السياسَة الدينية بالمغرب : قراءة في الأسس و الرهانات

السياسَة الدينية بالمغرب : قراءة في الأسس و الرهانات

د. خالد فريد دة. حسنة كجي
أستاذ القانون العام

بالمدرسة العليا للتكنولوجيا – الصويرة

جامعة القاضي عياض – مراكش

أستاذة القانون العام

بكلية العلوم القانونية والإقتصادية والإجتماعية – عين الشق

جامعة الحسن الثاني – الدار البيضاء

 

يشهد الحقل السياسي المغربي حركية  نشطة -ربما غير مسبوقة- للمرجعية الدينية  في جل قطاعات الحياة اليومية، عن طريق شبكة مكثفة من الجمعيات، تستمد جزء مهم من عناصر قوتها من ضعف الهياكل المحلية من مجالس منتخبة ونسيج جمعوي، وعجز الفاعلين السياسيين على القيام بأدوارهم العامة .مما سمح بتقوية حركية إسلامية إبان العقد الأخير من القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين، بدأت معالمها السياسية بمشاركة حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التشريعية 2002، وبروز قوة جماعة العدل والإحسان  الجماهيرية. أما ذروة هده الحركية فستتمثل في أحداث 16 مايو 2003 حيث فوجئ  المراقبون بتوغل التيارات الإسلامية الموصوفة بالمتطرف اجتماعيا وسياسيا. وبالتالي خرج المغرب من ” المنطقة الرمادية”، التي صنفها ” جيل كيبل”، والمتواجدة بين مغازلة العناصر المعتدلة والضغط على العناصر المتطرفة[1] كبلد يمثل معقلا للسلام والأمن، بعيدا و نائيا عن العنف الديني. فماهي أهم الأسس التي قام عليها تدبير المرجعية الدينية للنظام السياسي المغربي ؟ وماهي الرهانات التي سعى إلى تحقيقها ؟

المحور الأول – أسس السياسة الدينية بالمغرب

من الناحية التاريخية، ظلت سلطات السلطان بالمغرب ترتكز على النظرية السنية للحكم، والتي تمت ملاءمتها مع التقاليد المحلية في المجال السياسي؛ لذلك وعلى عكس العديد من الأطروحات، لم يكن السلطان في المغرب يمارس في العمق سلطة روحية/ دينية بالمعنى القوي للكلمة على الأقل خلال القرن 21[2]؛ بل كان عمله يقتصر على الطقوس الرمزية كإقامة الصلاة يوم الجمعة. وبالتالي فالسلطان هنا لم يكن يمارس لا السلطة التشريعية التي كانت من صلاحيات العلماء، الذين يسهرون على تأويل القواعد الدينية كلما دعت الضرورة إلى ذلك؛ ولا السلطة القضائية، حيث كان دور السلطان يقتصر على تعيين قاضي القضاة في فاس والذي يختار باقي القضاة العاملين في البلاد.

لكن وبعد الاستقلال مباشرة سيصبح “الإسلام” أهم قوة لشرعنة الحكم بالمغرب، حيث ركزالملك محمد الخامس المقولات الإسلامية التي رددها حزب الاستقلال، والتي لم تعترض عليها أية قوة سياسية أخرى[3]. لذلك كانت السنوات الأربع الأولى للاستقلال (1956-1960) كافية ليحقق النظام السياسي المغربي التوازن بين التأويل السلفي للدين كما كان يدعو إلى ذلك زعماء الحركة الوطنية، وبين المنظور الرسمي للدولة الذي منح للعاهل المغربي دور الحامي لمختلف الفاعلين الدينين. فبعد أن اتضح للملك طموح حزب الاستقلال في التحكم في المجال الديني وتأويله، وذلك من خلال متابعته للطرق والزوايا، ستسمح بعض الأزمات الطارئة[4] للملك بلعب دور الحكم وتدشين عملية التحكم في الخطاب الديني والبدء في عملية تنظيم هيأة العلماء، ومن خلالهم الحقل الديني برمته.

لدلك وبعد حسم الصراع حول الشرعية الدينية لفائدة الملك، ستتمحور السياسة الدينية للحسن الثاني حول رهانين أساسيين متكاملين؛ يتمثل الأول في إضفاء قداسة دينية على النظام الملكي، بينما تمحور الثاني حول إضعاف السلطة الدينية والسياسية للعلماء:

أ– فبخصوص الرهان الأول، استطاع الحسن الثاني- أكثر من أي رئيس دولة آخر في المنطقة المغاربية وحتى العربية- أن يحتفظ لنفسه بنقط ارتكاز في المعسكر الديني من خلال إعادة ربط النظام السياسي القائم بطبيعته الدينية التي سادت قبل الحماية، وهو ما تكرس عبر الفصل 19، وإعطائه مكانة خاصة في قلب دستور 1962، دون أن يحول ذلك حيال حدوث درجة معينة من العلمنة داخل المجتمع المغربي[5]. وقد صرح الحسن الثاني في هذا الصدد لأسبوعية nouvelle observateur   (أكتوبر 1987) قائلا: «  أنا – كما تعلمون- أمير المؤمنين، أعطي لي هذا اللقب عندما ولدت دون أن أطلب ذلك، دون أن أرغب فيه، ومعنى ذلك أنني من ذرية النبي، وهذا شيء ناذر جدا […] إن هذا اللقب يفرض على من يحمله قدرا كبيرا من التواضع ويفرض عليه كذلك –في بعض الأحيان- بعض المسؤوليات»[6]؛ لذلك سيشكل إحياء مراسيم البيعة من طرف الحسن الثاني وجعلها عنصرا أساسيا للسلطة، من خلال تقليص مكانة القانون الوضعي وجعله مجرد إطار شكلي لشرعية دينية وتاريخية؛ وهذا ما أعلن عنه الحسن الثاني نفسه بمجرد تتويجه ملكا على المغرب بقوله: « إن الدستور الذي وضعته بيدي والذي سيعرض على موافقة الشعب المغربي في جميع تراب المملكة في ظرف عشرين يوما، هذا الدستور هو قبل كل شيء تجديد للرباط المقدس الذي جمع دائما الشعب والملك»[7]؛ فكلمة “مقدس” لا تعني هنا سوى المكانة التي يجب أن يتمتع بها النظام الملكي داخل الهرمية الدينية والسياسية، وقدرة الملك الحسن الثاني على تجسيد الرمزية التاريخية وضمان استمراريتها، فصفة القداسة تختزن إذن كل معاني التعالي والتبجيل، وتفرض الاحترام والخضوع وتترتب عنها نتائج قانونية وسياسية هامة من أبرزها:

ـ كون النظام الملكي والدين الإسلامي لا يناقشان.

ـ كون شخص الملك مقدس لا تنتهك حرمته، فلا يكون محل نقد أو موضع سخرية.

ـ كون القرارات الملكية غير خاضعة للطعن أمام القضاء، فهي تعتبر أعلى من كل قوانين الدولة[8]، مما يعطي لاختياراته وسياساته مرونة شبه مطلقة أمام أي نقض أو اعتراض محتمل.

ب-أما الرهان الثاني، والمتعلق بإضعاف السلطة السياسية والدينية للعلماء، فقد اتخذ ضمن السياسة الدينية للحسن الثاني مظهرين أساسيين: الحفاظ على مظاهر التنوع الديني، ثم التنظيم الرسمي للمجال الديني.

– الحفاظ على مظاهر التنوع الديني: حيث كان الحفاظ على تعدد الحركات الدينية، ومظاهر التدين الشعبي، أحد أهم الوسائل المفضلة لدى الحسن الثاني في سياسته الدينية. فبخلاف حزب الإستقلال الذي لم يتردد لحظة في المهاجمة العلنية لكل أولئك الذين لم يحاربوا إلى جانب الأورتدكسية السلفية، كان الملك يبدي “احتراما سياسيا “لمختلف مظاهر الإسلام الشعبي، مع التحكم في نفس الوقت في تطور نشاط الطرق والزوايا. فحتى بالنسبة للحركات الدينية التي ساندت بشكل علني قرار نفي محمد الخامس مثل الطريقة الكتانية، فإن الحسن الثاني قد سمح لها بالعمل من جديد بعد أن تم التمييز بين فرع فاس الذي بقي محظورا، وفرع سلا الذي ما زال ينشط لحد الآن. غير أنه ينبغي التمييز لاحقا بالنسبة للسياسة الدينية للحسن الثاني تجاه مظاهر الإسلام الشعبي بين “الطرقية” التي تم تركها لحالها، بحيث لم تهاجم ولم تدعم، مما أدى إلى اختفاء جلها تلقائيا؛ وبين “الصلحاوية” التي حضيت –في إطار استمرارية مخزنية- بتجديد «ظهائر التوقير» بالنسبة لشيوخ بعض الأضرحة والزوايا، وتقديم الهبات لبعض الشرفاء، كضريح “مولاي ادريس زرهون” و “عبد السلام بن مشيش” و “سيدي احماد أوموسى” و “ركراكة”، وإحياء المواسيم التي تحضرها الشخصيات الرسمية ورجال السلطة المحلية والبعثات الوزارية؛ وهو توجه سيتقوى أكثر فأكثر مع تصاعد التيارات الإسلامية[9]، والتي اتسمت شيئا فشيئا بـ « طابع المعارضة السياسية الخبيثة»[10] من أجل إعطاء مظاهر الإسلام الشعبي وسائل جديدة لتعزيز نفوذه .

 – التنظيم الرسمي لمجال الدين: فإذا كان الحسن الثاني قد استطاع في المرحلة الأولى من حكمه، كسر شوكة العلماء عن طريق دفعهم في أكثر من مرة إلى طلب التحكيم الملكي، ثم “تأميم” جامعة القرويين كأحد أهم معاقلهم الرمزية، فإن الإكراهات التي أصبح يفرضها تزايد شعبية الإسلام السياسي، خاصة بعد الثورة الإيرانية (1979)، قد حتم على الملك تبني استراتيجية أكثر صرامة في احتلال مجالات وقنوات إنتاج الخطاب الديني ووسائل نشره من خلال :

ـ الرقابة الإدارية الصارمة على النشاط الديني، حيث انصب الاهتمام قبل كل شيء بوضع وسائل للإشراف الديني، كجزء من السياسات العامة للدولة. فغداة أحداث الدار البيضاء (1981) و الناظور ومراكش (1984)، تم الاعتراف الرسمي بوجود “خطر أصولي”، وفي نفس الوقت تطوير سياسة أمنية قائمة بالأساس على تقسيمات إدارية جديدة خصوصا بالدار البيضاء والرباط، وتزويد العمالات والأقاليم بمصالح متخصصة في الميدان الديني، قصد التحكم في استخدام وانتشار المساجد، وتعيين أئمة هذه الأخيرة من طرف وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بعد استشارة عامل الإقليم، ثم الإشراف المباشر على خطبة الجمعة[11].

ـ تنظيم “رجال الدين”، ذلك أنه وإذا كان الحسن الثاني، قد تعايش لمدة طويلة مع «رابطة علماء المغرب» والتي كانت تشكل نوعا من النقابة التي تدافع عن المصالح الأدبية للعلماء بالمغرب، وتذكير النظام بوجودها المستمر كطرف فعلي في السياسة الدينية للبلاد، عن طريق التوصيات التي تصدرها؛ فإن العاهل المغربي قد وجد نفسه ابتداء من نهاية عقد السبعينات أمام تناقضين أساسيين، فمن جهة كان التحدي الإسلامي يفرض عليه إيجاد أجوبة مقنعة على الصعيد الديني، بل والقيام بمزايدة إيديولوجية تتمثل في التمسك بـ “الإسلام الصحيح”[12]، أي الاعتماد على العلماء القادرين وحدهم على لعب هذا الدور؛ ومن جهة أخرى كان الحسن الثاني يبدي تخوفا واضحا من هؤلاء العلماء باعتبارهم معارضة دينية محتملة، عن طريق استثمار كل سياسة تتخلى عن إسلامية الدولة والمجتمع.

لذلك يمكن القول أن العلماء، ظلوا يشكلون بالنسبة للحسن الثاني “حلفاء مزعجين”، مما حتم عليه التوفيق بين دولنة وظيفة العلماء من خلال تحديد اختصاصاتهم بصرامة وتقوية مصداقية هيئة العلماء حتى تستطيع مواجهة الحركات الأصولية. في هذا السياق، يمكن فهم تكتيك إنشاء “المجلس العلمي الأعلى “[13]؛ والذي جاء في تقديم الظهير المنشئ له تحت عنوان «الأسباب الموجبة» التي تبرز المهام الموكولة إليه ما يلي : «كان الإسلام ولا يزال أهم مقومات الشخصية المغربية، وكانت وحدة العقيدة والمذهب التي من الله بها على المغرب منذ القدم الأساس المتين الذي قامت عليه وحدة الأمة، والعامل الفعال الذي ضمن لها التماسك والاستقرار، وجعلها بمأمن من التفكك والانقسام الذي أصاب كثيرا من الأمم الأخرى […] وقد استقر رأينا بعد أن أصبحنا نشاهد ما ينذر  به شيوع بعض المذاهب الأجنبية من خطر على كيان الأمة المغربية وقيمها الأصلية، أن يستمر عملنا المتواصل في إطار مؤسسات تنتظم فيها وتتناسق جهود العلماء (الفقهاء) الأعلام، للعمل تحت رعاية جلالتنا الشريفة، وإرشادها على التعريف بالإسلام، وإقامة البرهان على أن ما جاء به صالح لكل زمان ومكان في أمور الدين والدنيا معا، وأن فيه غنى عن ما عداه من المذاهب والعقائد التي لا تمت بصلة إلى القيم التي يقوم عليها كيان الأمة المغربية…»[14].

وبالفعل فقد شكل إحداث المجلس العلمي الأعلى، تنظيما هرميا يجمع كل علماء المغرب على المستوى المركزي تحت الرئاسة الشخصية للملك باعتباره “العالم الأول ” حسب تعبير Remy Leveau .وتتلخص مهامه حسب (الفصل 4) من الظهير المذكور في :

ـ التداول في القضايا التي يعرضها عليه جلالة الملك.

ـ تنسيق أعمال المجالس العلمية الإقليمية.

ـ ربط الصلات بالمؤسسات الإسلامية العليا كـ “رابطة العالم الإسلامي” و “المؤتمر الإسلامي” .

لكن التنظيم الإداري للعلماء وللنشاط الديني لم يقتصر على المستوى المركزي بل تعداه إلى المستوى المحلي من خلال إنشاء مجالس علمية إقليمية يعينها الملك كذلك[15] كشبكة منتشرة مجاليا لمراقبة النشاط الديني

المحور الثاني – الحقل الديني في المغرب نحو: إستراتيجية شمولية للضبط والمراقبة

مباشرة بعد أحداث 11 سبتمبر/ 2001 في الولايات المتحدة الأميركية ثم أحداث 16 مايو 2003 في الدار البيضاء،تحولت السياسة الدينية بالمغرب من بعدها القطاعي  نحو سياسة مابين قطاعية وأكثر   شمولية تقوم على أساس إستراتيجية شمولية للضبط  والمراقبة حيث أصبح يشمل ما صار يعرف بتدبير الحقل الديني العديد من الإجراءات الضبطية أهمها : قانون مكافحة الإرهاب، وقانون تنظيم التعليم العتيق ، وآخر لتنظيم بناء المساجد وأماكن العبادة، وإعادة هيكلة كل من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، والمجالس العلمية والإفتاء، ودار الحديث الحسنية  وإغلاق عدد من المصليات الصغرى، وزيادة تخريج وإدماج المرشدات الدينيات للنساء في المساجد ابتداء من سنة 2006.

ويمكن رصد أهم ملامح هذه الإستراتيجية فيما يلي:

أ-التأكيد على سمو إمارة المؤمنين : باعتبارها المرجعية الإسلامية العليا للشعب، و التي تقدم التفسير والتأويل المعتمد للدين، و ترجح بالتالي الاجتهاد اللازم الإتباع ( مدونة الأسرة مثلا) حيث حكم الحاكم يرفع الخلاف في الأمور الاجتهادية

ب-الدفاع عن وحدة المذهب المالكي : دفعا لكل منافسة دينية من الداخل أو الخارج بحجة أن وحدة المذهب هي ضمان انسجام ووحدة المغاربة ( قرار قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران) لذلك فالدولة حريصة في نطاق تدبيرها للحقل الديني على إقصاء كل التيارات والتوجهات التي تحاول المس بوحدة المذهب المالكي بأي شكل من الأشكال. وتعتبر الالتزام بالمذهب شرطا أساسيا للسماح بالعمل للجماعات والجمعيات والحركات الإسلامية

ج- مغربة الدين: من خلال التأكيد على أن الإسلام له بعد مغربي ينبغي المحافظة عليه والالتزام به، ويعتبر العنصران السابقان (إمارة المؤمنين والمذهب المالكي) من مكونات هذه المغربة.

ل*لك ترفض الدولة كل توجه إسلامي ذي طبيعة أممية، مما يفسر عدم انخراط الحركات الإسلامية الكبرى بالمغرب في أي تنظيم عالمي مثل الإخوان المسلمين أوالتوجه الثوري الإيراني.

ه- وتنظيم الفتوى : من خلال التحديد الصارم لوظائف العلماء ومحاصرة المبادرات المستقلة في مجال الإفتاء(الصرامة السياسية التي ووجهت بها فتوى المغراوي بخصوص زواج القاصر) فهيأة العلماء،وبعد تنظيمهم في نطاق مجالس علمية محدودة الاختصاصات والأدوار، فهي لا تفتي إلا في مجال ضيق وفي القضايا الفردية، كما تذيل فتواها بما يفيد بأنها غير ملزمة إلا في أضيق الحدود تلافيا لأي تنازع مع  القضاء أوالإدارة

و- التنظيم الصارم للتعليم الديني: حيث سارع المغرب إلى إعادة تنظيم ومراقبة المدارس العتيقة والكتاتيب القرآنية، فصدر قانون التعليم العتيق في المغرب سنة 2002 لتنظيم الترخيص لهذا النوع من التعليم ومناهجه ومواده وضبط عمليات التفتيش والشهادات والتوظيف.

ز- حذر تأسيس أحزاب سياسية على أسس دينية: حيث منع قانون الأحزاب السياسية لسنة 2005 صراحة تأسيس الأحزاب على أسس دينية أو لغوية أو عرقية أو جهوية[16]

و-الرقابة المشددة على قنوات التنشئة الدينية : فالمسجد باعتباره منبرا وسلاحا للوعظ والإرشاد، يحظى بشعبية جمهور المصلين، قد يتحول إلى عنصر مقاومة ونقد إصلاحي للممارسة السياسية والاجتماعية السلبية المنافية للقيم الإسلامية . فبعدما جرت العادة على بناء المساجد من طرف المحسنين وليس من طرف الدولة، فإن هذه الأخيرة ستؤكد حرصها على الوصاية والإشراف عليها بموجب ظهير صادر بتاريخ 2 أكتوبر 1984 وفقا للقرار الصادر عن وزارة الأوقاف بتاريخ 10 مارس 2006. ومن أهم تجليات هذه الوصاية تعيين القيمين الدينيين على المساجد وتقنين ولوج هذه الأخيرة من خلال فتحها وإغلاقها في أوقات محددة بالصلوات الخمس، بالإضافة إلى إعداد الخطب النموذجية المكتوبة، خصوصا في المناسبات الدينية والوطنية. ويظهر الارتباط العضوي للمسجد بالمشروعية الدينية الرسمية للدولة كذلك من خلال الاحتفال بالأعياد والمناسبات الدينية في أعظم مساجد المملكة وبحضور ممثلي مؤسسات الدولة تحت إشراف عمال وولاة جلالة الملك الذي يشرف بدوره على الاحتفال برمزيته الدينية وحضوره الفعلي لأحد مساجد المملكة. وهي ظاهرة ترسخت في السنوات الأخيرة

ة-التشجيع السخي للإسلام الشعبي : حيث أصبحت بعض الزاويا تسجل حضورا مكثفا في الفضاء الثقافي والفكري من خلال الندوات والتظاهرات التي يقوم بتنشيطها أتباعها ومن خلال الإصدارات المتنوعة التي ينتجها بعض رموزها ، وتأثير هذه الصحوة الصوفية الجديدة على الجامعة من خلال إشراف بعض أطرها العلمية على وحدات البحث والتكوين في التصوف والزوايا. وهو ما يساعد النظام السياسي المغربي إلى حد كبيرعلى استيعاب ظاهرة التطرف الديني بخطاب دعوي وتربوي معتدل وفي نفس الوقت محاصرة حركة الخطاب العلماني[17].

 

   المحور الثالث : الديني في خدمة السياسي

إن الوزن الذي أصبحت تحتله الحركات الإسلامية  السرية وغير المنظمة (الإسلام التكفيري) خاصة بالأحياء الهامشية للمدن الكبرى، وما تطلبه ذلك من عمليات إعادة الهيكلة، التي بادرت بها المؤسسة الملكية في المجال الديني –عبر إعادة تحديد نشاط وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية على وجه الخصوص-، أصبحت تثير العديد من الأسئلة والإشكاليات بخصوص تمفصلات الدولة والدين في مواجهة تحديات الانتقال الديمقراطي والتحديث السياسي، في الوقت الذي أصبحت فيه المؤسسة الملكية، تجعل من وحدة الديني والسياسي مصدر شرعيتها[18].

وبالفعل لقد أظهرت أحداث 16 ماي 2003 مدى الصعوبات التي أصبحت تواجه السلطة السياسية، في مراقبة التحولات الاجتماعية المتسارعة والمعقدة، خاصة على مستوى الحقل الديني، من خلال ظاهرة المساجد العشوائية والسرية التي نمت على هامش الإطار الرسمي للدولة، واستطاعت تشكيل قوة تعبوية وتحريضية لا يستهان بها، في نشر ما أصبح يعرف “بالإسلام التكفيري” كأحد أهم وأخطر أشكال الاحتجاج الاجتماعي المرتبط بالتشكيك في مشروعية النظام السياسي ككل[19].

فالتحولات المهمة التي عرفتها السياسية الدينية للمؤسسة الملكية، خلال هذه المرحلة الدقيقة من التاريخ السياسي المغربي، تعكسها جدية الملك، باعتباره أمير المؤمنين، وحرصه على إصلاح الشأن الديني، باعتباره المحرك الأساسي لتسريع الملفات والقوانين المنظمة، حماية له من كل “التفسيرات والتأويلات” بما يمكن اعتباره صمام أمان لحماية الحقل الديني من الفوضى التي ظل يعيشها هذا الحقل[20]، وضرورة مادية ومعنوية لفهم وتكريس الخيارات المذهبية للدولة، على اعتبار أن الجدل والمناقشة في الشأن الديني له من الحساسية والخصوصية، ما يمس بشكل عميق إشكالية مشروعية السلطة السياسية، ويعكس محددا أساسيا للتحولات الاجتماعية، التي أصبح يعرفها المشهد السوسيو سياسي المغربي.

وهكذا عرفت  وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية تغييرات  جذرية، وذلك من خلال إعفاء “الفقيه” من تدبير الشأن الديني وتعيين المؤرخ والصوفي كناية على السيد أحمد  التوفيق، على رأس مؤسسة الأوقاف والشأن الديني، مما يعني أن النظام السياسي المغربي قد انتقل إلى مرحلة تدبير الشأن الديني، وفق مواصفات التدبير الثقافي والفكري الذي يوسع دائرة المباح، ويرفع من سقف الحرية واحترام الجانب العقلي[21]. ومن أجل ذلك، تم الانطلاق من استراتيجية متعددة الأبعاد :

-استراتيجية ذات أمد بعيد، وتتجلى في إعادة هيكلة الوزارة بالشكل الذي ينسجم مع انفتاح المجتمع على ذاته وعلى الآخر، يضمن لرجال الدين الإطار الثقافي والسياسي، من خلال البحث عن نخبة ثقافية جديدة جهويا ومركزيا، وإيجاد بنية إدارية وبشرية صلبة تقوى على ترجمة المشروع الإصلاحي التصحيحي ونقله إلى ورشة تنفتح على جميع الفعاليات وخدماتي، يعمل على توفير الأمن الروحي والثقافي.

-استراتيجية ذات أمد قريب، تمثلت في العمل على الصعيد الإعلامي من أجل إعطاء إشارات حسن النية في بناء إقلاع إعلامي ديني يعيد الاعتبار للوزارة عبر الوسائل السمعية البصرية من خلال التخلص من برنامج الإفتاء الأسبوعي ركن المفتي، الذي كان يسوق ضعف الإنتاج الفقهي والفكري للوازرة، ويعطي انطباع شيخوخة المدرسة المالكية في المغرب، وعدم قدرة علمائه على الاجتهاد. مقابل إنتاج برنامجين، يوميين طيلة خمسة أيام في الأسبوع : الأول بعنوان “من سنن الرسول” والثاني بعنوان “بصائر من القرآن“، وهو خطاب يعكس شكلا ومضمونا مواصفات المرحلة الجديدة، وإعطاء الإعلام الديني جاذبية وقبولا لدى المتلقي.

فالسياسة الإعلامية الجديدة في المجال الديني راهنت بالأساس على إنتاج خطاب تربوي أخلاقي تأطيري، يتوزع على مرجعيتين أساسيتين في الفكر، والسلوك الإسلامي وهما الكتاب والسنة ومحاولة تجنب الخطاب الفقهي في المرحلة الانتقالية، إلى حين تأسيس بنية فكرية تقوى على استيعاب الفقه وأحكامه، على اعتبار أن الإغراق في الفقهيات –بالمعنى السلوكي- يضيق مساحة المبادرة والتوسعة، من جهة، واختيار المضامين المؤسسة لفكر الوحدة والتنمية الاجتماعية والأخلاقية وذلك من خلال الانطلاق من نصوص واضحة في الكتاب، والسنة وتحليلها، وتجديد معانيها بالشكل الذي يقوي الشعور بالجماعة، وينمي مشاعر التضامن والدفاع عن الاختيارات الفكرية والسياسية والحضارية المغربية من جهة ثانية[22]. وهكذا وبعد تعيين السيد أحمد توفيق على رأس وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، استمرت القراءة التي أطرت لخطة تعيينه، والتي مفادها تجديد التعايش بين الإسلام الرسمي والإسلام الشعبي وذلك لمواجهة المجال الديني المضاد (العلماء المتمردون والإسلاميون المشاكسون ثم التيارات التكفيرية) [23].

 

أما المستوى  الثاني لإصلاح  الحقل الديني فقد هم دار الحديث الحسنية ، من خلال جعل أنشطتها العلمية رسالة رمزية تدل على حركية التجديد المنهجي والفكري، والانخراط في مسلسل الإصلاح وضبط البنية التحتية الثقافية للمنظومة الدينية والثقافية المغربية وذلك وفق الاعتبارات التالية:

-كونها من المؤسسات العليا في البلاد، التي ساهمت بقوة في تكوين نخبة من العلماء والمفكرين، الذين بصموا مدرسة الفقه والفكر الإسلاميين بالمغرب، بطابع الوسطية، والاعتدال والنزوع نحو توفير شروط التأطير الروحي والاجتماعي. لذلك لعبت هذه المؤسسة دورا ثقافيا في خلق التوازنات الاجتماعية، والأيديولوجية الضرورية للتوافق مع الظروف السياسية العامة، من خلال إنتاج نماذج من العلماء ذوي تخصص عال في العلوم الدينية والفكر الإسلامي، وبالتالي ضرورة تنقيحها بلمسات عصرية منهجا وفكرا حتى تتأقلم مع معطيات ومحددات، وإكراهات المرحلة الراهنة.

-كون هذه المؤسسة، أصبحت تشكل جزءا من التوجه العام لإصلاح المنظومة الدينية في المغرب، من خلال توجيهها نحو إنتاج فكر إسلامي عصري وسطي، يؤمن بقيم الجوار والتسامح وقيم العصر والحداثة، مما يعني أن المؤسسة أصبح عليها أولا أن تجدد منظومتها التربوية، والعلمية وتحدد مواصفات الفقيه / العالم[24]، الذي تتطلبه المرحلة الجديدة أي الحس القانوني الذي يدافع عن دولة المؤسسات، والحس الثقافي الذي يمكنه من قراءة النص في توافقه مع هذه المؤسسات وتطور منظومتها، ثم الحس السياسي الذي يؤمن بالديمقراطية، كنهج لممارسة الحكم وتوفير العدالة وشروط الحداثة السياسية.

وفي هذا السياق جاء العدد الأول من مجلة دار الحديث الحسنية “الواضحة” برسم سنة 2003/1424، في شكل جديد مخالف لتوجه المجلة السابقة للمؤسسة، من خلال إعطائها طابع المجلات “المقبولة”، من حيث الإخراج والتبويب والتنظيم وإن كانت لا تزال بها نفحة تقليدية، نظرا لوضع المؤسسة داخل المنظومة الثقافية الإسلامية في المغرب وهو ما عبر عنه الأستاذ الخمليشي في افتتاحية هذا العدد بقوله : «لم يتم اختيار الاسم لمجرد محاكاة ابن حبيب في واضحته المعروفة، وإنما بالإضافة إلى ذلك، نود أن تتصف المجلة بالوضوح في أداء رسالتها معبرة عن مؤسسة جامعية للدراسات الإسلامية العليا. والوضوح المرغوب فيه نأمل أن يتحقق في الرؤية والأفكار والحوار …» [25]. من هنا، تأتي أهمية طرح مسألة تدبير الحقل الديني بالمغرب، من خلال مؤسساته وفلسفته وغاياته التربوية ومناهجها، ومشروعها المجتمعي من خلال مستويين أساسيين :

المستوى السياسي التدبيري : باعتباره من اختصاص الملك، أمير المؤمنين، وهذا ما ظلت تحرص عليه المؤسسة الملكية لما له من علاقة عميقة بإشكالية المشروعية.

المستوى التربوي المنهجي : وهو من اختصاص المؤسسات الجامعية والإدارية، والتي لا تخرج بدورها عن المستوى الأول.

وعليه، فإن المتتبع لتطور الحقل الديني بالمغرب تستوقفه حتما عدة ملاحظات  أساسية، وهي أن الإصلاحات الجذرية الكبرى للحقل الديني، كانت تتم دائما تحت ضغط أحداث وأزمات دولية، غالبا ما يكون لها صدى وتداعيات محلية، ففي بداية الثمانينات جاء إصلاح الحقل الديني كرد فعل مباشر على الثورة الإسلامية الإيرانية، حيث تم استحداث مجالس علمية إقليمية، وتم تقنين عملية بناء المساجد ووضعها تحت مراقبة رجال السلطة المحلية.

هذا السيناريو نفسه، سيعاد إنتاجه بعد أحداث 11 شتنبر وأحداث 16 ماي إذ سيعود الحديث عن استراتيجية جديدة لتدبير الشأن الديني، ظهرت أولى ملامحها مع التعديل الحكومي لـ 7 نونبر 2002، ويمكن التمييز في هذا الإصلاح بين مستويين متداخلين : الأول مذهبي له علاقة بالتوجهات الدينية الكبرى للدولة المغربية، أما الثاني فمؤسساتي – إداري، يرتبط بإعادة هيكلة وتنظيم المؤسسة الدينية الرسمية المكلفة بعمليات التأطير الديني.

فقد لوحظ على الخطابات الملكية منذ أحداث 16 ماي، تركيزها المكثف والواسع على سؤال المرجعية الدينية، ومحاولة توضيح بعض الإشكاليات التي تتعلق بالاختيارات المذهبية والإيديولوجية والعقائدية التي تتبناها الدولة المغربية، وتهم هذه الإشكاليات أساسا : مركزية إمارة المؤمنين، الوحدة المذهبية، العلاقة بين الدين والدولة والسياسة[26].

         أ – مركزية إمارة المؤمنين : من أهم النقط التي ركز عليها الخطاب السياسي الرسمي، مباشرة بعد أحداث 16 ماي، إعادة فرض الهيمنة الدينية للملك، باعتباره أمير المؤمنين، على اعتبار أنه يشكل “المرجعية الدينية الوحيدة للأمة المغربية”، التي تضطلع تاريخيا بالوظائف الدينية، التي تمكن من حماية النسيج الديني، والمذهبي للبلاد من كل “التيارات الدخيلة”.

فالخطاب الملكي، إذن لما بعد 16 ماي، لم يعد يكتفي بالتذكير بالصفة الدينية للملك كأمير المؤمنين، بل سيتم تقوية هذه المكانة وترسيخها، وتعميقها من خلال اللجوء إلى وصف أكثر عمقا في التاريخ الديني، والسياسي للدولة العلوية، المتمثل في الإمارة العظمى، ذلك أن السياق والظرفية العامة التي دفعت إلى إعادة بعث هذا اللقب الديني (منذ السلطان عبد الرحمن ابن هشام 1822-1859)، لا تختلف كثيرا عن بداية حكم هذا الأخير، حيث سيعلن الملك محمد السادس أن “الوظائف الدينية هي من اختصاص الإمامة العظمى المنوطة بالملك”؛ وذلك في محاولة لضرب، واقتلاع بعض مظاهر الأيديولوجية الوهابية التي برزت إلى السطح مع أحداث 11 سبتمبر.

ب – الوحدة المذهبية :ذلك أن من أهم تداعيات أحداث 16 ماي، هو إسراع الدولة إلى تدارك بعض ما اعتبر “انحرافات مذهبية”، والتي ظهرت تدريجيا خلال السنوات الأخيرة لحكم الملك الحسن الثاني، فإذا كان هذا الأخير قد ظل يقدم “الإسلام المغربي” على أنه “سني مالكي”، فإن التطور التاريخي للبنية الاجتماعية المغربية قد أظهر وجود ولاءات غير معلنة لمذاهب وإيديولوجيات متناقضة مع هذا الاختيار، كما هو الشأن بالنسبة للتأثيرات الوهابية القادمة من السعودية[27]، والتي تغلغلت داخل العديد من المؤسسات الدينية التعليمية المغربية[28] والتي ظلت تستفيد من دعم وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية نفسها[29].

       ج – ضبط علاقة الدين بالدولة والسياسة : حيث عرف المغرب مباشرة، بعد أحداث 16 ماي 2003، إعادة فتح النقاش مجددا حول موقع الدين داخل الحقل السياسي المغربي، وهكذا ظهرت بعض الاتجاهات التي تدعو صراحة إلى ضرورة الفصل بين الدين والسياسة، خاصة من جانب بعض الأحزاب السياسية والمنظمات المهنية، وفي هذا الإطار جاء خطاب العرش لسنة 2004 أكثر صرامة ووضوحا، تجاه هذه المسألة من خلال الدعوة إلى ضرورة التمييز بين السياسة والدين، على اعتبار أن لكل من العنصرين مجالاته، وفضاءاته الخاصة عبر الاستناد إلى الدستور نفسه.

د – إعادة هيكلة المؤسسات الدينية الرسمية : شكل تعيين شخصية تكنوقراطية ممثلة في السيد أحمد التوفيق، على رأس وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، تحولا نوعيا في كيفية تدبير الحقل الديني في المغرب، ومقدمة لرغبة الدولة في تغيير سياستها الدينية، وتماشيا مع التحولات الداخلية والإكراهات الخارجية، وفي هذا الصدد يعتبر الخطاب الملكي لـ 30 أبريل 2004 أمام المجلس العلمي الأعلى، والمجالس العلمية الإقليمية، بمثابة الإطار النظري والمرجعي لهذا الإصلاح، حيث سيتم الإعلان عن “استراتيجية مندمجة وشمولية لتدبير الشأن الديني” من خلال 3 محددات أساسية :

1 – إعادة هيكلة الوزارة الوصية : حيث عرفت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، هيكلة جديدة على مستوى الإدارة المركزية من خلال إضافة مديريتين أساسيتين وهي : مديرية المساجد، ومديرية التعليم العتيق، إضافة إلى المديريات الثلاث الأصلية (مديرية الدراسات والشؤون العامة ومديرية الشؤون الإسلامية ثم مديرية الأوقاف).

وهي إصلاحات تسعى بالدرجة الأولى، إلى ضبط حقل المساجد وسد بعض الثغرات التي انطوى عليها التدبير السابق، خصوصا وأن 69% من مساجد المملكة قد أصبحت خارج مراقبة الوزارة الوصية من جهة، والتمييز بين قطاعي الأوقاف والشؤون الإسلامية، نحو مزيد من التخصص من جهة ثانية.

2 – إعادة تفعيل المجالس العلمية : وذلك من خلال التركيز أكثر على مؤسسة العلماء، وإعادة تأهيلهم لمواجهة التحديات الجديدة التي أصبحت تواجه مهامهم، وهكذا سيتم الرفع من شبكة المجالس العلمية الإقليمية من 19 مجلس إلى 30 مجلس وزيادة عدد أعضاء بعضها خاصة في بعض المدن الكبرى والحساسة كالدار البيضاء ومكناس وفاس، ثم إشراك العنصر النسوي[30] في هذه المجالس لأول مرة في تاريخ المغرب.

3 – إصلاح التعليم والإعلام الديني : وذلك من خلال إحداث مديرية خاصة بالتعليم العتيق، تسهر على وضع الاستراتيجية الكفيلة بدعمه، وإصلاحه، أو من خلال العناية بالجانب البيداغوجي للتعليم الأصيل، المنتشر ضمن أسلاك التعليم العمومي.

 

استنتاجات

لذلك وبعد استشعار خطر توغل الإسلاميين بين ثنايا المجتمع، قررت الدولة تبني دينامية متسارعة في مجال “الإصلاح الديني”، إدراكا منها فيما يبدو، أن الأداة الخشنة لا يمكن أن تؤتي أكلها على المدى المتوسط والبعيد، إذا لم تتم مزاوجتها بأدوات ناعمة، تطاول منظومة الأفكار والتصورات، عبر تقنين إنتاج الخطاب الديني. لدلك فليس من الهين، معرفة المضمون الحقيقي والدقيق للعبارات الرائجة سياسيا بهذا الخصوص، بين ضرورة “هيكلة وتأطيرالحقل الديني” و “تدبير الشأن الديني” أو “تجديد الخطاب الديني” الخ وهي توصيفات عامة، لكنها تستهدف بلوغ ثلاثة أهداف مرحلية أساسية:

أ- إعادة هيكلة البنية المؤسساتية  ابتداء من القيمين الدينيين على المستوى الترابي، وصولا إلى حدود المجلس العلمي الأعلى، مرورا بالمجالس العلمية الوسيطة، الفاعلة على المستويات الجهوية. مما يمكن السلطة المركزية من تتبع دقيق بما يدور بالمساجد أو الزوايا أو المشيخات أو بالآلاف من الكتاتيب القرآنية المنتشرة هنا وهناك، والعاملة في العديد من الحالات، بعيدا عن عيون السلطة.

ب- وعي الدولة، صراحة، بضرورة إعطاء أهمية خاصة لهشاشة الوضعية المادية، للعديد من الأئمة والقيمين الدينيين ومؤذني الجوامع وما سواهم، مما يجعلهم إما غير قادرين على تأدية وظائفهم، أو موضع استقطاب، من لدن بعض “المشوشين على الخطاب الديني الرسمي.

ج- تجديد مضمون الخطاب الديني. من خلال التأكيد على ثوابت المنظومة الدينية الرسمية، المرتكزة على العقيدة الأشعرية ومذهب الإمام مالك، والتصوف السني، ومن خلاله التأكيد على أن إمارة المؤمنين هي قلب المنظومة إياها، على مستوى الفتوى، كما على مستوى الاحتكام النهائي في أمور الدين.

وهكذا فقد حاولت المؤسسة الملكية في هضم المعارضة الإسلامية ، من خلال وضع القوى السياسية الإسلامية المؤيدة والمعارضة في هوامش محددة، ضمن معادلة معقدة من التوازنات والحسابات والضغوط. وبالتالي تراوحت علاقة المؤسسة الملكية والجماعات الإسلامية خلال السنوات الأخيرة بين ثلاث مقاربات رئيسية:

– مقاربة الإدماج المحدود، وتجسدها علاقة المؤسسة الملكية بحركة التوحيد والإصلاح- والتي تم تجريبها في عقد التسعينات مع القوى اليسارية- دلك أن هذا الخيار يساهم في دعم التوازنات المطلوبة بين إسلام شعبوي محافظ، وبين إسلام سياسي مناضل.

– مقاربة الإقصاء المحدود وتجسدها علاقة المؤسسة الملكية بجماعة العدل والإحسان، حيث لا ترغب الدولة في الاستبعاد الكلي للجماعة، خشية حدوث مشكلات جانبية أخرى، قد تتمثل في انزلاقها إلى العنف مادامت لا تقبل بالمشاركة السياسية وفق القواعد القائمة.

مقاربة الاستبعاد الكلي، وتجسدها علاقة المؤسسة الملكية بالجماعات المتشددة، وتقوم على المواجهة الشاملة والملاحقات القضائية، باعتبارها تمثل أحد مصادر تهديد شرعية وأمن واستقرار النظام السياسي

 

 

لائحة المراجع

 

 

– Clifford Geertz  / Savoir local ، savoir global : les lieux du savoir / (traduit de L’anglais par Denise Paulme ) éd. PUF collec. “sociologie d’aujourd’hui” Paris (1986).

-Mohammed Tozy / L’évolution du champ religieux marocain au défi de la mondialisation/ Revue internationale de politique comparée. Volume 16 (2009)

Malika Zeghal، /les islamistes marocains et le défi à la monarchie/، Ed. le fennec )2005(

-Malika Zeghal / les islamistes marocains، le défi à la monarchie/ (entretien avec) in Revue électronique Sezame 16 Janvier 2007

 

  • ريمي لوفو / الإسلام والتحكم السياسي في المغرب/ “المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي” السنة IV. ع 13-14. الدار البيضاء (1991-1992).
  • فرانسوا بورجا / الإسلام السياسي : صوت الجنوب / (ترجمة ذ. لورين زكي ) مطبعة النجاح الجديدة. الدار البيضاء 1994.
  • محمد طوزي /الإسلام والدولة في المغرب العربي (المغرب، الجزائر ، تونس)/ ، المجلة “المغربية لعلم الاجتماع السياسي ” ، السنة 4 ، عدد 13-14 الدار البيضاء (1991-1992 )
  • عبد القادر باينة / الهيئات الاستشارية بالمغرب / دار النشر المغربية. الدار البيضاء (1991)
  • جيل كيبل / من اجل تحليل اجتماعي للحركات الإسلامية في الإسلام وآفاق الديمقراطية في العالم العربي/، مركز طارق بن زياد للدراسات والأبحاث، أكتوبر )2000 (الرباط.
  • عبد الرحيم العطري، صتاعة النخب بالمغرب، منشورات وجهة نظر.
  • محمد اتركين، السلطة التنفيذية اولوية الاجوندا وطبيعة الأداء والحصيلة، منشورات وجهة نظر “دراسات استراتيجية”.
  • سليم حميمنات المؤسسة الدينية الرسمية وتحديات ما بعد 16 ماي، مجلة وجهة نظر، ع 25-26، السنة الثامنة ط 2005.
  • نور الدين الزاهي، امارة المومنين ورهانات الحقل الديني السياسي، السياسة الجديدة، ع 461 نونبر 2003.

 

 

[1] جيل كيبل/ من اجل تحليل اجتماعي للحركات الإسلامية في الإسلام وآفاق الديمقراطية في العالم العربي/، مركز طارق بن زياد للدراسات والأبحاث، الرباط )2000 (، ص 45

[2] – Clifford Geertz  / Savoir local ، savoir global : les lieux du savoir / / (traduit de L’anglais par Denise Paulme ) éd. PUF collec. “sociologie d’aujourd’hui” Paris (1986). p 169.

[3] – فخلال محاكمة الدار البيضاء لسنة 1960، والتي أدت إلى منع “الحزب الشيوعي المغربي”، استند المجلس الأعلى في إصدار هذا الحكم على الحيثيات التالية:

  • إن الدولة المغربية هي ملكية دينية حيث أن العاهل المغربي هو قبل كل شيء ملك وأمير المؤمنين
  • إن الدولة المغربية هي دولة إسلامية ليس فقط لتطبيقها الإسلام بل لأن الإسلام يشكل مضمون وجودها.
  • إن أي مس بالدين هو مس بالأمن العام .
  • إن جلالة محمد الخامس كثيرا ما أصر بأن كل إيديولوجية مادية تتنافى و مبادئ الإسلام تعتبر مرفوضة.

انظر : ريمي لوفو / الإسلام والتحكم السياسي في المغرب/ “المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي” السنة IV. ع 13-14. الدار البيضاء (1991-1992) ص 169.

[4] – يتعلق الأمر أساسا بـ « أزمة القرويين» ثم « أزمة محاكمة البهائيين» :

– فالأزمة الأولى برزت عندما تم تنظيم احتفال بمناسبة الذكرى الألفية لإنشاء القرويين، من طرف مجموعة من النخب العلمانية، الشيء الذي جعل العلماء يرون في ذلك تقليصا من صلاحيتهم وانتزاعا لبعض حقوقهم. وقد عبر ” عبد الله كنون ” ممثل علماء المغرب عن هذا الموقف بقوله : «لقد قاطعنا الاحتفالات التي أخرت لمدة 6 أشهر، وتطلب الأمر التدخل الشخصي لمحمد الخامس، كي نقبل بالحضور  فاستمعنا فقط للخطاب ثم انسحبنا».

لكن هذه الأزمة ستتعمق أكثر عندما بلورت وزارة التربية الوطنية سنة 1960 مشروعا لتوحيد نظام التعليم، من خلال إدماج التعليم الديني للقرويين والسلك الأول في التعليم العام، وإلحاق القرويين  بجامعة محمد V، مع تعيين مديرا لها من خارج مجلس العلماء؛ فتمثل رد العلماء من خلال اجتماعهم بالرباط يومي 18 و 19 شتنبر 1960 لتدارس مشاكل التعليم الديني والمخاطر التي تهدده. مما أسفر عن تدخل الملك وإصدار مرسوم ينظم جامعة القرويين .

– أما الأزمة الثانية فتمثلت في محاكمة البهائيين بالناظور، والتي عكست وجود تيار علماني قوي لدى بعض المسؤولين الكبار في جهاز الدولة، ولد بالمقابل جبهة دينية تزعمها “علال الفاسي ” وزير الأوقاف حينها. مما أدى كذلك إلى تدخل الملك لترجيح كفة التيار الديني على حساب التيار العلماني، رغم تعاطفه مع “أحمد رضا اكديرة” الذي تزعم هذا التيار.

( محمد طوزي / الإسلام والدولة في المغرب العربي (المغرب، الجزائر ، تونس)/ ، المجلة “المغربية لعلم الاجتماع السياسي ” ، السنة 4 ، عدد 13-14 الدار البيضاء (1991-1992 ) ص 29).

[5] – فرانسوا بورجا / الإسلام السياسي : صوت الجنوب / (ترجمة ذ. لورين زكي ) مطبعة النجاح الجديدة. الدار البيضاء 1994 ص 311.

[6] – نفس المرجع، ص 312.

[7] – محمد طوزي / الإسلام والدولة في المغرب العربي …/ م س ص 34.

[8] – نفس المرجع، ص 34.

[9] – نفس المرجع، ص 33-34.

[10] – فرانسوا بورجا / الإسلام السياسي: صوت الجنوب/ م س ص 313.

[11] – ظهير 2 أكتوبر 1984.

[12] – محمد طوزي / الإسلام والدول في المغرب العربي ../ م س ص 46.

[13] – ظهير رقم 270-80-1 بتاريخ 8 أبريل 1981. (ج .ر .ع  3575. بتاريخ 6 ماي 1981) ص 543-544.

[14] –  عبد القادر باينة / الهيئات الاستشارية بالمغرب / دار النشر المغربية. الدار البيضاء (1991) ص 35.

[15]  أما المجالس العلمية الإقليمية فتتحدد مهامها حسب (الفصل 8) من نفس الظهير  في :

– إحياء كراسي الوعظ والإرشاد والتثقيف الشعبي بالمساجد والسهر على سيرها.

– توعية الفئات الشعبية بمقومات الأمة الروحية والأخلاقية  والتاريخية، وذلك بتنظيم محاضرات وندوات ولقاءات تربوية.

– الإسهام في الإبقاء على وحدة البلاد  في العقيدة والمذهب في إطار التمسك بكتاب الله وسنة رسوله.

– العمل على تنفيذ توجيهات المجلس العلمي الأعلى.

[16]Mohammed Tozy / L’évolution du champ religieux marocain au défi de la mondialisation/ Revue internationale de politique comparée. Volume 16 (2009) p 63

Voir aussi :

-Malika Zeghal / Les islamistes marocains، le défi à la monarchie (entretien avec) in Revue électronique Sezame(Chicago) 16 Janvier 2007

 

[17]– Malika Zeghal، les islamistes marocains et le défi à la monarchie، Ed. le fennec 2005، p:7

[18] -بما أن الوصول إلى أقصى درجات التحكم في أي نسق يمر بداية عبر ضبط المجال والتحكم في جميع هياكله وقنواته، وبما أن المجال الديني يتجسد في المساجد بالدرجة الأولى، فقد تم الانتباه مبكرا إلى ضرورة ربط هذه المؤسسات بالدولة مباشرة من خلال وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وإنهاء ارتباطها العفوي بالمحسنين والجماعات الإسلامية فالمساجد تشكل القناة الأساسية لتصريف السلطة الدينية وتكريس المشروعية كما أنها تعد الفضاء الحيوي لممارسة الاستقطاب واستعراض الرأسمال الرمزي لكل المنافسين في الحقل الديني

عبد الرحيم العطري، صناعة النخب بالمغرب، منشورات وجهة نظر، ص 175.

[19] Tel quel. N °107 (Janvier 2004).

[20]  الاتحاد الاشتراكي، ع 8042، 15 شتنبر 2005، ص 9.

[21] -وهكذا اعتبر السيد احمد التوفيق أن من أهم التحديات التي أصبحت تواجه المجالس العلمية عموما، والمجلس الأعلى على وجه التحديد، خلال هذه المرحلة، تتمثل أساسا في مدى قدرته على مواجهة إكراهات التعامل مع حقائق الواقع الاجتماعي والسياسي، خاصة ما يتعلق بمجال الفتوى، ومن هذا المنطلق تم إحداث هيئة للإفتاء داخل المجلس بهدف “قطع دابر الفتنة والبلبلة في الشؤون الدينية” بغية “تحصين الفتوى التي هي أحد مقومات الشأن الديني ويجعلها عملا مؤسسا على الاجتهاد الجماعي”

– الأيام. عدد 209 (دجنبر 2005) ص7.

[22]  الاتحاد الاشتراكي، ع 8042، 15 شتنبر 2005، ص 8.

[23]– وهكذا تمحورت حصيلة السياسة الإعلامية الدينية لسنة 2005 مثلا حول:

-زيادة مدة بث إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم.

-إحداث قناة محمد السادس للقرآن الكريم التلفزية.

-إنشاء موقع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية على الأنترنيت.

-الشروع في تنفيذ برنامج بناء 20 مسجدا كبيرا كل سنة بالأحياء الهامشية، يتكلفة تصل إلى 83 مليون درهم.

-إنطلاق الدراسة بالنسبة للفوج الأول لتكوين الأئمة والمرشدين، وهو برنامج يرمي إلى تكوين 150 إماما و 50 مرشدا كل سنة.

-محمد اتركين /السلطة التنفيذية: أولوية الأجوندا وطبيعة الأداء والحصيلة/ منشورات وجهة نظر  “كراسات استراتيجية 2″، ص 37و 40.

[24] -يعتبر الأستاذ أحمد الخمليشي، أن إعادة هيكلة الحقل الديني تفترض إعادة النظر في مضمون التكوين الذي يقدم للطلبة/العلماء،ويشير إلى أنه لا لوم على العلماء إذا لم يسايرو المجتمع.

-الصحيفة/حوار مع أحمد الخمليشي مدير دار الحديث الحسنية/ع29 أبريل 2006ص16

[25]  أحمد الخمليشي / افتتاحية، مجلة “الواضحة/ منشورات دار الحديث الحسني، ع 1، الرباط، 2003.

[26]  سليم حميمنات / المؤسسة الدينية الرسمية وتحديات ما بعد 16 ماي/ مجلة وجهة نظر، ع 25-26، السنة الثامنة، صيف 2005.

[27] -عبد الرحيم العطري/ صناعة النخب بالمغرب/ م س ص198.

Le Journal Hebdomadaire، N°78، Septembre 2002.p11[28]

[29]  نور الدين الزاهي / إمارة المؤمنين ورهانات الحقل الديني – السياسي/ السياسة الجديدة، ع 461، نونبر 2003، ص 8.

[30] – في هذا الصدد ومنذ أبريل 2004 وفي إطار الهيكلة الجديدة، أعاد الملك محمد السادس هيكلة المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية بما يضمن حضور المرأة بنسبة معينة داخل كل مجلس.حيث يصل عدد  النساء في مجموع المجالس العلمية إلى 36 امرأة منهن فاطمة القباج، عضو لجنة الإفتاء والتعاون والتواصل وبرمجة الأنشطة بالمجلس العلمي الأعلى، وباحتساب المجالس الفرعية البالغ عددها 68 مجلسا، والتي تشتغل بها النسبة نفسها من النساء، 68 امرأة،يصبح عدد النساء اللواتي يشتغلن بالمجالس العلمية والمحلية والفرعية 104 امرأة.

-الصحيفة /الملك والعلماء/ عدد 29 أبريل 2006 ص14.

إقرأ أيضاً

التأطير الدستوري لمقتضيات  الوظيفة العمومية على ضوء دستور 2011

التأطير الدستوري لمقتضيات  الوظيفة العمومية على ضوء دستور 2011 الوعبان لرباس  باحث في سلك الدكتوراه …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *