Site icon مجلة المنارة

المقوِّمات الاجتماعية والسياسية لنظام الحكم الذاتي

المقوِّمات الاجتماعية والسياسية لنظام الحكم الذاتي

د. فؤاد بلحسن

Dr. Fouad BELAHCEN

جامعة محمد الخامس/ أكدال – الرباط

Mohammed V University/ Agdal–Rabat

الحكم الذاتي نظام قانوني وسوسيو-سياسي لامركزي. لا يَظهر بغثة، وإنما عبر تراكم تاريخي اجتماعي، تطفو فيه على السطح، في لحظة معينة، المـــــــُطالبةُ بتبني هذا النظام داخل دولة تعرف تعددا في الجماعات القومية[1]؛ بحيث يصير التعايش بين هذه الجماعات مستعصيا أو في الحد الأدنى يثير بعض المشاكل السياسية والحقوقية ذات العلاقة بقضايا الهوية الجماعية.

ويشهد هذا النظام تطبيقات عديدة ومتباينة من دولة إلى أخرى؛ إذ يتحكم سياق تطبيقه في رسم معالم أسس شرعيته وهياكله وصلاحياته وأبعاده. وهكذا نجد طَيفا متنوعا من التطبيقات سواء داخل الدول المتقدمة أو النامية، تستند على رهانات لغوية أو سياسية أو اقتصادية أو دينية أو سُلالية (قائمة  على العنصر) أو ثقافية أو مزيجا من هذه الرهانات.

وفي الواقع، إن هذا النوع من الأنظمة ليس بجديد. فمنذ القدم، تمتعت الأقاليم ذات الخصوصية والنزعة الاستقلالية في الشرق والغرب، في الشمال والجنوب، بصلاحيات واسعة في تنظيم شؤونها الإقليمية لأسباب عدة (شساعة إقليم الدولة، قوة بعض القبائل، ثقة بعض الحكام في بعض الولاة،…). وفي التاريخ الحديث، وبعد إحداث الدول القومية، ثُم لاحقا بعد الحرب العالمية الثانية بخاصة، أمسى التوحيد والذي تركيز السلطة والإدارة البيروقراطية وتقديس الهوية الوطنية وبسط القانون الوطني على كامل التراب، موضوعا لا يقبل الجدال (وحدة السلطة، وحدة الإدارة، وِحدة الرموز، وحدة التراب، وِحدة القانون)، إلى درجة يمكن للدولة أن تدخل في حرب عسكرية ضد أي جماعة تسعى للمس بهذه الثوابت. وبذلك، أمسى طلب الجماعات القومية التمتعَ بالحكم الذاتي أو تقرير المصير أو الانفصال أو المزيد من الصلاحيات محليا يلقى رفضا حاسما أو الاتهام بالعمالة أو الحسم الأمني، بحسب الحالات، من لدن السلطات المركزية (العراق، السودان، بريطانيا، الفلبين، الصين، الهند، إسبانيا، إيطاليا، إيثيوبيا، يوغوسلافيا، كشمير،…) باعتبار أن ذلك يمس بسيادة الدول ووحدتها الترابية.

لكن خلال العقود الأخيرة، مع تصاعد المطالب الهوياتية، صار الحكم الذاتي موضوع طلب ليس فقط من قِبل الحركات القومية -باعتبارها تمثل جماعات «غير المنصهرين» إذا استعملنا تعبير إرنست غيلنر-قدَّم، بل حتى من السلطات المركزية في بعض الحالات (المغرب مثلا)، باعتباره يُقدِّم إجابات أو حلولا قانونية للإشكالات التي تثيرها المطالب الاجتماعية والسياسية ذات الخلفية القومية داخل هذه الدولة أو تلك.

وتشير العرقية في الأنثروبولوجيا الاجتماعية ببساطة إلى «جوانب العلاقات بين الجماعات التي تَعتبر نفسها، وتُعتَـبَـر من قِبل الآخرين، متمايزةً ثقافيا[2]». بينما تعد القومية، بتعبير إيرنست غيلنر، أساسا مبدأً سياسياً، والذي يقول أن على الوَحَدتـيْـن السياسية والقومية أن تتواءمان [أي تطابق السلطة السياسية مع الجماعة القومية التي تعيش في إقليم معين]. القومية كعاطفة أو كحركة، يمكن أن تُعرَّف بأحسن الأحوال في سياق هذا المبدأ. فالعاطفة القومية شعور بالغضب يُثار من خلال انتهاك هذا المبدأ، أو شعور بالقناعة يُثار من خلال تحقيقه. الحركة القومية تصبح واقعية من خلال عاطفة من هذا النوع. فهي، بإيجاز، نظرية للشرعنة السياسية، والتي تتطلب ألا تتقاطع الحدود العرقية عبر الحدود السياسية[3].

في ضوء هذه الخلفية النظرية، ستسعى هذه الدراسة لعرض وتحليل المقومات الاجتماعية والسياسية التي يقوم عليها الحكم الذاتي[4] من خلال مناقشة الإشكالية التالية: تحديد الظروف التي تنشأ فيها الحاجة إلى إقرار نظام للحكم الذاتي.  وسيتم ذلك انطلاقا طرح السؤال التالي:

على أن تنطلق الدراسة من الفرضية التالية: يبدو مستحيلا أن تُمكَّن كل جماعة عرقية ذات هوية قومية من إحداث دولة مستقلة خاصة بها. فهذا الأمر من شأنه أن يفتح الباب لاضطرابات سياسية لا حصر لها داخل الدولة متعددة الجماعات العرقية؛ بحيث قد تفضي هذه الاضرابات إلى وقوع صدامات مسلحة، والتي كثيرا ما يكون المتضرر الأكبر منها الجماعة المطالِبة بالانفصال نفسها. وبذلك، يكون الحكم الذاتي حلا وسطا بين طموح الاستقلال التام لدى القوميات ذات التوجه الانفصالي من جانب والعيش تحت هيمنة الأكثرية التي قد تجعل من تفوقها العددي ومسكها بزمام السلطة وسيلة للاستبعاد الاجتماعي و/أو الاضطهاد السياسي. ولذا، فإن الحكم الذاتي يضمن الاعتراف بالتعدد القومي ويوفر إطارا إداريا وسياسيا لممارسة الحقوق التي يقررها، بصورة لا تهدد استقرار وسيادة ووحدة تراب الدولة المعنية.

ومن تم وجَب تبيان المقومات الاجتماعية والسياسية لنظام الحكم الذاتي والتي تشكل في نفس الوقت سبب وجوده وطرحه كحل في أكثر من أزمة سياسية وطنية ودولية.

وسيجري تقسيم هذه الدراسة إلى مطلبين: في المطلب الأول، سيسعى الباحث إلى إظهار علاقة الحكم الذاتي بالجماعات القومية، بينما في المطلب الثاني، سيسعى إلى تحديد الشكل المجتمعي الذي يأخذه الحكم الذاتي في تطوره وتبلوره عمليا كإطار لاحتواء مشكل عدم التكامل القومي داخل الدولة الواحدة.

المطلب الأول: القوميات والحكم الذاتي

تُظهر الدراسات المقارنة الخاصة بالنظم السياسية أن الدولة هي شكل الحكم الوحيد الذي يُنكر بطريقة منهجية كل هوية خصوصية، فهي تتعالى عن الخصوصي، سواء كانت مصالح خاصة أو تكتلات جمعية، ومن هنا نزوع الدولة إلى الكونية. وفي النظرية السوسيولوجية، تتميز الدولة باستتباع الثقافات الفرعية من طرف ثقافة رئيسة منسجمة مدعَّمة بالسلطة المركزية. فالتوحيد الثقافي[5] وتعزيز التفاعل بين مختلف شبكات التعايش الاجتماعي شرط حيوي لفعالية وديمومة الإطار الدولتي. بينما يعد التعثر على هذا المستوى عاملا منذرا بالأزمة التي قد تصل إلى الانفجار. والدليل على ذلك تعدد حالات الأزمة الدولتية في سياق صعود التعبيرات الخصوصية ذات الطابع الاثني، القبلي، الديني…[6].

وإلى عهد قريب، كان بعض علماء السياسة[7] مقتنعا بأن مسلسل التحديث سيفضي إلى محو الخصوصيات الإثنية وتذويب المجموعات الأقلية من طرف المجموعة المهيمنة داخل كل دولة، وذلك بواسطة التعبئة البيداغوجية العمومية،بيد أن انتفاضة الأقليات القومية أثبتت العكس[8]. و مـثَّـــلَت مختلف أشكال الأنظمة السياسية ساحة لهذه التغيرات سواء في أوروبا، آسيا، إفريقيا و الأمريكيتين[9]. ففي أوروبا طَفت فجأة مسألة القوميات الانفصالية على السطح، وتكرَّست في بداية التسعينيات مع انهيار الاتحاد السوفياتي وباقي أنظمة المعسكر الشرقي، فأسفرت عن حروب في غاية العنف أحيانا. فلم يشفع التقدم الأوروبي على مستوى الاتصال حدوث انحسار كلي في الولاءات الجزئية داخل الدولة الواحدة. كما أن القارة الإفريقية عرفت منذ بداية التسعينيات أزمات مماثلة بعدد من مناطقها: البحيرات الكبرى، القرن الإفريقي…، حيث عبَّرت حقائق التوزيع الإثني والقبلي في هذه المناطق عن تحديها للحدود الموروثة عن الاستعمار[10].

في القرن العشرين، ثار نقاش كبير بين المفكرين والساسة حول أفضل السبل لحل المشاكل والصراعات التي تنشأ بين الدولة والجماعات الفرعية. وطُرحت مجموعة من الأطروحات. مثلا، رأى البعض، مثل يورغن هابرماس وبروس باري، أن شرعية الدول الحديثة يجب أن تقوم على فكرة الحقوق السياسية للأفراد كذوات مستقلة. ووفقا لهذا الرأي، لا ينبغي للدولة أن تعترف بالهوية الإثنية أو القومية أو العرقية، بل بدلا من ذلك، تطبِّق المساواة السياسية والقانونية بين جميع الأفراد. آخَرون، مثل تشارلز تايلور وَ وِيل كيمليكا، يجادلون بأن مفهوم الفرد المستقل هو في حد ذاته بناء ثقافي. ووفقا لهذا الرأي، يجب على الدول أن تعترف بالهوية الإثنية وأن تُطور العمليات التي يمكن من خلالها تلبية الاحتياجات الخاصة للجماعات الإثنية داخل حدود الدولة القومية[11].

هذا على المستوى الفكري والنظري، أما على المستوى الرسمي والعملي فيمكن التمييز، بين مجموعة من المواقف بخصوص الاعتراف بالتعدد القومي:

₪ الموقف الأول: الاعتراف بالتعدد القومي (أو الموقف المرن):

وهي حالة الدولة متعددة القوميات أو المجتمعات التعددية، والتي تعيش على قواعد دستورية جامعة ووفق تناغم قائم على الاعتراف بالآخر الشريك، اعتراف قانوني يرقى في عديد من الحالات إلى تقاسم السلطة على أساس قومي و/أو الاعتراف بتشكيل أحزاب سياسية وهيئات مدنية قائمة على الهوية الفرعية (عنصر، دين، مذهب، طائفة، لغة،…). الهوية الوطنية هنا هي هوية مركبة ومنفتحة على التفاعل والتطور، سياسيا وثقافيا.

فقد شهِدت دول أوروبا الوسطى على سبيل المثال، بعد انهيار النظام الشيوعي بها، انتظام الأقليات في أحزاب وحركات سياسية شاركت في الانتخابات، كـَ «حركة الحقوق والحريات» في بلغاريا (وهي من البلدان داخل الاتحاد الأوربي التي تعترف بالأحزاب الإثنية إلى جانب رومانيا)، التي تدافع عن مصالح الأقليات التركية والمسلمين وحقوقهم السياسية والمدنية. وتتوفر هذه الحركة على مقاعد في المجالس المنتخبة مما يمكِّنها من لعب دور الحَكَم في مسار المصادقة على إصلاحات جوهرية تهم البلد كله[12]. وهو الاتجاه الذي يسير فيه المغرب من خلال طرحه لمبادرة الحكم الذاتي كحل لقضية الصحراء[13]. فهذا الطرح هو  بمثابة اعتراف ضمني بالتعدد القومي، ورغبة الدولة المغربية في حل هذا المأزم السياسي في إطار حل سياسي وسط، يحفظ وحدة الدولة وسيادتها من جانب، ويُقر بخصوصية قومية وسياسية للصحراويين الجنوبيين من جانب آخر.

₪ الموقف الثاني: قمع القوميات الفرعية (أو الموقف الصلب)

يرسم هذا الموقف مسْلَكا صِداميا؛ حيث يضيف إلى عدم الاعتراف نَــهْجَ مقاربات عنيفة أخرى قد تصل إلى حد الاضطهاد العرقي (منع التحدث باللغة الخاصة، حظر الرموز الثقافية، عدم الترخيص للجمعيات الثقافية، ممارسات عنصرية تُكرس الدونية، إسقاط الجنسية، تهجير جماعي قسري، نفي جماعي قسري، اعتقال وتعذيب واغتيال القيادات المحلية، القتل الجماعي على أساس الهوية،…). ونضرب أمثلة على ذلك بحالة الفلبين قبل اتفاق «بانجسامورو»، وميانمار  والبحرين حاليا.

₪ الموقف الثالث: الاحتواء (أو الموقف الحاد)

حيت تعمل الدولة في هذه الحالة على احتكار، إلى جانب الرأسمال المادي وممارسة العنف الشرعي، الرأسمال الرمزي والثقافي (المصطلح لِــبْيِــيــر بورديو) في إطار مشروع بناء وتقوية الأمة ذات الهوية الوطنية الجامعة الحصرية حتى لو اقتضى ذلك عدم الاعتراف بمجموعة من الحقوق الخاصة بالعرقيات الفرعية التي غالبا ما تأخذ هنا شكل أقليات. فنحن على هذا الصعيد أمام توجهين بارزين: الاحتواء القائم على المساواة (ضمان حقوق المواطنة للجميع وإقرار الواجبات بالتساوي)، والاحتواء القائم على عدم المساواة (النقص النسبي في حقوق المواطنة، متمثلا في مظاهر عدة (لا ترقى إلى القمع والاضطهاد)، منها: الحرمان من بعض المناصب العليا/ واقع تنموي محلي أقل من المعدل الوطني/ تشديد شروط اتصال مواطني الدولة من عرق معين مع مواطني دولة مجاورة من نفس العرق، إلخ).

فسوريا، مثلا، تمثل، حتى قُبيل دخولها الحرب الأهلية، حالة بارزة لاحتواء كل التعابير العرقية داخلها. فباعتبارها دولة تقوم على القومية العربية، استطاعت أن تحتوي كل الاختلافات العرقية داخلها من خلال نظام سياسي يكرس سمو ووحدة القومية الوطنية وينبذ فكرة جعل القوميات الفرعية موضوعا لمطالب سياسية أو ثقافية خاصة. ولهذا، ظل يستبعد أي نقاش لتمتيع، على سبيل المثال، أكراد سوريا بنظام للحكم الذاتي في شمال سوريا، ويَمنَع تدريس التلاميذ ونشر الصحف باللغة الكردية، بل إن بعض الأكراد لم يتمتع بالجنسية السورية إلا عقِب المرسوم الرئاسي رقم 49 لسنة 2011، بتاريخ 7 أبريل 2011. وما زال النظام يرفض، على الأقل في العلن[14]، تمتيع كرد سوريا بنظام الحكم الذاتي بالرغم من سيطرتهم العسكرية، بمساعدةٍ عسكرية ميدانية ودعم لوجيستيكي ومالي من لدن الجيش الأمريكي وبعض القوى الإقليمية العربية، على الشريط الحدودي بين سوريا وتركيا الممتد من الأطراف الشرقية لحَلب إلى حدود القامشلي (وهي منطقة واسعة غرب نهر الفرات).

وفي فرنسا، تُدخل الدولة الأقليات، كالبريتونيين والبروفنسيين، تحت عنوان المواطنة والمواطنين حصرا، أي أنهم يصبحون فرنسيين بالمعنى الذي يسقطون معه لغاتهم وعلامات الحدود ويُعرفون أنفسهم كفرنسيين[15]. كما أن فرنسا، وعلى خلفية مبادئ ثورتها لسنة 1789، نجدها تحظر إجراء إحصاءات قائمة على الإثنية.

هكذا، يظهر تباين في المقاربات المعتمدة مع مسألة التعدد القومي من دولة إلى أخرى. وفي الوقت التي تصر الدول التي تنهج مسلكَيْ الاحتواء والقمع على رفض أي نقاش أو طرح نظام الحكم الذاتي على طاولة البحث أو التفاوض السياسي، تتجه عديد من الدول التي تُفضل مسلك الاعتراف إلى طرح وتبني نظام الحكم في إقليم أو أكثر داخلها.

ومما يؤكد ارتباط مفهوم الحكم الذاتي بمبدأ القوميات بشكل أكبر، ويُظهر بالتالي أسسه الاجتماعية والسياسية بشكل أوضح، هو التحديد الجغرافي لنظام الحكم الذاتي. فهذا الأخير يجري تحديد مجال تطبيقه الجغرافي على مستوى التراب الذي تقطنه القومية المعنية والتي تُشكل، في الغالب، أغلبيةً سكانية فيه. فالإقليم المتمتع بسلطات الحكم الذاتي إنما هو كذلك بالنظر لخصوصية ديمغرافيته. فهذا الحضور المتوازي للديمغرافية والجغرافية أساسي في هذا الشأن. فالجماعات العرقية أو القوميات إنما تصير كذلك بالنظر لاستمرار التواصل الجغرافي بين مكوناتها، وإلا لذابت في النسيج العام، ولتَحوَّلَت الهوية العرقية أو القومية إلى مجرد نثار هوياتي. ولذا نجد أن بعض الدول التي تسلك موقفا صلبا من القوميات الفرعية تلجأ إلى خيارات متشددة اتجاه الواقع الجيو-ديمغرافي لبعض الأقاليم، كنقل جزء من هذه الجماعات القومية الفرعية من إقليمها التاريخي إلى آخر داخل البلاد أو دفع القومية المركزية التي تمثل الأغلبية إلى الهجرة والاستقرار في الأقاليم التي تسكنها الأقليات القومية؛ بقَصد تغيير واقعها الديمغرافي وبالتالي التأثير في جيو-ديمغرافية البلد ككل مع ما لذلك من أبعاد سياسية وإدارية، وخاصة على مستوى تشتيت أو تقليص القوة السياسية للقوميات الفرعية.

غير أن المواقف الصلبة للدول لا تخلو من مخاطر؛ فبقدر ما تبدو حاسمة ويمكن تطبيقها بسرعة على المدى القصير، فإنها تبقى عالية المخاطر على المستوى الجيو-سياسي على المديين المتوسط والبعيد بالنسبة للدولة والجماعات القومية على السواء. وكذلك الأمر بالنسبة لبعض الخيارات القصوى كطلب تقرير المصير أو العمل السياسي والمسلح من أجل الاستقلال التام عن الدولة المركزية؛ فهو الآخر تكون له تكلفة عالية على الأطراف المعنية. ولهذه الأسباب زاد الطلب على نظام الحكم الذاتي، خاصة في ظل ميل النظام الدولي، المبني على الدولة واحترام الحدود القومية، إلى التحفظ على نزوع الجماعات القومية إلى الانفصال؛ وذلك لعدة اعتبارات تتعلق بالجيوسياسة والأمن الإقليمي واحتمالات اندلاع الحروب الأهلية والأثر السلبي لكل ذلك على سيادة الدول المجاورة والأمن الدولي. ولهذا شاهدنا كيف رفضت الدول المجاور للعراق (تركيا، إيران، سوريا) نتائج الاستفتاء الذي نظمته القوى السياسية الكردية في كردستان العراق، وكذلك رفضت جميع هيئات الاتحاد الأوروبي (المفوضية الأوروبية، البرلمان الأوروبي، رئاسة البرلمان الأوروبي) نتائج استفتاء انفصال كاتالونيا.

بل وهناك أطروحات أكاديمية تقيم رابطا بين تزايد عدد الدول وتزايد احتمالات الصدام فيما بينها (خاصة بين الدول الضعيفة منها)؛ وتُؤكد أن «الحرب لا تنبع اليوم من قوة الدول وإنما من ضعفها، باعتبار أن قضية الأمن الأولى اليوم ليست طموحات القوة، بل عطل الدول»[16]. وهذا ما تعكسه مجموعة من الأمثلة: إيريتريا[17]، جنوب السودان[18]، المغرب[19].

وقد عبر الأمين العام للأمم المتحدة الأسبق بطرس غالي عن هذا التطور المُقلق، المتمثل في استفحال ظاهرة الدول المجهرية، قائلا: «نعم لقد أظهرتُ تخوفاتي بخصوص نزعة القوميات التي تجتاح العالم، وإذا استمر هذا الاتجاه فسيصبح لدينا ما بين مائتين إلى ثلاثمائة دولة عضو (في الأمم المتحدة)…»[20].

فالانفصال التام لبعض القوميات عن الدولة المركزية لا يعني بدء سيرة جديدة من الرفاهية القومية. فغالبا ما تميل الأيديولوجيات القومية إلى إخفاء أو تجميد تحدياتها وتناقضاتها الداخلية خلال مرحلة المطالبة بالانفصال، لكن بمجرد حصول ذلك، يطفو “وحش” التناقضات الداخلية المؤجلة على سطح الدولة الوليدة. ولنا في جنوب السودان خير مثال: بمجرد ما نالت الدولة الوليدة الاستقلال – دولة جنوب السودان، انقسم إخوة الأمس على أنفسهم ودخلوا في حرب أهلية[21]. وكذلك انقسم الكاتالانيون خلال أجواء الاستفتاء على الانفصال إلى انفصاليين ووحدويين، وخرج كل طرف إلى الشارع، وتأثر سلبا النمو الاقتصادي في هذا الاقليم وحدثت صدامات أمنية. كما تعرضت كردستان العراق بُعيد إعلانها نتائج الاستفتاء المؤيدة للانفصال إلى حصار بري وجوي من لدن الدولة المركزية والدول الإقليمية المجاورة، بالإضافة إلى التباينات في المواقف التي برزت بين القوى السياسية الكردية نفسها.

ومنطقيا، وبالنظر لعدد الإثنيات والجماعة القومية في العالم والذي يقدر بالآلاف[22]، يبدو أنه يستحيل موضوعيا منح الاستقلال أو حق تقرير المصير لجميعها[23]، وإلا تحول النظام العالمي إلى فوضى عارمة أو على الأقل سيتعرض لتحولات جوهرية في بنيته وتنظيمه وإشكالاته وأزماته.

لكن ليصير نظام الحكم الذاتي بديلا فعليا عن المواقف الصلبة والخيارات القصوى، وبالتالي يُمسي أداة لتفعيل مسلك الاعتراف بالقوميات الفرعية، لابد من أن يكون مقبولا من لدن أطراف النزاع قبل كل شيء.

فإذا كانت بعض الجماعات العرقية أو الحركات القومية قد «سلَّمت بأن الحكم الذاتي يمثل أحد أشكال التعبير السياسي القومي، الذي يمكن عن طريقه تنمية التراث الحضاري والثقافي وقيام الجماعات القومية بإدارة شؤونها الداخلية في إقليمها القومي[24]» بلا حاجة إلى المطالبة بما هو أكبر من ذلك، فإن  بعض الجماعات الأخرى اختارت طريقا آخر. فالحركات القومية ليست واحدة؛ لذا نجد أن بعضها يرفض الاكتفاء بالحكم الذاتي ويرفض مبادرات الدولة المركزية بهذا الشأن ويتشبث بحق تقرير المصير – وهذا هو موقف حركة البوليساريو المدعومة إقليميا من الجزائر فيما يخص منطقة الصحراء اتجاه الدولة المغربية- أو بالانفصال التام –وهذا هو موقف الحركة القومية الكاتالانية اتجاه الدولة الإسبانية.

فقد ردت حركة البوليساريو على المبادرة المغربية، التي طَرحت الحكم الذاتي كأرضية لحل سياسي لنزاع عمَّر لحوالي 45 سنة، بمبادرة جديدة عقب شهر من ذلك، تدعو فيها إلى تنظيم «الاستفتاء مع ضمان مصالح المغرب في الصحراء»[25]، بينما بادرت الحركة القومية الكاتالانية إلى تنظيم استفتاء بشأن الانفصال من جانب واحد بتاريخ 21 ديسمبر 2017، الأمر الذي أدخل إسبانيا في أزمة سياسية كبيرة[26].

وفي الأخير، يجدر التذكير على أنه ليست جميع الجماعات العرقية سواء كانت مبنية على أساس العنصر أو الدين أو الطائفة أو اللغة أو الثقافة عموما تتحول، بالضرورة، إلى حركات قومية مطالبة بالانفصال أو بتقرير المصير أو بالحكم الذاتي. فليست جميع الدول ذات التعدد العرقي تنقسم على نفسها عموديا وسياسيا على أساس الهوية.

فالذي يُرجح النزوع إلى الوحدة أو  الرغبة في الانفصال يكمن في مدى تحقق التكامل القومي أو عدمه.

المطلب الثاني: عدم التكامل القومي

يهدف نظام الحكم الذاتي إلى رعاية مصالح جماعة قومية مميَّزة في بقعة جغرافية من إقليم الدولة؛ من خلال هَيئات محلية تتمتع بجزء من سلطات الدولة المركزية. وهذا النظام لا يأتي -على الأقل في الحالات المدروسة في هذه الدراسة- عن رغبة في ترشيد أساليب الحكم أو تعميق وتوسيع فكرة ديمقراطية الإدارة، وإنما تحت تأثير عوامل سياسية بحتة؛ أهمها الاستجابة لمطالب الجماعات القومية. إذ لا يُـتصور قيام نظام الحكم الذاتي في غياب مشكلة عدم التكامل القومي الناتج عن وجود قوميات متعددة داخل الدولة الواحدة.

فماذا يُقصد بعدم التكامل القومي؟

هو يعني، ببساطة، وجود خلل في أداء الدولة لوظيفتها الجامعة باعتبارها ممثلة للشعب، أو بمعنى آخر تعطُّل الشعور بالوطنية كرابطة جامعة وتعويضه بالانتماءات الفرعية لجماعات عرقية تطعن في نمط تقسيم السلطة أو الحقوق أو الخيرات العامة؛ الأمر الذي قد يصل إلى تهديد استقرار الدولة ووحدتها الترابية.

ولتفسير مصدر عدم التكامل القومي المذكور، أرجَع برتراند بادي ذلك إلى أزمة الدولة المستورَدة ذاتها التي لم تَقدِر على تعبئة الأفراد والموارد، الأمر الذي أنعَش فعاليات جماعية للتعويض. فمسألة ضعف الدولة تقود الفاعلين الاجتماعيين إلى البحث عن صيغ أخرى للهوية والولاء، باعتبار أن الفضاءات الاجتماعية لا تحتمل الفراغ. هذه الصيغ تتمثل في «هويات كلية» تستوعب مجموعة من الدول في قوالب إثنية، لغوية، دينية، إلخ (أكراد الشرق الأوسط مثلا) أو «هويات جزئية»: العشيرة، القبيلة، إلخ (الصحراويون الانفصاليون في المغرب مثلا)، الأمر الذي يهدد الهندسة التقليدية للدولة[27].

لكن يمكن الرد على هذا الطرح من خلال الإشارة إلى أن مشكل عدم التكامل القومي يمثل “داء” يطال حتى الدول التي تشكل مَهد الدولة الحديثة “غير المستورَدة” [إسبانيا، بلجيكا، إيطاليا،…] وليس فقط الدول المستوردة في إفريقيا وآسيا.

وعموما، ومن خلال استقراء مجموعة من الحالات في أكثر من دولة، يبدو أن مصدر عدم التكامل القومي يرجع إلى توليفة من الأسباب المتداخلة التي يغذي بعضها بعضا، فمنها التاريخي والحقوقي والثقافي والسياسي والاقتصادي والأمني والنفسي، وكذلك الداخلي والخارجي[28]، لكن الأمر المستجد بقوة في أواخر القرن العشرين ومطلع الألفية الثالثة هو ذلك الانفجار في المطالب الحقوقية والسياسية المرتبطة بالهوية الجماعية في ذاتها ضدا عن كل ما يهددها من خارجها، سواء كان هذا الخارج وطنيا (كالأيديولوجية القومية للدولة) أم دوليا (كالعولمة).

وقد كان بعض الخبراء في المستقبل وقضايا الهوية سباقين إلى التنبيه لعلاقة العامل الثقافي بالأمن ومستقبل الدول والصراعات في المستقبل[29]، ففي رده عن سؤال بشأن ملامح الصراعات في الألفية الثالثة، قال أحد هؤلاء الخبراء، المهدي المنجرة: «إن هذه الحروب الحضارية ستأخذ ملمَحا جديدا يتمثل في حرب حضارية داخل الحدود، وهي ليست فِتنة، بل دفاع عن كرامة الوجود داخل المجموعة، دفاع عن المقدسات وعن المعتقدات وعن الموروثات والمكتسبات والحقوق التي تشكل توليفةَ الشخص في حد ذاته، والأقليات المسلمة في المجتمعات غير المسلمة ستكون أكثر عرضة لهذه الحرب. ونلاحظها في الصين والهند (…) إذن فحروب الألفية الثالثة حروب حضارية داخل الحدود»[30]. ويجد هذا الرأي مصداقه بالإضافة إلى الحالتين المذكورتين آنفا، في دول أخرى، كالفلبين، بلجيكا، جنوب السودان قبل استقلال جنوبه، ميانمار، إفريقيا الوسطى، كشمير، تركيا، اليمن، إلخ.

ويرى رودولفو ستفنهاغن – وفي الواقع هو يضيف تأويلا اقتصاديا- في كتابه «المسألة الإثنية»، أن الفورة الإثنية لا ترجع إلى مقومات ثقافية ثابتة وصراعات قديمة فقط، بل تتغذى أساسا على الفوارق البنيوية في المجتمع، والاختلالات الناتجة عن علاقات الهيمنة والاستغلال الاقتصادي[31]. وهو رأي يحمل الكثير من الصواب؛ بلُحاظ أن المساواة الاجتماعية وتكافؤ الإمكانات المادية وحُسن توزيع الثروة بين مختلف فئات شعب دولة ما يعطي فرصا متساوية في الوجود والتعبير ويُلحِم الرابطة الوطنية بما يسمح من الحد من التناقضات الهوياتية ونزعات العنف والانفصال. ففي إفريقيا مثلا، ارتبط، وما يزال، الانفجار الهوياتي للدول بفشل مسلسل التنمية وبضعف أو غياب سياسات الهوية القائمة على الإنصاف (حالات: رواندا، بوروندي، الكونغو، السودان، إثيوبيا،…).

وعربيا، أرجع تقرير التنمية الإنسانية العربية لسنة 2001 مشكل عدم التكامل القومي وما يترتب عنه من انتهاكات تطال الجماعات أو الثقافات الفرعية في البلدان العربية إلى كل من القانون والإدارة وإلى الممارسات الاجتماعية المستقرة[32] (ليبيا، السودان، العراق، لبنان،…). ولاحقا، جاءت مرحلة «الربيع العربي»، انطلاقا من 2011، لتغذي التناقضات الهوياتية في شكل احتجاجات ومطالب سياسية واضطرابات وأعمال عنف دموية ودعوات للانفصال (البحرين، السعودية، سوريا، اليمن، ليبيا، العراق،…).

ومن زاوية نظر نفس-اجتماعية، يعتبر باسكال لوروت وفرانسوا توال، أن الخاصية المميزة للنزاع القائم على معطيات الهوية هو أنه يرتبط بالخوف الجماعي من الاندثار المادي أو السياسي أو الثقافي لمجموعة ما أمام هيمنة جماعة منافِسة. فمِن سيكولوجية التَّـــلَـبُّس الجماعي لوضعِ الضحية ينبع الاتجاه نحو العنف الإثني أو العرقي أو الديني داخل الدولة الواحدة[33]. هذا توصيف دقيق لواقعة غياب الثقة حينما يَسْـتـحوذ على الفكر  وعلى إدراك الآخر -المنافس، الخصم، العدو- (يمكن استنتاج هذا الأمر من حالات جنوب السودان، العراق، المغرب، كشمير،…).

ولا شك أن هناك علاقةُ تغذيةٍ متبادلة بين الفشل في تحقيق التكامل القومي (كمشكل سياسي في جوهره) والتعصب القومي (كمرض أو اضطراب سوسيو-نفسي)[34]؛ حيث إن عدم التكامل القومي يغذي إحساس الجماعة القومية الأَضعف بانتهاك حقوقها فيُوَلِّد عندها مظاهر التعصب القومي كشكل من أشكال المقاومة والدفاع عن الذات ضد الجماعة القومية الأقوى سياسيا ـــــــ وليس بالضرورة الأقوى عدديا[35][36]. كما أن التعصب للقومية الخاصة -سواء كانت قومية قوية أم ضعيفة- يقلص حجم الثقة والتسامح تجاه القوميات الأخرى، الأمر الذي يكرِّس حِدة مشكل عدم التكامل القومي.  فالعلاقة تبادلية.

وكما يرتبط مشكل عدم التكامل القومي بالسياسة والاقتصاد والحقوق والثقافة والاعتقاد والتمثلات، نجد له علاقة أيضا بالجغرافية. فقد يأخذ التعبير القومي في بعض الحالات طابعا محليا داخل إقليم الدولة الواحدة (حركة الباسك في إسبانيا مثلا)، كما قد يأخذ، في الحالات الأكثر تعقيدا، بعدا عبر-وطنيٍ يُغَطي مساحة أوسع تخترق الحدود الجغرافية-السياسية لأكثر من دولة واحدة (الجماعة القومية الكردية، مثلا، التي يمتد وجودها على مساحة واسعة تغطي مساحات داخل التراب الإقليمي لأكثر من دولة [في شمال العراق وجنوب تركيا وجنوب غرب إيران وشمال سوريا]. وبالتأكيد، فإن هذا الوضع الأخير، يزيد من تعقيد مشكل عدم التكامل القومي داخل الدُّول المعنية؛ حيث تصير الحدود الرسمية رخوةً بفعل الاتصال السياسي وتبادل المصالح – وفي حالات الأسلحة – بين الهيئات السياسية المحلية الممثلة للقومية المعنية، خاصة إذا كان ممثلو هذه القومية يتطلعون إلى بناء وطن موحَّد مستقل (نبقى في الحالة الكردية، لنعرض وقائع تخص هذا الموضوع، وهي: التأثير المتبادل بين أكراد سوريا وأكراد تركيا / التأثير المتبادل بين أكراد سوريا وأكراد العراق/ التأثير المتبادل بين أكراد العراق وأكراد إيران). ونتيجة لهذا التأثير المتبادل؛ الذي لا يتوقف عند قضايا الهوية الثقافية والتبادل الاقتصادي، وإنما يمتد إلى ما هو سياسي وعسكري؛ فإن مشكل عدم التكامل القومي قد لا يبقى مشكلا محصورا بين قومية محددة والدولة المركزية، بل قد يمتد إلى خلق مشاكل ديبلوماسية وأمنية بين الدول الجارة (نبقى في نفس الحالة، ونذْكر دخول قوات من الجيش التركي الأراضي السورية وتصادمها العسكري مع وحدات عسكرية كردية في مدينة عفرين وتهديدها المستمر بمتابعة هذه الوحدات في شرق الفرات بدعوى تهديدها لسلامة ووحدة الأراضي التركية وهو ما تعتبره سوريا تدخلا عسكريا مخالفا للقانون الدولي واحتلالا لأراض سورية/ دخول قوات من الجيش التركي الأراضي العراقية وإقامتها منطقة عسكرية بدون موافقة الحكومة العرقية؛ بدعوى مُلاحقة ومنع وحدات عسكرية كردية من التخطيط لعمليات عسكرية داخل تركيا انطلاقا من العراق).

وهكذا، وبسبب الإشكالات الكبيرة التي يثيرها عدم التكامل القومي في طريق التطور الطبيعي للدول وديمومة وحدتها الترابية، يُطرح الحكم الذاتي كوسيلة لتجاوز هذه الإشكالات. وفي هذا الشأن يؤكد بالازولي، بالنسبة للدول التي تشهد هذا المشكل، أن خلق التكامل الوطني يتطلب إيجاد صيغة للوفاق، وهذه الصيغة تكون في السماح بالحكم الذاتي، ومنع الاتجاهات الانفصالية[37].

لذا كان لمشكل عدم التكامل القومي الذي برز في السودان في علاقته بجنوب البلاد – قبل استقلال هذا الأخير- أثره في اتجاه الحكومات السودانية المتتالية نحو تطبيق شكل من أشكال الحكم الذاتي على الإقليم الجنوبي بالسودان الذي يسجل اختلافا مهما من حيث العنصر واللغة والدين عن الإقليم الشمالي[38]. كما أن إسبانيا، بُعَيد انتهاء حكم فرانكو المركزي، وبسبب حضور النزعة الانفصالية لدى بعض الأقاليم من جهة، والتفاوت الصارخ بين الأقاليم الشمالية والجنوبية على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، أخذت بنظام الحكم الذاتي أو ما يسمى في أدبيات الفقه الاسباني بدولة المجموعات المستقلة، وذلك بموجب دستور 1978[39].

وتوجد تطبيقات أخرى عديدة لنظام الحكم الذاتي في الجهات الأربع للأرض، تم اللجوء إليها، بشكل عام، من قبل دول عديدة للخروج من عنق زجاجة الأزمات الناتجة عن عدم التكامل القومي. لكن من دون أن يعني ذلك أن الحكم الذاتي كان حلا ناجزا بالنسبة لمعظم هذه الحالات. ففي حالات معينة، ولَّد هو نفسه مشاكل وأزمات  جديدة (العراق، جنوب السودان، إسبانيا، كشمير،…).

الخاتمة:

إن مشكل عدم التكامل القومي، وما ينتج عنه من نزاعات سياسية وعسكرية، سيبقى هاجسا مقلقا للدول التي تعاني منه. فهو يشكل تهديدا لاستقرار واستمرارية عدد كبير من هذه الدول لاسيما وأنه يشكل موضوع استثمار سياسي واستراتيجي من لدن القوى الإقليمية ذات المصلحة في إضعاف تلك الدول. والحكم الذاتي، باعتباره صيغة لحل مشكل عدم التكامل القومي الناتج عن التفاعل غير السوي بين القوميات، من شأنه أن يقدم بعض الإجابات عن إشكال اجتماعي وسياسي صعب قد يودي بالدول إلى حافة التفكك أو الاضطراب السياسي أو الاضطهاد العرقي.

فالانفجار الهوياتي الذي يشهده العالم، والذي زاد استفحالا مع صعود قوى اليمين المتطرف، لم يترك للدول إلا هامش مناورة قليل في تعاطيها مع الجماعات القومية، خاصة تلك المقاوِمة للاندماج، والتي كثيرا ما تتوفر على عناصر قوة من شأنها زعزعة ليس وحدة الدولة فحسب، بل حتى أمنها الوطني وموقعها الجيوسياسي على المدى الطويل.

لقد أظهرت سياسات الاضطهاد العرقي و/أو الاستبعاد الاجتماعي و/أو الهيمنة السياسية فشلها في لجم طموحات الجماعات القومية ذات النزعات الاستقلالية أو الانفصالية وترشيد خياراتها المتطرفة (السودان، الفلبين، العراق، الهند،…) خاصة في ظل التدخل الأجنبي الذي يغذي هذه النزوعات بما يخدم مصالحه (سوريا، إيران، المغرب،…). بل ونشهد اليوم جيلا جديدا من هذا النزوع للانفصال لا يرتكز على إحساس بالاستضعاف أو الدونية القومية، بل على ما أقترح تسميته ب«الرغبة في احتكار الرفاه» من خلال حصر استغلال الموارد والخيرات الاقتصادية والعوائد المالية على سكان إقليم دون غيره من أقاليم دولة معينها (إسبانيا: توجه كاتالوني نحو الانفصال استنادا إلى حجج كثيرة، أهمها أن الإقليم يضطر إلى تمويل ميزانيات المحافظات الفقيرة بأموال ضرائبه الخاصة [تساهم كاتالونيا بـ 20% من الناتج المحلي الإسباني]/  إيطاليا: توجه استقلالي لدى ناخبـي محافظَـــتَـــي بينيتو ولومبارديا تحت قيادة حزب رابطة الشمال ذي الخيارات الانفصالية، وذلك لأسباب اقتصادية مشابهة [تساهمان وحدهما بـ30 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي الإيطالي]). وهذا بحق ما يعتبره الباحث جيلا جديدا من مشاكل عدم التكامل القومي والتي قد تتطور إلى مطالبات بتطبيق الحكم الذاتي أو بتوسيعه أو بالانفصال رأس. وأظهرت حالات أخرى امتداد مشكل عدم التكامل القومي إلى مرحلة ما قبل الاستقلال، أي مرحلة الاستعمار (حالتا المغرب مع الاستعمار الإسباني للصحراء ورواندا مع الاحتلال البلجيكي).

وإذا كان الحكم الذاتي يُقدَّم من أحد أطراف النزاع أو من كلاهما أو من بعض هيئات النظام الدولي (كالأمم المتحدة) أو من بعض القوى الدولية كحل لبعض المآزق السوسيو-سياسية في هذه الدولة أو تلك،  فالذي يتعين الإشارة إليه هو أن هذا النظام، كما بين الباحث في دراسة سابقة له[40]، ليس بالعصا السحرية التي تحُل العُقد؛ لأنه يكون دائما مطالبا بإيجاد توازن دقيق بين الوحدة والتنوع، وفي حالات تكون هذه المهمة كمهمة الجمع بين النقيضين! وذلك لأن الوحدة تفترض توحيد القوانين والمؤسسات والأهداف، بينما يتطلب التنوع تعدد القوانين والمؤسسات والأهداف. ويزداد الأمر صعوبة كلما كنا أمام دولة متشبعة بالتقاليد البيروقراطية أو أمام جماعات قومية ذات قيادة مسلحة لا تقبل بأنصاف الحلول.

لكن إطلاق مسلسل التفاوض بِقصد أرضية تَـــبَنِّـــــي/تطبيق نظام الحكم الذاتي أو توسيعه بين أطراف النزاع على أنهم يسعون وراء التسويات السياسية (إذا افترضنا حسن النية)، وهي خطوة ضرورية لتهييء المناخ الضروري للثقة وإرادة خَلق وِحدة في التنوع. بيد أن الحكم الذاتي كنظام سياسي-قانوني لامركزي أكثر تعقيدا، بالتأكيد، من نظام التدبير اللامركزي الإداري الموحد. وبالتالي ضرورة الحاجة إلى تغيير النموذج الإرشادي (باراديغم) الذي يحصر تأطير اللامركزية في مجرد إصدار وتنفيذ تسانة من القوانين البسيطة والموحَّدة، والبدء بتغيير الثقافة السياسية ونمط الدولة المركزية؛ من خلال الاعتراف بالحقوق والخصوصيات المحلية وتبيِئة الحلول الإدارية والسياسية. أكثر من هذا، إن قبول تطبيق صيغة معينة لنظام الحكم الذاتي من لدن الأطراف ليس نهاية المطاف، بل هو إيذان لبروز مشاكل جديدة في مرحلة التنزيل؛ فمسلسل تاريخي من مشاكل عدم التكامل القومي لا يتوقف بمجرد التوقيع على اتفاق سياسي يمنح الحكم الذاتي بين المركز والإقليم، بل إن الأمر يحتاج إلى مسلسل طويل أيضا من إرساء القوانين التنفيذية وإنضاج المؤسسات وتقريب الأهداف والتسويات البعدية والانفتاح وإعادة تشكيل مفهوم الهوية الخاصة ذاته وطنيا ومحليا.


[1] – مفهوم العرق هنا مأخوذ بمعناه الواسع- وليس بمعنى العنصر (La race). وهو ما سيتم عرض تعريفه بتفصيل لاحقا.

[2] – تعريف تشامبان وآخرون، مذكور في: توماس هايلاند إيركسن، العرقية والقومية: وجهات نظر أنتروبولوجية، ترجمة: لاهاي عبد الحسين، عالم المعرفة، ع: 393، 2012، ص: 13.

[3] – هذا التعريف مذكور في نفس المصدر أعلاه، ص: 152. تعليقا على هذا التعريف، يقول توماس هايلاند إيركسن: «القومية، وفقا لوجهة النظر هذه، هي الأيديولوجيات العرقية التي تقول إن جماعتهم ينبغي أن تهيمن على الدولة. الدولة القومية إذن، دولة مهيمَن عليها من قبل جماعة عرقية، ممن تتجسد معالم الهوية فيها (مثل اللغة أو الدين) في الأغلب برموزها وتشريعاتها الرسمية. هناك نزعة نحو توحيد واستيعاب المواطنين، على الرغم من أن غيلنر يسلم بأن الأمم قد تضم أناسا «غير منصهرين»، ممن يسميهم «جماعات مقاومة للاندماج». ن. م. ص ص: 152-153.

[4] – سيُخصِّص الباحث دراسة مستقلة لبحث المقومات القانونية والمؤسساتية التي يرتكز عليها هذا نظام.

[5] – في المغرب هناك تعبير عامي يعكس هذا المفهوم وهو «التَّمغرابيت»، باعتبارها تشكل هوية جامعة. وقد طُرحت هذه المسألة في بعض الدول بصيغ أخرى؛ ففي فرنسا مثلا، وأثناء مناقشة مسألة حظر الحجاب في المدارس، طَرَح النقاش العمومي سؤال «من هو الفرنسي؟»، بمعنى ما هو الحد الأدنى المطلوب تحقيقه في كل مواطن حتى نضمن وحدة الهوية الفرنسية.

[6] –  نزار الفراوي، العولمة وأزمة الدولة الوطنية، سلسلة المعرفة للجميع، منشورات رمسيس، العدد 31، 2005، ص ص: 57 و58.

[7] –  يَذكر نزار الفراوي كارل دوتش Karl deutshe من بينهم. بينما فَـنَّـدَ توماس هايلاند إيريكسن بعض آراء ماكس ڨيبر بهذا الخصوص أيضا. وهو ما سنعود إليه لاحقا.

[8] – يؤكد توماس هايلاند إيركسن هذا الأمر، بالقول أن ظاهرتي العرقية والقومية أصبحت منظورة في عديد من المجتمعات بحيث صار من المستحيل تجاهلها. الأمر الذي فنَّد تحليلات بعض علماء الاجتماع – ومنها تحليلات ماكس فيبر – في النصف الأول من القرن العشرين والتي قدَّرت أن ما سمَّته بـ “الظواهر البدائية” مثل العرقية والقومية ستتنازل في الأهمية وبالنهاية تنمحي نتيجة الحداثة والتصنيع والفردانية. فقد تنامت القومية وأشكال أخرى لسياسات الهوية من حيث الأهمية السياسية في العالم بعد الحرب العالمية الثانية ولا تزال مستمرة في القرن الحادي والعشرين. فقد كانت الحرب والنزاعات المسلحة الأخرى في التسعينيات والألفية الثالثة نزاعات داخلية بصورة نموذجية، والعديد منها – من سريلانكا وفيجي إلى رواندا والكونغو والبوسنة – يمكن أن توصف بدرجة معقولة كنزاعات عرقية. حتى إن نظرية مؤثرة للنزاع الجغرافي السياسي بعد الحرب الباردة ادعت أن نزاعات المستقبل ستأخذ مكانها بدرجة كبيرة في خطوط التماس بين الثقافات (نظرية صراع الحضارات لصموئيل هينتغتون). القومية والعرقية: م. س. ص: 9. ويمكن ذكر أيضا تحليلات المهدي المنجرة التي أكدت على العامل الثقافي والهوية في السياسات العمومية والنزاعات الداخلية والدولية. أنظر مثلا مؤلَّفيه: «الحرب الحضارية الأولى» (الدار البيضاء، 1991) و«قيمة القيم» (الدار البيضاء، 2007).

[9] – جمهوريات وملكيات، ديمقراطيات وسلطويات، دول موحدة وفيدرالية، متقدمة ونامية،…

[10] –  العولمة وأزمة الدولة الوطنية، م. س، ص ص: 61 – 64،.

[11] – «مجموعة إثنية»، موسوعة ويكيبيديا، بتاريخ 13-3-2019. على الرابط:

ar.wikipedia.org/wiki/مجموعة_إثنية

[12] – رحال بوبريك، الأقليات الإثنية  في زمن الانتقال الديمقراطي، مركز الجزيرة للدراسات، 14 فبراير 2013، على الرابط التالي (شوهد في: 13-3-2019):

http://studies.aljazeera.net/ar/files/arabworlddemocracy/2013/01/2013124122841440101.html

[13] – قدم المغرب مبادرة تقضي بمنح الصحراويين حكما ذاتيا، «سيتولى (استنادا عليه) سكان الصحراء، وبشكل ديمقراطي، تدبير شؤونهم بأنفسهم من خلال هيئات تشريعية وتنفيذية وقضائية».

[14] – في عديد من تصريحات وزير الخارجية السوري، وليد المعلم.

[15] – توماس هايلاند إيريكسن، القومية والعرقية، م. س. ص: 188.

[16] – التعبير لـِ دلماس فليب (Delmas phillipe)، مذكور في: محمد بوبوش، قضية الصحراء ومفهوم الحكم الذاتي، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في العلاقات الدولية – جامعة محمد الخامس، أكدال – الرباط، السنة الجامعية 2003-2004، ص 39.

[17] – بعد سنين فقط من استقلالها في سنة 1993، سيطرت إريتريا على جزر خيش اليمنية، وفي 1999 شنت حربا ضد أثيوبيا.

[18] – سرعان ما تحول حصول دولة جنوب السودان على استقلالها  إلى، أولا، حرب أهلية داخلية ذات أبعاد إقليمية، ثم، ثانيا، إلى مشاكل متنوعة (أمنية، اجتماعية، اقتصادية) بالنسبة لجيرانها.

[19] – تحول الإعلان، من تندوف، عن قيام الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية سنة 1976 إلى تكثيف العمليات العسكرية من لدن جبهة البوليساريو، انطلاقا، على وجه الخصوص، من سنة 1978 وإلى نهاية الثمانينات، الأمر الذي أدى إلى ردود فعل عسكرية من لدن المغرب وإلى تشييد  جدار أمني بالموازاة مع خط الحدود الجنوبية مع الجزائر بطول يقدر بـ 2500 كيلومترا. ورَدَت بعض تفاصيل هذا الشأن في البرنامج التلفزي الجيو-سياسي Le dessous des cartes، تحت عنوان: «Sahara : conflit ensablé»، على قناة ARTE في يونيو 2018، الرابط ( شوهد في 14 يونيو 2019):

www.youtube.com/watch?v=Ly5FpZbDRis

[20] – من حوار أجري معه، مذكور في محمد بوبوش، قضية الصحراء ومفهوم الحكم الذاتي، مصدر سابق، ص: 40 (الهامش).

[21] – طرفا النزاع الرئيسان: الحركة الشعبية لتحرير السودان (الحكومة) من جانب، وفصيل الحركة الشعبية لتحرير السودان المعارض المنشق و حركة تحرير جنوب السودان وجيش النوير الأبيض (المعارضة) من جانب آخر، بالإضافة إلى قوى مسلحة أخرى صغيرة وكذلك قوى إقليمية مجاورة منخرطة في هذا النزاع.

[22] – تشير إحصاءات الأمم المتحدة إلى وجود ما يزيد عن 5000 إثنية.

بينما يشير تقرير حالة الشعوب الأصلية الصادر عن الأمم المتحدة إلى وجود 7000 لغة في العالم، 4000 لغة منها تتحدث بها الشعوب الأصلية. للتفصيل أكثر، أنظر:

State of the World’s Indigenous Peoples, First Volume, United Nations, 2009

على الرابط (شوهد في: 7 غشت 2019):

www.un.org/development/desa/indigenouspeoples/publications/2009/09/state-of-the-worlds-indigenous-peoples-first-volume/

[23] – لنأخذ دولة ساحل العاج (كوديفوار) مثلا: إثنيا، يتكون هذا البلد من 65 مجموعة إثنية، وإذا قسمناها أفقيا بناء على أساس اللغة المتحدَّث بها، فهناك 4 مجموعات لغوية: مجموعة مونْدِي، مجموعة كْرُو، مجموعة ڭـُــورْ، مجموعة أكَان. وهي تتمركز في مناطق جغرافية محددة. هكذا، يبدو أن الانقسامات في جميع الأحوال تكون مهدِّدة لوحدة الدولة وسيادتها إذا ما جرى تقسيم البلد على أساس إثني أو لغوي أو ديني أو غيره. أنظر إحصاءات مفصلة بخصوص حالة ساحل العاجل بهذا الشأن في تقرير إحصائي على موقع Institut numérique يحمل عنوان Les groupes ethnique au Côte d’Ivoire، على الرابط التالي (شوهد في 7 غشت 2019):

www.institut-numerique.org/213-les-groupes-ethniques65-5061bdeb096c3

وكذلك بالنسبة للصين، التي تعيش بها أزيد من 55 مجموعة إثنية معترف بها رسميا، 18 منها يزيد عدد أفرادها عن مليون فرد (مثلا: إثنية الزوهانغ تبلغ 16.2 مليون نسمة)، كما أن بعض الأعراق تطالب فعليا بالانفصال أو توسيع الحكم الذاتي (الويغور، التيبيتيين،…). للتفصيل في خريطة الصين الإثنية، أنظر:

Philippe Rekacewicz, Chine : une mosaïque d’ethnies, Février 2006, sur le lien suivant (Vu le 10-8-2019) : www.monde-diplomatique.fr/cartes/chineethnies

ونفس الشيء يمكن أن نقوله بشأن لبنان: 95% عرب، 4% أرمن، 1% قوميات أخرى
الديانات: 54% مسلمون (وهم طوائف متنوعة: سنة وشيعة، علويون)، 40.5% مسيحيون (وهم طوائف أيضا: مارونيون، يونان أرثوذكس، يونان كاثوليك)، 5.6% دروز، فضلا عن ديانات أخرى مثل اليهودية والبوذية والهندوسية والمورمونية. عن موسوعة الجزيرة، 30-10-2014، على الرابط التالي (شوهد في: 15-8-2019):

https://www.aljazeera.net/encyclopedia/countries/2014/10/30/%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86

[24] – محمد الهماوندي، الحكم الذاتي والنظم اللامركزية الإدارية والسياسية (دراسة نظرية مقارنة)، دار المستقبل العربي – القاهرة 1990، الطبعة الأولى. ص 145.

[25] – ظل الموقف الدولي بالنسبة لقضية الصحراء متباينا، بين مرحبٍ بمبادرة المغرب للحكم الذاتي بصورة واضحة (معظم الدول العربية)، ومعبِّر عن موقف يشوبه الغموض أو التلميح غير الصريح (الموقف الأممي). أما موقف الدول الإفريقية فهو منقسم بهذا الشأن، بحسب درجة القرب والبعد الديبلوماسي من كل من المغرب والجزائر.

فقد حظيت المبادرة المغربية للحكم الذاتي بترحيب كبير من لدن الدول العربية باستثناءا الجزائر. حيث تؤكد الأغلبية الساحقة في الجامعة العربية عن دعم وحدة التراب المغربي وسيادة البلاد واعتبار الحكم الذاتي حلا سياسيا يتماشى مع حق تقرير المصير وقرارات الأمم المتحدة ويضمن مصالح الأطراف. وبخصوص الموقف الأممي، أنظر مثلا القرار الأممي 2351 المتعلق بقضية الصحراء، الصادر في الثلاثاء 2 مايو 2017، الذي دعا الطرفين إلى «العمل نحو حل سياسي مقبول من الطرفين، ينص على تقرير المصير لشعب الصحراء في سياق ترتيبات تتماشى مع مبادئ ومقاصد ميثاق الأمم المتحدة، ويقدم مسارا واضحا للمضي قدما «. وبعد استقالة جيمس بيكر مبعوث الأمم المتحدة الأسبق الى الصحراء سنة 2003، صرح بأن استقالته كانت تعبيرا عن اقتناعه بأن الأطراف الإقليمية ليست مستعدة لتطبيق الحل، كما أن القوى الدولية ليست مستعدة لفرض تطبيقه، مذكور في: القرار 2440 من تطبيق الحل إلى البحث عن حل، محمود الركيبي، 6 نوفمبر 2016، على موقع: Sahara question (01-03-2019)ـ على الرابط:

https://sahara-question.com/ar/opinions/18065

[26] – فيما يخص موقف مؤسسات ومسؤولي الاتحاد الأوروبي من هذه الانتخابات، أعلنت المفوضية الأوروبية بتاريخ 22 ديسمبر2017 أن الانتخابات التي جرت في كاتالونيا وفاز فيها الانفصاليون بالأغلبية المطلقة من مقاعد برلمان الإقليم الإسباني لن تُغيّر موقف الاتحاد من المسألة الكاتالونية. عن تقرير إخباري تحت عنوان «موقف الاتحاد الأوروبي لن يتغير رغم فوز انفصاليي كاتالونيا»، 22 دجنبر 2017، على موقع القناة الألمانية dw (شوهد في 25 – 2 – 2019):

a- موقف-الاتحاد-الأوروبي-لن-يتغير-رغم-فوز-انفصاليي-كاتالونيا/ 41899976 /dw.com/ar

وأعلن رئيس البرلمان الأوروبي، أنطونيو تاغاني، في بيان بتاريخ 22 ديسمبر 2017، أن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي (28 دولة) لن تعترف باستقلال كاتالونيا.‎ فيما قال رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، في تصريحات للصحفيين، أن «الاتحاد الأوروبي يرغب في تفادي الانقسامات، لأن لديه ما يكفي من الانقسامات والتصدعات ولا يحتاج إلى المزيد «. كما عبَّر رئيس المجلس الأوروبي، دونالد توسك، عن رفضه لإعلان الانفصال، قائلا إن ذلك الإعلان لن يغير شيئا بالنسبة للاتحاد الأوروبي، وإن الاتحاد سيتعامل فقط مع الحكومة المركزية الإسبانية. كما قال الأمين العام للمجلس الأوروبي، ثوربيورن ياغلاند، في نفس التاريخ، في تصريح له، إن «إعلان برلمان إقليم كاتالونيا الانفصال عن إسبانيا يحمل معنى معارضة النظام الدستوري«. تقرير إخباري تحت عنوان «ردود الفعل الدولية رافضة لإعلان استقلال كاتالونيا»، 29 أكتوبر 2017، عن موقع عرب 48 (شوهد في  28-2-2019). على الرابط:

arab48.com/أخبار-عربية-ودولية/أخبار-دولية/2017/10/29/-ردود-الأفعال-الدولية-رافضة-لإعلان-استقلال-كاتالونيا

[27] – نزار الفراوي، م. س، ص 61، وهذا الأخير يشارك برتراند بادي في تفسيره هذا. وهما يقصدان بالدول المستورَدَة، الدول التي أخذت نموذج الدولة الوطنية الحديثة من النموذج الغربي المرتبط بمرجعيات الغرب الفلسفية والسياسية والقانونية وبسياقه السوسيو-ثقافي الخاص. وأشير هنا أن المثالين في هذا الاقتباس تم وضعهما من قِبلي.

[28] – في إفريقيا مثلا -وهو ما سنعود إليه بتفصيل لاحقا- فإن النزاعات القومية المتعددة التي تمزق دول ومواطني القارة تُنسَب في عديد من الحالات إلى استراتيجيات القوى الاستعمارية. فسياسة «فرِّق تسد»، والتلاعب بالتوازنات القبلية بهدف تدعيم السيطرة من لدن البريطانيين والفرنسيين والبلجيكيين، أفضيا في إطار الدولة الشمولية بعد الاستقلال إلى أن تصبح القبيلة المستند الأول للسلطة السياسية وأودت بالتالي إلى انتهاكات جسيمة ضد الأقليات، نزار الفراوي، ص 63، ن. م. أهم مثال -وربما الأسوأ-  يمكن أن يقدمه الباحث على هذا الصعيد، المثال الرواندي وحربه الأهلية الدامية. فانطلاقا من 7 أبريل 1994، قامت عرقية الهوتو (الأغلبية) بمهاجمة وذبح حوالي 800.000 فرد من عرقية التوتسي (الأقلية) في مدة 100 يوم. وهناك أمثلة أخرى كان للقوى الإقليمية والدولية تأثير سلبي فيها (الكونغو الديمقراطية، جنوب السودان،…). وتوجد حالات عديدة أخرى من خارج إفريقيا تأثرت بالتدخلات الإقليمية والدولية (سوريا، يوغوسلافيا، العراق،…).

[29] – يمكن الإشارة هنا إلى بعض خبراء نادي روما، جيمس و. بوتكين، المهدي المنجرة وَميرسيا ماليتزا، الذين نشروا تقريرا سنة 1979 أشار إلى هذه المسألة، وهو تقرير «No Limits to Learning: Bridging the Human Gap»، ترجم إلى العربية بعنوان: «من المهد إلى اللحد»، ونُشر في كل من الدار البيضاء والقاهرة (1981).

[30] – المهدي المنجرة، عولمة العولمة: من أجل التنوع الحضاري، سلسلة منشورات الزمن، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء- سبتمبر 2000، ص 53. وفي هذا الصدد، قَدَّر غسان سلامة أنه حوالي 30 نزاعا مسلحا أخذت طابع الصراع الأهلي، حدثت في أواخر القرن 20، تحكمت فيها غالبا عوامل إثنية، قبلية، دينية. مذكور في: نزار الفراوي، م. س. ص 76.

ويجدر التذكير أن الخبير الأمريكي صاموئيل هينتنغتون هو الآخر، أعطى للهوية والعامل الثقافي أهمية كبيرة في تحليلاته بشأن الصراعات على الصعيد الدولي بعد نهاية مرحلة الحرب الباردة القائمة على أساس الانقسام الأيديولوجي بين المعسكرين الشرقي الإشتراكي والغربي الليبرالي. وقد ضمَّن أفكاره هذه في أطروحته «صدام الحضارات». ومع الأزمة الاقتصادية العالمية التي انطلقت منذ سنة 2008، برزت للوجود مجموعة من الحركات القومية، كثير منها متشدد (فرنسا، ألمانيا، النمسا، هولندا، إيطاليا،…).

[31] – نزار الفراوي، ص 65، م. س.

[32] – تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2004، نحو الحرية في الوطن العربي، مجلس الأمم المتحدة الإنمائي، ص: 86.

[33] – نزار الفراوي، م. س، ص 76.

[34] – يُعرِّف روبرت براون التعصب بأنه التمسك باتجاهات تتسم بالازدراء، أو معتقدات معرفية أو أسلوب له أثر سلبي، أو إظهار سلوك عدواني أو تمييزي ضد أعضاء جماعات بسبب عضويتهم في هذه الجماعات. مذكور في: أحمد زايد، سيكولوجية العلاقات بين الجماعات: قضايا في الهوية الاجتماعية وتصنيف الذات، عالم المعرفة، ع: 326، 2006، ص: 73. وفي الواقع، هناك عديد من نظريات علم النفس-الاجتماعي التي سعت إلى تفسير أسباب تعصب الجماعات. لعل أهمها:

نظرية الصراع الواقعي: التي تُركز على المنافسة على المصادر النادرة وعدم العدالة في توزيعها.

نظرية الحرمان النسبي: تذهب إلى أن المشاعر الوجدانية للوجود المليء بالحرمان تكون مصدرا للعداء بين الجماعات؛ حيث يرجع هذا الشعور إلى التعارض بين أهداف الجماعة الفعلية (وضعُها في الحياة) وتوقعاتها (الوضع التي تعتقد أنها تستحق).

نظرية التعلم الاجتماعي: أي أن التعصب يتم تعلمه من أشخاص متعصبين.

نظرية نسق المعتقد: والتي تفترض أن التماثل في مجموعة من المعتقدات (قيم، معايير، أهداف،…) هو الذي من شأنه خلق هوية مشتركة لدى الأشخاص الذين يحملونها، وهو ما يحدد اتجاهاتهم السلوكية اتجاه جماعة أخرى.

ولتفاصيل أكثر بهذا الشأن، أنظر: أحمد زايد، سيكولوجية العلاقات بين الجماعات..، م. س.  ص ص: 93- 120.

[35] – اضطَهدت القومية الأقلية البيضاء في جنوب إفريقيا القومية السوداء. كما أّن القومية الصهيونية الأقلية دخلت في مسلسل مُتَدرج لاضطهاد القومية العربية الأكثر عددا.

[36] – بخصوص مفهوم الأقلية، يمكن تقديم تعريف صادر عن اللجنة الفرعية لمحاربة التمييز وحماية الأقليات التابعة للأمم المتحدة، وهو تعريف مفاده أن مجموعات أشخاص يمكن وصفهم بأقلية حين تتوفر أربعة شروط، وهي: 1) ضعف عددي مقارنة بالعدد الإجمالي للسكان، 2) وضعية غير مهيمِنة داخل الدولة، 3) ميزات إثنية ولغوية ودينية مشتركة، 4) المواطنة في دولة الإقامة.

مذكور في رحال بوبريك، الأقليات الإثنية في زمن الانتقال الديمقراطي، م. إ. س.

[37] – مذكور في محمد الهماوندي، الحكم الذاتي والنظم اللامركزية الإدارية والسياسية، م. س، ص 122.

[38] – ن. م. ص 108.

[39] -محمد بوبوش، قضية الصحراء ومفهوم الاستقلال الذاتي، م. س. ص ص: 159-160. وقد استطاع هذا الدستور أن يقلص من المركزية الشديدة للنظام بإحداثه 17 مركزا جديدا متمتعا بسلطات محلية واسعة.

[40] – الحكم الذاتي: مفهوم إشكالي ومسالك ملتبسة، مجلة المنارة، عدد خاص، 2019.

Exit mobile version