النزاعات السياسية
إمكانية فهمها و تحديد أدوارها السياسية والاجتماعية
ذ. اسباعي سعيد
أستاذ باحث
كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية
المحمدية
تطرح دراسة النزاعات السياسية العديد من الأسئلة النظرية المرتبطة بدراسة الفعل الاجتماعي والسياسي، وإذا كان البحث في مجالات الفعل الاجتماعي قد حقق تقدما يسمح بتأسيس إطار عام لدراسة النزاع الاجتماعي الذي أصبح عموما يملك إمكانية الإحالة على مراجع “كلاسيكية”، فإنه بالمقابل يواجه الباحث نقصا كبيرا فيما يتعلق بالأبحاث التي تتناول النزاعات السياسية من مقتربات لا تبتعد عن نظريات الفعل الاجتماعي هذا إذا استثنينا الدراسات التي تتم في إطار علم العلاقات الدولية والتي تبحث في النزاعات السياسية ذات الرهانات الدولية.[1]
أما الدراسات التي تتم في إطار علم السياسة فغالبا ما تفضل دراسة الفعل السياسي من زاوية الانسجام والوحدة. وإن تناولته من حيث التوتر والنزاع فإن ذلك يكون في الغالب باعتباره مجرد حالة “استثنائية” كما كان الشأن في دراسة النزاعات الاجتماعية عند بدايتها.[2] وتنطبق هذه الملاحظة بالأخص فيما يتعلق بدراسة الحركات والأحزاب السياسية. وفي السياق المغربي يواجه الباحث بالعديد من النزاعات التي عرفتها وتعرفها الحركات والأحزاب السياسية والتي لا نجد ما يقابلها من الدراسات والأبحاث.
وتبقى مسألة إعادة قراءتها في ضوء مقاربات نظرية النزاع الاجتماعي والسياسي إمكانية قائمة، وفي هذا الإطار يمكن على سبيل المثال دراسة أحد أكبر النزاعات السياسية في تاريخ الحركة الوطنية وهو النزاع الذي أفضى إلى انشقاق حزب الاستقلال.[3]
طرح انشقاق حزب الاستقلال سنة 1959 ملاحظتين جوهريتين تتمثل الأولى في كون الانشقاق لم يكن سوى لحظة في تاريخ الحزب أتت بعد نزاع وتوتر ولد مع ولادة الحزب نفسه، وعلى الرغم من كونها تعتبر اللحظة الحاسمة في النزاع إلا أنها لا تختزل النزاع ككل، مما يدفع نحو العودة إلى التوترات الأولى في العلاقات داخل الحزب، أما الملاحظة الثانية فتتعلق بأهمية دراسة العلاقات داخل الحزب من زاوية النزاع وغناها من حيث أنها تفرض على الباحث الإحاطة بأهم التفاعلات داخل الحزب وبالأخص فيما يتعلق بجانب الانسجام والوحدة من أجل فهم النزاع وهي الإمكانية التي لا تكون متاحة فيما لو فضلنا دراسة الحزب من زاوية الوحدة والتعاون.
يعتبر « Max Weber » النزاع أحد المفاهيم الأساسية في علم الاجتماع منطلقا في تعريفه من اعتباره علاقة اجتماعية ” نعني بالنزاع، علاقة اجتماعية، النشاط فيها يوجه انطلاقا من نية فرض الإرادة رغم مقاومة الآخر… والنزاع يتولد عن الانتقاء الاجتماعي الحتمي والذي يجعل من غير الممكن أن يكون للكل الحق في تملك كل شيء وخصوصا في نفس الوقت”.[4]
أما “Freund ” فيرى من جهته بأن “النزاع يتمثل في مواجهة أو اصطدام قصدي بين جماعتين تظهر الواحدة في مواجهة الأخرى نية عدائية، وفي الأعم يكون ذلك حول حق من الحقوق، إما للمحافظة عليه أو المطالبة به، ويتم ذلك عبر محاولة تكسير مقاومة الآخر التي تحتمل اللجوء إلى العنف”.[5]
إذا كانت مختلف هذه التعريفات تحاول أن تنظر إلى النزاع باعتباره علاقة اجتماعية ويشكل بالتالي موضوعا من مواضيع علم الاجتماع بنفس الدرجة التي تمثلها علاقات التعاون والاندماج،[6] فإن هذا الأمر تطلب بلورة نظرية في إطار علم الاجتماع تهتم بدراسة النزاعات الاجتماعية. وكانت أبرز المحاولات في هذا الاتجاه مع كارل ماركس ونظريته في الصراع الطبقي التي تركز على دور علاقات الإنتاج الاقتصادي التي تشكل في نظره السبب النهائي في النزاعات التي هي بالضرورة “صراعات طبقية”. ففي ظل هذا المحدد فإن تفسير النزاعات من منطلق الوعي الإرادة والدوافع ليست سوى تفسيرات مقلوبة. أما Dahrendorf الذي كرس جزءا من نظريته حول النزاع الاجتماعي لنقد مرتكزات الصراع الطبقي فقد بين كيف أن الماركسية فضلت الأساس والاقتصادي مرتكزة على النزاعات الكبرى لأسباب إيديولوجية وليست علمية.
بذلك حاول الكاتب أن يحل منطلقات ماركس حول الصراع الطبقي ويدفع بها في الاتجاه الذي يحاول تفسير واقع العلاقات الاجتماعية النزاعية، وليس تغيره محاولا أيضا أن يجعل تفسيرات ماركس أكثر إجرائية ولا تنحصر في الصراع الطبقي،[7] لذلك يركز على مجموعات النزاع الاجتماعية مفترضا بأن تكوينها يعود إلى التوزيع اللامتكافئ للسلطة داخل هذه الجماعات كيفما كانت والذي ينتج عنه مصالح متباينة، أي مصالح مرتبطة بشرعية علاقات السلطة.[8] إضافة إلى فرضيات النظرية يتطرق Dahrendorf إلى ما يسميه الشروط الاجتماعية والسياسية لتشكل هذه المجموعات، أما « Crozier » [9] فيقدم في الواقع مقترحات عملية لفهم الاشتغال الداخلي للمنظمات ونزاعات الفاعلين فيها. وكذا استراتيجياتهم والإكراهات التي تواجههم، مقتربا أكثر من التفاعل الميداني للعلاقات الداخلية. من جهته يطرح Olson إطارا يساعد أكثر على فهم الفعل الجماعي الذي يمكنه أن يأتي سواء داخل سيرورة نزاعية أو تعاونية، موضحا أهمية المصالح في إثارة الفعل الجماعي المنظم من داخل الجماعات الاجتماعية.[10]
غيرانه إذا أصبح بالإمكان دراسة النزاع الاجتماعي بفضل ما تتيحه نظريات النزاع من إمكانيات تحليلية فإن الإشكال يبقى – وكما أوضحنا في البداية – في بلورة مفاهيم ومقتربات نظرية تنطلق من خصوصية الرهانات والأهداف التي تعمل من أجلها المنظمات السياسية التي تعتمد تنظيما شكلانيا في تسييرها ’ ومن تم الصعوبة التي يشكلها بالنسبة للباحث اقتحام موضوع النزاع السياسي والتي تضاف إليها صعوبات أخرى تتعلق بالربط بين الجانب النظري والإشكالات المفاهيمية التي يطرحها والجانب الميداني، والتي يصعب إتمامها دون منزلقات.
في هذا الإطار يمكن التركيز كمثال واضح على طابع الانشقاق أللذي يوضح علاقة السياسي بالاجتماعي – انشقاق حزب الاستقلال كنمودج – وقبل ذلك نشيرإلى أهمية الأبحاث التي أنجزها “رشيق” والتي درس من خلالها بعض النزاعات الاجتماعية معتمدا مقاربات علم اجتماع الفعل ونظرية النزاع الاجتماعي التي تمكن من تحليل رهانات النزاعات وسيرورتها وتتناول أيضا البعد السياسي في دراستها.[11]
يندرج هذا الانشقاق الشهير مثلا بالنسبة لـ “واتربوري” في إطار ما يسميه بالدينامية الانقسامية للنخبة السياسية المغربية التي تتحكم فيها قاعدة الانشطار والانصهار فهو يفسر انشقاق الحزب بعاملين أساسين يركز في بحثه – الذي تناول فيه النظام السياسي ككل [12]– هما طبيعة التحالفات بين أعضاء هذه النخبة من جهة، وما تعرضت له من مناورات من جهة ثانية. فهذين العاملين ساهما بالنسبة له في النزاع داخل الحزب والذي أفضى إلى انشقاقه. لكنه يلاحظ بأن الباحث إذا كان قد ابتعد فعلا عن أي تحليل يعتمد مقاربات التحلل الماركسي والصراع الطبقي وتركيزه على دور الفاعلين في النزاع، مصالحهم، تحالفاتهم واستراتجياتهم فإنه بالمقابل لم يوفق موضوعيا، أو بالأحرى لم يكن قادرا على تطبيق النموذج الانقسامي وخصوصا فيما يتعلق بالنزاع داخل الحزب وطبيعة التحالفات التي أفضى إليها بعد الانشقاق، بل إن بعض الخلاصات التي وصل إليها تتناقض مع النموذج الانقسامي الذي يصرح بتبنيه كوقوفه فيما يخص التحالفات على حالة العديد من الفاعلين الذين فضلوا موقف الحياد والانسحاب من الحياة السياسية بعد
الانشقاق الذي عرفه الحزب وهو موقف لا يتناسب ومنطق التحليل الانقسامي الذي يفترض تبني الفاعلين لمواقف تدفعهم أن يكونوا إما مع أو ضد بعضهم. وهو الأمر الذي دفع بـ “الطوزي” أن يلاحظ عن حق بأن “واتربوري” كان يقوم بسرد الوقائع ووصف النزاعات، تاركا فيما بين الأسطر المجال مفتوحا لبروز شروحات أخرى بعيدا عن النظرية الانقسامية، فالشروحات التي اختارها “واتربوري” تتعلق بالفكر التكتيكي للقصر وبالانتهازية لدى النخبة أكثر ما تتعلق بإيواليات انقسامية[13] هذه الشروحات يرى نفس الباحث ضرورة أن تأخذ بعين الاعتبار عدم وجود منطق موحد يقود كل الانشقاقات، بحيث أن كل انشقاق على حدة، يندرج داخل سياق سياسي خاص مما يجعل من الاعتماد على دراسة تاريخ السيرورات مسألة ضرورية لفهم كل انشقاق على حدة،[14] أما “أشفورد” فإنه يتطرق إلى انشقاق حزب الاستقلال في سياق تحليله العام للنظام السياسي المغربي بعيد الاستقلال،[15] وبعكس “واتربوري” وعلى أهمية المعلومات التي جمعها فإنه لا تتضح لديه معالم نظرية محددة. وإذا كان قد شدد بدوره على أهمية المنافسات بين قادة الحزب فإنه – عكس واتربوري- اهتم كثيرا بشرح الرهانات الداخلية للنزاع وأهمية النزاع في الواجهة النقابية في ارتباطه بالنزاع ككل.
لا نلمس في باقي الأبحاث التي تطرقت للموضوع سوى اهتماما جانبيا بالنزاع داخل الحزب في سياق اهتمامها إما بدراسة الحزب في تنظيمه السياسي العام أو في إطار علاقته مع باقي الفاعلين وخصوصا مع الملكية.[16]
تجب ادن صياغة مقاربة تأخذ بعين الاعتبار كل العوامل التي تساهم في النزاع باعتباره فعلا اجتماعيا وسياسيا عبر اللجوء إلى تقنية تعتمد تفكيك السيرورات وعزلها بهدف “الإنصات” أكثر ما يمكن إلى الفاعلين وربطهم بالبنية والمحيط السياسي الذي يتحركون داخله والابتعاد ما أمكن عن إقحام تفسيرات لا تكون بالضرورة مطابقة لما يجري داخل بنية النزاع. في محاولة لتقدير أي من العوامل ساهمت أكثر من غيرها في اندلاع النزاع وحدوث الانشقاق أو عدم حدوته. لكن الأكيد أن محاولتنا ينبغي ان تنحو عن اعتبار النزاع أو الانشقاق الذي حدث كظاهرة سياسية ذات طابع استثنائي.
لأجل كل ذلك من الضروري تحليل أربعة عناصر ضرورية لفهم النزاع وتتداخل بشكل متفاوت في تحديد مجراه.[17]
فالبنية التنظيمية للحزب توضح شكل العلاقات السابقة والمصالح الكامنة في بنيته قبل اندلاع النزاع والتي تفترض أن هيكلته وتوزيع سلطة التحكم في قراراته بين المجموعات المهيمنة والمهيمن عليها تفرز المجموعات التي تدافع عن مصالحها. هذا الأمر يفسر كون التحكم في إدارة الحزب أصبح رهانا أساسيا من رهانات النزاع إلى جانب الرهان الأكبر المتمثل في التنافس من أجل التمثيلية داخل الحكومات والذي سيصبح الرهان الأول ممرا ضروريا إليه ويرتبط به ارتباط الوسيلة بالهدف. لأجل ذلك ينبغي الارتكاز في البحث على دراسة بنية النزاع ورهاناته حيث ذكرنا على تفكيك البنية التنظيمية والتفاعلات بين المجموعات الأساسية التي يجمعها الانتماء مع التركيز على اللحظات الأساسية في هذه التفاعلات والتي كان لها دور في إفراز المصالح المتعارضة. إن الاهتمام بتحديد الجماعات والمصالح الكامنة داخل الحزب جعلنا نركز أيضا على زعماء هذه المجموعات.
يحاول الباحث بعد ذلك أن يكون أكثر ارتباطا بمجرى النزاع عبر التركيز على ديناميته والتفاعلات التي ستتحول خلالها المصالح الكامنة إلى مصالح ظاهرة يعبر عنها تكون مجموعات النزاع بقيادة بعض الزعماء الفاعلين فيه والتركيز على مسلسل التعبئة والتعبئة المضادة المنطلق مع حدوث النزاع.
تشكل التعبئة لحظة أساسية في النزاع وحاسمة في تحديد مجراه والنتائج التي حققها كل طرف من خلال الموارد التي عبأها في النزاع. فهذه الموارد التي يتوفر عليها الفاعلون وكيفية توظيفها في النزاع وفي رسم الاستراتجيات وعقد التحالفات المصلحية تمثل جانبا أساسيا في فهم سيرورة النزاع وحسم نتيجته وهو الجانب الذي ينبغي الوقوف عنده أيضا.
إن النزاع كسيرورة لا يجري في إطار بنية معزولة عن محيطها الاجتماعي والسياسي فهذا الأخير يساهم بدوره في تفسير مجرى النزاع، فحزب الاستقلال الذي كان كحزب سياسي يسعى إلى فرض هيمنته داخل النظام السياسي الخارج من عهد الحماية كان يفعل ضمن إطار محيط سياسي يتميز بوجود فاعلين منافسين يسعون بدورهم إلى فرض الهيمنة وتبني تكتيكات واستراتجيات للوصول إلى هذا الهدف وكان هذا التنافس الذي يجري أساسا بين الحزب والملكية وباقي الأحزاب والفاعلين السياسيين ينعكس على النزاع داخل الحزب ويتقاطع معه فيما يتعلق بالسعي إلى المشاركة والتحكم في تشكيل الحكومات الأولى للاستقلال وبالأخص وزارة الداخلية التي كانت القاسم المشترك الذي يسعى مختلف الفاعلين إلى التحكم فيه. وخصوصا بين المجموعات داخل الحزب وبين الملك في وقت كان فيه ميزان القوى يتأرجح بينهما في انتظار حسم مسألة التحكم في النظام السياسي الجديد قبل أن يتم تقنين قواعد اللعبة بإجراء الانتخابات ووضع الدستور.
أخيرا إذا كنا نفكر كسيرورة له بداية معينة فإن له أيضا نهاية أو بالأدق مخرجا معينا “ISSUE” يرتبط بطبيعة الرهانات التي تحكمه، والتي مكنتنا من الافتراض أنه ليست كل النزاعات الحزبية مهما بلغت حدتها يمكن أن تنتهي إلى نفس النهاية أي في صورة انشقاق.
بالعودة ادن للمثال الذي طرحناه، نجد النزاع داخل حزب الاستقلال، بالنظر إلى الرهانات الأساسية في هذا النزاع يمكن القول بأن هذا الأخير قد انتهى[18] في الوقت الذي تمكن فيه زعماء الحزب القدامى الملتفين حول علال الفاسي من السيطرة على التنظيم المركزي للحزب ودفع المهدي بن بركة وأنصاره إلى التخلي النهائي عن الحزب واسمه بتأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. وبعض النظر عن الرابح والخاسر في هذا النزاع من بين زعماء الحزب يمكن القول بأن الحزب كان كمنظمة تسعى إلى فرض هيمنتها داخل النظام السياسي الجديد هو الخاسر الأكبر في هذا النزاع. فبعد الاستقلال كان الحزب كأقوى تنظيم في الحركة الوطنية يتواجد في وضعية مصيرية، وكان عليه من جهة، أن يحافظ على وحدته في الوقت الذي بدأت الخلافات تظهر في صفوفه بشكل مبكر، وكان عليه من جهة ثانية أن يقوي موقعه أمام منافسة بدأت تبديها الملكية التي خرجت قوية من معركة التحرير وبدأت تقوي موقعها بشكل مبكر أيضا عبر سلطتها الرمزية التي جسدها محمد الخامس وعززها عمليا من خلال تحالفه مع زعماء الحركة الوطنية، غير أن حزب الاستقلال كان الخاسر الأكبر على الواجهتين معا هذا على الرغم من أن التنافس بين الملك والحزب لم يتطور إلى نزاع مفتوح لأن الملك كان يفضل تأسيس سلطته على جمع زعماء الحزب وليس انقسامهم،[19] وكان زعماء كل المجموعات لا يتوقون إلى الحكم من دون الملك الذي ناضلوا وقاوموا تحت شرعيته.
لكن الملاحظ هو أنه حتى قبل نهاية النزاع الذي حللناه بدأت تظهر الخلافات وتتشكل مجموعات جديدة من داخل المجموعات الكبرى التي قادت النزاع وستكون فاعلة في نزاعات مرتبطة بدورها بالتحكم في التنظيمات التي ستتفرع عن الحزب. فقد تطرقنا إلى ذلك مع بداية الخلافات داخل قيادة حركة 25 يناير وبداية الخلاف بين مجموعتين أساسيتين واحدة بقيادة المهدي بن بركة وزعماء المقاومة والثانية بزعامة المحجوب بن الصديق وعبد الله ابراهيم، وستبرز أكثر هذه الخلافات بعد تأسيس الإتحاد الوطني للقوات الشعبية، لذلك فإن حزب الاستقلال لم يكن حزبا متجانس المصالح والأهداف وبالتالي فتحالف المجموعات بداخله، كان تحالفا ظرفيا ومؤقتا، انتهى عمليا برحيل “العدو المشترك” بتعبير “Coser” [20] نفس الأمر ينطبق على كل التنظيمات التي يمكن لنزاعات المصالح أن تظل كامنة بداخلها، لكن اندلاعها الذي يتجلى في بروزها العلني يحكمه اجتماع العوامل التي تطرقنا إليها طيلة هذا البحث والمتعلقة بالبنية التنظيمية أي الفاعلون والمحيط السياسي وهي نفسها الشروط التي تحكم في نظرنا سلسلة الانشقاقات التي عرفتها المنظمات السياسية في المغرب وأفضت إلى ميلاد العديد من الأحزاب.
فقد حاولنا طيلة هذا البحث أن نركز التحليل على المصالح الكامنة داخل المنظمة الحزبية عبر تفكيك مكوناتها والتفاعلات ما بين التيارات الأساسية داخلها، حيث اتضح بأن النزاع داخل حزب الاستقلال يعود إلى فترة ظهور النقابة والمقاومة كمجموعتين قويتين داخل الحزب وقد حاول الحزب أن يحافظ على وحدته في وقت كانت فيه وحدة المصالح المتمثلة في النزاع ضد نظام الحماية تخفي التناقضات الموجودة والخلافات الكامنة، لكنه بمجرد ما أن ظهرت بوادر الاستقلال حتى تفجرت الخلافات الداخلية التي بدأت تغذيها معطيات محيط سياسي جديد، رغم ذلك حافظ زعماء المجموعات المتنافسة على حد أدنى من التعاون مدة ثلاث سنوات، حيث اتضح بأن المطالبة بالحكومة المنسجمة، ومحاولات فرض خيار الحزب المهيمن ستكون بمثابة خيارات أساسية عملت على تخفيف حدة الخلافات الداخلية وتأجيلها لكنها لم تستطع أن تحافظ على وحدة الحزب. فقد تبين أن زعماء الحزب كانوا يختلفون اختلافا جذريا حول قيادة هذا الأخير ودوره في النظام السياسي، وكانوا بالتالي يختلفون حول طبيعة مشاركتهم في حكومات ما بعد الاستقلال والتي شكلت رهانا أساسيا في النزاع جعل من مسألة التحكم في الأجهزة التقريرية للحزب واجهة أخرى ومجالا لنزاع الزعماء.
إن الاهتمام بتحديد الجماعات والمصالح الكامنة داخل الحزب وبالتالي رهانات النزاع جعلنا نركز أيضا تحليلنا على الفاعلين الأساسيين في النزاع وننفذ إلى محاولة قراءة النزاع بتتبع تحركاتهم والعلاقات فيما بينهم، مصالحهم واستراتيجياتهم داخل الحزب. وبخصوص النزاع مركزين بالأساس على عمليات التعبئة بهدف الدفاع عن المصالح، فقد حاولنا أن نتتبع سيرورة النزاع عبر هؤلاء الفاعلين مركزين على لحظة الانشقاق التي كانت مرحلة أساسية في النزاع عبرت من خلالها جماعات المصلحة عن وجودها الواقعي من خلال حركة 20 يناير التي شكلت أيضا محورا لتعبئة مضادة مثلت عبرها مصالح أخرى منافسة. فقد كانت لحظة الانشقاق لحظة قوية في النزاع من حيث كونها تطلبت مواكبة هذا الفعل الجماعي وتسليط الضوء على النواة التي قادته وعملية التعبئة التي قامت بها محاولين الوقوف عند نتائج هذه التعبئة في نهاية النزاع والتي أضفت إلى إحداث تغيرات في بنية الحزب.
إن الشروط البنيوية المتعلقة بالمنظمة وخاصة العلاقة بين مختلف وحداتها إن كانت ضرورية لفهم النزاع فإنها تبقى مع ذلك غير قادرة لوحدها على فهم كافة جوانب النزاع لذلك فإن التغيرات الداخلية التي مست بنية الحزب في علاقتها بالتغيرات التي أحدثها المحيط السياسي تبقى عنصرا أساسيا لفهم النزاع. فالاشتغال الداخلي للمنظمة إذا كان ينبغي فهمه كنتيجة لتمفصل قواعد اللعبة التي تشد الحزب بمحيطه وتتجاوز الحدود الشكلية للمنظمة. لذلك ففهم حزب الاستقلال كتنظيم سياسي شكل جزءا من تنظيمات الحركة الوطنية لا يمكنه أن يستقيم إلا من خلال القيام بربطه بالتغيرات التي كانت تحدث في هذا المحيط وكانت لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالنزاع داخل الحزب كزوال نظام الحماية ومواقف القصر بمكونيه الملك وولي العهد وكذا باقي الفاعلين في الأحزاب السياسية الأخرى من الحزب.
إذا كان كل نزاع لا بد وأن ينتهي فإن هذه النهاية المنفد بتعبير Freund التي يصل إليها النزاع يمكن أن تأخذ أشكالا متعددة بالنظر إلى المدة الزمنية التي قد يستغرقها هذا النزاع.
وكيفما كانت نهاية النزاع، فإن تحليل السيرورات المؤدية إلى هذه النهاية لها قيمة إستراتيجية بالقدر الذي تسمح لنا به طريقة إنهاء النزاع معرفة طبيعة الرهانات.
هذه النهاية ترتبط بأهداف المتنازعين وبالموارد المعبئة بهدف كسب رهانات النزاع.
لذلك فإن غياب واحد أو أكثر من العوامل المساهمة في النزاع التي حللناها طيلة هذا البحث يمكنه أن يضعف التحليل، ويجعله قاصرا عن محاولة إدراك النزاع في شموليته.
[1] يلاحظ في هذا الإطار الاهتمام الكبير الذي تبديه مراكز البحث الإستراتيجية الدولية والتشجيع الذي تقوم به فيما يتعلق بدراسة النزاعات التي غالبا ما ترتبط برهانات دولية، يظهر هذا الاهتمام أكثر من خلال الأبحاث التي ينجزها باحثون أمريكيون بالخصوص.
[2] ظهرت مؤخرا بعض المؤلفات في علم الاجتماع السياسي ذات الطابع البيداغوجي التي تعتمد مقاربات لعلم اجتماع سياسي ينبني على دراسة العلاقات السياسية سواء في جانبها النزاعي أو الاندماجي وذلك من منطلق نظرية الفعل الاجتماعي ، أنظر كمثال :
- Braud (Philippe) : Sociologie politique. Paris , 1992.
- Lagroy (Jacque) : Sociologie politique, Presse de la fondation nationale des sciences politiques et Dalloz, 1991.
[3] طموح البحث يدفعنا باتجاه دراسة النزاعات الأساسية الأخرى التي أفضت بدورها إلى إحداث انشقاقات في تنظيمات الحركة الوطنية وخصوصا قبل الاستقلال سواء فيما يتعلق بانشقاق كتلة العمل الوطني وتأسيس الحزب الوطني لتحقيق المطالب بزعامة علال الفاسي والحركة القومية بزعامة محمد بلحسن الوزاني، أو فيما يخص الانشقاق الذي حدث في صفوف الحركة الوطنية بالشمال بين زعيمها عبد الخالق الطريس والمكي الناصري الذي أسس حزب الوحدة المغربية، لكن النقص الكبير في المعطيات المتعلقة بتلك الفترة دفعنا إلى العدول عن دراستهما، وتكفي في هذا الصدد الإشارة إلى أن علال الفاسي الذي كان فاعلا أساسيا في النزاع داخل كتلة العمل الوطني إلى جانب بلحسنا لوزاني سيخص حديثه عن هذا النزاع بسطرين في إطار تفسيره للانشقاق الذي عرفته الكتلة وذلك حين تعرضه للموضوع في كتابه، الحركات الاستقلالية في المغرب العربي.
[4] Weber (Max) : Economie et Société, Paris, 1971, T.1, P39.
[5] Freund (Julien) : Sociologie du conflit, PUF 1982, P65.
[6] يعتبر التوتر لصيقا بالعلاقات الاجتماعية بنفس درجة الانسجام والتعاون بل إن رد الاعتبار – إن شئنا- إلى أهمية النزاع في العلاقات الاجتماعية قد دفع Coser إلى دراسة ما أسماه الوظائف الايجابية للنزاع وللأدوار التي يلعبها داخل الجماعات أنظر كتابه :
Les Fonctions de conflit social, PUF 1982.
[7] أنظر مؤلفه : Classes et conflit dans les sociétés industrielles, Paris, Lahay Mouton, 1972.
[8] Dahrendrof (R), Op.cit, P.177-178 et s.
[9] Crozier et Friedberg : L’acteur et le système, les contraintes de l’action collectives. Editions su Seuil, 1977.
[10] يطرح Olson في كتابه la logique de l’action collective مقاربة تهتم بالشروط التي تتحكم في الفعل الجماعي كيفما كانت أهدافه ويهتم عموما بالدوافع التي تجعل الفرد ينخرط في الفعل فيتحول إلى فاعل جماعي يبحث عن مصلحته داخل هذا الإطار، والاكراهات التي تواجه الفعل وتقوده إما للفشل أو النجاح متسائلا عن دور الايدولوجيا والقناعات الفكرية في هذا الانخراط.
[11] يتعلق الأمر بعدة دراسات ميدانية قام بها الباحث، كان أبرزها البحث الذي أنجزه حول أحد النزاعات الاجتماعية التي اندلعت بإحدى قبائل الأطلس المتوسط حول تنظيم أحد المواسم السنوية وتناول من خلاله كل ما يرتبط بجوانب النزاع من رهانات وتنظيم للعلاقات الاجتماعية والسياسية داخل القبيلة وفي محيطها الاجتماعي والسياسي، أنظر
Rachik (Hassan) : le Sultan des autres rituels et politique dans le haut Atlas, Afrique Orient, 1992.
راجع أيضا من بين مقالاته المنشورة التي تناولت نزاعات أخرى.
Espace Pastoral et conflit de gestion collective dans une vallée du Haut Atlas, in Montagne et Hauts-pays de l’Afrique : utilisation et conservation des ressources : [actes de la deuxième conférence tenue les 19-28 septembre à Rabat] Faculté des lettres et des sciences humaines, 1993.
-Culte et conflit, in : Herpériz Tamuda, Vol XXX. 1992. P 111-134.
ورغم الاختلاف بين النزاعين وبين النزاع الذي يدرسه من حيث طبيعة الرهانات والسياق فإن الشروط النظرية العامة والأسئلة التي يطرحها تبقى هي نفسها وهو ما يتيح إمكانية بروز قراءة أخرى للنزاعات ذات الرهانات السياسية.
[12] واتربوري (جون) : أمير المؤمنين، الملكية المغربية ونخبتها، دار الوحدة للطباعة والنشر، 1972.
[13] أنظر الطوزي “محمد”: فاعلو الإصلاح بين الوحدة والانشقاق عن الانقسامية في الأحزاب المغربية في” وجهة نظر”، العدد الثاني، 1999.
[14] الطوزي، نفس المصدر السابق، ص 4.
[15] أشفورد (دوكلاص)، التطورات السياسية في المملكة المغربية، دار الكتاب ، البيضاء، 1965.
[16] انظر على سبيل المثال :
-Elkohen : Sociologie politique du parti de l’Istiqlal, thèse de 3éme cycle, Ecole pratique des Hautes Etudes, Paris 1972.
-Monjib (M) : La monarchie marocaine et la lutte pour le pouvoir : Hassan II face à l’opposition nationale de l’indépendance à l’état de l’exception. L’Harmattan, Paris 1992.
– الشاوي عبد القادر: حزب الاستقلال 1944-1982، عيون المقالات، الدار البيضاء، 1990.
[17] Rachik (H) :Culte et conflit, Op.cit. P133.
[18] نعني بنهاية النزاع هنا المنفد الذي يصله النزاع « ISSUE du Conflit » والذي يمكنه أن يكون في صور متعددة بالنظر إلى خصوصية كل نزاع والرهانات المرتبطة به والسياق الذي يجري فيه، راجع :Freund « Sociologie du
conflit », Op.cit. P103.،
كيفما كانت هذه النهاية فإن تحليل السيرورات المؤدية إليها له قيمة إستراتيجية بالقدر الذي تسمح لنا طريقة إنهاء النزاع معرفة طبيعة الخلاف، راجع :
Coser (Lewis) : Les fonctions du conflit social, PUF 1982, P103.
[19] Palazzoli ( C) : La mort lente du mouvement national au Maroc in, A.A.N. 1972.
[20] Coser (Z) : Les Fonctions du conflit social, PUF, 1982. P.13.