Site icon مجلة المنارة

الذكاء الاقتصادي الترابي كمدخل حقيقي للتنمية الجهوية

 – في ظل جائحة كورونا

الذكاء الاقتصادي الترابي كمدخل حقيقي للتنمية الجهوية

 – في ظل جائحة كورونا

عبد الفتــــــــاح الحمومـــــــــــي

باحث بسلك الدكتوراه

جــــــــامعة عبد المـــــــالك السعدي طنجــــــــــــــة

    مقدمة

   تتميز الجماعات الترابية بالمغرب بافتقارها إلى تطور واضح وشمولي ومندمج ناتج بصورة أساسية عن عدم الأخذ بالجدية اللازمة لموقع المواطن وحاجياته الحيوية، والضرورية للعيش الكريم بصورة اساسية ، لأن التدبير الترابي الحديث يستلزم نهج مقاربة جديدة تتجاوز الأساليب العتيقة التقليدية المتعلقة بتدبير الجماعات الترابية لمواجهة كل الأزمات التي قد تمر بها الدولة – وما أزمة “كورونا إلا نموذجا”- .

هذا الأمر إذن يستوجب نهجا متميزا بنوع من الذكاء بموجبه يتم إبداع الحلول المناسبة للعديد من الإشكاليات المتعلقة بالتنمية المحلية خصوصا في ظل الاجتياح المرعب لــــــــــــ  “كوفيد 19” على العالم بأسره ، على اعتبار أن التعامل مع المجال الترابي يستوجب بالضرورة اعتباره كمنتوج قابل لتسويته لدى المستثمرين من خلال إبراز مميزاته وخصائصه بالشكل الذي يساهم في إنعاش الاستثمار الجهوي([1])، هذا الامر نتج عنه ظهور ما يسمى بالذكاء الترابي كأهم الحلول التي فرضت نفسها بإلحاح، لأزمة المجال([2])، وذلك أمام الإشكاليات التي خلفتها تداعيات الموجة الليبرالية التي حتمت إعادة النظر في المفاهيم التقليدية التي تقوم عليها الدولة والجماعات الترابية على وجه الخصوص.

  1. إشكــــــــــالية البحث : إن اعتماد العديد من الدول المتقدمة كألمانيا واليابان وغيرها من الدول الأخرى لاسلوب الذكاء الاقتصادي كوعاء هيكلي كفيل بتحقيق التنمية المستدامة ثم إن حاجة الجماعات الترابية بالمغرب إلى الدفعة القوية  « Big Push » من أجل النهوض بها، كلها تدفعنا إلى طرح الإشكـــــــالية التالية:
  2. أي حد يمكن للذكـــــــاء الاقتصــــــادي تحقيق الدفعة القوية للجماعات الترابية حتى تلعب أدوارها الحقيقية علـــى مستوى التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لمواجهة أزمة كورونا على وجه الخصوص؟

هذه الإشكالية تدفعنا محاولة الإجابة عنها إلى طرح الأسئلة التـــــــــــــــــالية:

ثم أن الجماعات الترابية لا زالت في طريق البحث عن السبل الكفيلة بتحقيق الذكاء الاقتصادي، وهي بذلك تعمل جاهدة على القيام بالإجراءات الداعمة لوضع أسس كفيلة لتحقيق الذكاء الاقتصادي الترابي.

المساهمة في التعريف بالميكانيزمات الأساسية الضرورية للذكاء الاقتصادي الترابي وإمكانية تحويل الأزمات إلى فرص حقيقية لتنمية الجماعات الترابية .

ومن أجل معالجة الموضوع، سيتم توظيف المنهج الوصفي من خلال وصف الذكاء الاقتصادي الترابي والوقوف على مرتكزاته وتقنياته وكذا المنهج البنيوي من خلال تحديد البنيات المختلفة للأجهزة المتعلقة بتدبير الذكاء الاقتصادي الترابي.

فما هو الذكاء الاقتصادي الترابي (المطلب الأول) وكيف يمكن للذكاء الاقتصادي الترابي تحقيق التنمية الشاملة (المطلب الأول)

المبحث الأول: الذكاء الاقتصادي الترابي، وأسسه 

يعد الذكاء الاقتصادي من أهم المفاهيم الحديثة في الاقتصاد المعاصر، الذي يتميز بثورة كبيرة على المستوي التكنولوجي ويعد شكلا بارزا من أشكال التطور الذي عرفها المجال الاقتصادي. وبذلك أصبح من الضروري على الجماعات الترابية وعلى رأسها الجهات، أن تتميز بالإبداع والإنتاج وبالتالي تسويق المنتوج، وهذا لن يتحقق إلا إذا اعتمدت على التقنيات الضرورية واللازمة للحصول على المعلومة ذات معطيات أكيدة ومصداقية عالية من أجل استقلالها بعد تحليلها وتنظيمها.

المطلب الأول : الذكاء الاقتصادي ماهيته ومراحله

يعد الذكاء الاقتصادي بمثابة عملية البحث عن المعلومة ، ومعالجتها بشكل يجعلها مقيدة، من أجل تبليغها للأطراف المسؤولة عن اتخاذ القرار باعتباره وسيلة بين يدي الباحثين وكل الفاعلين ترمي إلى اكتساب معرفة بالجماعات الترابية، ومعالجة نموها على نحو أفضل وذلك بتسخير كل الوسائط التكنولوجية المتاحة، وهو الشيء الذي سيمكن الفاعلين على المستوى الترابي من وضع سياسات وبرامج تنموية وتنفيذها والعمل على تقييمها بصورة ناجعة.

وقد عرف Alain Juillet الذكاء الاقتصادي، بأنه التحكم وحماية المعلومات الاستراتيجية الملائمة لمختلف الفاعلين وبما أنه عبارة عن ممارسة تنظيمية، هو بمثابة منسق لليقظة الاستراتيجية واستخدامها في حينها بخصوص التأثير على الغير([3]).

وهناك اتجاهات متنازعان حول تحديد طبيعة العلاقة بين الذكاء الاقتصادي واليقظة الاقتصادية، فالاتجاه الأول اعتبر أن اليقظة الاقتصادية مرحلة من مراحل الذكاء الاقتصادي، حيث تهتم برصيد محيط المؤسسة التنافسي (التجاري ، التكنولوجي) وهي عملية منظمة ومستمرة، لتظل على علم بالمستجدات المتعلقة بميدان عمل المؤسسة، ولتقوم هذه الأخيرة بتحليل ونشر المعلومات ، إلا ان الذكاء الاقتصادي أشمل من اليقظة الاقتصادية وذلك بترجمة هذه المعلومات إلى مؤثرات تساعد على اتخاذ القرارات الاستراتيجية والمناورات التكتيكية بالشكل الذي يخدم المؤسسة لتحقيق أهدافها

أما الاتجاه الثاني فيعتبر أن اليقظة الاقتصادية هي رد الفعل وأن الذكاء الاقتصادي هو الفعل([4]).

إن الذكاء الاقتصادي لا يعد فقط مجرد فن الملاحظة، لأنه بمثابة ممارسة هجومية ودفاعية في نفس الآن للمعلومات، حيث يعمل على الربط بين العديد المجالات  لخدمة الأهداف الاستراتيجية والتكتيكية للمؤسسة وبذلك فإن الذكاء الاقتصادي. هو أداة للربط بين سلوك المؤسسة ومعرفته([5]).

وبالتالي فان الفاعلين الاقتصاديين والسياسيين  داخل دولة معينة (جماعات ترابية،  إدارات عمومية ، مؤسسات عمومية…) مدعوون لانتهاج الذكاء الاقتصادي خصوصا في ظل اشتداد حدة المنافسة وسرعة التطور التكنولوجي، وذلك لحماية المؤسسة من التهديديات الخارجية واستغلال الفرص والتكيف مع مختلف المتغيرات الخارجية([6]).

وقد قدم تقرير “مارتر ” تعريف الذكاء الاقتصادي على أنه ” مجموعة من النشاطات المنسقة للبحث عن المعلومة  النافعة  ومعالجتها  وتوزيعها على الفاعلين الاقتصاديين بهدف استغلالها، وأن هذه النشاطات تتم بصورة قانونية، مع جميع ضمانات الحماية اللازمة لحفظ تراث المؤسسة، وضمن أحسن الظروف للتوعية والآجال والتكاليف([7])، غير أن التعريف الذي منحته الجمعية الفرنسية لتطوير الذكاء “AFDIE” للذكاء الاقتصادية، يعد غاية في الأهمية، وذلك عندما اعتبرته بمثابة ديناميكية للبناء الجماعي، نابعة إذن من اقتناع ومسؤولية الجميع، وتقوم على اتفاق الجميع واستعماله للمعلومة في فعل اقتصادي آني ولاحق، هذا مع قيامها على مبدأ التنسيق، كما اعتبرت هذه الجهة أن الذكاء الاقتصادي، مرافق بالضرورة بالتطورات العميقة لثقافة المؤسسة ولقدرة بناء المستقبل في مقابل الأحداث المريبة وذلك من أجل الحصول على أوليات استراتيجيات، تتيح تكوين أولوية تنافسية فعالة ومستدامة([8]).

ومن جهة نظرنا الخاصة يمكن تقديم الذكاء الاقتصادي على أنه حالة من الوعي والإدراك خاصة بنسق معين (جماعات ترابية، مؤسسات عمومية، شركات ومقاولات خاصة…) تتجسد بوضوح في سيرورة متناسقة ومتكاملة، من أجل القيام بمجموعة من الوظائف تهدف إلى ضمان استمرارية هذا النسق من خلال الاهتمام بجمع المعلومات ذات قيمة بعد شرحها وقراءتها وتحليليها، حتى تقدر على التأقلم بل والتأثير في المحيط الخارجي لهذا النسق بالصورة التي تعود نفعا عليه، ضمانا لدوامه واستمراريته في ظل محيط دائم التغير.

إن الذكـــــــــاء الاقتصـــــــــــادي حوار عقلاني وواعي بين المنظمة (النسق (le système ومحيطها الخارجي بصورة متميزة بالشكل الذي يساعدها على طرح منتوجات ذات تنافسية عالية في الأسواق، بالاعتماد على المعلومة كسلعة لا مادية وكمادة أولية أساسية للإدارة الجيدة لنسق معين، مع العلم أن مصادر هذه المعلومات تنقسم عموما إلى ثلاث مصادر على الشكل التالي([9])  :

70%

مصادر المعلومة المفتوحة                                                                      تسهيل الوصول

20%

(معلومات بيضاء)                                                                                                            إلى

مصادر المعلومة                                                                                                    المعلومة                                

10%

المغلقة (معلومات رمادية                                                                                                           

تجسس (معلومات سواء)                                                                                الأهمية والفائدة

                                                                                                                   الاستراتيجية للمعلومة

المطلب الثاني: خصائص الذكاء الاقتصادية وادوات تطبيقية

إن الذكـــــــــــــــاء الاقتصـــــــــــادي كنظام هام  لرصد محيط المؤسسة يهدف إلى اكتشاف الفرص وكذا التهديدات التي تلاحقها، وذلك من خلال البحث عن المعلومة ومعالجتها، بصورة تساعد مختلف الفاعلين الاقتصاديين على اتخاذ القرارات الاستراتيجية لتعزيز المركز التنافسي لهذه المؤسسة يتألف من ثلاث عناصر مترابطة:

– اليقظة الاستراتيجية وتتعلق أساسا بالبحث عن المعلومات وجمعها من البيئة المحيطة بالمؤسسة وهي بمثابة بعد استكشافي .

– الحماية وتعني بصورة أساسية حماية المعلومات التي تعد بمثابة صمام أمان ضد كل المخاطر الداخلية أو الخارجية التي قد تعصف بالنسق ككل أو قد تقلل من فعاليته ونجاعته وله طابع دفاعي .

– التأثير والضغط، ويهدف أساسا إلى التأثير الايجابي في المحيط الخارجي على نحو يعود بالنفع على المؤسسة كنسق متكامل، وله طابع هجومي([10]).

إن الذكاء الاقتصادي كمنظومة متكاملة تهتم بدراسة التفاعل سواء على المستوى التكتيكي أم على المستوى الاستراتيجي، يحتاج إلى أدوات تستوجب ايجاد نمط تفكير وثقافة جديدة ترتكز على دعائم أساسية داخل نسق معين، ذلك أنه وبالرغم من اختلاف الباحثين في تجديد الأدوات الضرورية لتنزيل الذكاء الاقتصادي، إلا أن هناك شبه إجماع على أن هذه الأدوات تتمحور حول خمسة عناصر اساسية([11]):

  1. مستودعات البيانات: ويعد مفهوما من المفاهيم الحديثة في حقل نظم المعلومات، على اعتبار أن هذا الموضوع يملك أهمية كبيرة خصوصا عندما يتعلق الأمر بالأنساق أو المنظمات ذات الحجم الكبير كالجماعات الترابية، وذلك لما له من دور يتميز بالفعالية في إدارة الموارد المعلوماتية لهذه الأنساق بهدف تحسين عملية صنع القرارات فيها.

إن الأساس الذي ينبني عليه مفهوم مستودع البيانات كأداة ضرورية وهامة من أدوات الذكاء الاقتصادي، يتجسد في تحقيق نوع من التكامل، من جهة بين بيانات المنظمة كنسق متكامل والموزعة عبر مختلف قواعد البيانات ونظم معالجة المعاملات التي تقوم بها المنظمة مع محيطها الخارجي، ثم من جهة أخرى، بين مصادر المعلومات الآتية من خارج محيط المنظمة، وذلك حتى تتوفر لهذه الأخيرة، بيئة متكاملة في إطار مستودع بيانات واحد .

ويعد علم التنقيب عن البيانات « data mining » علما قائما بذاته، ويهتم بأساليب وطرق إنتاج المعلومات وقواعد عرضها، وذلك من خلال الهائل من البيانات المتوفرة التي يتم التنقيب عنها، ليتم ربطها بأساليب علمية كفيلة بالخروج بمعلومة أو معرفة جديدة([12]).

فإذا كان أسلوب الذكاء الاقتصادي لم يعد حبيس عالم المقاولات التي تدبر طبقا لقواعد القانون الخاص، فإلى أي حد يمكن للجماعات الترابية بالمغرب وفق المقاربة الجديدة للجهوية المتقدمة، استخدام هذا الأسلوب وبالتالي ادماجه ضمن مجالاتها التدبيرية وإظهار ما يتميز به هذا الأخير من مميزات ومواصفات ايجابية؟

المبحث الثاني: الذكاء الاقتصادي ودوره في تعزيز آفاق التطور الترابي – الجهوي

إن الذكاء الاقتصادي، كأسلوب تم الاعتماد عليه في بداية الأمر، في حقل المال والأعمال، أصبح يفرض نفسه بإلحاح ليطبق كوسيلة وهامة لتعزير آفاق التطور الترابي، داخل الجهات على وجه الخصوص حتى يتسنى لهذه الأخيرة منهم وتحليل البيئة التي تعمل في إطارها، بهدف الزيادة في قدرتها على التكيف مع الحقائق المتغيرة.

المطلب الأول: واقع الجماعات الترابية ومدى امكانية تطبيقها للذكاء الترابي.

إن استحضار بعد العولمة والتنافسية الدولية في استراتيجية تنمية الجهات يفرض على هذه الأخيرة النهوض بثقافة “الذكاء الاقتصادي الجهوي”، والاستراتيجيات المرتبطة بها. وعلى وجه الخصوص في مجال تنمية اقتصاد المعرفة والبحث والابتكار والتمكن من المعلومات ومن التكنولوجيات الحديثة([14]). لأن البطء الذي ظل يميز الانتقال نحو الديمقراطية بالمغرب، بالرغم من النتائج الايجابية المحققة على أكثر من صعيد، يرجع في جانب كبير منه إلى معضلة تدبير الشأن المحلي، والذي لا يتم وفق الطرق والمناهج الحديثة وبنوع من العقلانية التدبيرية، ذلك أن العديد من القرارات والسياسات المحلية لا زالت تعاني من ضعف انتاج وتداول النخب، هذا بالإضافة إلى تراجع مصداقية المؤسسات المنتخبة، ناهيك عن عدم وجود الآليات الخاصة بالمراقبة والتقييم والمحاسبة([15]).

ورغم تواجد شبكة واسعة تشكل قوة الجماعات الترابية، إلا أن التزايد الذي يعرفه تدخل الدولة بخصوص المهام والمسؤوليات الملقاة على عاتقها والناتجة بصورة أساسية إلى الضعف الذي تعاني منه الوحدات الترابية والمتجسد في هزالة وضعف مستوى الموارد البشرية، يزداد إليها ضعف الموارد المالية، وهو ما أفرز لنا تمسك الدولة واحتفاظها بمنطق دعمها للسلطات مع ممارسة المهام الاستثنائية التي تبقى خارج نطاق اختصاص إدارة عدم التركيز، بالصورة التي تمكنها من تنفيذ السياسات الوطنية الكبرى.

فهل استطاعت القوانين المنظمة للجماعات الترابية وعلى الخصوص القانون التنظيمي للجهات([16]). الوصول إلى طرق تدبيرية تؤهل الاقتصاد الوطني من خلال نهج أسلوب الذكاء الترابي الاقتصادي؟

إن القوانين التنظيمية للجماعات الترابية، ومدى إمكانية تحقيقها للجودة الشاملة الكفيلة بتحقيق الحكامة الترابية، كمخرج أساسي لكل الأزمات التي من الممكن أن تمر بها الدولة ككل، مرتبط تمام الارتباط بطبيعة النظام المركزي المغربي – في ظل ضعف وهزالة النخب المحلية – والذي تحكمه أربعة قواعد:

ومن هنا يظهر لنا بوضوح إشكالية سوء توزيع الاختصاصات والصلاحيات،  حيث أن تقنية التنظيم بمفهومه الواسع (إداري، سياسي، اقتصادي، مالي..) يطغى عليه النزعة المركزية وهو ما يعني أن نسبة السلطات والصلاحيات الممنوحة للجماعات الترابية، تعد هزيلة وتافهة لا تقدر سوى ب 8% مقارنة مع مجالات السلطة الأخرى (55% بيد السلطة الرئاسية؛ 25% تحتكره الحكومة، 12% يحتكره اللاتمركز أي العامل أو الوالي) ([20])

وبالتالي فالتنظيم الجماعي الترابي، ينبني على كل ما هو ثانوي فقط أكثر من اعتماده على مبدأ التفريع([21]). ليبقى الوجه البارز هو اللجوء الممنهج إلى تقنية التنظيم الإداري والسياسي وكذا الاقتصادي والمالي، الذي يتمظهر أساسا في تمركز ومركزية ولا تمركز السلطة، وهو ما يشكل عائقا كبيرا أمام إمكانية تنزيل أسلوب الذكاء الاقتصادية الترابي.

إن اللامركزية كخيار استراتيجية ، وكقاعدة إدارية فعالة لتدبير الشأن المحلي بالمغرب، من وخلال تطوير المؤسسات المحلية، وتوسيع نطاق اختصاصاتها وتأهيل العنصر البشري الفاعل داخل الجماعات الترابية، يعترضه إشكالية أخرى، تتمظهر بوضوح في اللجوء إلى الرقابة المشددة والدائمة والمتنوعة على هذه الجماعات، من حيث اختصاصاتها ووسائل نشاطها.

   هذا الإكراه الواقعي والقانوني، يضع الجماعات الترابية ، في غياب تام لما يمكن أن تحصل عليه من معطيات دقيقا وموثوقة، والتي تعد كأساس للذكاء الاقتصادي الترابي، وكنطقة الانطلاق لتشخيص الوضعية وتحديد الحاجيات بمنتهى الدقة، نتج عنه عدم تواجد أجهزة أو مكاتب للتقييم للوقوف على مستوى نجاعة البرامج التنموية، وتتبعها بشكل دوري لتحديد السلبيات والعمل على تجاوزها، أو الايجابيات للبناء عليها([22])، مع غياب تام لرؤية استراتيجية مندمجة بعيد المدى.

   هذه الإكراهات وغيرها، تحتم على الجماعات الترابية، تبني مقاربة مندمجة تقطع بصورة نهائية مع التدبير الترابي القديم، كفيلة بالنهوض بثقافة الذكاء الاقتصادي الترابي.

المطلب الثاني : دعائم وأسس النهوض بثقافة الذكاء الاقتصادي الترابي

إن انخراط المغرب في منطق الذكاء الاقتصادي الترابي، أصبح أمرا ضروريا خصوصا في ظل انفتاحه على العالم الخارجي من الناحية الاقتصادية على وجه الخصوص، وخاصة مع تنصيص القانون رقم 111.14 المتعلق بالجهات، في المادة 80، على أن الجهة تعمل على تحسن جاذبية مجالها الترابي وتقوية تنافسيته الاقتصادية.

إن الحكامة الترابية التي لا تعدو إلا أن تكون من النتائج الأساسية لتطبيق الذكاء الاقتصادي الترابي، تستدعي بالضرورة تحديث سياسية اللاتركيز الإداري وتنزيلها بصورة صحيحة، لأن تعدد المتدخلين على المستوى الترابي، يسبب عرقلة واضحة لاتخاذ القرارات الناجعة وفي وقتها المناسب([23]). حتى نكون في منأى عن كل ما من شأنه تكريس أساليب التنمية الفوقية التكنوقراطية المتميزة بالإفراط الممنهج في اللجوء الى أسلوب المركزية التي لا تهتم سوى بالمؤشرات الماكرو اقتصادية عند القيام بعملية قياس النمو الاقتصادي.

تبقى إذن المقاربة التشاركية إحدى أهم منهجيات العمل المتعلقة بتدبير المجال الترابي الكفيل بتنزيل أسلوب الذكاء الاقتصادي الترابي، طالما أن المقاربة التشاركية عبارة عن مسلسل تواصلي، يهدف الى تمكين الأفراد والجماعات من تحديد الأهداف المتوخاة من قبلهم، مع الأخذ بعين الاعتبار لآرائهم وتطلعاتهم، وذلك أثناء صياغة القرارات والمشاريع التنموية، وهو ما يعني بالضرورة الانتقال من المقاربة القطاعية المعتمدة في النظام المركزي، من خلال فرض المشاريع الفوقية دون الاستشارة في التنفيذ والتتبع والتقييم، إلى المقاربة التعاقدية والتشاورية([24]).

إن اللامركزية واللاتمركز الإداري، تعد الرهان الحقيقي للنهوض والرقي بالشأن العام الترابي، حيث صرح الملك الحسن الثاني في خطاب بمناسبة المناظرة الوطنية السابعة للجماعات المحلية ، تحت شعار “اللامركزية واللاتمركز” بأن اللاتمركز هو المفتاح الذي يمكن الإنسان من أن يفتح باب التمتع باللامركزية على مصراعيه،  بعبارة أوضح، فاللامركزية هي الميدان  واللاتمركز هو الوسيلة([25]). وهو ما تم التأكيد عليه من قبل الملك محمد السادس، بمجرد توليه العرش، حيث صرح على ضرورة تعميق اللامركزية مع تطبيق سياسة ملائمة لعدم التمركز الإداري ، لما له من اثار هامة في إنجاح اللامركزية([26]).

وهو ما يعني أن هناك اهتمام تام لدى مؤسسات الدولة الرسمية وعلى رأسها المؤسسة الملكية، بضرورة تبني هذا الأسلوب الذي يعد وسيلة ناجعة حتى تستطيع للجماعات الترابية تبني أسلوب الذكاء الاقتصادي لأن تعزيز استقلالية الجماعات الترابية، يمثل التنزيل الأصح لمبدأ التدبير الحر، في الاضطلاع السليم بالشؤون الجهوية والمحلية، وكذا تكريس القواعد التي تؤسسها اللامركزية الإدارية([27]).  إلا أن هذا المقتضى رهين بتوفير الضمانات الحقيقية الكفيلة بتحصين الجماعات الترابية، وعلى رأسها الجهات، من كل ما من شأنه المساس بمبدأ التدبير الحر، على اعتبار أن سلطات الوصاية تملك صلاحيات واسعة وإمكانيات كبيرة جدا تجعلها قادرة على التحكم في ميزانيات الجماعات الترابية، باستعمالها لوسيلة للمراقبة القبلية لقرارات ومقررات المجلس ورئيسها وذلك من خلال التأشير على هذه الأخيرة أو رفض التأشير عليها حتى يتسنى لسلطات الوصاية مراقبة الشرعية، هذا مع تدخل سلطات الوصاية في جداول أعمال مجالس الجماعات والاعتراض عليها عند الاقتضاء وهو ما يعني إفراغ مبادئ اللامركزية والحكامة الترابية وكذا قواعد التدبير الحر من معناها الحقيقي([28]). وذلك بالرغم من ادخال المشرع للقاضي الإداري كمشرف هام وفعال على سلطات الوصاية، من هذا المجال.

إن تطبيق الذكاء الاقتصادي الترابي كوسيلة للنهوض بالتنمية المندمجة والمستدامة، والكفيلة بتقديم خدمات ذات جودة شاملة، كفيلة بتخطي كل الأزمات تستوجب من الجماعات الترابية اتخاذ زمام المبادرة المستقلة ارتكازا على مبدئي التفريع والتدبير الحر، كركيزتين أساسيتين، لتنزيل اللامركزية بمفهومها الحقيقي، مع تجنب التداخل في الاختصاصات بين الجماعات الترابية من جهة ، وتنازعها بين ممثلي سلطات الوصاية ورؤساء المجالس الترابية من جهة أخرى، حتى تتمكن الجماعات الترابية من امتلاك الآليات الكفيلة بتحسين أدائها التنافسي وتحسيسها بكل المخاطر والتهديدات التي يفرزها محيطها الخارجي، مع تشجيع هذه الجماعات على خلق شراكات بناءة مع القطاع الخاص، حتى يسنى لها تحسين دوران المعلومة الاستراتيجية فيما بينهما([29]). لتصبح قادرة على إنتاج وجذب المهارات، للمساهمة في التغيير الجذري لطريقة بلورة وتنزيل السياسات  العمومية على المستوى الترابي .

خـــــــــــاتمـــة :

      ان انخراط المغرب في مسلسل التأسيس الصحيح للامركزية بمختلف مراحلها وكذا تطوراتها المؤسساتية ، تعد ممارسة مهمة وغنية بالدروس بخصوص تنزيل الديمقراطية على المستوى الترابي ، غير ان هذه التجربة ظلت مصحوبة بنوع من الحذر وذلك في ظل وصاية جامدة ،الشيء الذي نتج عنه ان اصبحت السياسات العمومية تهيمن عليها المقاربة التجزيئية حينما تعاملت الدولة مع اللامركزية واللاتركيز بمقاربة قطاعية في تعاملها مع السياسات التنموية ، وبالتالي فان تنزيل الذكاء الاقتصادي الترابي يتطلب بناء السياسات العمومية على مستوى الجماعات الترابية بمقاربة شمولية مندمجة ومستمرة ، مع اعتمادها على الالتقائية حتى يتم الحد من مركزية القرارات السياسية وتراتبية تنفيذها، في وقت تميزت فيه السياسات العمومية بالظرفية والتجزيئية والقطاعية على مستوى الجماعات الترابية ،ذلك ان مناط هذه الاشكالية تتجلى بصورة اساسية في طبيعة وبنية النظام السياسي بالمغرب المبني منذ اكثر من نصف قرن على وحدة السلطة السياسية ، وكذا الادارية مع تمركزها في المركز فأصبحت بذلك الدولة تنظر الى المستوى الترابي على اساس كل بنية ادارية على حدة وليس على اساس نسق متكامل ،  نتج عنه تبعية الفاعل الترابي للفاعل المركزي واتكاله بصورة مطلقة عليه، هذا الامر يحتم على الدولة تطبيق التقائية السياسات العمومية الترابية على اساس تقنية التعاقد الترابي حتى تستطيع الجماعات الترابية تنزيل ورش الذكاء الاقتصادي الترابي، بنوع من المسؤولية والجدية والجرأة للخروج من ازمة تداخل الاختصاصات بين المستويات الترابية وبينها وبين الدولة، لتحقيق الحكامة المؤسساتية بين الجماعات الترابية والدولة مع فسح المجال لحل اشكالية تشتت النصوص التشريعية التي لها صلة وثيقة بالجماعات الترابية بما فيها القوانين التنظيمية للجماعات الترابية .  


[1] -آمال بلشقر، التسويق الترابي دعامة أساسية للتنمية الجهوية المندمجة، مجلة دراسات ووقائع دستورية وسياسية – عدد 9، 2013، ص 72

[2] -رضوان العلمي: ” التعمير والتنمية بالمغرب أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام والعلوم السياسية، جامعة محمد الخامس، الرباط، كلية العلوم القانونية والاقتصادية، السنة الجامعية 2014-2015، ص 240

[3] -voir : Peguiron Frédérique « application de l’intelligence économique dans un système d’information stratégique universitaire : les apports de la modélisation des acteurs » thèse de doctorat, université Nancy 2, 2006-p 30

[4] -بعيطيش شعبان وعربية سلوى: التميز الثاني للمؤسسة الاقتصادية من خلال تطبيق الذكاء الاقتصادي، وأهم الإجراءات المتخذة لدعمه في الجزائر ” مداخلة في الملتقى العلمي بعنوان: المخول الرقمي للمؤسسات والنماذج التنبؤية على المعطيات الكبيرة، بجامعة محمد بوضياف يومي 12-13- نونبر 2017

[5] -BAUMARD P. stratégie et surveillance des environnement concuvientiels, Masson, 1991, p .29

[6] -مصطفى بودرامة: “دور الذكاء الاقتصادي في تحسين تنافسية المشروعات الصغيرة والمتوسطة الجزائرية ” المؤتمر العلمي السنوي المادي عشر لذكاء الاعمال واقتصاد المعرفة جامعة الزيتونة الأردنية ، الأردن، أيام 23 إلى 26 أبريل 2012، ص 584

[7] -Henri martre, l’intelligence économique et stratégie des entreprises édition la documentation, française, Paris , 1994, p 16

[8] -Jean –Luis LEVET, intelligence économique et mode dépenser, mode d’action , Economica , Paris, 2001 , p.19

[9] -انظر حمداني محمد: أهمية الذكاء الاقتصادي في تحسين مناخ الأعمال وجذب الاستثمارات الأجنبية “مجلة أداء المؤسسات الجزائرية عدد 2 ، كلية العلوم الاقتصادية والتجارية وعلوم التسيير، جامعة وهران الجزائرية، 2012، ص 16.

[10] -Voir M. Boudjemai, «  l’intelligence économique : concept, définition et mode , opératoire » ; séminaires de sensibilisation à l’intelligence économique et ) la veille stratégique ; Alger, 23 décembre 2008, p 06 

[11] -انظر: سلوى أمين السامراني، عبد الستار عبد الجبار العكيدي: “مستقبل ذكاء الأعمال في ظل الحوسبة الحسابية “المؤتمر الحادي عشر لذكاء الأعمال واقتصاد المعرفة، الأردن أيام 23 -24 26- 26 أبريل 2012، ص 329

[12] – سلوى أمين السامراني، عبد الستار عبد الجبار العكيدي: “مستقبل ذكاء الأعمال في ظل الحوسبة الحسابية”. م. س. ص 329

[13] – سلوى أمين السامراني، عبد الستار عبد الجبار العكيدي: “م. س. ص 329

[14] – يقرر المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، “متطلبات الجهوية المتقدمة وتحديات إدماج السياسات القطاعية”، إحالة ذاتية رقم 2016/22، ص 96-95

[15] – رضوان زهرو، “الحكامة الترابية ” مجلة مسالك عدد 30/29، ص 10

[16] -القانون التنظيمي رقم 14- 111 المتعلق بالجهات، الصادر تنفيذه الظهير الشريف رقم 1.15.83  بتاريخ 7 يونيو 2015، الجريدة الرسمية عدد 6585 بتاريخ 23 يونيو 2015

[17] – voir , M. Lahbabi, le gouvernement marocaine à l’aube du XXe siècle, Editions techniques nord- africains, Rabat , 1958

[18] -J. Chabih, «  les aspects financiers de la décentralisation territoriale au Maroc , UCAM, collection FSJES, Marrakech, 1997, p.13

[19] – J. Chabih, «  les aspects financiers de la décentralisation territoriale au Maroc » op. cit . p 11

[20] -الجيلالي شبيه  ” دراسة نقدية في القوانين التنظيمية للجماعات الترابية “

دراسات –نقدية- في – القوانين – التنظيمية- للجماعات – الترابية/ WWW.NADOR24.COM  

[21] -ينص الفصل 40 من دستور 2011، على أنه “الجماعات الترابي ، بناءا  على مبدأ التفريع، اختصاصات ذاتية،  واختصاصات مشتركة مع الدولة واختصاصات منقولة إليها من هذه الأخيرة.

تتوفر الجهات والجماعات الترابية الأخرى، في مجالات اختصاصاتها، وداخل دائرتها الترابية، على سلطة تنظيمية لممارسة صلاحياتها، وداخل دائرتها الترابية، على سلطة تنظيمية لممارسة صلاحياتها”

[22] -للمزيد انظر “خلاصات اليوم الدراسي حول” تقييم وتثمين آليات مواكبة المخططات الجماعية ” المديرية العليا للجماعات الترابية الرباط 2013

[23] -Anas Ben salah Zemrani : «Décentralisation et décentralisation au service de la promotion de l’investissement industriel local ; développement et stabilité », politique de décentralisation et développement industriel local ; actes de callogue international, organisé à la faculté de droit de marrakech 10 et 11 novembre 1993, p 62

– ذكره عماد أبركان “نظام اللاتمركز ومتطلبات الحكامة الترابية “، لمجلة مسالك عدد 30/29، 2015، ص 38    

[24] -نجيب جبري: ” الديمقراطية المحلية وسؤال الحكامة الجيدة ” مجلة مسالك، عدد 30/29، ص 20

[25] -للمزيد، انظر خطاب الملك الحسن الثاني “اللامركزية وعدم التركيز ” أعمال المناظرة الوطنية السابعة للجماعات المحلية ” الدار البيضاء 19 أكتوبر 1998، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة نصوص ووثائق، مطبعة النشر المغربية، الرباط، عدد 25، سنة 1999، ص 12

[26] -انظر نص الرسالة الملكية أساسية الموجهة إلى الوزير الأول عبد الرحمان اليوسفي، حول المخطط الخماسي في 16 دجنبر 1999

[27] – رضوان زهرو ” التدبير الحر للشأن الترابي” مجلة مسالك ، العدد 34/33، السنة الحادية عشرة  ص 09

[28] -رضوان زهرو ” التدبير الحر للشأن الترابي” مرجع سابق ص: 10

[29] -وسام داي: ” تطبيق السياسات الإقليمية للذكاء الاقتصادي في الجزائر واقع وآفاق “مجلة الاقتصادية، العدد الخامس والثلاثون، المجلد التاسع، 2014 ، ص 10

Exit mobile version