الرقابة على الدستورية والأمن القانوني دراسة في ضوء الإجتهاد القضائي الدستوري المغربي

الرقابة على الدستورية والأمن القانوني دراسة في ضوء الإجتهاد القضائي الدستوري المغربي

Constitutional control and legal security
A study in the light of Moroccan constitutional jurisprudence

الغمري أبوبكر                  el ghomari aboubakr      
الصفة: طالب باحث
الدرجة العلمية: السنة الثانية سلك دكتوراه قانون عام وعلوم سياسية
مؤسسة الإنتساب: جامعة محمد الخامس الرباط كلية العلوم القانونية والإقتصادية والإجتماعية
البريد الإلكتروني:
[email protected]

ملخص:

    يلعب القضاء الدستوري المغربي دورا مهما في ضمان مبدأ الأمن القانوني، وذلك من خلال الصلاحيات التي منحت له دستوريا في مجال الرقابة على دستورية القوانين، خاصة في سياق المستجد الدستوري المتعلق بالدفع بعدم الدستورية، والذي وضع بيده  صلاحية مهمة في هذا الشأن ، إذ ستكون له القدرة على البت -بناء على دفع أحد الأطراف- في كل المقتضيات القانونية التي تمس حقوق الأفراد وحرياتهم والتي تتعارض مع أحكام الدستور ومبادئه، الأمر الذي سيكون له انعكاس مهم على مستوى ثقة الأفراد واطمئنانهم للقاعدة القانونية، هذا بالإضافة إلى المجالات التقليدية للرقابة  الدستورية التي يمارسها،  فنظرا للأهمية التي يكتسيها الموضوع  على المستوى العملي لما له من علاقة باستقرار العلاقات التعاقدية والقانونية وحفظ الحقوق والحريات واحترام تدرج وتراتبية القواعد القانونية، وبالتالي الأمن القانوني للأفراد والمؤسسات، سنوضح بعض معالم هذه الأهمية من خلال أسطر هذا المقال.

Abstract:

The Moroccan constitutional judiciary plays an important role in guaranteeing the principle of legal security through the powers granted to it constitutionally in the field of monitoring the constitutionality of laws. especially in the context of the constitutional renewal of the non-constitutional motion, which has placed an important authority in this regard. To decide on the basis of the payment of a party in all legal requirements affecting the rights and freedoms of individuals which are contrary to the provisions and principles of the Constitution, which will have an important reflection on the level of individual confidence and reassurance of the legal norm, Exercised, given the importance that Get It  topic on the practical level because of its relationship with the stability of the contractual and legal relations and the preservation of rights and freedoms and respect include the hierarchy of legal norms, and therefore legal security for individuals and institutions, we will show some through lines of this article landmarks such importance.                                                 

    يعرف المجال القانوني في المرحلة الزمنية الحالية تطورا مهما على مستوى إنتاج القواعد والنصوص القانونية، و أيضا على مستوى تطور مضامين القاعدة القانونية و أهدافها و مالاتها، و قد أنتج هذا التطور الكثير من التناقضات والمشاكل القانونية من قبيل التسبب في انعدام الاستقرار في العلاقات التعاقدية، التغيير المستمر في المراكز القانونية، المس بالحقوق والحريات، خرق التراتبية القانونية…، هاته المشاكل تشكل تهديدا لمبدأ الأمن القانوني للمجتمع، هذا الأخير – الأمن القانوني- الذي أصبح من المبادئ القانونية العامة التي ينبغي مراعاتها من طرف واضعي القانون، وكان لابد أيضا من هيئة قضائية هي القضاء الدستوري تقوم بالحفاظ على هذا المبدأ وتقوم بتصحيح الإنحراف التشريعي الذي قد تنطوي عليه بعض القواعد أو النصوص القانونية، وذلك من خلال آلية الرقابة على الدستورية.

    ويلعب القضاء الدستوري دورا مهما في ضمان مبدأ الأمن القانوني، وذلك من خلال الصلاحيات التي منحت له دستوريا في مجال الرقابة على القوانين، خاصة في سياق المستجد الدستوري المتعلق بالدفع بعدم الدستورية، والذي وضع بيد القاضي الدستوري صلاحية مهمة لضمان الأمن القانوني، إذ ستكون له القدرة على البت -بناء على دفع أحد الأطراف- في كل المقتضيات القانونية التي تمس حقوق الأفراد وحرياتهم والتي تتعارض مع أحكام الدستور ومبادئه، الأمر الذي سيكون له انعكاس مهم على مستوى ثقة الأفراد واطمئنانهم للقاعدة القانونية. فالموضوع إذا يكتسي أهمية كبرى على المستوى العملي لما له من علاقة باستقرار العلاقات التعاقدية والقانونية وحفظ الحقوق والحريات واحترام تدرج و تراتبية القواعد القانونية، وبالتالي الأمن القانوني للأفراد.

   بالعودة إلى الإجتهاد القضائي الدستوري المقارن، فإن مبدأ الأمن القانوني، يجد أصله وأسسه في مبدأ دولة القانون، يتضح ذلك مع القضاء الدستوري الألماني الذي كان الأسبق في تبني هذا المفهوم في قرار للمحكمة الدستورية الألمانية بتاريخ 19 دجنبر 1961، حيث أقرت أهمية عنصر الثقة المشروعة في دولة القانون نحو تكريس الأمن القانوني، هذا الأخير الذي يحيل على الثقة المشروعة للمواطن باعتبارها عنصرا أساسيا في بناء دولة القانون.[1]

فكيف تساهم الرقابة على الدستورية في ضمان مبدأ الأمن القانوني ؟ وإلى أي حد يمارس القاضي الدستوري دوره في الرقابة الدستورية على القوانين من الناحيتين الشكلية والموضوعية بما يساهم في تكريس الأمن القانوني  ؟

سنحاول الإجابة على هذا التساؤل من خلال مبحثين رئيسيين:

المبحث الأول: آليات الرقابة الدستورية ودورها في ضمان مبدأ الأمن القانوني

المبحث الثاني: بعض معالم العلاقة بين الرقابة الدستورية ومبدأ الأمن القانوني

المبحث الأول: آليات الرقابة الدستورية ودورها في ضمان مبدأ الأمن القانوني

   إن الرقابة على دستورية القوانين تتخذ شكلين: رقابة سياسية ( قبلية ) ورقابة قضائية ( بعدية)، ويقصد بها عملية التحقق من مدى تطابق القوانين للدستور، لذلك يصطلح عليها بالرقابة الدستورية، عن طريق معاينة مطابقة القوانين للدستور، قبل إصدارها ، أو بعد أن تصبح نافذة، وبذلك تتخذ مسألة مراقبة دستورية القوانين طريقتين: الرقابة السياسية والرقابة القضائية [2].

المطلب الأول: الرقابة السياسية

   تتخذ هذه الرقابة بدورها شكلين أساسيين، رقابة إجبارية، وتطال هذه الرقابة كلا من القوانين التنظيمية والنظامين الداخليين لمجلس النواب ومجلس المستشارين وذلك وفق مقتضيات الفقرة الثانية من الفصل 132 من دستور 2011، ثم تأتي الرقابة الإختيارية التي تمارس وفق الشروط والكيفيات التي بينها الفصل 132 من الدستور .

الفقرة الأولى: الرقابة الإجبارية

   يدخل في مجال الرقابة الإجبارية كما تمت الإشارة سلفا كلا من القوانين التنظيمية قبل إصدار الأمر بتنفيذها ( الفصل 132 والفصل 85 من الدستور)، وكذلك الأمر بالنسبة للأنظمة الداخلية لكل من مجلس النواب ومجلس المستشارين قبل الشروع في العمل بها.

   إن الفقه الدستوري، يعتبر القوانين التنظيمية بأنها تحتل مركزا وسيطا بين الدستور والقانون العادي، فهي جزء مكمل للكتلة الدستورية، لكن أدنى من القواعد الدستورية، وأعلى من القوانين العادية. هذا المركز الدستوري هو من يصبغ عليها صفة لزوم الرقابة الدستورية عليها لتكون نفاذة[3]، ولذات الإعتبار يتوجب أن تستحضر المقومات الضرورية للأمن القانوني في القوانين التنظيمية والتي من اللازم على المشرع أن يضعها نصب عينه وهو بصدد صياغة النص القانوني.

   إذا فالقوانين التنظيمية تعد منبثقة عن الدستور ومكملة له وتغدو أحكامها بعد تصريح القضاء الدستوري بمطابقتها للدستور امتدادا له.[4] أما إذا صرح بعدم مطابقتها للدستور فيعلن إلغاء المقتضيات الغير مطابقة للدستور أو يعلن بأن القوانين المعروضة في حاجة للمزيد من التوضيح والتفسير.[5]

   في هذا السياق، تصدى القضاء الدستوري المغربي في العديد من قراراته لبعض المظاهر المسببة لحالة ” اللاأمن القانوني” التي اتسمت بها بعض القوانين التنظيمية، وذلك في مختلف مراحل تطور القضاء الدستوري المغربي، وبصفة خاصة منذ مرحلة المجلس الدستوري إلى حدود المرحلة الآنية حيث تمارس المحكمة الدستورية هذا الإختصاص تطبيقا لمقتضيات الدستور.

   ففي قرارها[6] المتعلق بعدم دستورية القانون التنظيمي المتعلق بعدم دستورية القوانين رقم 86.15، أثارت المحكمة الدستورية نقاشا مهما بخصوص تدخل النيابة العامة من عدم تدخلها في دعوى الدفع بعدم الدستورية كطرف، حيث جاء في قرار المحكمة الدستورية بخصوص المادة الثانية ” وحيث إنه من جهة أخرى فإن الفقرة الأولى من الفصل 133 من الدستور جعلت الدفع بعدم الدستورية حقا مخولا للأطراف بصيغة العموم، وحيث إنه وخلافا لذلك فإن البند (ب) من المادة الثانية المذكورة، عمد إلى بيان وتحديد الأطراف المخول لهم حق إثارة الدفع بعدم الدستورية وجعله حقا محصورا فيهم، وليس حقا مخولا لكل الجهات التي ينطبق عليها وصف ” الطرف”

   ”…وحيث أنه لبيان المقصود بأطراف الدعوى يجب الرجوع إلى قانون المسطرة المدنية والجنائية وإلى نصوص أخرى تتوفر على شرطي الصفة والمصلحة، إما طرفا رئيسا أو منضما، حسب الحالة، وحيث أنه، لئن كانت النيابة العامة، باعتبارها طرفا في الدعوى المدنية، قد يشملها تعبير ”مدع أو مدعى عليه” فإن البند (ب) يستثني النيابة العامة من أطراف الدعوى العمومية المعنيين بمسطرة الدفع، بحصره الجهات المخول لها هذا الحق في المتهم أو المطالب بالحق المدني أو المسؤول المدني، وحيث إن ممارسة النيابة العامة للإختصاص الدستوري الموكول لها، والمتمثل في تطبيق القانون( الفصل 10)، يجب أن يتم استحضارها لما ورد في الفصل السادس من الدستور من أن دستورية القواعد القانونية تشكل مبدأ ملزما”

   وبالتالي فمراعاة لمبدأ الأمن القانوني، وانضباطا لإلزامية دستورية القواعد القانونية يقتضي من النيابة العامة، بصفتها طرفا، أن تدفع بعدم دستورية قانون، في حال تقديرها أو شكها في أن مقتضياته الواجبة التطبيق تعتريها شبهة عدم الدستورية.

  ”…وحيث إنه وتبعا لذلك فإن عدم تخويل النيابة العامة، وإلى جانب أطراف أخرى، صفة طرف في دعوى الدفع بعدم الدستورية، يشكل مخالفة لما قررته الفقرة الأولى من الفصل 133 من الدستور.”

   ودفاعا عن مبدأ التناسب بين المخالفة والعقوبة والذي يعد من صور الأمن القانوني، ذهب قضاء المحكمة الدستورية في قرار أخر له، إلى اعتبار تنصيص المادة 97 من القانون التنظيمي 106.13 بمثابة النظام الأساسي للقضاة، إلى كون إخلال القاضي بواجب الإستقلال والنزاهة مبررا لتوقيفه أمرا غير دستوري و يفتقد للتناسب المطلوب بين المخالفة والعقوبة، ”حيث إنه لئن كان لا يجوز للقاضي، بأي حال من الأحوال وتحت طائلة تطبيق العقوبات التأديبية، الإخلال بواجب الإستقلال والتجرد والنزاهة والإستقامة التي تمثل أسمى قيم ومبادئ العدالة، فإن هذه المخالفة بالنظر لعمومية العبارات التي صيغت بها والتي تجعلها تفتقر إلى مضمون محدد، لا يمكن أن تكون أساسا لتوقيف القاضي حالا عن مزاولة مهامه، الأمر الذي يجعل هذا البند الأول مخالفا للدستور.”[7]

الفقرة الثانية: الرقابة الإختيارية

   منح المشرع الدستوري المغربي ممارسة هذا الإختصاص للمجلس الدستوري بموجب الدستور المراجع لسنة 1992، ثم بعد ذلك واستنادا إلى الدستور المراجع لسنة 1996 في فصله 81، إلى غاية دستور 2011 في فصله 132 في فقرته الثالثة حيث تم التأكيد على هذا المقتضى، حيث تتولى المحكمة الدستورية مراقبة القوانين قبل إصدار الأمر بتنفيذها، أو قبل المصادقة عليها لتبت في مطابقتها للدستور، وذلك  بإحالة من الملك أو رئيس الحكومة، أو رئيس مجلس النواب، أو رئيس مجلس المستشارين، أو خمس أعضاء مجلس النواب، أو أربعين عضوا من مجلس المستشارين.

    ويعد مبدأ عدم رجعية القانون Non rétroactivité des lois من أهم مظاهر الأمن القانوني التي كرست من خلال الرقابة الإختيارية على التشريع في المغرب ، إذ عمل القاضي الدستوري المغربي في أكثر من مناسبة على تكريس هذا المبدأ، حفاظا على استقرار المراكز القانونية، وحماية لحقوق الأفراد المادية والمعنوية، وقد استقر الفقه القانوني على أن القاعدة الأساسية في تطبيق القانون هو الأخذ بمبدأ عدم رجعية القوانين، أي القانون الذي يصدر جديدا تسري أحكامه من اللحظة التي يصدر فيها إلى المستقبل، فلا يكون له أثر على الماضي، بمعنى أن تخضع له التصرفات التي تنشأ قبله، فلا أثر له عليها، وبهذا المفهوم يكون لكل قاعدة نطاقها الزمني، إذ لا يجب أن تتعداه، وهذا من متطلبات فكرة الأمن القانوني، ولكن الأمور ليست دائما بهذه الكيفية، فقد ينعطف القانون الجديد بأثره على الماضي، وهذا أمر مسموح به في بعض الحالات الإستثنائية.[8]

    ففي قرار له [9] أكد المجلس الدستوري على عدم رجعية القانون بخصوص مقتضى تشريعي يتضمن مانعا للترشيح لعضوية مجلس النواب، وبالتالي فالوضعيات السابقة على هذا المقتضى التشريعي لا تطالها أحكامه ” … حيث ينص الدستور في الفقرة الأخيرة من فصله السادس على أنه ليس للقانون أثر رجعي، فإن مانع الترشيح لعضوية مجلس النواب، الذي تنص عليه الفقرة الثانية من المادة 5 من القانون التنظيمي رقم 11-27 المتعلق بمجلس النواب، لا ينصرف مفعوله إلى الأوضاع السابقة على نشر هذا القانون التنظيمي، مما يجعل هذا المقتضى مجرد مقتضى تشريعي كاشف، وليس فيه بالتالي ما يخالف الدستور.”[10]

   لكن هذا المبدأ كما تمت الإشارة سلفا، لا يشكل قاعدة مطلقة إذ ترد عليه استثناءات وقد ذهب القاضي الدستوري المغربي إلى ذلك في إحدى قراراته حيث أكد ” … إن مبدأ عدم رجعية القانون المنصوص عليه في الفص 4 من الدستور[11] لا يشكل قاعدة مطلقة، إذ ترد عليه استثناءات تقوم بخصوص قانون المالية على معيار يبررها، يستند إليه المشرع في إصلاح أوضاع غير عادية محددة من طرف الإدارة وتهدف إلى الصالح العامة،

   كما أن من سمات القاعدة القانونية أيضا، أنها عامة ومجردة، يخاطب بها جميع الأفراد الذين يعينهم المشرع، فهي لا تتعلق بفرد أو مجموعة أفراد بذواتهم، فجميع الأفراد سواء لا تمييز لأحدهم على الاخر و لا لطبقة على الأخرى طالما في مركز قانوني متساوي.[12] ومما لا شك فيه أن المساواة أحد أهم مداخل ومنطلقات الأمن القانوني، وتماشيا مع ذلك فقد أسهم القضاء الدستوري المغربي في تثبيت هذا المبدأ وتكريسه من خلال قراراته، سواء المساواة أمام القانون أو المساواة في الحقوق.

   وقد جاء في إحدى القرارات الدستورية ”… إن مبدأ المساواة بين المتهمين أمام قواعد الإجراءات القضائية، الذي يعد من مظاهر المساواة أمام القانون، يقتضي مبدئيا، أن يتمتع محامو المتهمين وكذا محامو الطرف المدني، في كافة الجرائم، بنفس الشروط وبنفس الآجال لإعداد دفاعهم.”[13]

المطلب الثاني: الرقابة القضائية

   تتمثل هذه الرقابة في وجوب خضوع القوانين الصادرة عن السلطة التشريعية للرقابة القضائية للتحقق من مدى مطابقتها وامتثالها للنصوص الدستورية، ويرتكز مفهوم تلك الرقابة إلى ما يتمتع به الدستور من أعلوية باعتباره قانون الدولة الأسمى ، وان القواعد الواردة فيه هي الأعلى مرتبة  ويتوجب على سلطات الدولة احترامها والعمل بموجبها بما في ذلك السلطة التشريعية.[14] وبالتالي فمفاد هذه الرقابة هي البت في مصير قانون ما من حيث كونه يخالف أو لا يخالف ال[15]دستور[16]، هاته الرقابة التي تختص بها هيئة قضائية مختصة تختلف مسمياتها وتركيبتها حسب طبيعة الأنظمة السياسية، تتمثل في المحكمة الدستورية في المغرب.

    يذهب فقهاء القانون الدستوري إلى تصنيف الطرق المتبعة في الرقابة على دستورية القوانين إلى نوعين: رقابة الإلغاء وهي رقابة عن طريق الدعوى الأصلية، ورقابة الإمتناع وهي رقابة عن طريق الدفع بعدم الدستورية

الفقرة الأولى: الدعوى الأصلية أو رقابة الإلغاء

   فبمقتضى المراقبة بطريقة الدعوى، المعروفة أيضا برقابة الإلغاء، يقوم المتقاضي، الذي يعتقد أن القانون مخالف للدستور بإحالته على إحدى محاكم بلاده، ويكون النطق بعدم دستورية ذلك القانون هو الموضوع المباشر للدعوى المرفوعة، فهذه الرقابة تجيز للقاضي    أن يبطل القانون الغير دستوري، ويترتب على هذا القضاء اعتبار القانون وكأنه لم يكن، فهو يختفي من النظام الحقوقي بصفة نهائية، ولفائدة الجميع.[17]

   وهو المبدأ الذي أقره الدستور الإسباني الصادر في 27 دجنبر لسنة 1978[18] في المادة 53، وتتولى المحكمة الدستورية فحص الطعون بعدم الدستورية كما هو مقرر لها ذلك بموجب المادة 161 من الدستور الإسباني، وبمقتضى القانون التنظيمي رقم 2/1979 بتاريخ 03 أكتوبر 1979 المتعلق بالمحكمة الدستورية المعروف بطعن امبرو Le recours d’Amparo، فالطاعن بهذه المناسبة يبادر، على عكس ما هو عليه الأمر في الرقابة عن طريق الدفع الفرعي أو رقابة الإمتناع، فالمتضرر من القانون يكون في وضعية دفاعية، يطالب القضاء بالإمتناع عن تطبيق القانون المطعون فيه على النزاع الذي هو طرفا فيه وليس المطالبة بإلغاءه.[19]

   كما تقدم لنا ألمانيا الاتحادية مثالا عن مراقبة دستورية القوانين بطريقة الدعوى، حيث تنظر المحكمة في مطابقة القوانين الفيدرالية وقوانين الدويلات مع مقتضيات الدستور الاتحادي، وكذا في مطابقة قوانين الدويلات مع القوانين الاتحادية، وتقرر إلغاء القانون المطعون في دستوريته من عدمه، وتتجاوز صلاحية المحكمة الدستورية الألمانية هذا النطاق، حيث تتولى النظر في دستورية الأحزاب السياسية.[20]

الفقرة الثانية: الدعوى الدستورية عن طريق الدفع ( رقابة الإمتناع)

   بخصوص هذا النوع من الرقابة، يمكن للقاضي بمقتضاها أن يهمل حكم القانون غير الدستوري، ويمنع عن تطبيقه في القضية المعروضة عليه، ويبقى القانون مع ذلك ساريا ونافذا حكمه في الأحوال الأخرى التي يستند إليها بذلك، والغالب أن تختص كافة المحاكم بممارسة رقابة الإمتناع التي غالبا ما تتحقق نتيجة الدفع بعدم دستورية القانون المراد تطبيقه أثناء نظر دعوى أصلية أمامه.[21]

   وليس من جدال في أن اتباع أسلوب رقابة الإمتناع يؤدي حتما إلى أن تكون هذه الرقابة لاحقة، أي بعد صدور القوانين والتشريعات،[22]

   وهو نظام رقابي ابتدعه القضاء الأمريكي من دون نص دستوري، ويعتبر أول أسلوب للرقابة على دستورية القوانين، وهو الأسلوب الذي يطلق عليه برقابة الإمتناع، وبناء عليه يمارس القضاء الأمريكي رقابة الإمتناع بواسطة ثلاثة أساليب وهي:

  1. أسلوب الرقابة عن طريق الدفع
  2. أسلوب الرقابة عن طريق الأمر القضائي
  3. أسلوب الرقابة عن طريق الحكم التقريري

   وتبين تجربة الولايات المتحدة الأمريكية عن مثل هام وفريد بصدد هذا النوع من المراقبة، وتثار عدم مطابقة القانون المراد تطبيقه مع دستور الولاية أو الدستور الفيدرالي، من طرف أي مواطن، وأمام جميع المحاكم: العادية والفيدرالية، أما على صعيد الفيدرالية فتعد المحكمة العليا أعلى هيئة قضائية تتولى النظر في الطعون المقدمة ضد قرارات بقية المحاكم التي توجد، بطبيعة الحال، في مرتبة أدنى منها.[23]

   إلا أن ما يعيب هذا النوع من الرقابة بوجه خاص، هو افتقارها إلى معايير موحدة تقاس على ضوئها دستورية النصوص القانونية المطعون فيها، وتشتتها بين المحاكم جميعها- لا مركزيتها- وتناقض أحكامها فيما بين بعضها البعض، وحتى داخل المحكمة الواحدة، فضلا عن نسبية آثارها، ذلك أن الامتناع عن تطبيق القانون في خصومة بذاتها، لا يفيد تجريده من آثاره بصفة كاملة ونهائية، بل تظل آثاره جميعها قائمة ونافذة فيما عدا الدائرة المحدودة التي نحى عنها القانون المعني، وهي دائرة الخصومة القضائية التي أهدر فيها تطبيقه.[24]

الفقرة الثالثة: النموذج المغربي

   لقد حذا المشرع الدستوري المغربي حذو نظيره الفرنسي الذي تفرد عن نظرائه الأوربيين، إذ مزج بين خصوصيات نظام رقابة الإلغاء اللاحقة أو ما يعرف بالدعوى الأصلية وبين خصوصيات الرقابة عن طريق الدفع الفرعي، فأنتج نظاما رقابيا مختلطا، حيث يذهب القانون الدستوري الفرنسي ل 23 يوليوز 2008 أنه بمناسبة التقاضي أمام إحدى المحاكم، إذا طعن أحد المتقاضين في دستورية مقتضى معين يراد تطبيقه عليه، متعلق بالحقوق والحريات المكفولة دستوريا، فإنه يمكن للمجلس الدستوري أن يبث فيه بإحالة من مجلس الدولة أو محكمة النقض، الذين يتخذان قرارهما خلال فترة محددة، ويحدد بقانون تنظيمي شروط تطبيق هذه المادة.[25]

   ورغم تأخر ظهور التجربة المغربية، قياسا مع عدد من الدول، إلا أن إدخال هذه الآلية إلى المنظومة القانونية المغربية قد اقترن بتجاوز عقبة في موضوع مراقبة دستورية القوانين، ورام تحقيق الغايات التالية[26]:

  • منح حق جديد للمتقاضين.
  • تطهير النظام القانوني من المقتضيات القانونية المخالفة للدستور
  • تجاوز الإطار الضيق للمراقبة القبلية، والنواقص المرتبطة بها، متمثلة في كونها مراقبة مجردة وإثارتها محصورة في الدائرة السياسية.
  • سرعة البت بخصوص دعوى المسألة الدستورية ذات الصلة الأولية، والتي تبقى في حدود معقولة، حيث سيكون عمرها الإفتراضي سنة على الأكثر
  • طبيعة الآثار الناتجة عن التصريح بعدم  الدستورية، لكي تمس كل الذين يمكن أن يطبق عليهم المقتضى التشريعي المطعون فيه.

   هذه الغايات التي تعضد مبدأ الأمن القانوني، سيعمل القاضي الدستوري على تحقيقها، من خلال آلية الدفع بعدم الدستورية التي منحت له بمقتضى الفصل 133[27] من دستور 2011.

   هذا المقتضى الدستوري الذي يثويه الفصل 133 من الدستور، ينسجم إلى حد كبير مع التوجهات الحديثة للعدالة الدستورية التي تنحو أكثر نحو تمكين المواطنين من الولوجية  بشكل مباشر إلى القضاء الدستوري عن طريق الدفع بعدم الدستورية، وذلك في سبيل تحديد ملامح عدالة دستورية أكثر مواطنية، وكي تكون المجالس الدستورية فاعلا مباشرا في حماية حقوق الإنسان وتكريس سمو الدستور وتنقية التشريعات من عناصر دخيلة لا دستورية وطرد العناصر غير الدستورية من خلال دينامية محركها الأفراد.[28] وحماية عنصر الثقة المشروعة كمكون أساس من مكونات الأمن القانوني.

   إن  الهدف إذا من الدعوى الدستورية بصفة عامة هو حماية حقوق الأفراد جماعية كانت أم فردية، وفرض مبدأ سيادة القانون، وتكريس الأمن القانوني، حيث يشعر الأفراد بالطمأنينة في مواجهة القوانين، ووجود قضاء مختص، ومساطر قضائية متميزة وجدت لكي تضمن لهم ذلك.

المبحث الثاني: بعض معالم العلاقة بين الرقابة الدستورية ومبدأ الأمن القانوني

    تجلى حرص القضاء الدستوري المغربي على حماية وضمان مبدأ الأمن القانوني على مستويات ونواحي متعددة، منها رقابته على المسطرة التشريعية من جهة، ومن جهة أخرى رقابته على النصوص القانونية من حيث مشروعية مضامينها، وسنتعرض إلى رقابته على مضمون القواعد القانونية الجنائية والجبائية كنموذجين، وكيف ستساهم هذه الرقابة في ضمان حقوق الأفراد  وتكريس الأمن القانوني.

المطلب الأول: حماية مبدأ الأمن القانوني من خلال المسطرة التشريعية

   ما هو جار به العمل في جميع قرارات القضاء الدستوري المغربي المتعلقة بفحص دستورية القوانين أنه لا يثير مسائل الموضوع إلا بعد أن يقف عند الإجراءات التشريعية، حيث يصرح دائما بما يلي: ” حيث إنه ينبين من الوثائق المدرجة في الملف أن هذا القانون التنظيمي المحال إلى المجلس الدستوري، تم التداول فيه بالمجلس الوزاري المنعقد في 09 سبتمبر 2011، وأودع السيد رئيس الحكومة مشروعة لدى مكتب مجلس النواب، وجرت المداولة فيه من قبل هذا المجلس ووفقا للمسطرة المنصوص عليها في الفصل 84 من الدستور، كما تمت المصادقة عليه نهائيا بالأغلبية المطلقة للأعضاء الحاضرين لمجلس النواب، وذلك كله وفقا لأحكام الفقرة الأولى من الفصل 85 من الدستور”.[29]

الفقرة الأولى: عيب الإجراءات والشكل

   يقصد بعيب الإجراءات الشكلية في القانون، عدم احترام المشرع بصفة عامة للإجراءات القانونية الشكلية المقررة، وبالتالي السقوط في عيوب شكلية تفقد النص مشروعيته.

   ويقضي القضاء الدستوري بعدم دستورية كل نص لم يحترم في اتخاذه الإجراءات والشكليات المفروضة، هذه المسألة وإن لم تظهر بشكل واضح في اجتهاداته المرتبطة بالرقابة على دستورية الأنظمة الداخلية، فدلالاتها واضحة حينما يتعلق الأمر ببعض اجتهاداته المرتبطة بالقانون ومتوفرة في جميع قراراته المتعلقة بالقوانين التنظيمية.[30]

   ففيما يخص قاعدة التداول في القوانين التنظيمية، جاء في قرار للمجلس الدستوري المغربي: ” حيث انه يبين من الوثائق المدرجة في الملف أن القانون التنظيمي المحال الى المجلس الدستوري، تم التداول فيه بالمجلس الوزاري المنعقد في 9 سبتمبر 2011، وأودع السيد رئيس الحكومة مشروعه لدى مكتب مجلس النواب في نفس التاريخ، وجرت المداولة فيه من قبل هذا المجلس ابتداء من 29 سبتمبر 2011،

   وحيث إن القانون المذكور قد ورد في شكل قانون تنظيمي وفق أحكام الفقرة الثانية من الفصل 62 من الدستور، وتداول فيه المجلس الوزاري طبقا لأحكام الفصل 49 من الدستور، وتم إيداعه أولا لدى مكتب مجلس النواب، ولم يتم التداول في مشروعه إلا بعد مضي عشرة أيام من تاريخ إيداعه ووفقا للمسطرة المنصوص عليها في الدستور، كما تمت المصادقة عليه نهائيا بالأغلبية المطلقة للأعضاء الحاضرين لمجلس النواب، وذلك كله وفقا لأحكام الفقرة الأولى من الفصل 85 من الدستور.[31]

   لقد اقتصر الإجتهاد القضائي الدستوري في مرحلة معينة على مراقبة مرحلتي الايداع والتصويت فقط بخصوص القوانين التنظيمية إلى حدود القرار 2011-817 المشار إليه أعلاه حيث بدأت المراقبة تشمل مجمل مراحل المسطرة التشريعية.[32]

   كما يراقب القاضي الدستوري المغربي مدى احترام الاجراءات المتعلقة بالتصويت على مشاريع ومقترحات القوانين، وفي هذا السياق قضى المجلس الدستوري المغربي بعدم دستورية التصويت السري على مقترحات ومشاريع القوانين، حيث جاء في قرار له:”…ليس في أحكام الدستور ما يمكن أن يستفاد منه أن التصويت على مشاريع أو مقترحات القوانين يمكن أن يكون سريا…ذلك أنه إذا كان الفصل 68 من الدستور يسمح لكل من مجلسي البرلمان أن يعقد، إلى جانب الجلسات العمومية، اجتماعات سرية، كما يسمح للجان الدائمة، التي يجب أن تكون جلساتها سرية، بعقد اجتماعات علنية، فإن جلسات مجلسي البرلمان واجتماعات لجانهما الدائمة، سواء كانت عمومية أو سرية، لا تعني أن التصويت فيها،- باستثناء حالات الانتخاب أو الحالات التي تهم الأشخاص- يمكن أن يكون سريا.” [33]

   كما أن المجلس الدستوري المغرب يراقب مدى توفر مراسيم القوانين- التي منح الدستور للحكومة إمكانية اتخاذها- على شروط اكتساب صبغة قوانين، حيث جاء في إحدى قراراته في هذا الشأن:”…إن مراسيم القوانين لا تكتسب صبغة قانون إلا بعد المصادقة عليها من قبل البرلمان بمجلسيه في الدورة العادية الموالية لصدورها، وفقا لأحكام الفصل 81 من الدستور.”[34]

الفقرة الثانية : عيب الإختصاص

   لقد أثير مجال القانون والتنظيم كموضوع للتفكير في حقل القانون الدستوري المقارن العديد من النقاشات والتساؤلات التي تهم اختصاص القانون والتنظيم ولم يرس النقاش حول قاعدة متفق حولها وإنما تعددت القراءات واختلفت التأويلات حيث وصلت إلى درجة التعارض والاختلاف وزاد من حدة ذلك التفسير الانقلابي لدستور الجمهورية الفرنسية الخامسة لسنة 1958 وخاصة الفصلين 34 و37 التي أعادت إلى الواجهة طبيعة العلاقة بين العمل القانوني والعمل التنظيمي في عدة أنظمة دستورية من بينها المغرب.[35]

   وضع الدستور المغربي لسنة 2011 الحدود الفاصلة بين اختصاص كل من الحكومة والبرلمان في مجال التشريع،  وذلك من خلال الفصلين 71 و72، وترك مسألة حسم الخلافات والنزاعات التي يمكن أن تنشأ بين الحكومة والبرلمان للقاضي الدستوري، هذا الأخير الذي راكم عدة قرارات في هذا الباب.

   قضى الفصل 73 من دستور 2011 بأنه : ” يمكن تغيير النصوص التشريعية من حيث الشكل بمرسوم، بعد موافقة المحكمة الدستورية، إذا كان مضمونها يدخل في مجال من المجالات التي تمارس فيها السلطة التنظيمية اختصاصها.”، فالنصوص التشريعية التي صدرت وتتضمن مقتضيات تدخل في المجال التنظيمي يمكن اللجوء إلى القضاء الدستوري للتمييز بين تلك التي تدخل في مجال القانون، فهذه العملية- الفرز والتمييز- يطلق عليها الفقه الدستوري التجريد التشريعي، وهذه الآلية تعني أن القانون الذي تم إصداره ودخل حيز التنفيذ تمارس عليه الرقابة من طرف المجلس الدستوري، بناء على مبادرة من الحكومة التي تختار الوقت المناسب لإثارة مسألة التأكد من إدراج الموضوع المستفتى بشأنه في مجال القانون أو في مجال التنظيم.[36]

   وأكد القضاء الدستوري المغربي ممارسته لهذا الإختصاص في أحد قرارات المجلس الدستوري التي جاء فيها : ” من المهام الأساسية للمجلس الدستوري، عند مراقبة دستورية القانون التنظيمي التأكد من أن المشرع قد مارس كامل اختصاصاته الجوهرية المخولة له بمقتضى الدستور وأنه لم يقع تفويتها كليا أو جزئيا إلى السلطة التنظيمية، على أن التفويض وإن كان يوسع من صلاحيات السلطة التنظيمية بالنسبة لمواد محددة فإنه يوسع من مجالها الخاص الذي أقره الدستور.”[37]

   ومن القرارات الحديثة في هذا الشأن والتي أثارت نقاشا مجتمعيا وقانونيا، قرار المحكمة الدستورية المغربية بخصوص مرسوم تغيير الساعة القانونية، حيث أكدت المحاكمة اندراج موضوع تغيير الساعة القانونية في مجال التنظيم، بعد الخلاف الذي نشب بين البرلمان والحكومة في هذا الشأن.

   حيث قام رئيس الحكومة بإصدار مرسوم تحت رقم 2.18.855 يتعلق بالساعة القانونية، وبعدما قام بعض النواب بالتقدم بمقترح قانون يتعلق بالساعة القانونية، مما دفع رئيس الحكومة إلى إحالة الأمر إلى المحكمة الدستورية، لتقرر اندراج هذا الاختصاص في مجال التنظيم منتصرة بذلك إلى رئيس الحكومة، وقد سجل أحد الباحثين ملاحظات حول مضمون هذا القرار.[38]

   كما يمكن للحكومة أن تدفع بعدم القبول بخصوص كل مقترح أو تعديل لا يدخل في اختصاص السلطة التشريعية بمقتضى الفصل 79 من الدستور[39]، سواء حين سريان مسطرة التشريع أو أثناء اقتراح النص وتسجيله أو خلال المناقشة.[40]

   يتضح كيف أنه يمكن للقاضي الدستوري من خلال آلية الرقابة على صحة المسطرة التشريعية، سواء من حيث الإجراءات والشروط المتطلبة فيها قانونيا، أو من حيث الوقوف عند الحدود المرسومة لإختصاص المؤسسات الدستورية في مجال التشريع، تكريس الأمن القانوني على المستوى المؤسساتي، حيث أن النص القانوني ليس وليد الصدفة، بل هو نتيجة لمخاض ومسلسل كلما اتسم بالمشروعية وحظي بالإهمتام والمراقبة من طرف القضاء كلما انعكس ذلك على جودة النص القانوني وعلى توفر الحد الأدنى من الأمن القانوني.

المطلب الثاني: القاضي الدستوري و الأمن القانوني بين التشريعين الجنائي والجبائي

الفقرة الأولى: التشريع الجنائي

   لا توجد قاعدة قانونية في ظل تطور الفكر القانوني المعاصر، لا تستند إلى مبادئ أو مقتضيات أو أحكام دستورية تستمد منها مشروعيتها، والقانون الجنائي لم يكن بمعزل عن هذه القاعدة، وقد ذهب بعض الفقه الدستوري الفرنسي إلى الحديث عن ” دستورانية القانون الجنائي”، وإلى ضرورة بسط الرقابة الدستورية على قواعد القانون الجنائي.[41]

   نظرا لأهمية قواعد القانون الجنائي وحساسيتها وخطورتها وارتباطها بالنظام العام، كان من الضروري أن تتوفر النصوص القانونية الجنائية، على الحدة الأدنى من الوضوح والدقة، حرصا على مبدأ الأمن القانوني، ومن بين القرارات التأسيسية في هذا الإتجاه، قرار[42] للمجلس الدستوري الفرنسي، أكد بمناسبته على ضرورة إلتزام المشرع بالتحديد الدقيق والواضح للمخالفات والجرائم تجنبا لحالة الفوضى التشريعية- اللاأمن القانوني-، وقد اعتمد القاضي الدستوري الفرنسي في ذلك على روح المادة 8 من إعلان حقوق الإنسان والمواطن لسنة 1789 و المادة 34 من الدستور الفرنسي.

   كما عنى المجلس الدستوري الفرنسي بمبدأ الضرورة بالإضافة إلى وضوح وتحديد نطاق القاعدة القانونية الجنائية[43]، وذلك من أجل الإلتزام بالقانون والضرورة وعدم تجاوز السلطة عند البحث عن مرتكبي الجرائم والمخالفات.

   ولا شك  أيضا أن المحكمة الدستورية يقع عليها عبء مراقبة مشروعية الضرورة والتناسب في القانون الجنائي ، فإذا أقدم المشرع على إحداث عدم تناسب ظاهر لا يتفق مع الأهداف والمقاصد التي استهدفها الدستور من وراء حماية الحقوق والحريات وسائر القيم التي ينص عليها، تعرض للقضاء بعدم دستورية القاعدة التي أخلت بضوابط الضرورة والتناسب المطلوب، فالسلطة التقديرية للمشرع في تحديد الضرورة والتناسب في التجريم والعقاب ليست مطلقة، وإنما تحددها الغايات التي استهدف الدستور تحقيقها، لأن السلطة التشريعية لا تمارس اختصاصاتها إلا في حدود الدستور.[44]

   وقد قضت المحكمة الدستورية الاسبانية بأنه وان كان المشرع ينفرد بتحديد المصالح القانونية الواجب حمايتها وبتحديد السلوك المعاقب عليه، وكذلك بإقامة التناسب بين السلوك المعاقب عليه والجزاء الجنائي، إلا أن القاضي الدستوري يقتصر على بحث مدى ملائمة الجزاء الجنائي إذا كان هذا الجزاء في ظاهره غير مفيد، وتطبيقا لذلك فان إساءة استخدام حرية التعبير لأغراض انتخابية وان كانت تعد غير مشروعة، إلا أن الجزاء الجنائي المقرر لها يجب أن يكون في أضيق الحدود.[45]

   كما قضت الحكمة الدستورية  المجرية بان الضرورة نحو جعل السلوك جريمة معاقب عليها يجب ان تخضع لبحث دقيق ومتعمق، فلا يجوز لقانون العقوبات أن يقيد حقوق الإنسان وحرياته إلا إذا تطلبت ذلك ضرورة مطلقة وبالتناسب مع الجريمة، وقالت بما مؤداه أن سلطة المشرع في التجريم مقيدة بعدم التضحية بحقوق الإنسان وحرياته في غير ضرورة تمليها مصلحة اجتماعية لها اعتبارها.[46]

   وهو نفس الاتجاه الذي سلكته المحكمة الدستورية العليا في مصر، والتي عبرت على انه لا يجوز أن يكون الجزاء الجنائي بغيضا أو عاتيا، وهو يكون كذلك إذا كان مجافيا- بصورة  ظاهرة-  للحدود التي يكون معها متناسبا مع الأفعال التي أثمها المشرع…وربطت بين الضرورة والتناسب، فقالت لا يجوز أن يؤثم المشرع أفعالا في غير ضرورة اجتماعية ولا أن يقرر عقوباتها بما يجاوز قدر هذه الضرورة.[47]

   أما بالنسبة للقاضي الدستوري المغربي فلم تكن له الجرأة الكافية للمراقبة الموضوعية للقواعد الجنائية أو المبادئ العامة للقانون الجنائي، فعلاقة القاضي الدستوري المغربي بالقانون الجنائي لم تطرح بعد، هذه العلاقة التي طرحت في فرنسا في العديد من القضايا[48]، تم ذكر بعضها أعلاه، وهناك قرارات أخرى. [49] 

الفقرة الثانية: التشريع الجبائي

   أقر المشرع الدستوري المغربي أسس عدالة ضريبية من خلال حرصه على المساواة في تحمل التكاليف بين المواطنين والمواطنات، من خلال الفصل 39، كما أنه اشترط ضرورة التقيد بالتكاليف والأعباء التي ينص عليها القانون عملا بقاعدة لا ضريبة إلا بنص وترسيخا لمبدأ العدالة الضريبية التي تتجلى معالمها في اشتراط كون القاعدة القانونية الجبائية قاعدة ملزمة وعامة وموحدة.[50]

   ويمارس القاضي الدستوري مراقبته على القواعد القانونية الجنائية من خلال مراقبته لقوانين المالية التي تحال عليه بطريقة اختيارية بعد المصادقة عليها وقبل الأمر بتنفيذها.

   ومن بين القرارات التأسيسية في مجال حماية الملزمين بالضريبة وتكريس مبدأ الأمن القانوني الضريبي، القرار الشهير ب ”البرابول”، عندما قررت الحكومة المغربية سنة 1992 إنشاء ضريبة قدرها 5000 درهم على كل صحن تم تركيبه، وذلك من خلال مرسوم قانون اتخذته فيما بين الدورتين، بموافقة من اللجنة البرلمانية المختصة، تنزيلا لمقتضيات الفصل 55 من الدستور المغربي لسنة 1992، وتمت معارضته من قبل 95 برلمانيا بدعوى عدم دستوريته.[51]

   لكن المجلس الدستوري، ودون الحاجة إلى مراقبة المضمون، اعتبر النص مخالفا للدستور لعيب في الشكل، لعدم احترامه للآجال المطلوبة، ولم يصل النص إلى مرحلة دراسة موضوعه، وقد حظي هذا القرار بنقاش كبير في الأوساط الأكاديمية، ويعتبر إلى اليوم من القرارات المهمة والمرجعية.

   وذلك على غرار القرار الشهير حول قانون الجمعيات بتاريخ 16 يوليوز 1971 في فرنسا، والذي يعد هو الأخر قرارا مرجعيا، يستمد روحه من تصدير الدستور الفرنسي ومن إعلان حقوق الإنسان والمواطن لسنة 1789، وتوالت بعد ذلك قرارات[52] أخرى، عللها القاضي الدستوري الفرنسي بتكريس مبدأ المساواة أمام الضريبة، وأمام القانون الجبائي، وأمام التكاليف العمومية.[53]

      يبدو أن العدالة الدستورية في المغرب بكل مكتسباتها التي تحققت مع دستور 2011، ورغم الملاحظات الإيجابية العديدة التي يمكن تسجيلها في عمل القاضي الدستوري المغربي، وما يمكن أن تنتجه آلية الدفع بعدم الدستورية عند صدور القانون من حسنات ستميط الممارسة اللثام عن حجمها ومدى أهميتها، إلا أنه تظل هناك حاجة إلى تقوية الثقافة الدستورية لأعضاء البرلمان من جهة وذلك على مستوى ممارستهم لحق إحالة القوانين على المحكمة الدستورية لتفحص مدى مشروعيتها ومدى مطابقتها للدستور، وإلى جرأة أكبر من القاضي الدستوري، الذي يلعب دور الحارس للقواعد القانونية، كما يساهم في تكريس مبدأ الأمن القانوني، إذ لازال دوره محتشما في مراقبة القواعد الموضوعية للنصوص القانونية وفحص مشروعيتها ومدى احترامها للمبادئ والقيم الدستورية. ، ومن جهة ثالثة الإسراع بإخراج القانون التنظيمي المتعلق بالدفع بعدم الدستورية ، لتمكين الأفراد من هذا الحق الذي سيكون لا محالة من الآليات المهمة لخلق الثقة بينهم وبين القانون الذي يخضعون له، ومن هنا تكريس مبدأ الأمن القانوني المبني على عنصر الثقة المشروعة.


[1][1] – sylvia CALMS, Le principe de sécurité juridique en droit Allemand, communautaire et français, Revue de notariat, volume 110, numéros 2, septembre 2008

[2] –  مصطفى قلوش ، رقابة دستورية القوانين على ضوء مقتضيات الفصل 26 من الدستور المغربي، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عدد  مزدوج 38-39، 2001، ص 43-44 .

[3] – د. مصطفى بن شريف، التشريع ونظم الرقابة على دستورية القوانين، مطبعة بني ازناسن، سلا، 2015، ص 100

[4] – قرار المجلس الدستوري رقم 786 بتاريخ 02 مارس 2010

[5] – حميد اربيعي، قراءة في قرارات المجلس الدستوري الصادرة في ظل الدستور الجديد، منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة مؤلفات وأعمال جامعية، عدد: 98، سنة 2013 ، ص:31

[6] – قرار المحكمة الدستورية رقم 70 بتاريخ 14 فبراير 2018

[7] – قرار المجلس الدستوري 992 بتاريخ 15 مارس 2016

[8] – عبد القادر جلاب، مبدأ عدم رجعية القوانين كالية لتحقيق الأمن القانوني، مجلة البحوث في الحقوق والعلوم السياسية، الجزائر، ص 71-91

[9] – قرار المجلس الدستوري رقم 817 بتاريخ 13 أكتوبر 2011

[10] – نفس المرجع

[11] – دستور سنة 1996، الفصل 4:”…ليس للقانون أثر رجعي”

[12] – د. محمد أنس قاسم جعفر، النظم السياسية والقانون الدستوري، دار النهضة العربية، مصر، 1999، ص 255

[13] – قرار المجلس الدستوري رقم 921 بتاريخ 13 غشت 2013

[14] – د. محمد سعيد المجذوب، الحريات العامة وحقوق الإنسان، مطبعة أجردس برس، طرابلس، 1992 ، ص 149

[15]

[16] – د. منذر الشاوي، القانون الدستوري، نظرية الدستور، ج2، مطبعة شفيق،  بغداد، 1972.

[17] – د.عبد الرحمان القادري، القانون الدستوري والمؤسسات السياسية-الجزء الأول، دون ذكر المطبعة ولا سنة الطبع، ص 129

[18] – مصطفى قلوش، القانون الدستوري: النظرية العامة، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، الرباط، 2004، ص 258-259

[19] – د. مصطفى بن شريف، التشريع ونظم الرقابة على دستورية القوانين، مرجع سابق، ص109

[20] – د. رقية المصدق، القنون الدستوري والمؤسسات السياسية-الجزء الأول-، دار توبقال، 1986، ص 109

[21] – نجدت صبري ئاكرة، الإطار القانوني للأمن القومي: دراسة تحليلية، المنهل، 2011، ص 94

[22] – نسرين طلبه، الرقابة على دستورية القوانين، مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية-المجلد 27- العدد الأول-2001، ص 501

[23] – د. رقية المصدق، القانون الدستوري والمؤسسات السياسية-الجزء الأول-، مرجع سابق، ص 110

[24] – د. عوض محمد المر، الرقابة القضائية على دستورية القوانين في ملامحها الرئيسية، مركز رينيه- جان دبوي للقانون والتنمية، 1998، ص 209

[25] – Guillaume TUSSEAU, ‘’ la fin d une exception français ? ‘’, Pouvoirs, revue français d études constitutionnelles et politiques n 137- la Question prioritaire de constitutionnalité, p.5-17. Consulté le   2019-03-18 21:07:43 . URL : https://revue-pouvoirs.fr/La-fin-d-une-exception-francaise.html

[26]– الذهبي بدر، حق الدفع بعدم الدستورية بين الدستور المغربي والنموذج الألماني، مجلة مسالك في الفكر والسياسية والإقتصاد، العدد 37/38، ص 92

[27] – الفصل 133 من دستور 2011

[28] – د.عثمان الزياني، المواطن والعدالة الدستورية: حق الأفراد في الدفع بعدم الدستورية في ظل الفص 133 من دستور 2011، منشورات مجلة الحقوق، مطبعة المعرفة، الرباط، ص 75

[29] – زكرياء أقنوش، المجلس الدستوري المغربي وضبط سير المؤسسة البرلمانية، مجلة العلوم القانونية-سلسلة البحث الأكاديمي-، مطبعة الأمنية ،الطبعة الأولى، 2015، ص 121

[30] – د.يحي حلوي، تطبيقات المجلس الدستوري المغربي في الرقابة على دستورية القوانين، op print، الطبعة الأولى، 2016، ص 97

[31] – المجلس الدستوري المغربي، قرار رقم 2011-817  بتاريخ 13 أكتوبر 2011

[32] – زكرياء أقنوش، المجلس الدستوري المغربي وضبط سير المؤسسة البرلمانية، مرجع سابق، 128

[33] – قرار المجلس الدستوري رقم 938 بتاريخ 14 يونيو 2014

[34] – قرار المجلس الدستوري رقم 944 بتاريخ 18 شتنبر 2018

[35] – زكرياء أقنوش، المجلس الدستوري المغربي وضبط سير المؤسسة البرلمانية، مرجع سابق، ص 97. عن:
jean-louis pezant, loi-règlement la construction d un nouvel équlibre, revue francais de sciences politique 4-5, annee 1984, p 93                                                                                                                                                                        

[36] – زكرياء أقنوش، الميكانيزمات الدستورية لفض النزاعات الممكن أن تثار بين الحكومة والبرلمان، مجلة مسالك، عدد مزدوج 25-26، 2014، ص 91.

[37] – قرار المجلس الدستوري رقم 408 بتاريخ 29 غشت 2000

[38] – د.جابر لبوع، قرار المحكمة الدستورية رقم 19.90 حول تحديد طبيعة النص المتعلق بالساعة القانونية ” قراءة نقدية”، مركز تفاعل للدراسات والأبحاث في العلوم الإجتماعية، 3 أبريل، 2019

[39] – د. مصطفى بن شريف، التشريع ونظم الرقابة على دستورية القوانين، مرجع سابق، ص 42

[40] – محمد الحاج قاسم، القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، المفاهيم الأساسية والنظم السياسية، الطبعة الرابعة، مطبعة دار النشر، 2009، ص 37

[41] -L.PHILIP, Revue de science criminelle, 1985, P:711, une conférence s est tenue le 16 mars 2006 a la cour de cassation sur le thème : Force ou Faiblesse de la constitutionnalisation du droit pénale, consultée sur le site: www.courdecassation.fr

[42] – conseil constitutionnelle français , DC N 80-127, 19 janvier 1981, consultée sur le site: www.consielconstitutionnellefrancais.fr 

[43] – lorsque le conseil constitutionnelle a énonce a cette occasion la nécessite pour le législateur de définir les infractions en termes suffisamment claire et précis pour exclure l arbitraire, cette motivation a été souvent repris depuis et parfois complète par l indication que cette exigence résulte non seulement des dispositions de l article 8 de la déclaration 1789 mais aussi de l article 34 de la constitution.

[44] – أحمد فتحي سرور، القانون الجنائي الدستوري،دار الشروق، الطبعة الثانية ، 2002، ص 170

[45] – نفس المرجع، ص 172

[46] – نفس المرجع، ص 172

[47] – نفس المرجع، ص 173

[48] -د.عبد الرحيم المنار السليمي، مناهج عمل القاضي الدستوري بالمغرب- دراسة سوسيو قضائية، منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية، الطبعة الأولى، 2006، ص 154

[49] – من بين تلك القرارات:                                                                                                   – 155 DC du 30 décembre 1982

–  244 DC du 20 juillet  1988                                                                                                                                                     
-248 DC du 17 janvier 1989                                                                                                                                                      

[50] – كريم الحرش، الدستور الجديد للمملكة المغربية ” شرح وتحليل”، سلسلة العمل التشريعي والإجتهاد القضائي، العدد الثالث، الطبعة الأولى، 2012، ص 55

[51] – EL RHAZI SEBHALLAH, ETUDES POLITIQUES ET CONSTITUTIONNELLES TOME 1, Collection Droit, politique et Histoire, 2013, p 163

[52] – DC 213/98, DC 228/98

[53] – RHAZI SEBHALLAH, ETUDES POLITIQUES ET CONSTITUTIONNELLES TOME 1, op.cit., 165

إقرأ أيضاً

التفويض التشريعي في المغرب وتونس

التفويض التشريعي في المغرب وتونس  محمد لشكاكي                                            باحث بسلك الدكتوراة                                           جامعة محمد الخامس …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *