تكييف الإدارة الضريبية للعقود
أحمد أمين شكراد
طالب باحث في القانون العام
فرضت ضرورة الحرص على التصدي لحالات الغش الضريبي في واجبات التسجيل أو في الضريبة على الأرباح العقارية، عن طريق التصريح بأوصاف مخالفة للطبيعة الحقيقية للعقود، قصد التهرب كليا أو جزئيا من أداء الواجبات ، فإن القانون و القضاء في المغرب مستقر على الاعتراف للإدارة الضريبية بضرورة تفسير العقود التي تقدم لها وترتيب بنودها بالشكل الذي يتيح لها الوصول إلى حقيقية ماهيتها .
وما دام إخفاء الأوصاف والقيم الحقيقية للعقد يعتبر مخالفة جبائية عامة، وتشمل كاصطلاح جبائي كل تصريح كاذب يقع الإدلاء به عن عمد، وكل تخفيض مقصود، أو اتفاق سري من شأنه أن يؤدي إلى تخفيض الوعاء الخاضع للضريبة، أو الأسعار المطبقة ، فإنه يترتب عن كل ما سبق، إعادة تكييف الإدارة للعقود.
ولكي نلم بماهية تكييف الإدارة الضريبية للعقود، والإحاطة بالفرضيات الناتجة عنها، سنتناول هذا المقال من خلال مبحثين، الأول نحدد فيه ضوابط تكييف الإدارة الضريبية للعقود، والثاني نناقش فيه إشكالية تكييف الإدارة الضريبية لعقود سبق وأن أسبغها القضاء بوصف معين.
المبحث الأول: ضوابط تكييف الإدارة الضريبية للعقود
إن التكييف باعتباره تحديدا للوصف القانوني للعقد، فهو عمل قانوني صرف، لا سلطة فيه لإرادة المتعاقدين، فالعاقدان لهما حق تحديد الآثار التي يرغبان في تحقيقها بالعقد، فإذا تحددت هذه الآثار، يكون وصف هذا العقد عملا قانونيا محضا، لأنه يعني إدخال صورة الآثار التي حددها العاقدان في إطار قانوني معين . وعليه يحق لنا أن نتساءل عن منهجية مفتش الضرائب في تكييف العقود (المطلب الأول)، ثم الفرضيات الناتجة عن هذا التكييف (المطلب الثاني).
المطلب الأول: ماهية تكييف الإدارة الضريبية للعقود
إن تكييف الإدارة الضريبية للعقود، ينصب على الحالة التي يقوم فيها مفتش الضرائب بتحديد حقيقة الواقعة التي يقع عليها العقد من خلال تحليل بنوده، بهدف إعطاء الوصف الصحيح لها، وفي ضوء هذا الوصف إقرار السعر المحدد قانونا، والمتراوح بين الواجب الثابت والواجب النسبي.
وانطلاقا مما سبق، يتضح أن تكييف العقود ينبني على المرتكزات التالية:
• تحديد الواقعة التي يقوم عليها العقد.
• وصف العقد ، بأوصاف الواقعة المنشأة له فعقد البيع يختلف عن عقد المبادلة والمبادلة تختلف عن الهبة… الخ .
وتجدر الإشارة إلى أن القانون المغربي يتضمن عدة نصوص، اشترطت لانعقاد بعض التصرفات إبرامها وفق شكليات معينة تحت طائلة البطلان، من بينها الفصل 489 من قانون الالتزامات والعقود المغربي الذي نص على أنه: “إذا كان البيع عقارا أو حقوق عقارية أو أشياء أخرى يمكن رهنها رهنا رسميا وجب أن يجري البيع كتابة في محرر ثابت التاريخ، ولا يكون له أثر في مواجهة الغير إلا إذا سجل في الشكل المحدد بمقتضى القانون “؛
• تحديد واجب التسجيل الواجب أدائه، طبقا للسعر المحدد قانونا.
وعليه فإن تعيين سعر التسجيل أو سعر الضريبة على الأرباح العقارية الواجب تطبيقه واستحقاقه، تحددان تبعا لطبيعة الوقائع القانونية التي يتضمنها، وللحفاظ على المساواة بين الخاضعين في تحمل أعباء الضريبة وصيانة لحقوق الخزينة، توجب المبادئ العامة للقانون الضريبي على الإدارة الجبائية استقصاء الطبيعة الحقيقية للعقود المقدمة لها استجلاء لحقيقة التصرف الذي انصرفت إليه في الواقع إرادة المتعاقدين .
المطلب الثاني: فرضيات تكييف الإدارة للعقود
عمليا يترتب عن حالة إعادة الإدارة الضريبية تكييف العقود أربع فرضيات، يتعلق الأمر بحالة الوصف الصحيح للعقد، وحالة انعدام التكييف وحالة التكييف الخاطئ ثم حالة المنازعة في التكييف.
الفرضية الأولى: الوصف الصحيح للعقد
تتأثر الضريبة على الأرباح العقارية أو واجبات التسجيل بواقع العقود وطبيعتها، فاستخلاصها يرتكز بدرجة كبيرة على البحث عن ماهية الاتفاقات والاشتراطات المضمنة فيها، وكذا على حقيقة الأموال المنصبة عليها موضوعا. لذا فإنه في حالة غموضها يتعين على مفتش الضرائب البحث عن النية المشتركة للمتعاقدين قصد ربط الضريبة على أساس التكييف القانوني الصحيح .
غير أنه من جهة أخرى، إن الوصف الذي يضفيه الأطراف على الاتفاق المبرم بينهم، والذي لا يتعارض مع بنود العقد وشروطه لا يمكن استبعاده سواء من طرف الإدارة و لا حتى المكلفين أنفسهم. ونتيجة لذلك لا يمكنهم الإدعاء بوجود تركيبات قانونية أخرى ذات تكلفة جبائية أقل، وأنه كان بوسعهم استعمالها ، بل العقد هنا يكون مقيدا لكل من المتعاقدين والإدارة الضريبية، ويجب استخلاص الضريبية حسب اشتراطاته .
الفرضية الثانية: انعدام التكييف
هي حالة نادرة عمليا، تنبني على فرضية إهمال الأطراف إعطاء اتفاقهم تكييفا معينا، “كالبيع أو الهبة، أو المبادلة …الخ”. فإن الآمر بالاستخلاص هنا يكون ملزما أن يخلع عليه وصف من الأوصاف المحددة قانونا، استنادا إلى تحليل بنود العقد أو إعمال قواعد التفسير المنصوص عليها في الفصول من 461 إلى 473 من قانون الالتزامات والعقود ، وليس له البحث عن المقاصد الحقيقية للأطراف إذا كانت الألفاظ المستعملة واضحة وصريحة .
غير أنه قد يطغى عدم الوضوح على بنود الاتفاقية المبرمة بين الأطراف، كأن تكون هذه البنود ناقصة، نظرا لعدم مطابقة نية الأطراف، للمعنى الذي تُظْهره بعض التعابير الواردة في الاتفاقية، ويتسنى لمأموري الإدارة الضريبية البحث عن نية الأطراف في حدود المعنى اللفظي لهذه التعبيرات .
الفرضية الثالثة: التكييف الخاطئ
تتحدد الواجبات المستحقة حسب الطبيعة الحقيقية للاتفاقيات، فإذا كان هناك تناقض بين تكييف العقد وماهيته فهذا لا يلزم مأمور الإدارة في شيء بل يحتم عليه البحث عن الطبيعة الحقيقية للاتفاقيات والعقود .
ويختلف التكييف الخاطئ للعقد عن مفهوم تحريف العقد، حيث إن التكييف الخاطئ هو مجرد تطبيق خاطئ للقانون الذي عرف مختلف العقود، في حين أن التحريف هو خطأ في تحديد معنى بند العقد، فالخطأ في حالة التحريف لا ينصب على طبيعة العقد ذاته وإنما على المضمون، فالتحريف إذن هو خطأ في تحديد مضمون العقد وفي مدلوله وهو لذلك يمتزج في الواقع بالقانون، في حين أن التكييف الخاطئ للعقد هو خطأ في معرفة الطبيعة القانونية للعقد، وهو يأتي بعد تقدير وتفسير الواقع، وبالتالي فهو مسألة قانون لأن هذا الأخير هو من تولى تعريف العقد .
الفرضية الرابعة: المنازعة في التكييف
قد يحدث في بعض الحالات أن يكون هناك تحريف في الطبيعة الواقعية للاتفاقيات المبرمة فيما بين الخاضعين للضريبة، محاولة منهم التهرب من أداء الواجبات المستحقة، في هذه الحالة سيكون لزاما على الإدارة الضريبية أن تبحث عن الطبيعة الحقيقية للعقد أو الاتفاق ، غير أن الخاضع للضريبة في المقابل قد يتمسك بموقفه، وقد تتشبث الإدارة الضريبية بموقفها، وهنا تحصل المنازعة في التكييف.
المبحث الثاني: إشكالية تكييف الإدارة الضريبية لعقود سبق للقضاء تكييفها
إذا كان العمل القضائي في المغرب مستقرا على أن قاضي الموضوع لا يخضع في فصله في النزاع لتكييف الأطراف وإنما يخضع للقانون عن طريق دراسته لملف الدعوى والوصول إلى حقيقة النزاع، ويكيفه تكييفا قانونيا سليما في حدود الوقائع الثابتة وطلبات الخصوم وسبب الدعوى ، فإن الأمر ليس بتلك الدرجة من الوضوح، عندما يطرح التساؤل حول إمكانية الإدارة الضريبية تكييف عقود سبق وأن أسبغها القضاء بوصف معين؟
المطلب الأول: الجهة المؤهلة قانونا بتكييف العقود
يرتبط التكييف ارتباطا وثيقا بالحق، فلا يتصور بمعزل عن الحق ولو عرض على القضاء، ذلك أن التكييف يعد علما مستقلا عن علم العقد، وهو العمود الفقري الذي ينهض لتبرير حكم المحكمة، وقد فرض نفسه اليوم نظرا لأمواج العولمة الزاحفة التي تفرض على القانون المغربي أن يوائم التشريعات المقارنة، وتظهر مدى نجاعة النصوص القانونية في تحقيق فكرة العدالة التي تروم تحقيقها جميع التشريعات، وهذا ما عناه المشرع المغربي في الفصل الثالث من قانون المسطرة المدنية بقوله: “يتعين على القاضي أن يبث في حدود طلبات الأطراف ولا يسوغ له أن يغير تلقائيا موضوع أو سبب هذه الطلبات، ويبت دائما طبقا للقوانين المطبقة على النازلة، ولو لم يطلب منه ذلك بصفة صريحة .
مما لاشك فيه، أنه متفقا فقها وقضاء، أن تكييف العقد هو من صميم اختصاص القاضي، فقد أقرت محكمة النقض الفرنسية للمحاكم بسلطتها في تكييف توافق الإرادتين، أو إعادة تكييف اتفاقية تمت تسميتها خطأ، وينتج عن ذلك أن مجرد إعطاء اسم لعقد لا يشكل عائق أمام القاضي في تكييف العقد .
حيث إن القاضي له مطلق الصلاحية لتكييف العقد بالوصف الذي يراه مناسبا للظروف التي تم فيها إبرام العقد وتعتبر مهمة تكييف الدعاوي والعقود من المهام الموكولة للقاضي بأمر من المشرع وإذا امتنع عن القيام بهذا العمل القضائي فإن ذلك سيعد بمثابة إنكار للعدالة .
المطلب الثاني: إمكانية تكييف عقود أضفى عليها القضاء الوصف القانوني
إذا كانت القاعدة في التكييف، ليست بالوصف الذي يخلعه المتعاقدان على العقد، فقد يطلقان وصفا غير صحيح، إما عن جهل، أو عن عمد لإخفاء غرض غير مشروع، إنما بالغرض العملي الذي قصد إليه الطرفان من تعاقدهما، والذي تكشف عنه طبيعة الالتزامات التي يتحمل بها كل منهما . فإنه قد ثار النقاش حول إمكانية الإدارة الضريبية تكييف عقود سبق وأن أسبغها القضاء بوصف معين؟
في هذا الإطار ذهب الباحث الحسن الداودي، إلى أنه لا مانع من إمكانية ذلك تطبيقا لمبدأ نسبية حجية الأحكام فهي لا تلزم إلا الخصوم في الدعوى أما الغير الذي لم يكن طرفا فيها فلا تسري في حقه هذه الحجية، غير أن الباحث عبد الصمد التامري اعتبرا أن التسليم بقول من هذا القبيل يحمل في طياته، تبخيسا لقيمة الأحكام والقرارات القضائية، ومساسا بقدسيتها .
ومعلوم أن الإدارة الضريبية، تمارس هذا الحق تحت رقابة القضاء، حيث جاء في قرار محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط:”…وحيث تعيب المستأنفة الحكم المستأنف بمجانبته للصواب فيما قضى به، ذلك أنه وعلى خلاف ما ذهبت إليه المحكمة الإدارية، فإن عقد الوعد بالبيع موضوع التضريب، وإن كان عبارة عن وعد بالبيع ليس إلا، فإنه مع ذلك نفى عقد إتمام الأركان من ذكر المحل والثمن وأن سببه مشروع، وأنه من الناحية القانونية تكون جميع الاتفاقات خاضعة لإجراءات رسوم التسجيل حتى ولو كانت باطلة بسبب عيب في شكلها، وأن عدم إتمام مورث المستأنفين لعملية البيع، لا يعفيه من الأداء إلا اذ كان العقد قد تم فسخه أو تم إبطاله بموجب حكم قضائي، وأنه من جهة أخرى فإن الوكالة المدلى بها، هي وكالة صحيحة، وأن استبعادها من طرف المحكمة لم يكن مرتكزا على أساس.
لكن حيث إنه بالرجوع إلى أوراق الملف ومستنداته، خاصة عقد الوعد بالبيع موضوع التضريب تبين أنه يفتقر إلى أحد الأركان الجوهرية اللازمة لانعقاده. والقول ذلك أن الوكالة المتمسك بها من طرف إدارة الضرائب هي وكالة لاحقة لعقد الوعد بالبيع، وبالتالي لا يمكن لها أن ترتب أية آثار قانونية على العقد المذكور، مما يكون معه ما أثير من أسباب حول ذلك غير مرتكز على أساس، والحكم المستأنف كان صائبا وواجب التأييد… “.
وكيفما كان الحال، لا يقبل الفهم السليم تكييف الإدارة لعقود سبق وأن أسبغها القضاء بوصف معين، لأنه بالرجوع إلى مقتضيات الفصل الثالث من ق م م وكذلك بالفصول 600 و1600 من ق ل ع ، يمكن القول أن المشرع المغربي يلزم القاضي بضرورة إرساء التكييف الصحيح على الوقائع والعقود محل المنازعة فالفصل الثالث أعلاه ينص على:”…يبت دائما طبقا للقوانين المطبقة على النازلة ولو لم يطلب الأطراف ذلك بصفة صريحة” وهو ما يعني أن الخصوم، ولو طلبوا تطبيق قاعدة قانونية أو إعمال تكييف معين، فإن ذلك لا يسمح للقاضي من إرساء تكييف جديد أو استبدال القاعدة القانونية بغيرها، لأنه ملزم بتطبيق القانون المطبق على النازلة، ولا عبرة بالتكييف المقترح من طرف الخصوم.
ويستخلص من الفصل 600 و1116 من قانون الالتزامات والعقود، أن المشرع أوجب على القاضي إرساء التكييف الصحيح إذا كان الوصف الذي خلعه الأطراف على عقودهم غير صائب، مما يفيد أن التكييف المقدم من طرف الخصوم لا يلزم القاضي في شيء، ولو تطابقت إرادتهم المشتركة على هذا التكييف. وبذلك يخالف المشرع المغربي نظيره الفرنسي بخصوص مسألة التكييف المقيد، كما أنه لا يلزم الخصوم بضرورة تكييف طلباتهم، ويبقى للقضاء السلطة الكاملة في تكييف الوقائع والعقود أو إعادة إرساء التكييف الصحيح . ويمر دور القاضي في مسلسل تطبيق القانون عبر عدة مرحل أساسية يمكن إجمالها في ثلاث خطوات.
أولهما ملاحظة والكشف عن الوقائع، وفي هذه المرحلة فإن دور القاضي يكمن في معرفة الواقع، وفي حالة تكييف العقود، معرفة مضمون الالتزامات على العقد، وهو ما يتم عن طريق التفسير، وثانيهما إدخال الواقع ضمن القالب القانوني المعد له سلفا، أي إعطائه الاسم القانوني وهذه هي مرحلة تكييف العقد بحصر المعنى، ثالثهما تطبيق الآثار القانونية الناتجة عن ذلك. إذن فتكييف العقد يمر عبر مرحلة أساسية وجد مهمة وهي تفسير مضمونه لمعرفة طبيعته القانونية، فالتفسير أو التأويل إذن حلقة أساسية في مسلسل تطبيق القانون .
من جهة أخرى إن ما تراقبه محكمة النقض هو الفهم السليم للعقد وفهم العقد لا يكون سليما إلا إذا جاء مطابقا لما ينظمه ق ل ع من قواعد الفهم أو ما يسمى بقواعد التأويل المستتر والمقنع .
إقرأ أيضاً
التأطير الدستوري لمقتضيات الوظيفة العمومية على ضوء دستور 2011
التأطير الدستوري لمقتضيات الوظيفة العمومية على ضوء دستور 2011 الوعبان لرباس باحث في سلك الدكتوراه …