Site icon مجلة المنارة

جائحة كورونا وتكريس العلاقة المختلة بين الدولة والجماعات الترابية

جائحة كورونا وتكريس العلاقة المختلة بين الدولة والجماعات الترابية

عصام القرني

باحث متخصص في المالية العمومية والسياسة الجبائية

يرتكز التنظيم الإداري المغربي على النظام اللامركزي، الذي يسمح بتوزيع السلطة الإدارية ما بين الإدارة المركزية للدولة والهيئات المحلية المنتخبة. وبهدف تنزيل هذا النظام وتدعيم أسسه، عمل المشرع المغربي منذ السنوات الأولى للاستقلال على بلورة ترسانة قانونية لإرساء دعائم اللامركزية الإدارية. ومع كل محطة إصلاحية لهذا النظام، كان يتبين مع مرور الوقت أن الهيئات اللامركزية، لم تصل بعد إلى النضج المطلوب لممارسة الأدوار التنموية ومهام القرب المنوطة بها على المستوى المحلي بالفعالية اللازمة.

في ظل هذا السياق، شكل دستور سنة 2011 مناسبة ومحطة تاريخية مهمة لتعزيز مكانة الهيئات المحلية المنتخبة؛وبناء على هذه المراجعة الدستورية تم إصدار القوانين التنظيمية للجماعات الترابية سنة 2015، والتي منحت هذه الجماعات صلاحيات ومهام جديدة، وفي نفس الوقت وفرت لها مواردا مالية إضافية للقيام بأدوارها التنموية، موازاة مع تمكينها من وسائل تدبيرية تتيح لها مجالا أوسع للتحرك، مع الاستمرار في تخفيف الرقابة الممارسة عليها؛ وقد كان الهدف ينصب حول الارتقاء بسلطات الجماعات الترابية وبطبيعة تدخلاتها على الأصعدة المحلية.

غير أن النتائج المحققة لحد الآن، لم تكن في مستوى الطموح، إذ ظلت أزمة الجماعات الترابية مطروحة، فلم تستطع الانعتاق من ارتهانها للدولة، الأمر الذي جعل من تدخلاتها محدودة رغم كل ما اتخذ من تدابير وإجراءات؛ وقد زادت أساليب التدبير والاختلالات وأجه القصور  التي شابت اشتغال هذه الهيئات من تكريس أزمتها، ما جعلها في أحيان كثيرة غير قادرة على حل الإشكالات المحلية، وفي أحيان أخرى عاجزة عن التصرف بشكل ناجع في الصلاحيات والامكانيات الممنوحة لها.

ومع ظهور أزمة جائحة كورونا ببلادنا، وما رافقها من تداعيات على مختلف الأصعدة الاجتماعية والمالية والاقتصادية، طفت إلى السطح بشكل بارز أزمة الجماعات الترابية التي بقيت أدوارها وتدخلاتها في مواجهة الجائحة محدودة للغاية، مقابل عودة قوية لتدخل الدولة المركزية في مواجهة انتشار الوباء والبحث عن الحلول لتداعياته المتفاقمة،مما أدى إلى تهميش أدوار الجماعات الترابية ومن تم تكريس عدم التوازن بين الطرفين واختلال العلاقة بينهما.

تأسيسا على ما سبق، ترمي هذه المساهمة إلى مقاربة وتحليل وتفكيك إشكالية اختلال العلاقة بين الدولة والجماعات الترابية، بالموازاة مع التركيز على كيف ساهمت أزمة وباء كورونا في إبراز هذا الاختلال، وذلك عبر المحورين الرئيسيين التاليين:

المحور الأول: الدولة والجماعات الترابية وسوء توزيع السلطة

المحور الثاني: الجماعات الترابية ومواجهة جائحة كورنا، أداء هزيل وخاضع لسلطة الدولة المركزية

المحور الأول: الدولة والجماعات الترابية وسوء توزيع السلطة

أسندت النصوص التشريعية والتنظيمية للجماعات الترابية مجموعة من الاختصاصات التي اتسع مجالها مع كل تعديل قانوني للنظام الإداري اللامركزي؛ وفي الوقت نفسه ظلت الدولة محتفظة بأهم سلطاتها في تدبير الشأن الترابي، مما أدى إلى جعل الاختصاصات الممنوحة للجماعات الترابية اختصاصات فضفاضة تصعب ممارستها باستقلال عن تدخل الدولة (أولا)، خاصة وأن الجماعات الترابية لا تتوفر على موارد مالية ذاتية كافية لممارسة اختصاصاتها، مما يجعل سلطتها المالية ضعيفة أمام قوة السلطة المالية للدولة(ثانيا).

أولا: تمتع الجماعات الترابية باختصاصات فضفاضة تصعب ممارستها بدون تدخل أجهزة الدولة

شكل دستور سنة 2011 قفزة نوعية في تطور مسار اللامركزية الإدارية بالمغرب، وذلك عبر تحديد شكل التنظيم الترابي للدولة في الفصل الأول من الدستور الذي نص صراحة على أن  “التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لامركزي، يقوم على الجهوية المتقدمة”.[1] وبغاية توضيح أسس هذا التنظيم، تضمن الباب التاسع من الدستور مجموعة من المقتضيات التي رسمت الإطار المؤسساتي لهذه الهيئات الترابية وللمبادئ والقواعد العامة التي يجب أن تخضع لها.

وتنزيلا للفصل 146 من الدستور القاضي بسن قانون تنظيمي يحدد اختصاصات الجماعات الترابية ومواردها وقواعد اشتغالها، تم في سنة 2015 إصدار ثلاث قوانين تنظيمية، خصص كل واحد منها لكل صنف من أصناف هذه الجماعات؛[2]قبل أنيتم إخراج عدد من النصوص التطبيقية لهذه القوانين.

ومن بين ما نصت عليه هذه القوانين، تحديد الاختصاصات والصلاحيات الممنوحة لكل صنف من أصناف الجماعات الترابية، معتمدة في ذلك على التقسيم التقليدي السابق الذي يميز بين الاختصاصات الذاتية والاختصاصات المشتركة مع الدولة ثم الاختصاصات المنقولة من قبل الدولة إلى الجماعات الترابية. وقد حاول المشرع عبر القوانين التنظيمية إيجاد منطق معين يستند عليه مبدئيا في توزيع الاختصاصات بين الأصناف الثلاثة الرئيسية للجماعات الترابية؛ حيث خص الجماعات بممارسة خدمات القرب،[3] على اعتبار أنها تشكل أصغر صنف من حيث المجال، وبالتالي فهي البنية الأكثر قربا واتصالا مع المواطنين؛ فيما أسند للعمالات والأقاليم المهام المتعلقة بالتنمية الاجتماعية مع التركيز على العالم القروي، إضافة إلى دعم نجاعة الجماعات وتعزيز التعاون بينها؛[4] أما الجهات فقط أناط بها تنظيم وتنسيق وتتبع المهام الهادفة إلى النهوض بالتنمية المندمجة والمستدامة.[5]

وإن كان هذا التقسيم يروم توضيح سلطات الجماعات الترابية ورسم الحدود الفاصلة بين اختصاصات كل صنف منها،وبين هذه الجماعات والدولة من ناحية أخرى، فإن الإحاطة بلائحة هذه الاختصاصات، يُستشف منها أنها اختصاصات مهمة وتغطي مجالات واسعة في شتى المادين الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية وغيرها، وأحيانا تكون فضفاضة ومفتوحة وغير محددة بشكل دقيق كما هو الشأن بالنسبة للجهات التي تتوفر على اختصاصات واسعة تغطي معظم الميادين العمومية الأساسية؛كما أن الاختصاصات المشتركة بين الدولة والجماعات الترابية والتي تهم مجالات واسعة، تبقى المبادرة فيها مفتوحة، عن طريق التعاقد بين الطرفين أو بمبادرة من طرف الجماعات الترابية، وهو الأمر الذي قد يجعل حدود الاختصاص وقدر مسؤولية الطرفين غير واضحة ومن الصعب ضبطها، سواء فيما يتعلق بالطرف المطلوب منه ممارسة الاختصاص أو الجهة التي تتحمل مسؤولية نتائج ممارسة هذا الاختصاص وبالتالي الخضوع للمحاسبة.

وفيما يتعلق بالاختصاصات المنقولة، فمن الواضح أن هدف المشرع من التنصيص عليها، هو حصر لائحة الاختصاصات التي يمكن نقلها مستقبلا للجماعات الترابية، فتتحول بذلك إلى اختصاصات ذاتية؛وذلك لن يتأتى في جميع الأحوال إلا عن طريق تعديل القوانين التنظيمية للجماعات الترابية المعنية.[6]وبالتالي فالتنصيص على هذه الاختصاصات، في تصورنا، ليس إلا تحصيل الحاصل، ما دام الأمر يتعلق باختصاصات لا يمكن نقلها إلا عبر تعديل القانون التنظيمي المعني،وبالتالي فهي ليست منقولة كما يوحي المصطلح المستعمل في النص القانوني؛ فالواقع أن العمل على تعديل القوانين التنظيمية للجماعات الترابية أو إحداها بهدف نقل اختصاص محدد من الدولة للجماعات الترابية، ليس فيه ما يمنع من مراجعة لائحة الاختصاصات القابلة للنقل في حد ذاتها؛ ما يجعل تحديد هذه اللائحة وحصرها في أول قوانين تنظيمية للجماعات الترابية غير ذات معنى.

ومهما يكن من ذلك، فالأكيد أن الجماعات الترابية أصبحت اليوم، تتمتع بسلطات قانونية وتنظيمية أكبر من أي وقت مضى؛ غير أن هذا التطور الملحوظ في الاختصاصات، لم يوازه إلى حدود الآن، الحضور المنظر من الجماعات الترابية على صعيد تدبير الشأن العام المحلي ومواجهة الإشكالات العمومية المستعصية والراهنة،وبالنتيجة المساهمة الفعالة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية؛ كما أنها لم تستطع التخلص من “التبعية” المفروضة عليها من الدولة، فعلى ما يبدو أن إلغاء الوصاية من النص القانوني لم يكن كافيا لخلق نوع من الاستقلال الإيجابي لهذه البنيات المحلية عن المركز الذي أبان بشكل متواصل، على أنه مازال الطرف القوي الذي يملك زمام المبادرة وسلطة صنع القرار والتدخل والتأثير في الشأن الترابي.

ولعل المنهجية التي على أساسها تم تسطير اختصاصات الجماعات الترابية، تعد في حد ذاتها، أحد الأسباب المهمة التي ساهمت في ضعف النتائج المحققة على المستوى الفعلي؛ ويظهر هذا الإشكال على عدة مستويات، أولها ورود مجموعة من الاختصاصات بصيغة عامة لا تساعد على إلزام الجماعات بممارسة هذه الاختصاصات، فتتمتع بذلك بسلطة تقديرية في القيام أو عدم القيام بمهامها وفي الصيغة التي تراها مناسبة، ويظهر هذا الإشكال على وجه الخصوص في الاختصاصات المشتركة.

المستوى الثاني من الإشكال يتعلق بهذا النوع الأخير من الاختصاصات، والذي بموجبه يتم إسناد مهام تدبير عدة مرافق عمومية أساسية للدولة والجماعات الترابية في نفس الوقت، الأمر الذي قد يؤدي إلى عدم وضوح الحدود بين ما هو مطلوب من الدولة تدبيره  وما على الجماعات الترابية القيام به، كما قد يؤدي هذا التداخل إلى هدر الجهود وإضعاف نجاعة التدبير، إلى جانب صعوبة تحديد المسؤوليات.

أما المستوى الثالث، فيتعلق بالتباين والهوة الموجودة بين حجم الاختصاصات الممنوحة للجماعات التربية وبين واقع هذه الجماعات وقدرتها الفعلية على ممارسة هذه الاختصاصات؛ فمن الواضح أن العديد من الاختصاصات تتطلب قدرات بشرية وإمكانيات تدبيرية وموارد مالية قد لا تكون متاحة لمعظم الجماعات الترابية، خاصة وأن هذه الجماعات ليست على نفس المستوى من المؤهلات، بل إن بعض موارد بعض الجماعات وقدرتها على التدخل ضعيفة إلى حد كبير، وهو ما ينطبق على العديد من الجماعات ذات الطابع القروي التي تكاد تكون وسائلها الذاتية منعدمة. ولعل وعي المشرع بهذه الحقيقة هو ما جعله يربط ممارسة هذه الاختصاصات بحجم موارد كل جماعة ترابية.[7]

وهكذا، فبالرغم من التحولات القانونية التي همت العلاقات بين المؤسسات اللامركزية من جهة والسلطات المركزية واللاممركزة من جهة ثانية، فإن ذلك لم يُحدث تغييرا كبيرا على أرض الواقع، وبالرغم من إلغاء الوصاية، فالمقررات الأساسية للجماعات الترابية لا تصبح قابلة للتنفيذ إلا بعد التأشير عليها من سلطات الرقابة المختصة التي تبقى لها صلاحية رفض هذه التأشيرة. وبالتالي ففي الوقت الذي أصبح فيه للجماعات الترابية مسؤوليات قانونية أكثر، مازالت سيطرة السلطات المركزية واللاممركزة حاضرة بقوة على مستوى الممارسة.[8]

ومع ظهور جائحة كورونا وتفاقم آثارها على مختلف الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية، لوحظ نوع الفتور في نشاط الجماعات الترابية، وازاه تدخل قوي للسطات المركزية وبالتحديد وزارة الداخلية ومصالحها الخارجية في إدارة وتدبير الشأن الترابي، مستندة في ذلك على قانون الطوارئ الصحية[9] الذي خولها سلطات غير مألوفة في الظروف العادية؛ والنتيجة أن تدخلات الجماعات الترابية في مواجهة الجائحة ظلت محدودة وهامشية، ولم تسعفها السلطات القانونية والتنظيمية المخولة لها قانونا في التدخل بالسرعة والفعالية المطلوبة في أوقات الأزمات، كما أنها لم تكيف توظيفها للسلطة التنظيمية[10] التي تتمتع بها بشكل يتلاءم وخصوصيات المرحلة.

ثانيا: تواضع ميزانية الجماعات الترابية وارتهانها للميزانية العامة الدولة

مبدئيا الجماعات الترابية هي أشخاص معنوية عامة تتمتع بالاستقلال الإداري والمالي،كما تدير شؤونها وفقا لمبدأ التدبير الحر؛لكن في الواقع ومن خلال الممارسة يبقى هذا الاستقلال مسألة نسبية ومحط نقاش، خاصة على المستوى المالي الذي يعد أحد أهم أوجه ضعف الجماعات الترابية في علاقتها بالدولة من جهة، ومن جهة ثانية فيما يرتبط بتدخلها في تدبير الشأن العام المحلي بالفعالية والنجاعة المطلوبتين.

ولأن “من يملك المال يملك القرار والسلطة”، فإن ضعف ميزانية الجماعات الترابية بالنظر إلى أهمية الاختصاصات المسندة إليها، وارتهان هذه الميزانية بشكل قوي لتحويلات ميزانية الدولة، يجعل من الجماعات الترابية بشكل عام، وتلك التي تعاني خصاصا حادا في الموارد المالية بشكل خاص، عاجزة عن اتخاذ المبادرات التنموية داخل مجالها الترابي، ليبقى الهم الرئيسي لعدد من “الجماعات الفقيرة”، تغطية النفقات الأساسية وخاصة نفقات التسيير العادية وأداء أجور الموظفين، أما أغلبية الجماعات الأخرى فقدراتها المالية لا تتعدى تغطية النفقات اللازمة لاستمرارية المرافق الضرورية في حياة المواطنين، دون القدرة على القيام بتدخلات نوعية عبر مشاريع تنموية تساهم في تحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي للمواطنين.

ومن خلال تحليل النظام القانوني لمالية الجماعات الترابية، نجد أن الموارد المالية العادية لهذه الجماعات، تتكون من شقين رئيسين، الأول يتعلق بالموارد الذاتية، ويشمل بصفة أساسية حصيلة المداخيل المتأتية من الرسوم المحلية وحصيلة الخدمات التي تقدمها والغرامات والمساهمات المالية والاستغلالات والأرباح والأتاوى  وعائدات الأملاك. أما الشق الثاني، فيتعلق بالموارد المالية المحولة من قبل الدولة لفائدة هذه الجماعات، وتنقسم بدورها إلى صنفين، الأول يتعلق بحصص الجماعات الترابية من حصيلة ضرائب الدولة، والثاني يخص الاعتمادات المرصودة من الميزانية العامة للجماعات الترابية؛[11]وهناك صنف آخر من الموارد التي يتوجب على الدولة تحويلها لفائدة الجماعات الترابية في حالة نقل اختصاص معين من الدولة لهذه الجماعات.[12]

من خلال الممارسة، يتضح أن مداخيل الجماعات الترابية يتأتى أغلبها من الموارد ذات الطبيعة الجبائية، وهي نوعين أساسين :

– الرسوم المحلية[13] البالغ عددها 17 رسما، 11 مخصصة للجماعات و3 للجهات و3 للعمالات والأقاليم، ويتوزع تدبيرها بين المصالح الجبائية للدولة[14] ومصالح الجماعات الترابية نفسها.وجدير بالذكر هنا أن الجماعات الترابية تتمتع بعدد من الرسوم والحقوق والمساهمات والأتاوى الأخرى والتي لا تكتسي صبغة جبائية.[15]

– حصص الجماعات الترابية من ضرائب الدولة، وتتمثل في 30% من محصول الضريبة على القيمة المضافة؛[16] وإلى جانب ذلك، خص القانون التنظيمي رقم 111.14 الجهات بــ 5% من حصيلة الضريبة على الشركات، و5% من حصيلة الضريبة على الدخل، ثم 20% من حصيلة الرسم على عقود التأمين.[17]

ومن أجل تقديم صورة عن واقع ميزانية الجماعات الترابية، نشير إلى أنه في سنة 2019، بلغت مداخيل هذه الميزانية ما يقارب 43 مليار درهم بزيادة سنوية قدرها 1,5%، 34 مليار درهم مُحصل من الموارد الجبائية، وحوالي 9 ملايير درهم من الموارد غير الجبائية. أما النفقات العادية فقد بلغت ما يناهز 25,5 مليار درهم بزيادة سنوية قدرها 5,4%، في الوقت الذي قدرت فيه نفقات الاستثمار المنجزة بحوالي 17 مليار درهم بزيادة سنوية تعادل 4,2%.[18] وتبقى الملاحظة الأساسية بشأن آخر سنة محاسبية للجماعات الترابية (2019)، تتمثل في كون وثيرة ارتفاع نفقات هذه الجماعات تتزايد بشكل متسارع مقارنة مع وثيرة نمو المداخيل (4,3% للنفقات مقابل 1,5% بالنسبة للمداخيل)، وهي ملاحظة لا يمكن تعميمها على باقي السنوات السابقة.

بتحليل تركيبة موارد الجماعات الترابية، يتضح أن الموارد المحولة من الدولة للجماعات الترابية تحتل حصة كبيرة ضمن مجموع موارد هذه الجماعات، إذ قُدرت نسبتها سنة 2019 بــ 66,5%، وتمثل حصة الجماعات الترابية من محصول الضريبة على القيمة المضافة مكانة مهمة ضمن الموارد المحولة بشكل خاص وموارد الجماعات الترابية بشكل عام، حيث مثلت  ما يناهز 43% من مجموع موارد هذه الجماعات خلال نفس السنة.[19] أما الموارد الذاتية للجماعات الترابية، بما فيها تلك المدبرة من قبل الدولة، فلم تتعدى نسبتها 33,5% خلال نفس السنة المالية.[20]

ومن أجل إجراء مقارنة بسيطة بين ميزانية الدولة وميزانية الجماعات الترابية، يُسجل أن ميزانية هذه الأخيرة، وبالرغم من كل التدابير القانونية المتخذة في السنوات الأخيرة بهدف تعزيز موارد الجماعات الترابية، تبقى ضعيفة نسبيا بالنظر إلى أهمية مداخيل الميزانية العامة للدولة. فعلى سبيل المثال خلال السنة المالية 2019، حققت الميزانية العامة مداخيلا عادية قُدرت بما يزيد عن 253 مليار درهم، وفي المقابل سجلت نفقاتها العادية ما يفوق 239 مليار درهم ونفقات استثمار زادت عن 70 مليار درهم؛[21] وبذلك فالميزانية العامة تُضاعف ميزانية الجماعات الترابية بما يقارب 6 مرات من حيث المداخيل، وأكثر من 9 مرات فيما يتعلق بالنفقات العادية، وأزيد من 4 مرات بخصوص نفقات الاستثمار.

بناء على كل هذه المعطيات والمؤشرات، يمكن الانهاء بخلاصتين أساسيتين، أولهما أن مداخيل الجماعات الترابية متواضعة مقارنة بحجم المهام الملقاة عليها، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى محدودية الإنفاق العمومي لهذه الجماعات وعجزها عن تغطية العديد من أوجه التدخلات العمومية التي تتطلبها التنمية المحلية، مما يساهم في الإبقاء على الموقع المؤثر للدولة المركزية ومصالحها الخارجية كمتدخل رئيسي في تنشيط المجال الترابي، رغم اعتماد نظام الجهوية المتقدمة . أما الخلاصة الثانية، فتخص هيمنة الموارد المالية المحولة من الدولة للجماعات الترابية على تركيبة موارد ميزانية هذه الجماعات، مقابل ضعف ملحوظ في الموارد الذاتية؛ وهو ما لا يسمح، من جهة، ببلورة منظومة مالية فعالة ومستدامة للجماعات الترابية تسمح لها بالقيام بأدوارها بالنجاعة اللازمة، ومن جهة ثانية، ببلوغ الحد المطلوب من الاستقلال الكفيل بالتخلص من التبعية المالية للدولة.

وإذا كانت الأمر على هذا النحو فيما يخص القدرة المالية للجماعات الترابية خلال الأوقات العادية، فلن يكون مستغربا أن تعرف هذه الجماعات عجزا ماليا حادا خلال فترة الأزمات؛ وقد أبانت أزمة وباء كورونا التي تعيش على وقعها البلاد منذ عدة شهور، أن الجماعات الترابية وجدت صعوبة كبيرة في التعامل مع الإشكالات التي طرحتها جائحة كورونا على المستوى المحلي، فلم تكن مهيأة لمواجهة تداعيات الجائحة ولم تكن لها القدرة على الاستجابة للحاجيات غير المألوفة في الأوقات العادية، مما أدى إلى تراجع الجماعات الترابية للخلف والاكتفاء بمحاولة ضمان استمرارية تدبير المرافق الأساسية، أما الاجراءات التدخلية على الأصعدة الصحية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، فقد احتكرتها مصالح الدولة.

وقد زاد من تهميش أدوار الجماعات الترابية في هذه الظرفية، تراجع مداخيل الموارد المالية المخصصة لها خاصة الموارد المحولة، كنتيجة مباشرة لتضرر مداخيل الميزانية العامة، إلى جانب الحضور الملفت للانتباه لوزارة الداخلية في توجيه الجماعات الترابية وتحديد إطار تحركها ومنهجية تدبير ماليتها، فيما يشبه إلى حد كبير نظام وصاية مشددة، مستندة في ذلك على قانون الطوارئ الصحية وعلى خصوصية المرحلة، والذي أتاح لها وللحكومة بشكل عام، إمكانية تجاوز الأحكام التشريعية والتنظيمية القائمة، عبر اتخاذ التدابير التي تقتضيها المرحلة بموجب مراسيم ومقررات تنظيمية وإدارية أو بواسطة مناشير وبلاغات ذات الصبغة الفورية والاستعجالية.[22]

وفي هذا الإطار، أصدرت وزارة الداخلية، إلى جانب وزارة الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة، مجموعة من المناشير والدوريات الهادفة إلى تأطير وتوجيه تدبير الجماعات الترابية لماليتها، وقد همت هذه التوجيهات بالأساس،تقييد مجال الإنفاق العمومي، وتبسيط مساطر تدبير الصفقات العمومية، إلى جانب تفعيل الجزاءات الجبائية بهدف الرفع من مداخيل الموارد الضريبية المدبرة من قبل الجماعات الترابية.[23]

وإذا كان الجانب القانوني والمالي يمثل بالفعل أحد أهم العوامل الأساسية التي تكبح قدرة تدخل الجماعات الترابية، بصورة تجلت بالواضح مع استفحال تداعيات جائحة كورونا، فإن الإشكال لا يجد مصدره فقط في هذا الجانب، بل هناك عوامل أخرى لها أثر بالغ في التأثير على أداء الجماعات الترابية، وهو ما يقاربه المحور الثاني من هذه المساهمة.

المحور الثاني: الجماعات الترابية ومواجهة جائحة كورنا، أداء هزيلوخاضع لسلطة الدولة المركزية

أبانت الممارسة في ميدان التدبير العمومي على أن الإصلاحات القانونية لوحدها لا تكفي لتعزيز نجاعة هذا التدبير؛ وكثيرة هي الأمثلة التي كانت فيها النصوص المتخذة متقدمة وذات جودة وحكامة ومسايرة لمبادئ وقواعد وآليات التدبير الحديث، لكن بعد الشروع في تنزيل هذه القوانين، يظهر أن النتائج لا تكون في مستوى التطلعات، بسبب إكراهات التنزيل وانحرافه بفعل ثقل تأثير الواقع والممارسة التي عادة ما لا تكون مسايرة لمضمون وفلسفة النص القانوني.

هذا المنطق ينطبق تقريبا على معظم مؤسسات الدولة بمفهومها العام، ومنها الجماعات الترابية التي لم تحقق أي قفزة نوعية ملموسة رغم مختلف الإصلاحات الدستورية والقانونية والمؤسساتية التي استهدفتها، ولعل أهمها هو آخرها الذي أريد من خلاله للجهات والجماعات الترابية الأخرى أن تحتل المكانة اللازمة لعكس نظام الجهوية المتقدمة؛ إذ لا شك أن التنصيص الدستوري على هذا النظام وسن القوانين التنظيمية لتطبيقه،لم يكن كافيا لتنزيل نظام الجهوية المتقدمة وجعله واقعا ملموسا ومجسدا في علاقة الجماعات الترابية بالدولة، فالحاصل أنه بعد مرور عدد من السنوات على بداية تطبيق النصوص المتعلقة بالجماعات الترابية، يظهر جليا أننا مازلنا بعيدين بعض الشيء عن بناء نظام جهوية متقدمة يتعدى القانون إلى الممارسة.

والأكيد أن هذا “الفشل النسبي” لحدود الآن، والذي تجلى أكثر في فترة جائحة كورونا، يجد أسبابه، بالإضافة إلى ما ذُكر، في إشكالية هشاشة استقلال سلطة اتخاذ القرار لدى الجماعات الترابية (ثانيا)، لكن أيضا في الضعف الملموس للقدرات التدبيرية لهذه الجماعات (أولا).

أولا: ضعف القدرات التدبيرية للجماعات الترابية

تتظافر مجموعة من العوامل التي تتدخل في التأثير على مردودية أداء الجماعات الترابية، منها ما يرتبط بالعنصر البشري، ومنها ما له صله بالحكامة ومناهج التدبير، بالإضافة إلى عناصر أخرى ذات أبعاد سياسية وثقافية. 

كما هو الشأن بالنسبة لعدد من مؤسسات الدولة، يتوزع المورد البشري المكلف بإدارة وتدبير الجماعات الترابية إلى نوعين أساسين، الأول يتعلق بمستشاري الجماعات الترابية الذين يتم انتخابهم كممثلين للمواطنين على الصعيد المحلي، أما الثاني فيتعلق بالموظفين والمستخدمين بمختلف أصنافهم ومراتبهم والذين يتم تعيينهم قصد ممارسة الأنشطة الإدارية لهذه الجماعات؛ وبين هذين الصنفين، تتدخل الدولة بمسؤوليها وموظفيها في المشاركة في تدبير شؤون الجماعات الترابية، وفق الإطار والصيغ المحددة قانونا؛ كما يمكن لهذه الجماعات أن تلجأ للقطاع الخاص بموجب عقود أو شراكات بهدف الاستعانة من إمكانياته وخبرته لتجويد خدمات المرافق العمومية المحلية.

والواقع أن المورد البشري له أهمية بالغة في التأثير على تدبير الجماعات الترابية وغيرها من المؤسسات العامة والخاصة، فكلما كانت الموارد البشرية تتوفر بالقدر الكافي وتتمتع بقسط من النزاهة وذات كفاءة عالية، كلما كانت نجاعة الأداء مرتفعة، وكلما كان هناك خصاص في هذه الموارد أو ينقصها التكوين والخبرة اللازمة أو تفتقر إلى الأخلاق الإدارية والسياسية المطلوبة، كلما تناقص مستوى المردودية والنجاعة.

وفي هذا الإطار، تشير مجموعة من المؤشرات إلى أن العنصر البشري بالجماعات الترابية، يشكل في حد ذاته عامل ضعف يكبح تطوير أداء هذه الجماعات. ومن بين هذه المؤشرات، ما تضمنته معطيات وزارة الداخلية، خلال الولاية الحالية،[24]بخصوص المستوى التعليمي لمستشاري الجماعات الترابية، فحسب هذه المعطيات، من ضمن 32704 مستشارا بمختلف أصناف الجماعات الترابية،4799مستشارا ليس لهم أي مستوى تعليمي، و9047 مستشارا لا يتجاوز مستواهم التعليمي السلك الابتدائي؛[25] مما يؤشر بقوة على أن تركيبة منتخبي الجماعات الترابية تعاني من الأمية ونقص المستوى التعليمي، في الوقت الذي يُفترض فيه أن يكون الطاغي هو توفر المستشارين على مستوى تعليمي محدد، يمكنهم من المساهمة في إدارة شؤون الجماعة بكفاءة وفعالية؛ فالأصل في ممثلي المواطنين أن ينبثقوا من خيرة الكفاءات المتوفرة بالجماعات المعنية، علميا وأخلاقيا وتدبيريا، على اعتبار أن مسؤولية الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين، تقع في جزء كبير منها على عاتقهم؛ غير أن خضوع العملية الانتخابية لعدد من الممارسات والعادات المنحطة، عادة ما يحول دون إمكانية الاستجابة لهذه المعايير التي تعد ضرورية لتوفير الشروط اللازمة لتحقيق التنمية المحلية.

إن المشكل لا يقتصر فقط على المستوى التعليمي والتكويني للمنتخبين، بل يتعداه لعدة إشكالات أخرى تؤثر سلبا على مردودية الجماعات الترابية، من ضمنها انتشار ممارسات الفساد الإداري والمالي بشتى أشكالها داخل أوساط الجماعات الترابية. وقد سبق أن سجلت كل من المفتشية العامة للإدارة الترابية والمجلس الأعلى للحسابات ضمن التقارير الصادرة عنهما، تورط العديد من المستشارين في اختلالات إدارية أو اختلاسات مالية؛ وفي هذا الإطار بادرت وزارة الداخلية سنة 2019 إلى عزل عشرات المستشارين والرؤساء نتيجة ثبوت ضلوعهم في تجاوزات قانونية خطيرة، وذلك بعد إحالة ملفاتهم على القضاء الإداري؛ كما تم عزل مجموعة أخرى من المنتخبين بسبب عدم تسوية وضعيتهم بشأن التصريح الإجباري بالممتلكات.[26]

وفي نفس السياق، ما فتئت المهمات الرقابية للمجالس الجهوية للحسابات، تقف كل سنة عند الكثير من الاختلالات التي تعيشها الجماعات الترابية في ميدان التدبير الإداري والمالي، وهو ما ينعكس سلبا على مردودية هذه الجماعات وبالتالي على مساهمتها في التنمية وعلى جودة المرافق المحلية التي لا تكون في مستوى تطلعات المواطنين.

مشكل الحكامة والتكوين والكفاءة، تمس كذلك الرأسمال البشري الإداري للجماعات الترابية، فمنظومة موظفي إدارة الجماعات الترابية، تعاني من عدة إشكالات لا تسمح بتطوير نجاعة التدبير الإداري الترابي، خاصة في ظل غياب -إلى حدود الآن- نظـام أساسـي خـاص بموظفـي إدارة الجماعـات الترابيـة على غرار ما هو معمول به بالنسبة لموظفي الدولة، يكـون ملائمـا لمتطلبات وخصوصيات الوظائف الجماعية الترابية وفقاللتنظيــم الترابــي الجديــد، طبقا لما هو منصوص عليه في القوانين التنظيمية للجماعات الترابية.[27] والحاصل أنه إذا كان تدبير الموارد البشرية للدولة يعاني من إكراهات متعددة، فإن هذه الإكراهات تتضاعف بالنسبة لتدبير الموارد البشرية بالجماعات الترابية، خاصة طبيعة هذا القطاع وواقعه الذي لا يشجع على استقطاب أطر وكفاءات إدارية ذات مستوى عالي.

بالطبع الإشكالات التدبيرية للجماعات الترابية لا تقتصر على محدودية العامل البشري رغم محوريته في هذا المجال، بل إن المناهج التدبيرية بهذه الجماعات، مازالت هي الأخرى عتيقة وغير مواكبة لحجم الرهانات المعقودة على الجماعات الترابية؛ ومن الواضح أننا مازلنا بعيدين عن تنزيل المقاربة الجديدة للتدبير المرتكز على النتائج وعلى الأهداف ونجاعة الأداء.

وفي نفس الاتجاه، سبق للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، أن وقف على مجموعة من الأعطاب التي تمس حكامة وتدبير الجماعات الترابية، والتي من بينها غياب آليات تنزيل المبادئ العامة للحكامة الترابية وضعف التنسيق بين مختلف المتدخلين في الشأن الترابي، إلى جانب محدودية تفعيل آليات القيادة والإشراف والمراقبة والتدقيق، وعدم وجود آلية للتتبع والتقييم المستقل على المستوى الترابي،[28] وغيرها من الأعطاب التي لا تساعد كثيرا على قيام الجماعات الترابية بأدوارها المتنامية.

بالإضافة إلى ما سبق تسطيره، نؤكد على أن الممارسة أثبتت أن الصراعات والحسابات السياسية الضيقة لفئة من المنتخبين المحليين، والتي عادة ما تطغى على عدد من تداولات مجالس الجماعات الترابية، تؤثر بشكل سلبي على مخرجات أشغال هذه المجالس؛ وبدل أن يساهم النقاش والتداول داخل هذه المجالس بين مكونات الأغلبية والمعارضة في بسط مختلف الاختيارات المتاحة  وتقديم الحلول والبدائل وبالتالي تجويد مخرجات المجالس المنتخبة، يتحول إلى أداة لتعطيل هذه المجالس وضعف جودة مقرراتها التي قد لا تخدم بالشكل الكافي المصلحة العامة للمواطنين، أكثر من خدمتها لبعض المصالح الخاصة أو الحزبية أو الانتخابية، وهو ما يُضعف من جودة المشاريع والخدمات المقدمة ويساهم في تعطيل مسلسل التنمية المحلية.

في ظل هذه الإكراهات والاختلالات التي تشوب التدبير السياسي والإداري والمالي للجماعات الترابية، وأمام فُتو  تجربة هذه الجماعات في ظل المقتضيات الجديدة للقوانين التنظيمية للجماعات الترابية، لم تساعد الأساليب التدبيرية الرتيبة في التعاطي مع تداعيات جائحة كورونا بشكل ناجع، خاصة وأن الجماعات الترابية تكاد تجربتها تكون منعدمة في التعامل مع هذا النوع من الأزمات الذي يتطلب تدبيره الجيد القدرة على الابتكار والسرعة في التدخل والنجاعة في الأداء. وبخلاف ذلك، وبالنظر لما للدولة من إمكانيات وقدرات تدبيرية تفوق نسبيا ما لدى الجماعات الترابية، سارعت مصالح الدولة وفي مقدمتها وزارة الداخلية، اعتبارا للوسائل القانونية والمادية التي تتوفر عليها، إلى اتخاذ التدابير التي تراها مناسبة للتعامل مع الأزمة وتداعياتها، دون أن تهتم كثيرا بمقاربة إشراك الجماعات الترابية في تدبير الأزمة، وهو ما عمق من تهميش أدوار هذه الجماعات في التدخل المباشر لمواجهة انتشار الجائحة ومعالجة آثارها.

ثانيا: هشاشة استقلال سلطة اتخاذ القرار لدى الجماعات الترابية

إن اختلال توازن العلاقة بين الجماعات الترابية والدولة لصالح هذه الأخيرة، هو واقع ثابت على امتداد مسلسل تطور النظام اللامركزي ببلادنا، ولعل من بين أبرز الأهداف المعلنة لمختلف الإصلاحات التي همت الوحدات الترابية اللامركزية، البحث عن هذا التوازن عبر تمليك الجماعات الترابية سطلة تقريرية محلية، لكن هذه السلطة ظلت ضعيفة وتابعة لسلطة الدولة.

وبقراءة المستجدات التي جاء بها دستور 2011، وأيضا القوانين التنظيمية للجماعات الترابية بخصوص هذا الشأن، نجد أنه نص على بعض المقتضيات الهامة التي توحي بأن المشرع الدستوري ابتغى من خلالها تعزيز سلطة الجماعات الترابية. هذه المقتضيات تتلخص في كون التنظيم الترابي للمملكة يقوم على الجهوية المتقدمة،[29]التي تمكن الجماعات الترابية من تدبير شؤونها بشكل ديموقراطي،[30]وفقا لمبدأ التدبير الحر؛[31]تتمتع بمجموعة من الاختصاصات بناء على مبدأ التفريع،[32]وتتوفر على موارد مالية ذاتية وأخرى مرصودة من قبل الدولة،[33]كما تحظى بسلطة تنظيمية لممارسة صلاحياتها؛[34]وبالإضافة إلى ذلك فالجماعات الترابية تساهم بشكل غير مباشر في تفعيل السياسة العامة للدولة عبر ممثليها في مجلس المستشارين.[35]

تتضمن هذه المفاهيم والمبادئ المدسترة حمولة قوية فيما يخص تفتيت السلطة بين الدولة والجماعات الترابية، وذلك عبر خلق آليات قانونية من خلالها تتنازل الدولة على جزء من سلطاتها ووسائلها لفائدة الجماعات الترابية؛ إلا أن هذه المقتضيات، على أهميتها، وكأنها تتلاشى كلما اقتربت من مستوى التنزيل، فنجد البعض منها قُزِّم في التشريع العادي ثم بعده الفرعي، فيما لم تجد مقتضيات أخرى سبيلها للتطبيق على أرض الواقع بفعل ترسخ نوع سيئ من الممارسة لا يتلاءم مع مضمون وفلسفة هذه المقتضيات.

تعد السلطة التنظيمية من أهم السلطات التي خص بها المشرع الدستوري الجماعات الترابية، لكن الملاحظ أن القوانين التنظيمية لهذه الجماعات جاءت خالية من أي توضيح كاف لطبيعة هذه السلطة وحدودها ممارستها، حيث اكتفت بالتنصيص على منح صلاحية ممارستها لرؤساء مجالس الجماعات الترابية عبر قرارات وبعد مداولات المجالس،[36] وهو ما أبقى على المقتضى الدستوري غامضا إلى حد ما، خاصة وأن الدستور يتحدث عن سلطة تنظيمية للجماعات الترابية (مجسدة في مجالسها المنتخبة)، في حين أن القوانين التنظيمية تسند ممارسة هذه السلطة إلى رؤساء مجالس الجماعات الترابية.[37]

ولكن الإشكال يبقى مطروحا أيضا بخصوص الحدود الفاصلة بين السلطة التنظيمية للدولة (ممثلة في رئيس الحكومة) والسلطة التنظيمية للجماعات الترابية، فإذا كان من اليسر التمييز بين مجال السلطتين حينما يكون الاخصاص الموضوعي والمجالي لكل طرف واضحا، فلا شك أن العديد من الاختصاصات والصلاحيات التي يبقى التدخل فيها متاحا للدولة والجماعات الترابية معا، قد تثير إشكالا فيما يتعلق بتحديد صاحب الاختصاص، خاصة وأن السلطة التنظيمية للدولة هي سلطة أصلية وعامة تشمل المجال الوطني والمحلي في حين أن سلطة الجماعات الترابية هي سلطة فرعية لا يتجاوز حدودها المجال المحلي، مما يعزز هيمنة سلطة الدولة وتقييدها لسلطة الجماعات الترابية عندما يكون مجال التدخل والاختصاص مشترك بين الطرفين.

والحاصل أن السلطة التنظيمية للدولة قد تزحف عن السلطة التنظيمية للجماعات الترابية، فهناك من يرى أن الحكومة، عملت خلال الفترة الماضية على إصدار مجموعة من النصوص التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية بدون سند دستوري، لأن السلطة التنظيمية في هذا المجال هي من اختصاص مجالس ورؤساء الجماعات الترابية حسب نفس هذا الاتجاه.[38]

ولعل هذا الواقع الذي يكرس سيطرة السلطة التنظيمية للدولة على سلطة تنظيمية غير واضحة بالشكل الكافي للجماعات الترابية، هو ما مكن الدولة وأجهزتها التنفيذية خلال جائحة كورنا، من التدخل بقوة عبر مجموعة من القرارات التنظيمية والانفراد، إلى حد كبير، بتنظيم الشأن المحلي، مُجمدة بذلك السلطة التنظيمية للجماعات الترابية، خاصة في المرحلة الأولى من انتشار جائحة كورونا. وتعد قرارات وزارة الداخلية بشأن تعليق انعقاد الدورة العادية للمجالس الجماعية لشهر ماي[39] ثم الدورة العادية لمجالس العمالات والأقاليم والمقاطعات لشهر يونيو،[40] أبرز مظهر لتجميد السلطة التنظيمية للجماعات الترابية، على اعتبار أن هذه السلطة تجد مصدرها الرئيسي في مداولات هذه المجالس، وعبرها كان بإمكان الجماعات الترابية المعنية، من حيث المبدأ، اتخاذ الإجراءات والتدابير التنظيمية اللازمة لمواجهة الأزمة وتداعياتها. وفي تقديرنا الخاص، قرار التعليق كان سيكون أكثر شرعية ودستورية، وسيضمن التوفيق بين الظرفية الاستثنائية واحترام سلطة الجماعات الترابية واستقلاليتها، لو تم اتخاذه بتنسيق وتشاور وموافقة مسبقة من هذه الجماعات عبر جمعيات رؤسائها.

إن مظاهر تجبر سلطة الدولة على سلطة الجماعات الترابية متعددة، وجزء منها يتأتى من تجدر الممارسة التي تناقض أحيانا القانون، من قبيل ما أشار إليه المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بخصوص كون “المراقبة الممارسة على أعمال الجماعـات الترابيـة غالبـا مـا تتـم مـن زاويـة مراقبـة مـدى جـدوى وأولويـة المشـروع أو التدبيـر المعنـي، بـدلا مـن الاقتصـار علـى مراقبـة مـدى قانونيتـه، كمـا ينـص علـى ذلـك القانـون”.[41] والملاحظة هاته، تؤشر على أن حذف مفهوم الوصاية في القوانين التنظيمية للجماعات الترابية وتعويضها بآلية المراقبة، لم يقابله بعد،التخلص من منطق الوصاية في علاقة الدولة بالجماعات الترابية على مستوى الممارسة.

وهكذا، فتعدد الممارسات التي تعلي من سلطة الدولة في اتخاذ القرار العمومي المحلي، جعل من مختلف المقتضيات الهادفة إلى تعزيز سلطة الجماعات الترابية، وأهمها السلطة التنظيمية ومبدأ التدبير الحر ومبدأ التفريع إلى جانب الصلاحيات الإدارية والمالية الممنوحة لأجهزة الجماعات الترابية، عاجزة عن الارتقاء بالفعل بسلطة  هذه الجماعات في إدارة وتدبير الشأن المحلي، وهو ما تكرس خلال زمن وباء كورونا تحت مبرر مستشف وغير معلن مفاده “الجائحة أولا والجهوية لاحقا”، وفي ذلك دلالة على أن الجماعات الترابية، على الأقل من وجهة نظر السلطات العمومية، لم تنضج بعد ولا تتوفر على القدرة والكفاءة والتجربة الكافية لتدبير شؤونها خاصة خلال فترة الأزمات.

 ولا شك في أن اسمرار هذا النهج خلال الفترة الراهنة، سيؤثر سلبا على وثيرة تطور الجهوية المتقدمة التي شابها الكثير من التعثر حتى قبل بداية الجائحة.

نختم بالقول بأن جائحة كورونا، ليست إلا محطة ظرفية كشفت بشكل أكثر وضوحا  عن اختلال رافق على الدوام العلاقة بين الدولة والجماعات الترابية. أما الإشكالات التي تعيق تطور النظام اللامركزي ببلادنا فقد كانت ومازالت قائمة ومستمرة إلى اليوم. إشكالات متعددة ومتشعبة، لكنها في الغالب متصلة بمصدرين رئيسيين:

أولهما شكل الدولة وخصوصيات نظامها السياسي اللذان لا يسمحان بمنح هامش واسع من الاختصاصات والصلاحيات للوحدات الترابية اللامركزية، إلى جانب عدم استعداد السلطات العمومية المركزية للتنازل عن جزء أوسع من سلطاتها في تدبير الشأن المحلي، بالقدر الذي يُمكن الجماعات الترابية من استيفاء مقومات نظام الجهوية المتقدمة؛ والسلطة المالية هنا لا تقل أهمية عن السلطات التدخلية.

ثانيهما أن الجماعات الترابية في حد ذاتها، لم تُوفق في اختبار تقديم صورة مشرقة عن أدائها، ما جعلها عرضة لتذمر وانتقادات المواطنين وفقدان ثقتهم فيها، إلى جانب إعطاء الشرعية للسلطات العمومية المركزية للتدخل في شؤونها بدافع الحلول مكانها أو تصحيح انحرافاتها؛ وهو ما قد يبدو مقنعا من حيث المبدأ، لأن تنازل الدولة عن جزء من سلطتها لفائدة الجماعات الترابية ليس غاية  في حد ذاته، بل هو مجرد وسيلة للارتقاء بالتدبير وتجويد المرفق العمومي، وبالتالي فالفشل في تحقيق هذه النتيجة يؤدي إلى فقدان الثقة في الوسيلة المتبعة وإضعاف شرعيتها.

لائحة المراجع المعتمدة:


[1]– الفقرة الأخيرة من الفصل الأول من الدستور المغربي لسنة 2011.

[2]– هذه القوانين هي:

– القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالجهات، صادر بتنفيذه الظهير رقم 1.15.83 بتاريخ 7 يوليوز 2015، منشور بالجريدة الرسمية عدد 6380 بتاريخ 23 يوليوز 2015.

– القانون التنظيمي رقم 112.14 المتعلق بالعمالات والأقاليم، صادر بتنفيذه الظهير رقم 1.15.84 بتاريخ 7 يوليوز 2015، منشور بالجريدة الرسمية عدد 6380 بتاريخ 23 يوليوز 2015.

– القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات، صادر بتنفيذه الظهير رقم 1.15.85 بتاريخ 7 يوليوز 2015، منشور بالجريدة الرسمية عدد 6380 بتاريخ 23 يوليوز 2015

[3]– الفقرة الأولى من المادة 77 من القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات، مشار إليه سابقا.

[4]– الفقرة الأولى من المادة 78 من القانون التنظيمي رقم 112.14 المتعلق بالعمالات والأقاليم، مشار إليه سابقا.

[5]– الفقرة الأولى من المادة 81 من القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالجهات، مشار إليه سابقا.

[6]– المادة 95 من القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالجهات؛والمادة 90 من القانون التنظيمي رقم 112.14 المتعلق بالعمالات والأقاليم؛ والمادة 91 من القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات.

[7]– المادة 80 من القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالجهات؛ والمادة 78من القانون التنظيمي رقم 112.14 المتعلق بالعمالات والأقاليم؛ والمادة 77 من القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات.

[8]– لمياء الزاكي، “اللامركزية في المغرب: وعود بإصلاحات قانونية في غياب آثار إيجابية مؤكدة”، مبادرة الإصلاح العربي، يوليوز 2019، ص.5

[9]– مرسوم بقانون رقم 2.20.292، صادر يوم 23 مارس 2020، يتعلق بسن أحكام خاصةبحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها، منشور بالجريدة الرسمية عدد 6867 مكرر بتاريخ 24 مارس 2020.    

[10]– الفقرة الثانية من الفصل 140 من الدستور المغربي.

[11]– الجهات هي المعنية بهذا النوع من الاعتمادات، طبقا للجزء الأخير من الفصل 188 من القانون التنظيمي للجهات.

[12]– الفقرة الثانية من الفصل 141 من الدستور المغربي.

[13]-القانون رقم 06.47 المتعلق بجبايات الجماعات المحلية، صادر الأمر بتنفيذه الظهير رقم 195-07-1 بتاريخ 30 نونبر 2007، منشوربالجريدة الرسمية عدد 5583 بتاريخ 3 دجنبر 2007.

[14]-الجبايات المحلية المدبرة من طرف الدولة هي : الرسم المهني، ورسم السكن، ورسم الخدمات الجماعية.

[15]-القانون رقم 39.07  الخاص بسن أحكام انتقالية فيما يتعلق ببعض الرسوم والحقوق والمساهمات والأتاوى المستحقة لفائدة الجماعات المحلية، صادر بتنفيذه الظهير رقم 1.07.209 بتاريخ 27 دجنبر 2007، منشور بالجريدة الرسمية عدد 5591 بتاريخ 31 دجنبر 2007.

[16]-المادة 65 من القانون رقم 30.85 المتعلق بفرض الضريبة على القيمة المضافة، صادر بتنفيذهالظهير رقم 1.85.347بتاريخ 20دجنبر1985، منشوربالجريدة الرسمية عدد 3818 بتاريخ فاتح يناير 1986.

[17]-المادة 188 من القانون التنظيمي المتعلق بالجهات.

[18]-Ministère de l’Economie et des Finances, Trésorerie Générale du Royaume, “bulletin mensuel de statistiques des finances locales”, Décembre 2019, p.2

[19]-Ibid, p.p.5;6

[20]-Ibid, p.6

[21]-Ministère de l’Economie et des Finances, Trésorerie Générale du Royaume, “bulletin mensuel de statistiques des finances publiques”, Décembre 2019, p.3

[22]– المادة 3 من المرسوم بقانون رقم 2.20.292، المتعلق بسن أحكام خاصةبحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها،مشار إليه سابقا.

[23]– للاطلاع على مختلف النصوص التنظيمية المتخذة خلال فترة الطوارئ الصحية، يمكن الرجوع للإصدار الجامع لهذه النصوص التالي:

– وزارة الداخلية، المديرية العامة للجماعات الترابية، “المراسيم والدوريات والبيانات المتعلقة بفترة وباء كوفيد-19″، منشور بالبوابة الوطنية للجماعات الترابية (http://www.pncl.gov.ma)، تمت زيارة الموقع يوم 10/09/2020.

[24]– نتائج الانتخابات الجماعية لاقتراع04شتنبر 2015.

[25]– وزارة الداخلية، المديرية العامة للجماعات الترابية، “اللامركزية في أرقام”، 2014/2015، ص. 12

[26]– المراسيم المتعلقة بالعزل، منشورة بالجريدة الرسمية عدد 6892 بتاريخ 18 يونيو 2020.

[27]– المواد 127 و 121 و 129 على التوالي من القوانين التنظيمية 111.14 المتعلق بالجهات و 112.14 المتعلقة بالعمالات والاقاليم و 113.14 المتعلق بالجماعات.

[28]– المجلـس الاقتصـادي والاجتماعـي والبيئـي، “الحكامـة الترابيـة: رافعـة للتنميـة المنصفـة والمسـتدامة”، رأي المجلس بموجب الإحالة الذاتية رقم 42/2019.

[29]– الفقرة الأخيرة من الفصل الأول من الدستور المغربي لسنة 2011.

[30]– الفقرة الثانية من الفصل 135 من الدستور المغربي لسنة 2011.

[31]– الفصل 136 من الدستور المغربي لسنة 2011.

[32]– الفقرة الأولى من الفصل 140 من الدستور المغربي لسنة 2011.

[33]– الفصل 141 من الدستور المغربي لسنة 2011.

[34]– الفقرة الثانية من الفصل 140 من الدستور المغربي لسنة 2011.

[35]– الفصل 137 من الدستور المغربي لسنة 2011.

[36]– المواد 102 و 96 و 95 على التوالي من القوانين التنظيمية 111.14 المتعلق بالجهات و 112.14 المتعلقة بالعمالات والاقاليم و 113.14 المتعلق بالجماعات.

[37]– للمزيد من التفاصيل حول هذه الإشكالية، أنظر :

– محمد اليعقوبي، “السلطة التنظيمية المحلية بالمغرب: الفقرة الثانية من الفصل 140 من الدستور”، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة مواضيع الساعة، العدد: 82، 2013.

– المكي السراجي، “السلطة التنظيمية للجماعات الترابية”، التدبير الإداري والمالي للجماعات الترابية، المجلة المغربية للقانون الإداري والعلوم الإدارية، عدد مزدوج 2-3، 2017.

[38]– مجلس النواب، أشغال اليوم الدراسي المنظم من طرف فريق العدالة والتنمية حول “واقع تدبير الجماعات بعد سنتين ونصف من تطبيق القانون التنظيمي 113.14 المتعلق بالجماعات”، المنعقدة يوم الثلاثاء 15 ماي 2018، المناقشة العامة،  ص.57

[39]– منشور وزير الداخلية رقم 6743 بتاريخ 22 أبريل 2020 حول انعقاد الدورة العادية لشهر ماي لمجالس الجماعات.

[40]– منشور وزير الداخلية رقم 7225 بتاريخ 26 ماي 2020 حول انعقاد الدورة العادية لشهر يونيو لمجالس العمالات والأقاليم ومجالس المقاطعات.

[41]– المجلـس الاقتصـادي والاجتماعـي والبيئـي، “الحكامـة الترابيـة: رافعـة للتنميـة المنصفـة والمسـتدامة”، مرجع سابق، ص.23

Exit mobile version