“المنشور” وطبيعته القانونية

                                               

“المنشور” وطبيعته القانونية

 

 

 

 

 

 

دراسة من إنجاز:

الأستاذ يـــوســف ادريــدو

باحث في القانون العام

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تستعمل الإدارة كيفما كان نوعها مجموعة من الوثائق الإدارية للتواصل بين مختلف المصالح الإدارية، هاته الوثائق تختلف عن النص الإداري، فهي مجرد تدابير إدارية محضة وغير تشريعية، لأنها تفقد الميزة الجوهرية للقانون، فليست لا نصوصا تشريعية ولا مراسيم ولا قرارات وليست لها قوة قانونية، وإنما هي تعبير عن الاختصاصات والتعليمات التي تضمنتها التشريعات والنصوص التنظيمية.

ومن أهم الوثائق الإدارية نشير إلى وثائق التعليمات التي تستعمل للتوجيه والتوضيح، وتحديد إطار وكيفية العمل الواجب إتباعها ولاسيما فيما يتعلق بتطبيق النصوص التشريعية والتنظيمية.

وتتجسد وثائق التعليمات هاته أساسا في التعليمات، والمذكرة المصلحية، والمنشور، وستقتصر دراستنا على هذا الأخير لاستعماله الواسع في عالم الإدارة  وللإشكالات التي يطرحها مفهومه في علاقته بباقي وثائق التعليمات الأخرى، فما المقصود بالمنشور؟ وماذا عن طبيعته القانونية من الناحيتين الفقهية والقضائية؟

وعليه سنتطرق خلال هاته الدراسة في مبحث أول إلى تحديد مفهوم المنشور، على أن نعرض إلى التكييف القانوني لهذا الأخير في المبحث الثاني.

المبحث الأول: مفهوم المنشور وطريقة تحريره وعلاقته بوثائق التعليمات الأخرى

قبل تحليل علاقة المنشور بوثائق التعليمات الأخرى من تعليمات ومذكرة مصلحية (المطلب الثاني) سنتعرض في مطلب أول إلى تعريف المنشور وطريقة تحريره.

المطلب الأول: تعريف المنشور وطريقة تحريره

أولا: تعريف المنشور circulaire

المنشور هو كتاب ينشر على جميع الجهات وعلى نطاق واسع تفسيرا لقرارات أو تنبيها لتعليمات سابقة، فهو وثيقة إدارية تحتوي على قرارات أو أوامر أو تعليمات  تنشر كاملة أو ملخصة  وتداع على جميع الموظفين والمستخدمين للعلم بها وإتباعها، ويطلق على هذا النوع من الوثائق أيضا اسم “الدوريات” فالمنشور كما يشير إسمه “منشور أو دورية” وثيقة إدارية خاصة تستعمل لنشر المعلومات أو لدوران المعلومات على جميع المستويات، ويعتبر وثيقة إدارية ذات صبغة داخلية تصدر عن السلطة العليا المختصة في الجهاز الحكومي إلى المستويات الدنيا التابعة لهذه السلطة، كالمناشير التي يصدرها الوزير الأول أو السلطة الحكومية المكلفة بالوظيفة العمومية، وكثيرا ما يستعمل المنشور داخل الوزارات والمؤسسات[1].

ويتخذ المنشور إثر نص قانوني هام، يستهدف التذكير بغاياته وضبط كيفيات تطبيقه، وفي هاته الحالة ليس من مهامه إضافة عناصر جديدة للنص أو مقتضيات معاكسة له أو التوسع في شرح مضمونه بصفة غير قانونية لأن هذه المهمة موكولة إلى ما يعرف بالمراسيم التطبيقية[2].

ويمكن تقسيم المنشور إلى ثلاثة أنواع:

فهناك “المنشور الإيضاحي” الذي يستهدف التذكير والشرح للمقتضيات القانونية أو التنظيمية وذلك لتفادي ارتكاب أخطاء قانونية  أو غيرها والإضرار بالمصالح الخاصة للمعنيين أو المصالح العامة في حالة سوء فهم مقتضياتها من قبل المكلفين بتنفيذها؛

وقد يكون المنشور تنفيذيا يتضمن تعليمات أو أوامر إلى مجموعة من الموجه إليهم لتنفيذها[3]، وأخيرا يمكن أن يكون المنشور تنظيميا يكون له أثر قانوني، ويكمن إذ ذّاك الطعن في مقتضياته بدعوى التعسف في استعمال السلطة أمام القضاء الإداري، فالمنشور التنظيمي لا يكتفي بتفسير النصوص القانونية، بل يضيف إليها قاعدة جديدة، فيصبح قرارا تنظيميا قابلا للطعن بالإلغاء لمساسه بحقوق الأفراد.

ومن الناحية العملية يلاحظ أن الموظفين يرتكزون في ممارسة مهامهم على مقتضيات المنشورات أكثر مما يستندون إلى القوانين الأصلية [4] فالتعليمات الواردة فيها تكون في كثير من الحالات معروضة ببساطة، بحيث يسهل على الموظف استيعابها، فلغة المنشورات أكثر بساطة من لغة القوانين الأصلية، ومن هذا المنطلق أصبح المنشور يحتل مكانة هامة على مستوى التنظيم الداخلي للإدارة.

ثانيا: طريقة تحرير المنشور ومضمونه

يحرر المنشور بصيغة مباشرة أي باستعمال ضمير المتكلم أو الجمع، ويتطلب تحريره الكفاءة والتجربة والإطلاع الواسع[5]، ويعهد عادة تحريره إلى أطر عليا لديهم معرفة تامة ومعمقة للقوانين والأعراف، خاصة وأن صياغته ترتكز دائما على نصوص قانونية أو تنظيمية، وذلك لتلافي كل تحريف أو التباس  نظرا  لتداوله بين عدد كبير من الموظفين، خاصة وأن منهم من يكون بعيدا عن المصلحة التي حررت المنشور، ولا يتأتى له الاتصال بها في الحال لتوضيح النقط الغامضة أو الصعوبات العملية التي قد تعترض التطبيق.

لذا، يتعين أن يكون إعداده مسبوقا بدراسة معمقة وتحليلية، وتتسم فقراته بالدقة والوضوح والإيجاز، سيما وأنه يوقع من طرف أعلى سلطة بالإدارة وهو الوزير.

ومن حيث الأسلوب ينبغي أن يكون المنشور محررا بكيفية سهلة الفهم، حتى يكون سهل التنفيذ من لدن الموجه إليهم، كما أنه بالإمكان تجزئة موضوع المنشور إلى فقرات بالاستناد إلى نصوص قانونية وتنظيمية أو منشورات سابقة لتبرير اتخاذه، على أن يختم بتلخيص مقتضب للتعليمات الأساسية التي يستهدفها.

ويجب تجنب اللجوء إلى المنشور في شكل رسالة[6]  كما نلاحظ في التطبيق العملي، وتفادي استعماله خارج الإدارة العمومية أو الاعتماد عليه كحجة لإثبات شيء أو حق للإدارة  أو لفرض أشياء معينة على مستعملي المرافق العمومية.

ومن حيث الشكل يتضمن المنشور نفس شكل الوثائق الإدارية الأخرى وهي:

  • المكان والتاريخ؛
  • الرأس: تسمية الدولة واسم الجهاز الإداري؛
  • رقم التسجيل: يعطي للمنشور رقم خاص به؛
  • المرسل والمرسل إليهم؛
  • الموضوع؛
  • المرجع: إذا كانت الإشارة إليه ضرورية؛
  • تحية الافتتاح (سلام تام بوجود مولانا الإمام) أو بدون تحية؛
  • جسم المنشور أو مضمون موضوعه، ويحتوي على المقدمة والتفسيرات والخاتمة؛
  • التوقيع: يخضع توقيع المنشور إلى نفس الشروط التي يجب أن يتميز بها توقيع القرارات الإدارية، إذ يعود توقيعه إلى السلطة الحكومية المختصة بموضوعه، إلا أنه يمكن أحيانا توقيعه بالتفويض من طرف المسؤولين على أعلى المستويات.

ويبقى مضمون المنشور ساري المفعول إلى حين صدور منشور جديد يلغيه أو يغير مقتضياته.

المطلب الثاني: علاقة المنشور بوثائق التعليمات الأخرى

وثائق التعليمات تنحصر في المذكرة المصلحية من جهة، وفي التعليمات من جهة ثانية.

 

 

أولا: علاقة المنشور بالتعليمات

التعليمات les instructions، هي الأوامر والتوجيهات والإيضاحات الصادرة عن سلطة عليا إلى المصالح التابعة لها لتوضيح وتوجيه وتحديد طريقة العمل الواجب اتباعها بخصوص تطبيق نصوص تشريعية أو تنظيمية[7].

فالتعليمات تعتبر تكملة وامتدادا لنصوص قانونية صادرة من قبل، لذا فمداها عام ومفعولها دائم، وعلى الجميع الامتثال لها ما دامت لم تصدر تعليمات جديدة تعدل فيها أو تلغيها، كما أن محتواها يهم المصالح المركزية والخارجية على السواء لأنها تصدر عن سلطة عليا كالوزير الأول والوزراء.

وتتسم التعليمات بالخصائص التالية:

  • تصدر عن سلطة عليا؛
  • تكتسي صبغة الأمر؛
  • تعتبر امتدادا وتكملة لنصوص قانونية أو تنظيمية؛
  • يكون أسلوبها صارما؛
  • مفعولها دائم؛
  • قابلة للنشر بالجريدة الرسمية.

وتحرر التعليمات بطريقة أكثر تركيزا وإيجازا، وبصيغة موضوعية وغير مباشرة لأنها تشبه النصوص القانونية، كما أنها تمتاز بطابع أكثر حتمية وإلزاما من المنشور، والسبب في ذلك يعود لمضمونها الأساسي الذي هو التعليمات.

التعليمات تشبه المنشور في كونها تحمل عنوان “تعليمات”، إلا أنها تتسم بطابع أكثر أهمية من المنشور، فهذا الأخير وإن كان يتضمن تعليمات، إلا أنه يخصص مجالا واسعا لمجرد الاطلاع، وتكميل المعلومات وعرض القضايا التي يعالجها.

وبذلك يتضح أن التعليمات أفسح مجالا وأشد صرامة من المنشور، وغالبا ما تكون امتدادا لنص قانوني أو قرار وزاري، تهدف تفسيره وتوضيح مختلف جزئياته التطبيقية، فهي قريبة جدا من النصوص القانونية والتنظيمية، ولذا فهي قابلة للنشر في الجريدة الرسمية عندما يكون موضوعها إبلاغ الموظفين المعنيين أو العموم بإجراء معين أو تدبير خاص أو طريقة محددة لتطبيق نص عام.

وعمليا فالكثير من الموظفين يخلطون بين المنشور والتعليمات، فإذا كانت طبيعتهما متقاربة، فإن بينهما فارقا يتجلى أساسا في الشكل الذي تتسم به التعليمات (تشبه كثيرا شكل النصوص القانونية والتنظيمية) وثانيا في كونها امتدادا طبيعيا للنصوص القانونية والقرارات بخلاف المنشور.

وتجدر الإشارة إلى أن التعليمات يكثر استعمالها في المصالح التابعة للقوات المسلحة الملكية والمصالح شبه العسكرية، في حين يبقى توظيفها محدودا على مستوى الإدارات المدنية[8].

ثانيا:علاقة المنشور بالمذكرة المصلحية

المذكرة المصلحية Note de service وثيقة داخلية قصيرة المحتوى تصدر دائما عن الرئيس الأعلى في اتجاه المرؤوسين، وهدفها هو الإخبار بتعليمات جديدة أو خاصة من أجل تنفيذ قرار معين، وفي الغالب تتضمن تعليمات أو أوامر وهي غير ملزمة للغير ولا يمكن بالتالي أن يبنى عليها قرار إداري ما[9] .

وعليه تتميز المذكرة المصلحية بجملة من الخصائص وهي:

  • وسيلة للاتصال الداخلي ولإصدار التعليمات؛
  • تحمل صفة الأمر بمعناه الدقيق؛
  • تصدر من سلطة عليا، أي من الرئيس إلى المرؤوس؛
  • في غالب الأمر تأتي بشيء جديد؛
  • يقتصر مداها على فئة معينة بالذات، وعلى موضوع معين، بحيث لا تشمل تنظيم الميادين في آن واحد؛
  • تقترب كثيرا مما يسمى في الخطاب الإداري بالتعليمات، وبذلك فما سبق لنا أن تطرقنا إليه بخصوص علاقة المنشور بالتعليمات، ينطبق كذلك على المذكرة المصلحية، فهذه الأخيرة تشتمل على العناصر الأساسية الشكلية للمنشور.

أما عن أسلوب المذكرة فيتسم بالوضوح، فصيغة الأمر الصادر إلى المرؤوس يمتاز بلهجته الحادة وبعباراته الصارمة، سيما إذا كان يهدف تقويم حالة معينة كسلوك موظفي وأعوان المصلحة.

وبما أن مذكرة المصلحة تعبر عن أوامر أو تعليمات، فمن الطبيعي أن تكون هاته الأخيرة مضبوطة وواضحة وممكنة التطبيق، فلا يجوز بتاتا إصدار مذكرات لتصحيحها فيما بعد لصعوبة تطبيقها، فهذا يعني التذبذب في إصدار التعليمات مما يسيء إلى الجهة التي أصدرتها ويفضي إلى ضآلة فعاليتها.

ويبقى استعمال ضمير المتكلم، هو المفضل في أسلوب المذكرة المصلحية[10]، عندما يتعلق الأمر بتوجيه أوامر محددة، غير أن استعمال ضمير المجهول يعد مقبولا في بعض الحالات.

المبحث الثاني: التكييف القانوني للمنشور

في إطار تحليل التكييف القانوني للمنشور سنعرض بداية لموقف الفقه من الطبيعة القانونية للمنشور (المطلب الأول) على أن نتطرق في المطلب الثاني لوجهة نظر القضاء الإداري في الموضوع.

المطلب الأول: موقف الفقه من الطبيعة القانونية للمنشور

توجد في فقه القانون الإداري ثلاثة آراء مختلفة حول الطبيعة القانونية للمنشور:

فهناك جانب من الفقه يرى أن المنشور ليس له طبيعة قانونية وبالتالي فهو لا يعتبر قرارا إداريا لأنه لا ينشىء ولا يخلق جديدا في عالم القانون، فهو لا ينشىء آثارا قانونية جديدة، حيث لا يمس بالمراكز القانونية بالخلق أو التعديل أو بالإلغاء، فالمنشور مجرد إجراء وعمل إداري تنفيذي داخلي يتعلق أساسا بتفسير وتجسيد القواعد القانونية والتنظيمية السابقة والمتعلقة بالوظيفة الإدارية في المرفق دون أن يضيق أو يعدل أو يلغي فيها[11].

لكن المنشور الذي يتولى المرؤوسون تنفيذه في إطار سلطة التوجيه التي يتمتع بها الرئيس الأعلى حيال موظفيه ورغم أنه لا يعتبر قرارا إداريا لأنه لا يحدث آثارا قانونية، وبالتالي لا يقبل الطعن بالإلغاء.

إلا أن هناك جانب آخر من فقه القانون الإداري يعترف بالطبيعة القانونية وصفة القرار الإداري للمنشور اعترافا جزئيا ونسبيا، أي في مواجهة العاملين المرؤوسين فقط الذين يلتزمون بطاعته وعدم مخالفته وإلا اعتبروا مرتكبين لمخالفات إدارية تستوجب توقيع جزاءات تأديبية عليهم[12]، دون أن يكون له طبيعة قانونية في مواجهة الأفراد من غير العاملين المرؤوسين المخاطبين به[13] لأنهم يجهلونه ولا يهمهم وبالتالي لا يجوز لهم أن يطعنوا فيه بالإلغاء.

أما الجانب الثالث من الفقه فإنه يعتبر أنه لا يجب أن نقر قاعدة عامة وحكم عام في تكييف وتحديد الطبيعة القانونية للمنشور بأنه عمل إداري قانوني (قرار إداري) أو ليس كذلك، وإنما يجب أن نرجع إلى اعتماد عناصر وشروط القرارات الإدارية المعروفة كمقياس ومعيار للحكم على المنشور من حيث هل هو قرار إداري أم لا؟ فإذا ما أدى المنشور إلى إحداث جديد في عالم القانون بأن مس الأوضاع القانونية للموظفين بالإنشاء أو بالتعديل أو بالإلغاء، فهو يعتبر قرارا إداريا يشكل مصدرا من مصادر المشروعية، ويجوز الطعن فيه أمام القضاء الإداري بالإلغاء من ذوي المصلحة، أما إذا لم يولد أو يحدث المنشور ذلك الأثر، فإنه يعتبر مجرد إجراء تنفيذي داخلي لا يشكل مصدرا من مصادر المشروعية وبالتالي يستبعد من الطعن بالإلغاء.

المطلب الثاني: موقف القضاء من الطبيعة القانونية للمنشور

الأصل أن المنشورات والتعليمات الإدارية الرئاسية ليست بأعمال قانونية أو قرارات إدارية أي ليست لها طبيعة قانونية، لأنها لا تولد جديدا في عالم القانون ولا تؤثر في النظام القانوني للوظيفة العامة، فدورها يقتصر كأصل عام على التفسير والكشف عن الآثار والأوضاع والمراكز القانونية السابقة الموجودة في القواعد والأحكام القانونية والتنظيمية العامة المنشئة.

لكن ونظرا لتمتع السلطات الإدارية الرئاسية المختصة، وخاصة الوزراء- المديرون العامون للمؤسسات الإدارية-بالسلطة التقديرية الواسعة، فإن المنشورات التي يصدرونها في نطاق السلطة التقديرية غالبا ما تتضمن خلق وإحداث آثارا قانونية جديدة في المراكز القانونية للموظفين العامين، فتكون هاته المنشورات منشئة لمراكز قانونية، أي تكون قرارات إدارية ذات طبيعة قانونية، ويجوز لذوي المصلحة الطعن فيها بدعوى الإلغاء عندما تكون غير مشروعة[14].

فالقضاء الإداري الفرنسي يميز بين المنشورات التنظيمية وبين المنشورات التفسيرية،

فالمنشورات التنظيمية les circulaires réglementaires تعتبر في قضاء مجلس الدولة الفرنسي قرارات إدارية لها صفة وطبيعة قانونية وبالتالي يقبل الطعن فيها بدعوى الإلغاء، وفي هذا الإطار ألغى مجلس الدولة الفرنسي في حكمه بتاريخ 29/11/1954 منشورا تنظيميا غير مشروعا بسبب عيب عدم الاختصاص.

وفي نفس الاتجاه نشير إلى حكم الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى سنة 1961 في قضية محمد بن العالم الذي ألغى منشورا تنظيميا لكون مقتضياته لم تكن مطابقة لمبدأ الشرعية[15]، أما المنشورات التفسيرية التي ترمي إلى تفسير القواعد والأحكام القانونية والتنظيمية العامة، فإن القضاء الإداري الفرنسي لا يعترف لها بالطبيعة القانونية وبالتالي لا يقبل الطعن فيها بدعوى الإلغاء لأنها ليست بقرارات إدارية.

ومن الأمثلة على ما يعتبره القضاء الإداري الفرنسي من المنشورات التفسيرية التي لا يقبل الطعن فيها بالإلغاء:

  • الإرشادات والتوجيهات العامة التي يوجهها الرئيس الإداري إلى مرؤوسيه[16]؛
  • تلك التعليمات والدوريات التي تفسر قوانين أو مراسيم وتحدد معانيها دون أن تضيف جديدا[17]؛
  • التعليمات والدوريات التي تتضمن التذكير بوجود قرارات إدارية داخلية أو تنظيم داخلي.

غير أن سياسة القضاء الإداري الفرنسي في عملية التمييز بين المنشورات التنظيمية والمنشورات التفسيرية تقوم على اعتبارين أساسيين:

-أ- إن قيام القضاء الإداري بفحص وتحليل المنشورات الإدارية الرئاسية للكشف عن طبيعتها التنظيمية أو التفسيرية تسمح للقضاء الإداري ببسط رقابته على مدى شرعية أو عدم شرعية الأوامر والتعليمات الصادرة عن الرؤساء الإداريين، ولا سيما أن هاته المنشورات هي مجهولة على المواطنين ولا تخاطبهم، وبالتالي لا يجوز لهم الطعن فيها بتحريك رقابة القضاء (رقابة الإلغاء) ضدها؛

-ب- إن عملية التمييز بين المنشورات التنظيمية التي تخضع لرقابة قاضي الإلغاء وبين المنشورات التفسيرية التي تعتبر من خصوصيات السلطة الإدارية الرئاسية، تصدرها في نطاق سلطتها التقديرية، وفي نطاق حريتها والتي تخرج عن نطاق رقابة القضاء وخاصة رقابة الإلغاء، تعبر هذه التفرقة عن إيمان القضاء الإداري الفرنسي بحتمية استقلال السلطة الإدارية في بعض الحالات والمجالات، وتمتعها بحرية التقدير والتصرف بعيدا عن رقابة القضاء، حتى تتصرف بحرية وفقا لما تراه ملائما ومناسبا لضمان حسن سير المرافق العامة بانتظام وباطراد، وهذا مظهر من مظاهر حنكة القضاء الإداري الفرنسي وسياسته الحكيمة في هذا الموضوع.

وعلى العموم فإن المنشورات لا تضيف جديدا إلى القانون، فهي مجرد تفسير لأحكام القانون وكيفية تنفيذه، وبالتالي لا يمكن اعتبارها قرارات إدارية، أما إذا تضمنت المنشورات قواعد جديدة بالإضافة إلى ما هو مقرر في القوانين والمراسيم التطبيقية، فإنها تصبح قرارات إدارية قابلة للطعن فيها بالإلغاء أمام القضاء الإداري، هذا الأخير يتعين عليه أن ينظر في كل منشور وفحصه وبحثه من حيث هل ولد جديدا في عالم القانون، بأن مس بالأوضاع والمراكز القانونية للموظفين بالإنشاء أو التعديل أو الإلغاء أم لا؟ وعلى ضوء ذلك فقط يمكن اعتبار هذا المنشور قرارا إداريا له الطبيعة القانونية أم مجرد تدبير إداري تنفيذي داخلي.

 

 

قائمة المراجع المعتمدة

  • بوعلام السنوسي “تقنيات التحرير الإداري بالإدارة العمومية والقطاع الخاص” دار النشر المغربية، البيضاء 2010.
  • عبد العزيز أشرقي “تقنيات التواصل والتحرير بالإدارة العمومية” مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء 2000.
  • محمد بوجيدة “الدليل العملي لتحرير المراسلات والوثائق الإدارية بالإدارات العمومية المغربية”، مطبعة دار القلم، الرباط 2002.
  • رضوان بوجمعة “المقتضب في القانون الإداري المغربي” مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، 1999.
  • عمار عوابدي “مبدأ تدرج فكرة السلطة الرئاسية” دار هومه للنشر، الجزائر 1998.
  • عبد الغني بسيوني عبد الله “القانون الإداري، دراسة مقارنة لأسس ومبادىء القانون الإداري وتطبيقها في لبنان” الدار الجامعية 1986.

 

 

 

[1] بوعلام السنوسي: ” تقنيات التحرير الإداري بالإدارة العمومية والقطاع الخاص” دار النشر المغربية، البيضاء، 2010، ص: 319.

[2] عبد العزيز أشرقي:”تقنيات التواصل والتحرير بالإدارة العمومية” مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2000، ص:208.

[3] محمد بوجيدة: “الدليل العلمي لتحرير المراسلات والوثائق الإدارية بالإدارات العمومية المغربية” مطبعة دار القلم، الرباط، 2002، ص: 225.

[4] رضوان بوجمعة:” المقتضب في القانون الإداري  المغربي” مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، 1999، ص:81

[5] بوعلام السنوسي: مرجع سابق، ص:319

[6] مناشير الوظيفة العمومية 1970-1978 مؤلف أعدته الوزارة المنتدبة لدى الوزير الأول المكلفة بالشؤون الإدارية 1985 يضم مجموعة من المنشورات في شكل رسائل.

[7] عبد العزيز أشرقي م. س. ص 211

[8] بوعلام السنوسي، م س ص 320

[9] محمد بوجيدة،  م س ص 173-174

[10] عبد العزيز أشرقي، م.س ص 216

[11] محمود محمد حافظ، القرارات الإدارية، مشار إليه بمؤلف عمار عوابدي “مبدأ تدرج فكرة السلطة الرئاسية” دار هومه للنشر، الجزائر 1998 ص 426-432

[12] عبد الغني بسيوني عبد الله “القانون الإداري، دراسة مقارنة لأسس ومبادىء القانون الإداري وتطبيقها في لبنان” الدار الجامعية 196 ص 118 انظر أيضا عبد الرحمن البكريوي “الوجيز في القانون الإداري المغربي” مؤسسة كوندار أديناور الألمانية، 1995

[13] محمد حافظ، القرارات الإدارية، مشار إليه بمؤلف عمار عوابدي، م.س ص 426-432

[14] عمار عوابدي “مبدأ تدرج فكرة السلطة الرئاسية” م.س ص 426-432

[15] رضوان بوجمعة “المقتضب في القانون الإداري المغربي” م.س ص 81

[16] حكم مجلس الدولة الفرنسي في 27/01/1943 قضية Prud homme

[17] حكم مجلس الدولة الفرنسي في 24/05/1947 قضية Fergond

إقرأ أيضاً

الرقابة على الدستورية والأمن القانوني دراسة في ضوء الإجتهاد القضائي الدستوري المغربي

الرقابة على الدستورية والأمن القانوني دراسة في ضوء الإجتهاد القضائي الدستوري المغربي Constitutional control and …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *