العوامل المؤثرة في قيام المسؤولية الجنائية

العوامل المؤثرة في قيام المسؤولية الجنائية

منير الصغير

باحث بسلك الدكتوراه في القانون الخاص

بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال

الملخص:

نظم المشرع المغربي العوامل المؤثرة في قيام المسؤولية الجنائية مثله مثل جل التشريعات التي دأبت هي الأخرى إلى تنظيم هذه العوامل تماشيا مع مبدأ الشرعية الجنائية الذي يقتضي أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، لكن ما يلاحظ على المشرع في نظرنا أنه لم يحدد الضوابط والمعايير المعتمدة لأعمال هذه العوامل، وترك بذلك للقضاء سلطة واسعة للأخذ أو عدم الأخذ بهذه الأسباب، وهذا من شأنه أن يضيع حقوق الأفراد الذين يرتكبون بعض الأفعال المجرمة، ولا يستطيعون إثبات وجود هذه الأسباب التي اعتبرها المشرع أسباب تمحو الجريمة،أو تمنع المسؤولية الجنائية في حالة توفر شروطها.

كلمات المفاتيح: المسؤولية الجنائية ـ مبدأ الشرعية الجنائية ـ الجريمة ـ العقوبات ـ القضاء. 

Abstract : The Moroccan legislator regulated the factors influencing the establishment of criminal liability, just like most of the legislation that has also been consistent with organizing these factors in line with the principle of criminal legality, which requires that there is no crime or punishment except by text. These factors, leaving the judiciary with a wide authority to take or not take into account these reasons, and this would lose the rights of individuals who commit some criminal acts, and they cannot prove the existence of these reasons that the legislator considered reasons that erase the crime, or prevent criminal responsibility if its conditions are met.

Keywords: criminal responsibility – the principle of criminal legitimacy – crime – penalties – the judiciary.

مقدمة

لقد كرس المشرع المغربي من خلال الفصل 3 من مجموعة القانون الجنائي الذي ينص على أنه” لا يسوغ مؤاخذة أحد على فعل لا يعد جريمة بصريح القانون ولا معاقبته بعقوبات لم يقررها القانون” مبدأ الشرعية من خلال تحديد الأفعال التي اعتبرها التشريع الجنائي تحمل وصفا جرميا، وخصص لها الجزاء المقرر لها آخذا بعين الاعتبار مجموعة من العوامل التي قد تؤثر في قيام المسؤولية الجنائية، والتي يمكن أن تكون عبارة عن أسبابا للإباحة والتبرير تمحو الجريمة، وموانعا تؤثر على قيام المسؤولية الجنائية.

ويمكن القول بأن العوامل المؤثرة على المسؤولية الجنائية هي مجموعة من الظروف المادية التي قد تحدث أثناء ارتكاب الجريمة فتمحو هذه الجريمة(أسباب التبرير)، أو تمنع المسؤولية في حالة توفر شروط هذا المنع (موانع المسؤولية)، كمااعتبرها البعض[1]بأنها رخص قانونية تبيح أو تبرر لمن توافرت لديه،أن يرتكب فعلا جرمه التشريع الجنائي.

لقد نظم المشرع المغربي أحكام أسباب التبرير في الفصل 124 من مجموعة القانون الجنائي، حيث اعتبر أن كل من يرتكب فعلا يعد جريمة بحسب التشريع الجنائي المغربي، تم ثبت وجود أحد الظروف المنصوص عليها في الفصل 124، يصبح الفعل خاضعا لسبب مبرر لارتكاب الجريمة، كما تعتبر هذهالأسباب موضوعية يتعين إحاطتها بمجموعة من الأحكام حتى لا يتم خرق مبدأ شرعية التجريم والعقاب، والقضاء يكون ملزما بحسب سلطته التقديرية الاخذ بهذه الأسباب أو عدم الأخذ بها وفق القواعد العامة للإثبات في المجال الجنائي التي تخضع للاقتناع الوجداني للقاضي.

إن اهمية دراسة هذا الموضوع تكمن في الوقوف عند مختلف العوامل المؤثرة في قيام المسؤولية الجنائية، ومعرفة الاحكام العامة التي تنظم هذه الأسباب، كما سيمكننا أيضا من التطرق للمسؤولية الجنائية من حيث مفهومها والاساس الذي تقوم عليه، وهذه كلها معطيات ستمهد لنا لدراسة هذه العوامل.

ومن خلال ما سبق ذكره يمكن القول بأن هذا الموضوع سنناقشه انطلاقا من الإشكالية التالية:

ما هي مختلف الأحكام العامة المنظمة للعوامل المؤثرة في قيام المسؤولية الجنائية؟

وماهو الأساس الذي تقوم عليه هذه العوامل لتبرير ومنع المسؤولية الجنائية؟

وبطبيعة الحال للإجابة على هذه الإشكالية سيكون من الضروري التطرق الى ما يلي:

المبحث الأول: مدخل عام لدراسة المسؤولية الجنائية

المبحث الثاني: المبحث الثاني: الأسباب المبررة للجريمة وموانع المسؤولية الجنائية

المبحث الأول: مدخل عام لدراسة المسؤولية الجنائية

إن دراسة موضوع العوامل المؤثرة في قيام المسؤولية الجنائية، يقتضي أولا القيام بتحديد الإطار المفاهيمي للمسؤولية الجنائية (المطلب الأول)، من خلال التعرض الى مفهوم المسؤولية الجنائية (الفقرة الأولى)، وتمييزها عن المسؤولية المدنية (الفقرة الثانية)، كما يستدعي الأمر كذلك الوقوف عند أساس هذه المسؤولية (المطلب الثاني) سواء في إطار المذاهب الفقهية (الفقرة الأولى)، أو في إطار مجموعة القانون الجنائي المغربي (الفقرة الثانية).

المطلب الأول: الإطار المفاهيمي للمسؤولية الجنائية

الفقرة الأولى: مفهوم المسؤولية الجنائية

لم تتعرض التشريعات الجنائية، ومنها  مجموعة القانون المغربي لتعريف المسؤولية الجنائية تاركة بذلك المجال للفقه الذي اعطى العديد منالتعريفات للمسؤولية الجنائية، بحيث عرفها البعض بأنها استحقاق مرتكب الجريمة العقوبة المقررة لها قانونا، وتتعلق هذه المسؤولية بفاعل أخلبالمقتضيات القانونية فحقت عليه العقوبة المقررة لهذا الفعل المجرم، أو واجب مفروض على الشخص بالإجابة على نتائج فعلهالإجرامي من خضوع للعقوبة المقررة قانونا[2]أو أنها التزام قانوني يقع علىعاتق الجانيبتحمل العقوبة المقررة للجريمة التي ارتكبها وهناك من يعرف المسؤولية الجنائية بأنها صلاحية الشخص لتحمل الجزاء الجنائي المقرر للجريمة التي ارتكبها[3].

وينفرد التعريف الأخير بالخصائص التالية:

1ـ المسؤولية في جوهرها أثر أو جزاء جنائي يوقعه القانون على الشخص الذي ارتكب فعلا مجرما بمقتضى القانون.

 2ـ أنه لا مسؤولية جنائية بدون جريمة فالجريمة، شرط أساسي لانعقاد المسؤولية الجنائية.

3ـ أن المسؤولية الجنائية هي مسؤولية شخصية لا يتحملها شخص آخر غير الجاني.
فالجريمة ليست كيانا ماديا فقط، ولكنها هي كيان نفسي كذلك فحتى تقومالمسؤولية الجنائية على مرتكب الواقعة الإجرامية لا يكفي أن تنسب هذه الواقعةإليه ماديا وإنما يلزم أن تتوافر رابطة نفسية بينهما تصلح كأساس للحكم بتوافر ذلك العنصر المتمثل إما في الخطأ أو القصد الجنائي.

الفقرة الثانية: تمييز المسؤولية الجنائية عن المسؤولية المدنية

تختلف المسؤولية الجنائية عن المسؤولية المدنية في اختلافات أساسية ترجع بجملتها إلى اختلاف الطبيعة القانونية لكل من المسؤوليتين، بالشكل الذي يجعل لكل منهما حدوداً فاصلة عن الأخرى، وهذه الفروق التي تميز كلاً من المسؤوليتين عن الأخرى اهمها:

أولاً: يشترط لقيام المسؤولية الجنائية صدور خطأ من الجاني، فإذا كان من المتصور قيام المسؤولية المدنية في بعض الأحيان على مجرد خطأ مفترض مبني على فعل الغير، كما هو الحال بالنسبة إلى مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعه، أو على مجرد وقوع ضرر ولو لم يكن هناك خطأ، فإنه ليس من المقبول في ميدان المسؤولية الجنائية أن تتجرد المسؤولية من عنصر الخطأ الشخصي الذي ينسب إلى مرتكب الفعل ذاته استنادا إلى القاعدة الجنائية التي تقضي بأنه (لا جريمة بلا خطأ).

ثانيا: تستقل المسؤولية الجنائية عن فكرة الضرر بخلاف المسؤولية المدنية التي تقوم عليها، ذلك أن المسؤولية الجنائية تحدد العقوبة لا على أساس أهمية الضرر وجسامته، وانما على أساس جسامة الفعل الاثم من الناحية الأدبية،ولا تتدخل فكرة الضرر عند وقوعه الا بصفة تبعية في هذه المؤاخذة، اذ تبقى المسؤولية الجنائية مستقلة عن الضرر الذي نشأ عن الفعل، ويحاسب المتهم في أغلب الأحيان عن خطئه فحسب مجرداً عن الضرر، ولا يعني هذا أن المشرع الجنائي لا يأخذ بنظر الاعتبار الضرر عندما يؤثم التصرفات الإجرامية، اذ ان تحديد العقوبة يخضع لنوعين من الاعتبارات: الأول يتعلق بالواقعة الاجرامية وملابساتها المختلفة،والثاني يتعلق بشخص الجاني والظروف الخاصة به، الا أنه ينظر الى الضرر نظرة متميزة ويطلق عليه فقهاء القانون (الجسامة المادية للخطأ الجنائي)، وهذه الجسامة المادية لا تتمثل في النتيجة المترتبة على الخطأ، وانما في طبيعة المصالح القانونية التي يهددها هذا الخطأ.

  أما في نطاق المسؤولية المدنية، فنجدها تتجه الى إصلاح الأضرار وليس الى العقاب عن الأخطاء،وهذا هو السبب في عدم الاعتداد بالخطأ المدني عند تقدير الجزاء المدني، وانما يحسب له حساب في تقدير قيام هذه المسؤولية، ويحتسب الجزاء المدني (التعويض) تبعاً لأهمية الضرر، ولا شك في ان القاعدة المقررة في القانون المدني والقاضية بالتعويض الكامل عن الضرر الواقع تمنع من أن يكون هناك تناسب بين قيمة التعويض المقدرة وجسامة الخطأ المرتكب.   

 وتأسيساً على ذلك يكون سبب المسؤولية الجنائية هو السلوك الضار بالمجتمع باعتبار ما يمثله من خطورة إجرامية، في حين يكون سبب المسؤولية المدنية هو الفعل الضار الذي يصيب حقاً أو مصلحة تتعلق بشخص أو أشخاص معينين، وتترتب على ذلك الاختلاف النتائج الآتية:

1-يكون الجزاء في نطاق المسؤولية الجنائية عقوبة توقع باسم المجتمع على شخص المسؤول عن الجريمة، أما الجزاء في نطاق المسئولية المدنية فيكون تعويضا يستوفى من محدث الضرر.

2-تكون دعوى المسؤولية الجنائية من حق المجتمع، ولذلك فأن ممثل المجتمع وهو الادعاء العام هو الذي يتولى تحريكها. أما دعوى المسؤولية المدنية فهي من حق المضرور نفسه، فهو الذي يملكها ويثيرها.

3-تختص المحاكم الجزائية بالنظر في دعوى المسؤولية الجنائية. أما دعوى المسؤولية المدنية فالأصل أن يكون النظر فيها من اختصاص المحاكم المدنية، وأن جاز رفعها أمام المحاكم الجزائية تبعاً للدعوى الجزائية.

4-لا يجوز لممثل المجتمع الصلح ولا التنازل في المسؤولية الجنائية لان الحق فيها عام للمجتمع. في حين يجوز الصلح والتنازل في المسؤولية المدنية لان الحق في التعويض خاص بالفرد.

5-الافعال التي يعاقب عليها القانون في نطاق المسؤولية الجنائية يجب ان تذكر على سبيل الحصر لا المثال وان تحدد العقوبة المقترنة بكل جريمة، فالقاعدة في المسؤولية الجنائية تقضي بأن (لا جريمة ولا عقوبة الا بناء على قانون). أما الافعال غير المشروعة التي توجب المسؤولية المدنية فلا ضرورة لحصرها، وذلك لان المسؤولية المدنية تترتب على أي عمل غير مشروع يلحق بالغير ضرراً دون حاجة لنصوص قانونية تبين الاعمال غير المشروعة على وجه التحديد.

6-حيث ان المسؤولية الجنائية تدور مع الخطأ وجوداً وعدماً لذا فان التمييز يعد شرطاً لقيامها، وذلك لان غير المميز لا يدرك ما يفعل ومن لا يدرك لا ينسب اليه خطأ وتنتفي مسؤوليته الجنائية، أما المسؤولية المدنية فقد تتقرر وان لم يكن المسؤول مميزاً.

  وعلى الرغم من الاختلاف بين المسؤوليتين، إلا أن ذلك لا يمنع من أن ينشئ الفعل الواحد كلتا المسؤوليتين حين تتوافر في الفعل شروطهما فتتحققان معاً في وقت واحد.  فسائق المركبة الذي يدعس شخصاً بسبب اهماله، فان فعله هذا يرتب عليه إذا نشأ عنه وفاة المجني عليه مسؤولية جنائية عن جريمة قتل خطأ، كما انه يرتب عليه مسؤولية مدنية تتمثل في إلزامه بدفع تعويض لعائلة المجني عليه عما لحق بهم من ضرر.

المطلب الثاني: أساس المسؤولية الجنائية

الفقرة الأولى: أساس المسؤولية الجنائية في إطار المدارس الفقهية

لقد أكد الفقه الجنائي أن أساس المسؤولية الجنائية هو مرتبط بظهور المدارس الفقهية التي مهدت لأساس المسؤولية الجنائية، عن طريق تقديم مجموعة من المبررات، ولذلك سيكون من المفيد التطرق لهذه المدراس بشيء من التفصيل خلال هذه الفقرة، موضحين بذلك موقف كل اتجاه على حدى. 

أولا: المدرسة التقليدية

لقد نادى أنصار هذه المدرسة[4] بمجموعة من المبادئالمتعلقة بأساس المسؤولية الجنائية، هو مبدأ حرية الإنسان المطلقة في تصرفاته شريطة أن يكون مدركا ومميز للأفعال التي يقوم بها، فله حرية الاختيار بين ارتكاب الفعل المحظور من عدمه، وارتكابه لفعل جرمي يكون بسبب خطأ ارتكبه[5]، موجب لتوقيع العقاب عليه ما دام قد وجه إرادته عكس ما نص عليه القانون، في حين كانبالإمكان أن يوجهها على خلاف ذلك؟

إن المدرسة التقليدية لا تكتفي بنسبة الفعل إلى الفرد، بل تشترط أن يكون الفاعل متمتعا بالتمييز وحرية الاختيار وهو ما يعبر عنه بالإسناد المعنوي، حيث تأسس هذه المدرسة للمسؤولية الجنائية على أساس الخطأ، وتعتبر أن الحرية واحدة بالنسبة لجميع الأفراد ومتساوية فيما بينهم، مما يعني تساوي المسؤولية والعقاب دون الاستثناء، دون مراعاة درجة إرادة الأفراد رغم اختلاف الظروف والمسببات، ودرجة إرادة الأفراد من واحد لأخر حيال نفس الفعل الجرمي.

ثانيا: المدرسة التقليدية الحديثة أو التوفيقية 

جاءت هذه المدرسة كامتداد للمدرسة التقليدية، بحرية الاختيار والإرادة الواجبتوفرها عند الشخص لمساءلته عن أفعاله الإجرامية، كما أقرت أيضا هذه المسؤولية، غير أنها تنفي فكرة الحرية المتساوية لدى جميع الأفراد التي تقول بها المدرسة التقليدية.

إن اختلاف ظروف مرتكب الجريمة له أثر على حرية الاختيار لدى الجاني وحرية الاختيار تتفاوت بحسب الظروف والملابسات، وبالتالي وجب أن تكون العقوبة متناسبة مع هذه التغيرات بشكل يراعي درجة المسؤولية الجنائية لدى المجرم. 

كما نادت المدرسة بتخفيف المسؤولية والإبقاء على فكرة امتناع المسؤولية الجنائية إذا ما انتفت حرية الاختيار لدى الفاعل والملاحظ أن هذه المدرسة أضافت فكرة العدالة في توقيع الجزاء بحسب درجة الإرادة والاختيار التي تتفاوت من شخص لأخر، بل قد تختلف في الشخص الواحد من لحظة لأخرى[6]

ثالثا: المدرسة الوضعية

ذهب أنصار المدارس الفقهية إلى القول بأن المسؤولية الجنائية ضرورة اجتماعية لمواجهة الواقعة الإجرامية ومرتكب الفعل الإجرامي، وتؤمن بحتمية السلوك الإجرامي وخطورته دون التركيز على فكرة الخطأ.

فالمسؤولية الاجتماعية تستبعد الفكرة الأخلاقية أو فلسفة القيم من مجال التجريم، فتبحت عن أسباب الجريمة بعيدا عن إرادة الجاني[7].

فالحتمية سند علمي لدى أنصار المدرسة الوضعية في العلم الجنائي، ومسالة الحتمية هي شرط لكل معرفة ممكنة كما يقول “أميل برييه[8]” حيث شاع الاعتقاد في القرن التاسع عشر لدى العلماء أن جميع الظواهر الخفية أو الواضحة تخضع لمبدأ الحتمية المطلقة كتفسير ضيق دون إفساح المجال لحرية الاختيار أو الصدفة أو الاحتمال،كما اعتدت هذه المدرسة بمسألة الجبرية فهم يعتبرون أن الحوادث محددة أو مكتوبة سلفا زمانا ومكانا، بل وحتى كيفية وجود علاقة شرطية بين السبب والمسبب، وبالتالي فالأمر ضروري لا يمكن تجاوزه أو تفاديه لوجود قوة عليا تسيطر على سلوك الناس[9].

رابعا: مدرسة الدفاع الاجتماعي

ظهرت مدرسة الدفاع الاجتماعي للتوفيق بين مختلف الاتجاهات الفكرية السائدة، دون التقيد بأي اتجاه فكري معين، فبعد الحرب العالمية الثانية قام الإيطالي جرماتيكا  Gramatika  بتأسيس مركز لدراسة الدفاع الاجتماعي بمدينة جنوة الإيطالية كحركة تهتم بالأساس بدراسة أسباب الجريمة والعوامل المؤدية إليها، خارج إطار حرية الاختيار وهي في ذلك مثل المدرسة الوضعية حيث ينفي جرماتيكا الصلة بين مبدأي الجبرية وحرية الاختيار وبين الظاهرة الإجرامية، وإنما يربطها بمختلف العناصر الواقعية والاجتماعية، أما السلوك الإجرامي فما هو إلا انعكاس لحالة الجاني النفسية التي تعمل بكيفية مناهضة ومعاكسة لنظم المجتمع نتيجة توافر عوامل كامنة في المجتمع نفسه هي التي فرضت عليه طريق الإجرام.

وحسب رأي فقهاء هذه المدرسة يجب القضاء على الخلل الاجتماعي أولا، للقضاء على الظاهرة الإجرامية، وهذه الغاية لا تتأتى إلا عبر إصلاح اجتماعي عميق لجميع مناحي الحياة.

ويذهب جرماتيكا أيضا الى القول بأن المناهضين للمجتمع هم ضحايا المجتمع في حقيقة الأمر، الشيء الذي دفع بهم إلى سلوك طريق الجريمة ومن تم فليس هناك من أساس لمساءلتهم كونهم غير مذنبين ولا يمكن أن ينسب إليهم الخطأ، ومن الضروري أن يدافع المجتمع عن استقراره وأمنه عن طريق اتخاذ تدابير وقائية احترازية بدل العقوبة التقليدية.

ويضيف رواد مدرسة الدفاع الاجتماعي الى أن العقوبة المؤسسة على الخطأ لا تعملعلى تأمين المجتمع، ولا الى إدماج الجاني فيه، ويمكن القول بأن هذه المدرسة تهدفإلى حماية المجتمع والمجرم معا منه الظاهرة الإجرامية، خلافاللمدرسة التقليدية التيانحصرت في حماية المجتمع من المجرم فقط.

الفقرة الثانية: أساس المسؤولية الجنائية في مجموعة القانون الجنائي

إن أساس المسؤولية الجنائية هو إدراك الفرد لما يقوم به من أفعال، وحريته في اختيار سلوك الجريمة، وفي حالة ما لم تتوفر هذه الشروط فإنه لا مجال للمساءلة الجنائية. ولما كان التشريع المغربي يحظى بأهمية كبرى في هذه الدراسة فإنه يمكن الوقوف خلال هذه الفقرة عند أساس المسؤولية الجنائية في مجموعة القانون الجنائي.

تقوم المسؤولية الجنائية في التشريع المغربي على شرطين أساسيين، وهما التجريم القانوني للفعل المرتكب وتوفر الأهلية الجنائية لدى الجاني.

أولا: التجريم القانوني للفعل المرتكب

إن قيام المسؤولية الجنائية للفاعل يرتبط بتوفر مبدأ أساسي وهو شرعية التجريم والعقاب، أي أنه لا يسوغ مآخذة أحد عن فعل ما إلا إذا كان هذا الفعل محدد بمقتضى القانون الجنائي بجميع أوصافه وشروطه القانونية. وتبعا لذلك فقد نص الفصل 3 من القانون الجنائي على أنه: ” لا يسوغ مؤاخذة أحد على فعل لا يعد جريمة بصريح القانون ولا معاقبته بعقوبات لم يقررها القانون”.

لكن التساؤل الذي يمكن أن يثار في هذا الخصوص هو، هل يتعين توفر العلم بنص التجريم؟

 يعتبر العلم بنص التجريم عنصرا أساسيا في القصد الجنائي، لذلك اعتبره البعض شرطا لنفاذ القانون وسريان أحكامه على المخاطبين به، كما أن هناك من يعتبر العلم شرطا لثبوت المسؤولية.

ثانيا: الأهلية الجنائية

يقصد بالأهلية الجنائية صلاحية الشخص لأن يكون محلا للمسؤولية الجنائية، أي لتحملالعقاب المقرر للجريمة، ولا تكتمل الأهلية إلا باجتماع أمرين هما: التمييز وحرية الاختيار، ويقصد بهما مجموعة من الصفات الشخصية اللازم توفرها في الشخص حتى يمكن أن تنسب إليه الواقعة الإجرامية التي اقترفها.

وتبعا لذلك فالتمييز يرتبط بالقدرة على الإدراك أو الفهم، ولا يتحقق ذلك إلا إذا كان الفرد لحظة ارتكاب الجريمة متمتع بالملكات الذهنية والعقلية التي تسمح له بإدراك معنى الجريمة والعقوبة، ولهذا نص المشرع في الفصل 132 من القانون الجنائي: “كل شخص سليم العقل قادر على التمييز يكون مسؤولا شخصيا عن الجرائم التي يرتكبها…” والتمييز يتحدد ببلوغ 12 سنة، أما إذا لم يكن مميز فتنعدم مسؤوليته الجنائية، وفي هذا الصدد ينص الفصل 138 من القانون الجنائي: “الحدث الذي لم يبلغ سن اثني عشر سنة  يعتبر غير مسؤول جنائيا لانعدام تمييزه”.

أما حرية الاختيار فتظهر من خلال الإرادة التي يمكن الأخذ بها واقعيا، بحيث تمكن الفرد من التحكم فيها وتوجيهها التوجيه السليم المتفق عليه مع القانون، لذا فالإرادة تعبر عن القدرة على الاختيار بين ارتكاب الفعل أو الإحجام عنه، وهي أمور تتحقق بالنسبة للفرد المكتمل المسؤولية الجنائية بأن بلغ سن الرشد الجنائي وهو 18 سنة ميلادية كاملة حسب الفصل140 من مجموعة القانون الجنائي والمادة 458من قانون المسطرة الجنائية، وكانت أيضا إرادته حرة وسليمة، أما من بلغ سن التمييز وهو 12 سنة ولم  يبلغ سن 18 سنة فتكون مسؤوليته الجنائية ناقصة بسبب صغر سنه وفقا للفصل 139 من م ق ج، ولا يتخذ في حقه سوى تدبير أو أكثر من تدابير الحماية المنصوص عليها في المادة 481 من ق مج [10].

المبحث الثاني: الأسباب المبررة للجريمة وموانع المسؤولية الجنائية

إذا كانت أسباب التبرير والاباحة تقع على الفعل الاجرامي دون الاخذ بعين الاعتبار شخص الفاعل وارادته[11]، حيث يمتد أثر هذه الأسباب الى الفاعل والمساهم والشريك لأنها تكتسي طبيعة موضوعية تتعلق بالجريمة وليس بالمجرم، وهذا بخلاف موانع المسؤولية الجنائية التي تعتبر ذات طبيعة شخصية لكونها تتعلق بالشخص الفاعل وحده دون غيره كالمساهم والشريك، كحالة الجنون مثلا، وصغر السن، كما أن هذه الموانع إن كانت تحول دوت توقيع الجزاء على الفاعل، إلا أنه يمكن إعمال بعض التدابير الوقائية إذا اقتضى الأمر ذلك.

ولذلك سأحاول دراسة الأسباب التي تمحو الجريمة في (المطلب الأول)، ثم بعد ذلك سأعمل على مناقشة مختلف موانع المسؤولية التي جاءت بها مجموعة القانون الجنائي في (المطلب الثاني).

المطلب الأول: أسباب الإباحة والتبرير التي تمحو الجريمة

لقد عرف الفقه القانوني اسباب الاباحة بانها «رخص قانونية تبيح او تبرر لمن توافرت لديه ان يرتكب فعلا او تركا جرمه المشرع الجنائي في نص من النصوص ” وبالتالي يمكن القول بان انتفاء هذه   الاسباب شرط ضروري لقيام الركن القانوني في أي جريمة، لان الفعل أو الامتناع حتى ولو وصفه المشرع الجنائي وصفا جنائيا فلا يمكن المساءلة عنه.

إن المشرع الجنائي المغربي تعرض لآثار الاباحة ولبعض صورها في الفصلين 124 و125 من مجموعة القانون الجنائي، كما هو واضح من الفصل 124 الذي ينص على أنه” لا جناية ولا جنحة ولا مخالفة في الأحوال الآتية:

1 – إذا كان الفعل قد أوجبه القانون وأمرت به السلطة الشرعية.

2 – إذا اضطر الفاعل ماديا إلى ارتكاب الجريمة، أو كان في حالة استحال عليه معها، استحالة مادية، اجتنابها، وذلك لسبب خارجي لم يستطع مقاومته.

3 – إذا كانت الجريمة قد استلزمتها ضرورة حالة للدفاع الشرعي عن نفس الفاعل أو غيره أو عن ماله أو مال غيره، بشرط أن يكون الدفاع متناسبا مع خطورة الاعتداء”.

وتبعا لما نصت عليه الفصل 124 من مجموعة القانون الجنائي، فان الامر يستدعي مني التطرق لحاجة الفعل الذي أوجبه القانون وأمرت به السلطة الشرعية (الفقرة الأولى)، وحالة الضرورة القصوى (الفقرة الثانية)، في حين ستكون (الفقرة الثالثة) مخصصة لمناقشة حالة الدفاع الشرعي.

إن هناك بعض الصور لأسباب التبرير التي نص عليها الفصل 125[12]وهو ما يسمى بالحالة

الممتازة للدفاع الشرعي، وهذه مختلف أسباب الاباحة التي تعرض لها المشرع المغربي[13]، والتي ارتأيت ان تكون موضوع دراستي خلال هذا المطلب.

الفقرة الأولى: حاجة الفعل الذي أوجبه القانون وأمرت به السلطة الشرعية

ان الفعل الذي يصدر من أجل تنفيذ القانون وأمرت به السلطة الشرعية يخضع للحماية القانونية ولو كان فيه مساسا بالحقوق والمصالح، طالما المشرع يبرره لمصلحة أمرت بها السلطة الشرعية وأوجبه القانون الذي يأخذ بمعناه الواسع، بحيث يشمل الاذن الصادر عن السلطة التشريعية، والاذن الصادر عن السلطة التنفيذية وفقا للقانون.

وقد برر الفصل 124 من مجموعة القانون الجنائي الفعل الإجرامي في الحالة التي يكون فيها القانون هو الذي اوجب هذا الفعل، وأن السلطة الشرعية قد أمرت به، وبحسب صياغة الفصل 124 أن أمر القانون وحده لا يكفي لقيام هذا السبب للتبرير الذي يتوقف على اجتماع شرطين أو عنصرين معا، وهما أمر القانون أولا، وأمر السلطة الشرعية ثانيا، غير انه يطرح الاشكال عندما يتوافر أحد العنصرين فقط دون الآخر كأن يقوم أمر القانون دون أمر السلطة الشرعية أو إذنها او العكس، ففي مثل هذه الحالات هل نكون أمام سبب تبرير أم لا؟

   الواقع أنه على الرغم من أن ظاهر النص يتطلب لقيام سبب التبرير اجتماع العنصرين معا[14]، أمر القانون وأمر السلطة الشرعية، وبالتالي فان الاقتصار على أمر القانون وحده قد يكون كافيا لتوافر التبرير دون أمر السلطة الشرعية أما العكس فهو لا يمكن تصوره.

الفقرة الثانية: حالة الضرورة القصوى

نص المشرع الجنائي المغربي في الفصل 124 على حالة الضرورة القصوى حيث قال” إذا اضطر الفاعل ماديا إلى ارتكاب الجريمة، أو كان في حالة استحال عليه معها، استحالة مادية، اجتنابها، وذلك لسبب خارجي لم يستطع مقاومته”.

إن المشرع المغربي كباقي أغلب التشريعات لم يعرف لنا حالة الضرورة وبالتالي يمكن تعريفها حسب بعض الفقه أنها تلك الواقعة التي يرتكب فيها الشخص فعلا يجرمه القانون الجنائي، بحيث يكون مضطرا الى ارتكاب هدا الفعل المجرم بقصد المحافظة على حياته او ماله، فمن يسرق من أجل سد الرمق حتى لا يموت جوعا فهذا لا يمكن أن يعامل على أساس أنه سارق، وكذلك الشخص الذي يتعرض لاعتداء فيضطر للدفاع عن ماله أو شرفه فانه لا يعتبر مجرما، وأساس مبدأ تبرير الفعل المرتكب تحت تأثير حالة الضرورة تنازعه في الفقه عدة اراء:

1_ فهناك من يرى ان الشخص الذي يرتكب الجريمة تحت وطأة الضرورة يكون واقعا تحت تأثير الاكراه المعنوي

2_ واتجاه آخر يذهب الى أنه لا توجد أية فائدة في معاقبة شخص في هذه الحالة لأنه غير مجرم أصلا حيث لا حاجة بالتالي الى اصلاحه بالعقاب

3_ في حين يرى البعض الأخر أن الاخذ بحالة الضرورة يؤخذ على أساس دفع الضرر الاشد بالضرر الاخف، على اعتبار ان المجتمع حين يتنازع حقان ليس من مصلحته عقاب من يحافظ على الحق الأهم ،أو على الاقل المساوي للحق الذي وقعت التضحية به.

الفقرة الثالثة: حالة الدفاع الشرعي[15]

 لقد نص المشرع المغربي على حالة الدفاع الشرعي في الفقرة الاخيرة من الفصل 124 التي جاء فيها ” إذا كانت الجريمة قد استلزمتا ضرورة حالة الدفاع الشرعي عن نفس الفاعل او غيره او مال غيره بشرط ان يكون الدفاع متناسبا مع خطورة الاعتداء”.

 فمن خلال هذه الفقرة يتبين انه لنكون امام حالة دفاع شرعي يجب توافر شروط وهي:

أولا: وجود خطر اعتداء ضد نفس الشخص او غيره او ماله او مال الغير .

ليس كل اعتداء يعتبر مبررا للدفاع الشرعي، وإنما الاعتداء الذي يعتد به القانون هو الذي يتقيد بشروط معينة:

1_ أن يكون الاعتداء غير مشروع: بحيث ينشأ حق الدفاع الشرعي عندما يتعرض الشخص لفعل غير مشروع، أما إذا كان الفعل مشروعا فلا يعتد بالدفاع الشرعي سواء كان الفعل إيجابيا او

سلبيا، عمديا أو غير عمدي[16].

ولا يشترط لوجود الاعتداء تحقق النتيجة الاجرامية التي قصدها الجاني من اعتدائه، بل يكفي أن يقف الفعل عند حد الشروع أي المحاولة.

2_ أن يقع الاعتداء على النفس أو المال: بحيث أجاز المشرع المغربي الدفاع الشرعي ضد كل اعتداء يستهدف نفس الفاعل او نفس غيره، أو ماله.

ويمكن القول ان مفهوم النفس كل اعتداء ينصب على حق من الحقوق المرتبطة بشخص الانسان نشكل عام، كالاعتداء على حياته، او سلامة جسمه أو عرضه، والمس بحريته.

3_ أن يكون خطر الاعتداء حالا وحقيقيا: يلتزم ان يكون الخطر حالا أي وشيك الوقوع بحيث لا يكون امام الشخص وقت للالتجاء الى السلطة، او حماية نفسه، او الضحية من المعتدي بوسيلة أخرى، وبما انه لا يكون هناك دفاع شرعي قبل الاعتداء بمدة طويلة كذلك الامر بعد انتهاء الجاني من تنفيذ الجريمة لا يبقى للضحية او غيره الحق في الدفاع الشرعي لأنه يعتبر انتقاما في هذه الحالة.

4_ أن يكون فعل الدفع متناسبا مع الاعتداء: بحيث يجب ان يقتصر الدفاع على القدر الضروري لدفع الاعتداء وهذا الشرط مؤداه ان لا يغالي الشخص في الدفاع فيلحق بالمعتدي اضرار تتجاوز خطر الاعتداء الذي كان مهددا به، فمثلا الشروع في الاعتداء على المال لا يناسبه الدفاع بالقتل والمحكمة هي التي تقدر فيما إذا كان هناك تناسب بين فعل الاعتداء وفعل المدافع، مع مراعاة الظروف المحيطة بكل ذلك[17].

المطلب الثاني: موانع المسؤولية الجنائية

إن أساس المسؤولية الجنائية مرتبط بتوفر عنصر إدراك الشخص للأعمال التي يقوم بها، مع ثبوت حريته في إتيان الفعل المجرم، لذلك تفترض الاهلية الجنائية وجود عنصرين أساسيين وهما: الادراك والاختيار، وإذا انتفى أحد هذه العناصر لا يكون الفعل الذي قام به الشخص محلا للمتابعة والمساءلة الجنائية[18].

إن الفصل 132 من مجموعة القانون الجنائي ينص على أن “كل شخص سليم العقل قادر على التمييز يكون مسؤولا شخصيا عنالجرائم التي يرتكبها”، كما ان 134 من نفس القانون ينص على أنه ” لا يكون مسؤولا، ويجب الحكم بإعفائه، من كان وقت ارتكابه الجريمة المنسوبة إليه، في حالة يستحيل عليه معها الإدراك أو الإرادة نتيجة لخلل في قواه العقلية”.

ومن خلال تحليل الفصلين السابقين نلاحظ ان المشرع المغربي حدد موانع المسؤولية الجنائية في العاهات العقلية (الفقرة الأولى) وصغر السن (الفقرة الثانية)، وسأتناول هاذين المانعين بشيء من التفصيل خلال الفقرتين اللاحقتين.

 الفقرة الأولى: وجود عاهات عقلية

لقد اعتبر المشرع المغربي العاهات العقلية من بين موانع المسؤولية الجنائية، بحيث ميز بين حالتين وهما: حالة وجود خلل عقلي تام واعتبرها مانعا من موانع المسؤولية، وحالة وجود خلل عقلي غير تام او جزئي، يرتب تخفيف المسؤولية الجنائية للفاعل وليس مانعا لها.

أولا: خلل عقلي تام

نص الفصل 134 من م ق ج على انه ” لا يكون مسؤولا، ويجب الحكم بإعفائه، من كان وقت

ارتكابه الجريمة المنسوبة إليه، في حالة يستحيل عليه معها الإدراك أو الإرادة نتيجة لخلل في قواه العقلية”

وفي الجنايات والجنح، يحكم بالإيداع القضائي في مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية وفق الشروط المقررة في الفصل 76.

أما في مواد المخالفات – فإن الشخص الذي يحكم بإعفائه – إذا كان خطرا على النظام العام-

يسلم إلى السلطة الإدارية”.

يتضح من خلال استقراء هذا النص ان المشرع اكد على الشروط الواجب توفرها لقيام حالة الخلل العقلي التام كمانع من موانع المسؤولية الجنائية عند الفاعل.

كما ان المشرع المغربي لم يعرف لنا الخلل العقلي التام، بحيث يمكن القول بانه يستوعب كل الحالات التي من شانها تعطيل الملكات العقلية للفرد عن العمل اما بصورة مستمرة او عرضية، وهذا ما يرتب في حالة توفر الخلل العقلي امتناع مسؤولية المتهم الجنائية لعدم توافر عنصر الادراك والإرادة، وبالتالي استحالة معاقبته، وهنا المحكمة تحكم بالإعفاء وليس البراءة لان الجريمة ثابتة في حق المختل عقليا إلا انه لا يسأل جنائيا عنها.

بالرجوع الى الفصل 76 من م ق ج نجده ينص على أنه” إذا تبين لمحكمة الموضوع، بعد إجراء خبرة طبية، أن الشخص المتابع أمامها بجناية أو جنحة، كان عديم المسؤولية تماما وقت ارتكاب الفعل بسبب اختلال عقلي، فإنه يجب عليها:

1 – أن تثبت أن المتهم كان، وقت الفعل، في حالة خلل عقلي يمنعه تماما من الإدراك أو الإرادة.

2 – أن تصرح بانعدام مسئوليته مطلقا وتحكم بإعفائه.

3 – أن تأمر، في حالة استمرار الخلل العقلي، بإيداعه في مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية.

 ويبقى الأمر بالاعتقال ساريا على المتهم إلى أن يودع فعلا في تلك المؤسسة.

وبناء على الفصل 76 فان المحكمة يتعين عليها في حالة وجود خلل عقلي تام أن تأمر بوضع المتهم في مؤسسة للأمراض العقلية إذا الجريمة التي ارتكبها من صنف جناية او جنحة، أما إذا كان الفعل من صنف مخالفة فإن الشخص الذي يحكم بإعفائه إذا كان خطرا على النظام العام، فانه يسلم إلى السلطة الإدارية[19].

ثانيا: خلل عقلي جزئي (غير تام)

يعتبر الخلل العقلي الجزئي عبارة عن درجة وسطى ما بين الخلل العقلي وسلامة العقل، ولذلك يطلق عليه البعض بالخلل الناقص لأنه يؤدي بصاحبه الى نقصان الادراك والإرادة، مما يؤثر على مسؤوليته الجنائية التي تصبح في هذه الحالة ناقصة، وهذا ما اقره المشرع المغربي في الفصل 135 من م ق ج الذي نص على انه” تكون مسؤولية الشخص ناقصة إذا كان وقت ارتكابه الجريمة مصابا بضعف في قواه العقلية من شأنه أن ينقص إدراكه أو إرادته ويؤدي إلى تنقيص مسؤوليته جزئيا.

وفي الجنايات والجنح، تطبق على الجاني العقوبات أو التدابير الوقائية المقررة في الفصل 78.

أما في المخالفات، فتطبق العقوبات مع مراعاة حالة المتهم العقلية”.

إن المشرع المغربي من خلال هذا النص يؤكد تأثره بمبادئ المدرسة التقليدية الجديدة التي أخدت بفكرة تدرج المسؤولية الجنائية وذلك بحسب قوة الادراك والإرادة لدى مرتكب الجريمة.

وإذا ثبت ان مسؤولية مرتكب الفعل الجرمي ناقصة لوجود خلل عقلي جزئي، فان مسؤوليته المدنية تكون كاملة إذا تسبب بفعله في الحاق ضرر بالغير[20] على خلاف المصاب بخلل عقلي تام فان مسؤوليته الجنائية والمدنية تكون منعدمة[21].

الفقرة الثانية: حالة صغر السن

لقد أخذ المشرع المغربي بعامل السن كدليل على انعدام الادراك والتمييز لدى القاصر، او

نقصانه أو كماله، وحدد المسؤولية الجنائية على هذا الأساس تبعا لعنصر السن، والتي يمكن ان تكون منعدمة(أولا)، او ناقصة (ثانيا)، أو كاملة ببلوغ الشخص سن الرشد القانوني (ثالثا).

أولا: حالة انعدام المسؤولية الجنائية

بالرجوع الى الفصل 138 من م ق ج الذي ينص على أن” الحدث الذي لم يبلغ سنه اثنتي عشرة سنة كاملة يعتبر غير مسؤول جنائيا لانعدام تمييزه”.

وبناء على هذا النص فان الحدث الذي يرتكب جريمة وسنه لم يبلغ 12 سنة فان مسؤوليته الجنائية تنتفي لعدم تمييزه، ولذلك تنعدم هذه المسؤولية بصفة مطلقة بحيث لا تطبق عليه اية عقوبة، لكن يمكن الحكم عليه بإحدى تدابير الحماية والتهذيب المنصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية[22].

ثانيا: حالة نقصان المسؤولية الجنائية

نص الفصل 139 من مجموعة القانون الجنائي للحالة التي تكون فيها المسؤولية الجنائية ناقصة لصغر السن، فحدد المرحلة العمرية التي تكون فيها المسؤولية ناقصة ما بين سن 12 عشر ولم يبلغ 18 عشر يعتبر مسؤولا مسؤولية جنائية ناقصة بسبب عدم اكتمال تمييزه، وهذا ما اكدت عليه الفقرة الأخيرة من الفصل 458 من قانون المسطرة الجنائية الذي نص على انه” يعتبر الحدث الذي يتجاوز سن اثنتي عشرة سنة وإلى غاية بلوغه ثمان عشرة سنة مسؤولا مسؤولية ناقصة بسبب عدم اكتما ل تمييزه”.

 ثالثا: حالة اكتمال المسؤولية الجنائية

لقد حدد المشرع المغربي في الفصل 140[23]من مجموعة القانون الجنائي على أن سن الرشد الجنائي يكون ببلوغ الشخص 18 سنة ميلادية كاملة، وهذا ما اقرته المادة 458 من ق م ج الذي نص على أن” يتحدد سن الرشد الجنائي ببلوغ ثمان عشرة سنة ميلادية كاملة”، وبالتالي بلوغ الشخص سن 18 سنة يصبح كامل الاهلية الجنائية التي يترتب عنها كمال المسؤولية الجنائية ويتحمل الشخص تبعا لذلك عواقب كل الأفعال التي يرتكبها.

خاتمة

صفوة القول أن المشرع المغربي نظم العوامل المؤثرة في قيام المسؤولية الجنائية مثله مثل جل التشريعات التي دأبت هي الأخرى الى تنظيم هذه العوامل تماشيا مع مبدأ الشرعية الجنائية الذي يقتضي أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، لكن ما يلاحظ على المشرع في نظرنا أنه لم يحدد الضوابط والمعايير المعتمدة لأعمال هذه العوامل، وترك بذلك للقضاء سلطة واسعة للأخذ أو عدم الأخذ بهذه الأسباب، وهذا من شأنه أن يضيع حقوق الأفراد الذين يرتكبون بعض الأفعال المجرمة، ولا يستطيعون إثبات وجود هذه الأسباب التي اعتبرها المشرع أسباب تمحو الجريمة،أو تمنع المسؤولية الجنائية في حالة توفر شروطها.  


[1]_د المختار عمارة الوجيز في الاحكام العامة للقانون الجنائي، الجريمة، طبعة 2004، ص40.

[2]_ STEFANI ( G ) LEVASSEUR (G) et BOULOC (B ) : Droit pénal Général,16eme ed , 1997 , N° 368, P 292 .

[3]_ الدكتور محمد علي سويلم : المسؤولية الجنائية في ضوء السياسة الجنائية، دار المطبوعاتالجامعية الإسكندرية، ، السنة2007 . ص 12.

[4]_يعد بكاريا وبنتهام وفيورباخ من أهم رواد هذه المدرسة التي ظهرت في النصف الثاني من القرن 18 عشر.

[5]_عبد الواحد العلمي، شرح القانون الجنائي المغربي، القسم العام الطبعة الثالثة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء ،2009.

[6]– د. العلمي عبد الواحد مرجع سابق، ص 40-41.

[7]– د. محمد كمال الدين إمام المسؤولية الجنائية وتطورها دراسة مقارنة في القانون الوضعي والشريعة الإسلامية 1991، ص 81.

[8]_Emile brahier: transformation de la philosophie francaise paris 1950p 91.

[9]-د العلمي عبد الواحد المسؤولية الجنائية أساسها وتطورها، شرح القانون الجنائي المغربي ص 40-41.

[10]– محمد العروصي، المختصر في شرح القانون الجنائي الجزء الأول القانون الجنائي العام. الطبعة الأولى 2015 مطبعة مرجان ص 266. 267.

[11]_ د نور الدين العمراني، شرح القسم العام من القانون الجنائي، مطبعة سجلماسة الزيتون مكناس، طبعة 2015

[12]_نص الفصل 125 من مجموعة القانون الجنائي على أنه” تعتبر الجريمة نتيجة الضرورة الحالة للدفاع الشرعي في الحالتين الآتيتين:

1 – القتل أو الجرح أو الضرب الذي يرتكب ليلا لدفع تسلق أو كسر حاجز أو حائط أو مدخل دار أو منزل مسكون أو ملحقاتهما.

2 – الجريمة التي ترتكب دفاعا عن نفس الفاعل أو نفس غيره ضد مرتكب السرقة أو النهب بالقوة”.

[13]_يوسف الشرفاني وهبة الكوري، أسباب التبرير في التشريع الجنائي المغربي، ماستر العلوم والمهن الجنائية، جامعة محمد الخامس كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية سلا مقال منشور على الموقع الالكتروني www.marocdroit.ma

[14]_أنظر المقال المنشور على الموقع الإلكتروني: https://talaba9anon.blogspot.com/2013/09/blog-post_2538.html

[15]_ أنظر المقال المنشور على الموقع الإلكتروني: https://talaba9anon.blogspot.com/2013/09/blog-post_2538.html

[16]_ د نور الدين العمراني، مرجع سابق ص 92.

[17]_ أنظر المقال المنشور على الموقع الإلكتروني: https://talaba9anon.blogspot.com/2013/09/blog-post_2538.html

[18]_د نور الدين العمراني، مرجع سابق ص 207.

[19]_انظر الفقرة الأخيرة من الفصل 134 من مجموعة القانون الجنائي المغربي.

[20]_انظر الفصل 96 من قانون الالتزامات والعقود.

[21]_ د نور الدين العمراني، مرجع سابق ص 210.

[22]_أنظر الفقرة الأخيرة من الفصل 468 من قانون المسطرة الجنائية المغربي التي تنص على أنه” لا يتخذ في حق الحدث الذي لم يبلغ الثانية عشرة من عمره، سوى التسليم لأبويه أوحاضنه أو الوصي عليه أو المقدم عليه أو كافله أو الشخص أو المؤسسة المعهود إليها برعايته”.في حالة ثبوت المخالفة، يمكن للقاضي أن يقتصر إما على توبيخ الحدث، أو الحكم بالغرامة المنصوص عليها قانوناً

[23]_نص الفصل 140 من مجموعة القانون الجنائي على أنه” يعتبر كامل المسؤولية الجنائية كل شخص بلغ سن الرشد بإتمام ثمان عشرة سنة ميلادية كاملة” ونسخت أحكام الفقرة الثانية من الفصل 140 من مجموعة القانون الجنائي بمقتضى المادة السابعة من القانون رقم 24.03 المتعلق بتغيير وتتميم مجموعة القانون الجنائي.

إقرأ أيضاً

الرقابة على الدستورية والأمن القانوني دراسة في ضوء الإجتهاد القضائي الدستوري المغربي

الرقابة على الدستورية والأمن القانوني دراسة في ضوء الإجتهاد القضائي الدستوري المغربي Constitutional control and …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *