تنشأ عن العقد المذكور.
[2] حيث جاء في الفصل 314 من ق.م.م ما يلي : عقد التحكيم هو الاتفاق الذي يلزم أطراف نزاع نشأ بينهم بعرض هذا النزاع على هيأة تحكيمية”.
[3] تنص الفقرة الثانية من المادة 567 من مدونة الشغل على أنه “يحيل رئيس اللجنة الاقليمية للبحث والمصالحة أو رئيس اللجنة الوطنية للبحث والمصالحة، وعند الاقتضاء، إلى الحكم خلال الثماني والأربعين ساعة الموالية لتحرير المحضر….”
[4] نصت المادة 568 من مدونة الشغل على أنه : “يعهد بإجراء التحكيم إلى حكم يختاره الأطراف باتفاق بينهم، ضمن قائمة حكام تصدر بقرار للوزير المكلف بالشغل”.
[5] تنص المادة 569 من مدونة الشغل على ما يلي : “إذا تعذر توصل الأطراف إلى اتفاق على اختيار الحكم، لأي سبب كان، فإن الوزير المكلف بالشغل، يعين حكما من نفس القائمة المذكورة في المادة 568 أعلاه، في أجل ثمانية وأربعين ساعة”.
[6] تنص المادة 575 من مدونة الشغل على أنه “لا يمكن الطعن في القرارات التحكيمية الصادرة في نزاعات الشغل الجماعية إلا أمام الغرفة الاجتماعية بالمجلس الأعلى….”.
[7] حيث تنص المادة 577 من مدونة الشغل على ما يلي” يجب أن تقدم الطعون في القرارات التحكيمية في أجل خمسة عشر يوما من تاريخ التبليغ يقدم الطعن بواسطة رسالة مضمونة مع إشعار بالتوصل، توجه إلى رئيس الغرفة التحكيمية
يجب، تحت طائلة عدم القبول، أن تتضمن الرسالة أسباب الطعن، وأن تكون مرفقة بنسخة من القرار المطعون فيه”.
[8] للتوسع أكثر حول التحكيم في قانون المسطرة المدنية المرجو الرجوع إلى :
- عبدالكريم الطالب، التحكيم في قانون المسطرة المدنية المغربي،مجلة المنتدى، العدد 2 سنة 2000 ، الصفحة 9 وما بعدها.
- عبدالكريم الطالب، الشرح العملي لقانون المسطرة المدنية، المطبعة والوراقة الوطنية مراكش، طبعة 2013، الصفحة 314 وما يليها.
- محمد شعيبي المذكوري، القرارات التحكيمية في قانون المسطرة المدنية، مجلة المحاكم المغربية، العدد 76 سنة 1975، الصفحة 15 وما بعدها.
[9] التي ينص فيها المشرع على أنه “تتولى الغرفة الاجتماعية بالمجلس الأعلى مهام غرفة تحكيمية، وتبت بهذه الصفة في الطعون، بسبب الشطط في استعمال السلطة، أو بسبب خرق القانون، التي تقدمها الأطراف ضد القرارات التحكيمية”.
[10] مصطفى بونجة ونهال اللواح، التحكيم في المواد التجارية الإدارية والمدنية، دار الآفاق المغربية للنشر والتوزيع، مطبعة الأمنية الرباط، طبعة 2015 ص 339.
[11] عبدالكريم الطالب، الشرح العملي لقانون المسطرة المدنية، المطبعة والوراقة الوطنية مراكش، طبعة 2013، ص 385.
[12] زهير كريمات، التحكيم في نزاعات الشغل الجماعية-دراسة مقارنة-، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بسلا، السنة الجامعية 2006/2007، ص 113
[13] نبيل بوحميدي، قراءة مقتضبة في خصوصيات قرار التحكيم البات في نزاع الشغل الجماعي، المجلة المغربية للتحكيم العربي والدولي، العدد الأول 2015، ص 76.