Site icon مجلة المنارة

الدبلوماسية الاقتصادية: بين الدبلوماسية القسرية والقوة الناعمة

الدبلوماسية الاقتصادية: بين الدبلوماسية القسرية والقوة الناعمة

آمال بنبراهيم

باحثة في العلاقات الدولية والدبلوماسية

مقدمة:

فرضت المتغيرات التي طالت النظام العالمي وعولمة الاقتصاد المتسارعة الوتيرة تطور مفهوم الدبلوماسية التقليدية. فلم يعد مفهوم الدبلوماسية يقتصر على جمع المعلومات وإدارة العلاقات السياسية، بل اتسع ليشمل مجالات عدة: اقتصادية، اجتماعية، ثقافية، بيئية… وإقامة العلاقات بين الدول على أسس جديدة من حيث الأولويات والأهداف، لتحافظ على مصالح كل منها، ولتحقق المساواة فيما بينها، وتفتح المجال أمام نموها وتطورها، وذلك في الوقت الذي تجاوزت فيه العلاقات بينها الاعتماد، فقط، على الاعتبارات السياسية أو العسكرية، وأصبحت موجهة باعتبارات اقتصادية.

ففي ظل التكامل بين المجالين السياسي والاقتصادي وصعوبة الفصل بينهما، وكذا تزايد التشابك بين العلاقات الدولية السياسية والاقتصادية، أضحى المجال الاقتصادي دعامة أساسية في تقوية العلاقات بين الدول، وعاملا مركزيا في توسيع مجال علم الدبلوماسية وظهور فروع متعددة : كالدبلوماسية التجارية، ودبلوماسية المساعدات الاقتصادية، دبلوماسية التنمية، ودبلوماسية الدولار[1]…. فالتجارة الدولية، والمساعدات الاقتصادية، وقضايا التنمية للدول النامية، والعلاقات الدولية المالية والنقدية وغيرها من النشاطات الاقتصادية الدولية والتي تؤثر في العلاقات الاقتصادية بين الدول، وتحتاج إلى جهد رسمي دبلوماسي لتنظيمها تعد نشاطا اقتصاديا للدبلوماسية وممارسة هذا النشاط والاهتمام به، وموازاته للنشاط السياسي للدبلوماسية من حيث الأهمية أصبح يعرف الآن ب “الدبلوماسية الاقتصادية”.

لقد أصبح الاقتصاد، بالإضافة إلى كونه وسيلة من الوسائل التي تلجأ إليها الدول للضغط (سواء من خلال فرض تدابير اقتصادية قسرية أحادية الجانب أو اتخاذ إجراءات كالعقوبات الاقتصادية التي تعتمدها المنظمات كآلية من آليات حفظ السلم والأمن الدوليين)، وسيلة دبلوماسية تهدف إلى تعزيز التعاون بين الدول. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل عن ثنائية الدور الذي تلعبه القوة الاقتصادية -المصنفة عنصرا أساسيا من عناصر القوة الصلبة عند جوزيف ناي- في مجالات تطغى عليها  الرغبة في خلق التأثير الإيجابي وتقديم صورة اقتصادية جذابة وهو ما تسعى إلى تحقيقه الدبلوماسية العامة باعتبارها آلية من آليات القوة الناعمة.

وتأسيسا على ما سبق، ستحاول هذه الورقة مناقشة إمكانية توليد القوة الاقتصادية لسلوكات التأثير والجذب والإقناع في الممارسة الدبلوماسية   من خلال مستويين اثنين:

 مستوى اول يتطرق إلى  الدبلوماسية الاقتصادية باعتبارها آلية تلجأ إليها الدول لتحقيق  للتقارب التجاري والسياسي  ومستوى آخر يحاول أن يقارب ازدواجية الدور الذي تلعبه القوة الاقتصادية كأداة للضغط من جهة و كوسيلة استراتيجية للتأثير في الرأي العام الدولي وكذا في أوساط صناعة القرار.

  1. الدبلوماسية الاقتصادية: آلية الدول للتقارب التجاري والسياسي

نشأت الدبلوماسية الاقتصادية، في شكلها البدائي، كمبادلات خارجية تمثلت في تبادل سكان مناطق ومدن – دول المنتجات وتقديم خدمات لبعضها البعض، ويعد أرشيف العمارنة من أقدم السجلات التي وثقت لهذا التبادل التجاري بين الممالك، بالإضافة إلى الألواح الطينية بشرق مصر خلال الفترة الممتدة من 1460و 1220 قبل الميلاد، (…) حيث تصف بالتفصيل التجارة الواسعة التي كانت موجودة في تلك الحقبة بين الدول والحضارات من مصر وغرب آسيا، ومن جهة أخرى نجد طرق الحرير بين الهند والصين وبين هذه الأخيرة وأروبا والتي أطلق عليها اسم الطرق الغربية والتي تجتاز آسيا الوسطى وشرق وجنوب ميانمار الحالية، وهي الطرق التي تقدم دليلا مماثلا على تبادل السلع والقطع الأثرية الدينية، والمخطوطات، بين الشعوب والثقافات التي تفصل بينها مسافات شاسعة وحواجز جغرافية. [2]

لقد كانت الدبلوماسية الاقتصادية في القديم وببساطة دبلوماسية تجارية، وليس في هذه الحقيقة ما يثير الاستغراب، فحتى وقت قريب، كانت تجارة البضائع أساس العلاقات الاقتصادية الدولية، وهو ما كان سائدا في بادئ الأمر في الدول المؤسسة على التجارة والملاحة اللتان من أجلهما كانت أهداف السياسة الخارجية يعبر عنها تجاريا: انفتاح وأمن وسائل التواصل، الولوج إلى الأسواق وحرية التعاملات. وهو ما كان عليه الوضع في فينيسيا وجنوة حيث كان الانشغال الأكبر هو التحكم في الملاحة بالمتوسط الشرقي، وكذا حال جنوة وبيزا لمراقبة التجارة المتوسطية لفرنسا وإسبانيا، والرابطة الهانزية[3]، التي كانت في نزاع (غالبا مسلح) خلال القرنين 14 و15 مع الأراضي المنخفضة…. ثم بعد ذلك ازدهرت التجارة بين العالم القديم والعالم الجديد بسبب الاستعمار الأوروبي[4]. غير أن أهم منعطف في تاريخ الدبلوماسية الاقتصادية جاء عقب الحرب العالمية الثانية، حيث برزت الدبلوماسية الاقتصادية بشكل أكثر وضوحا وذلك من خلال إنشاء عدد من المنظمات الدولية التي مأسست النظام المالي والدولي وللنشاطات التجارية للدول الحديثة[5] ، وأعادت تنظيم شؤون العالم الاقتصادية. وظهرت مدرسة ما بعد السلوكية والاقتصاد السياسي الدولي. ويرى جوزيف ناي NYE أنه ليس للقوة أهمية كبيرة في العلاقات بين الدول غير النووية وغير المتقدمة، وإنما ظهرت أنماط جديدة من العلاقات التي تتميز بالمقدرة العالية على التأثير المتبادل بغير وسيلة القوة، وحتى بالنسبة للقوى العظمى، فقد تضاءل مفعول التهديد باستخدام القوة بصورة حادة في السنوات الأخيرة، وانتقل ثقل التأثير من دائرة الأمن إلى دائرة التبعية الاقتصادية.[6]

هذا المنعطف التاريخي لم يغير فقط ملامح الممارسة الدبلوماسية المبنية على الآليات الاقتصادية، بل طال أيضا الوظائف والمهام المرجوة من الدبلوماسية الاقتصادية، فتجاوزت المجال الضيق للمصلحة التجارية لتشمل مصالح وطنية واسعة النطاق تتضمن استراتيجية سياسية وأبعادا اقتصادية.[7]

وتتباين الآراء حول ما إذا كانت الدبلوماسية الاقتصادية مختلفة عن الدبلوماسية التجارية، فبعض من عملوا في هذا المجال يميلون إلى اعتبار الدبلوماسية التجارية كفرع من مجمل الدبلوماسية الاقتصادية. ففي العادة لا تشمل الدبلوماسية التجارية تدبير المعونات الاقتصادية – مانحة كانت أو مستقبلة- وهو ما يقع بوضوح تحت بند الدبلوماسية الاقتصادية. وقد ينطبق الشيء نفسه على إدارة العلاقات مع المنظمات الاقتصادية الدولية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، أو اللجان الإقليمية للأمم المتحدة.

وفي هذا السياق برزت العديد من المقاربات التي تناولت موضوع الدبلوماسية الاقتصادية بالتعريف والتحليل، و أثبتت أن مفهوم الدبلوماسية الاقتصادية هو مفهوم نسبي التحديد، من منطلق أنه يختلف من بلد إلى آخر وحسب الفاعلين المتدخلين ويعرف ” ليس فقط بالآليات وإنما بالإشكاليات الاقتصادية التي تمنحه مضمونه”. تُعرف الدبلوماسية الاقتصادية عموما “بأنها شكل من أشكال الدبلوماسية، تستخدم فيها الدولة الأدوات الاقتصادية من أجل بلوغ أهدافها”[8]

أما Guy Carron de la Carrière، المدير المساعد السابق للعلاقات الاقتصادية الخارجية والمدير السابق للمركز الفرنسي للتجارة الخارجية، حين عرف الدبلوماسية الاقتصادية، ربطها بالبحث عن الأهداف الاقتصادية باستخدام وسائل دبلوماسية سواء ارتكزت أم لا على آليات اقتصادية لبلوغها”[9]. بينما ربطها آخرون بالمجال السياسي باعتبارها تلك النشاطات الدبلوماسية التي تستخدم العامل الاقتصادي في التعامل السياسي.[10] فالتعامل الاقتصادي الدولي يشكل أهمية في تمتين العلاقات الدبلوماسية بين الأمم والشعوب، فأصبحت الدبلوماسية الاقتصادية أكثر فاعلية من الدبلوماسية السياسية.

وإذا أردنا أن نفهم التطور السريع لمضمون الدبلوماسية الاقتصادية في المشهد المعاصر، فسنلاحظ أن الدبلوماسية الاقتصادية التي تمارسها الدول في السنوات الأربعين الأخيرة الماضية قد مرت بمراحل أربعة:

النامية تتعلق ب “القدرة ” على الانخراط في هذه المفاوضات.[11]

مراحل التطور هذه، جعلت الممارسة الدبلوماسية الاقتصادية تشهد نضجا ليس فقط في مجالات تدخلها، وإنما أيضا في طبيعة الأدوات التي تستخدمها، حيث تلجأ إلى استخدام أداة واحدة أو أكثر:

ومن هذا المنطلق، يمكن تحديد الأهداف الكبرى للدبلوماسية الاقتصادية لبلد ما والتي تضطلع وزارة الشؤون الخارجية بدور رئيسي فيها، في:

 تشجيع المبادلات التجارية، بما في ذلك تعبئة الاستثمارات الأجنبية… ؛

إرساء شبكات تجمع مختلف الفاعلين…

تشجيع الأنشطة الاقتصادية للبلاد.

– وأخيرا، لعب دور تنظيمي يشمل أساسا تسيير الأنشطة الاقتصادية الخارجية للبلاد. [14]

  1. الدبلوماسية الاقتصادية: من آلية للضغط الدولي إلى دبلوماسية للتأثير:

إذا كانت المكانة المتزايدة للاقتصاد محل توافق، فإن هناك تفسيرين مختلفين يفرضان نفسيهما، الأول، وهو عموما الأكثر شيوعا بين المتخصصين في العلاقات الدولية، والذي لا يرى إلا توسيع المجال الدبلوماسي التقليدي للدول ليشمل المجال الاقتصادي، في ترابط مع تصاعد الاعتماد المتبادل بين الاقتصادات. وفي المقابل، يفترض التفسير الثاني أن التغيرات المتعددة المرتبطة بما يسمى ” العولمة الاقتصادية” زعزعت تماما سياق العمل الخارجي للدول. [15]

وبقدر ما تكون عليه العلائق الاقتصادية بين دولتين ضعفا أو قوة أو انعداما، تتأثر بذلك العلاقات الخارجية ضعفا أو قوة أو انعداما: إن مقياس حجم الميزان التجاري بين بلدين يؤشر إلى حجم ميزان تعاملهما السياسي. ولم يعد من سبيل إلى إقامة علاقات سياسية متوازنة إلا بإقامة علاقات اقتصادية متوازنة كذلك. [16] ومن هذا المنطلق فإن الدبلوماسية تستخدم الاقتصاد وهو بدوره يخدم السياسة الخارجية، فهي نقطة التقائهما الثالثة. وهو ما لا يمكن اعتباره مستجدا على العلاقات الدولية، فلطالما اعتبرت تنمية الأعمال كوسيلة لتقريب الشعوب، وكانت أحد الأهداف الغير مباشرة لمعاهدات التجارة الانجليزية الفرنسية لسنة 1786 و 1860. كما تم تقديم التبادل الحر من طرف المفكرين خلال القرن الماضي كعامل للسلام. وبناء عليه اعتبر Richard Cobden أن هناك “انسجاما طبيعيا” بين القوانين الاقتصادية وتطوير العلاقات الدولية. وأن تحرير المبادلات يخلق اعتمادا متبادلا بين الشعوب كافيا لتجاوز الخلافات السياسية، ويغني عن الغزو لتطوير الأسواق، وردع الحكومات عن ” إقحام شعوبها في الحرب”. [17]

إن القوة الاقتصادية شكلت محورا رئيسيا في مفاهيم القوة عند الباحثين، فالواقعيون الجدد اعتبروها عاملا أساسيا لضمان استمرارية الدولة بعدما أهملتها الواقعية القديمة، واعتبرها Joseph Nye عنصرا أساسيا من عناصر القوة الصلبة Hard Power وكآلية لاستخدام الدبلوماسية القسرية، والواقع أن NYE coercive diplomacy لا سيما عندما تتعلق بفرض أو تطبيق عقوبات اقتصادية على بلد ما[18]، إلا أنه أغفل إدراج أي من عناصر الدبلوماسية الاقتصادية ضمن تعريفه للقوة الناعمةSoft Power ، حيث لم يذكر المساعدات التنموية مثلا كعنصر من عناصر هذه القوة، مما يوحي بأنه صنفها إلى جانب العقوبات والرشاوى ضمن القوة الصلبة[19].

والواقع أن الدول قد تعتمد في تحقيق مصالحها في بعض الأحيان على استخدام القوة الاقتصادية، من خلال تقديم المنح و المساعدات المالية والاقتصادية[20]، وهو ما يوحي بأن نظرية ناي باعتبار القوة الاقتصادية عنصرا من عناصر القوة الصلبة لم تأخذ الممارسات التنموية التي تتبناها الدول بهدف خلق تأثير إيجابي على الرأي العام الدولي بعين الاعتبار، إلا أن إشارته ولو البسيطة إلى أن المعونات الإنمائية تخدم المصلحة العامة العالمية ، وأن ما تنفقه الدول الأوروبية من إجمالي ناتجها المحلي على مساعدات التنمية في الخارج واحدا من أهم مصادر قوتها الناعمة.[21] يمكن أن يعتبر اعترافا با لدور الذي يمكن أن يلعبه الاقتصاد كآلية للتأثير والجذب. كما أن جوزيف ناي سبق وأدرج البراعة الاقتصادية الفائقة كمصدر من مصادر القوة الناعمة الأمريكية، وهو ما يؤكد أن NYE لم يغفل الازدواجية التي يتميز بها التعامل الاقتصادي بين الدول كقوة صلبة للإرغام أو كقوة ناعمة للتأثير والجذب.

وبدا هذا التوجه واضحا في كتابه The Future of power ، عندما تطرق إلى أن الموارد الاقتصادية قد تولد سلوك القوة الناعمة، حيث يمكن ألا يقتصر إنتاج النموذج الاقتصادي الناجح على الموارد العسكرية الكامنة، بل ويمكن أيضا أن يجتذب الآخرين للمنافسة على النموذج، معتبرا أن نجاح القوة الناعمة للاتحاد الأوروبي في نهاية الحرب الباردة، والقوة الناعمة للصين حاليا يدعمهما نجاح نماذجها الاقتصادية، وأن الاقتصاد الكبير الناجح، ليس فقط موارد القوة الموجعة، بل أيضا جذب القوة الناعمة التي تتداعى للسقوط.[22]

وإذا ما إذا عدنا تعريف Quanyi Zhang للقوة الناعمة: ” تلك القوة التي تؤكد استخدام الوسائل الحضارية والاقتصادية والدعائية” فإننا سنجد أن الوسائل الاقتصادية قد تشكل آلية تنهجها الدول لكسب تعاطف شعوب دول أخرى وتأييدهم لسياساتها الخارجية، آلية أصبحت تتعدى حدود الدور المرسوم لها كقوة صلبة وتندرج في صف مصادر القوة الناعمة للدول. وبالتالي، فإن القوة الناعمة تدخل كل مورد لا يُحتسب على القدرات العسكرية أو ضمن القوة الصلبة، حيث تشمل المؤثرات الثقافية والإعلامية والاقتصادية، إضافة إلى العلاقات العامة، التي غالباً ما تستخدم كجسر لإمرار سياسات أو مناهج. [23] وهو ما يؤكده Bergeijk و Moons حينما وسعا في تعريفهما للدبلوماسية الاقتصادية نطاق ومجالات اشتغالها لتشمل التجارة والاستثمار والأسواق الدولية، والهجرة، والمساعدات والأمن الاقتصادي والمؤسسات التي تشكل البيئة الدولية، ووسيلتها العلاقات، والتفاوض، والتأثير… “[24] .

 فسنجد أن القوة الاقتصادية تعد مشتركة بين كل من القوة الصلبة والناعمة، لكن الاختلاف يكمن في طريقة استخدامها إما للضغط أو للجذب.

ومن هذا المنطلق فإن الدبلوماسية الاقتصادية تتضمن كلا من المساعدات الاقتصادية، والعقوبات الاقتصادية، حيث تشمل الأولى تقديم المساعدات والمنح والهبات ودعم التنمية الاقتصادية، بهدف جذب الدول المتلقية لهاته المساعدات، أما العقوبات، فتشمل الإجراءات والتدابير الجزائية الاقتصادية التي تتخذها المنظمات الدولية للضغط على بلد ما، بهدف حفظ السلم والأمن الدوليين، كما وقد تتجلى في العقوبات التي تفرضها دولة من القوى العظمى كفرض حظر اقتصادي أو تجميد أصول مصرفية للدولة المعاقبة (كالعقوبات الاقتصادية الأمريكية ضد تركيا وإيران)، وبتعبير آخر فإن الدبلوماسية الاقتصادية هي في ذات الآن دبلوماسية للتأثير Diplomacy Of Influence ودبلوماسية قسرية coercive diplomacy.

من جهة أخرى، فإن أحداث الحادي عشر من شتنبر، جعلت الولايات المتحدة وحلفاءها يهتمون بشكل أكبر بتطوير قدراتهم العسكرية في إطار الحرب على الإرهاب، و من المهم إدراك أن القضاء على الإرهاب لن يتأتى بالقوة العسكرية وحدها، إذ بإمكانها القضاء على الإرهابيين، لكن لا يمكنها القضاء على ظهور أجيال أخرى منهم، ذلك لكون أسباب ظاهرة الإرهاب ما تزال موجودة، و عليه يرى بعض المحللين أنه من الضروري إيجاد خطة أمنية جديدة، لضمان تعاون الدول المصدرة للإرهاب معها، منطلقة من استخدام القوة الناعمة بدعم التنمية الاقتصادية و الحكم الراشد و التحول الديمقراطي[25]. وهو ما نلمسه على سبيل المثال في الدبلوماسية العامة الكندية التي صممت ليس لتقوية القيم فقط وإنما أيضا لتعزيز التنمية الاقتصادية.[26]

إن الزاوية التي ينظر منها إلى السياسات الاقتصادية لبلد ما هي المتحكم الأساسي في طبيعة تصنيفها، صلبة أو ناعمة. وهو ما يدفعنا إلى التطرق إلى ما يطلق عليه الدبلوماسية الاقتصادية على اعتبارها آلية لتحديد الاستراتيجيات المستجيبة لمتطلبات دور الدولة في النظام العالمي الراهن و الذي غدا فيه الاقتصاد موجها لخدمة السياسة الخارجية، خاصة في ظل ظهور فاعلين جدد مؤثرين في قرارات الدول.

ولقد نجحت العديد من الدول اليوم في أن تجعل التنمية الاقتصادية وسيلة للجذب لا الإرغام، فالبلدان الأوروبية مثلا تتفوق جميعها على الولايات المتحدة الأمريكية في النسبة المئوية التي تنفقها من إجمالي ناتجها المحلي على مساعدات التنمية في الخارج، كما أن الشركات الأوروبية المتعددة الجنسيات لها علامات تجارية معترف باسمها عالميا كما أن لأروبا سوقا يعادل في حجمه السوق الأمريكية. [27] كما صنفت مجلة مونوكل الدولية ألمانيا في المرتبة الأولى كأكبر “قوة ناعمة” في العالم بفضل متانة اقتصادها إلى جانب إنجازاتها الثقافية والرياضية وذكاء دبلوماسيتها.[28]

 دون أن ننسى أيضا المعجزات الاقتصادية التي حققتها دول آسيا كاليابان، و الصين، وسنغافورة وماليزيا…

بمعنى أن القوة الناعمة والدبلوماسية الاقتصادية هما وسيلتان تلجأ إليهما القوى العظمى وغيرها من الدول، على نحو متزايد لتشكيل عملية إنتاج المعايير الدولية في سياق العولمة. هاتان الوسيلتان تكملان بعضهما في كثير من الأحيان ليعطيا ما يمكن أن نطلق عليه ” القوة الناعمة الاقتصادية” soft power économique أو “دبلوماسية التأثير الاقتصادية”[29]. Diplomatie économique d’influence

إن الدبلوماسية الاقتصادية في شكلها الجديد تميل أكثر إلى أن تكون آلية لتفعيل القوة الناعمة، وتهدف إلى التأثير من خلال إبرام اتفاقيات الشراكة وتقوية أواصر التعاون بين البلدان والتواصل مع كل الدول وتشجيع التنمية الاقتصادية وتعزيز الحكامة…

كما أن السياسات الاقتصادية المنتهجة في بلد ما تلعب دورا أساسيا في جذب تعاطف الجمهور وسكان الدول الأخرى، فبالرغم من أن كثيرا الناس معجبون بنجاح الاقتصادي الأمريكي، مثلا إلا أنهم لا يمجدونه جميعا كنموذج وقدوة للبلدان الأخرى، ذلك أن بعضهم يفضل النهج الأوروبي، حيث تلعب الحكومة دورا في الاقتصاد أكبر مما تفعل حكومة الولايات المتحدة. وشبكات الأمان الاجتماعي والنقابات في أوروبا أقوى منها في الولايات المتحدة[30] كما أن الاتحاد الأوروبي نجح في بناء قوة من خلال المعايير، فتعزيزه للسوق الداخلية أعطى المعايير الأوروبية وزنا اعتباريا في العالم، خاصة من خلال سياستها الاقتصادية. وهو ما يحيل إلى اختيار المجموعة أن تبنى عن طريق الحقوق لا على أساس القوة وتصدير معاييرها خارج حدود الاتحاد الأوروبي كنوع من القوة الناعمة.[31]

وإذا كنا في المجال الاقتصادي المتعدد الأطراف نفكر دائما في منظمة التجارة العالمية ومؤسسات Bretton Woods (صندوق النقد الدولي، البنك الدولي وفروعهما.. )، فيجب الأخذ بعين الاعتبار أيضا المؤسسات المتخصصة المتعددة، كالوكالات وبرامج التنمية الخاصة بالأمم المتحدة والمتعلقة بالعمل، والبيئة، والتغذية، والمناخ، والطاقة، والمساعدة على التنمية وكذا محاربة الفقر خاصة وأنه تم الاعتراف اليوم أنه مرتبط بالاستثمارات الدولية وبمواءمة الأسواق المحلية مع الأسواق العالمية. [32] فالولايات المتحدة الأمريكية مثلا مأسست عددا من الوكالات في مختلف أنحاء العالم الثالث دعما لسياستها الخارجية للتنمية الديموقراطية: الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، و لجنة المساعدة الإنمائية (DAC)، منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)

 لهذا نجد أن بعض المتخصصين يركزون الدبلوماسية الاقتصادية في ما يسمى بدبلوماسية الدولار Diplomacy Dollarأو دبلوماسية المساعدات الاقتصادية Diplomacy of Economic Aidأو دبلوماسية التنمية Diplomacy Of Development ، والتي برزت نتيجة لتبلور مشكلات الدول الفقيرة و مساعدات الدول الغنية لها، و ذلك نظرا لضخامة حجم المساعدات الاقتصادية في العالم ومالها من أثر في تحديد طبيعة العلاقات الدولية في أيامنا هذه. إذ كانت الغاية منها تحقيق عدة أهداف أهمها مساعدة الدول المختلفة على الخروج من دائرة التخلف والفقر، ووقف انتشار الشيوعية خارج حدود المعسكر الاشتراكي.[33]

لقد غدت الدبلوماسية الاقتصادية اليوم مرتبطة باستراتيجيات التأثير التي تتبناها الدول والشركات والكيانات الترابية أو الخاصة في عالم تتصاعد فيه وتيرة الاعتماد المتبادل و. يرتبط فيه منطق التعاون والمنافسة ارتباطا وثيقا. [34]

وهنا تكمن أهمية الدبلوماسية الاقتصادية في مجال الدبلوماسية العامة والقوة الناعمة، لا سيما أن فاعلية الآليات الاقتصادية في عصرنا الحالي أصبحت ذات مردودية أكبر من الأدوات القسرية لبلوغ الأهداف التي تسعى الدول المتقدمة لتحقيقها. خاصة في نظام عالمي تحكمه الديناميكية الليبرالية للعولمة ويتميز بتعددية أطرافه وفاعليه الحكوميين وغير الحكوميين. مما خلق نوعا من “التأثير المتعدد الأطراف”.

هذا التأثير مرتبط بالصورة، وهو ما تم التحقق منه في المحافل الدولية. فقدرة فاعل على التأثير تنطلق أولا من منهجيته ومن المحتوى الذي يقدمه، غير أنها يمكن أن تقوى أو تضعف بالصورة أو السمعة السيئة لدولة أو شركة ما. فبالنسبة لهذه الأخيرة، وكذا للشركات المتعددة الجنسية الكبيرة الحجم والقوة فإن صورة بلدهم الأصلي قد تكون امتيازا أو عيبا، فالعلامة-الأمة والعلامة التجارية لخاصة مرتبطتان[35].

فالدبلوماسية الاقتصادية لم تعد تنحصر على تحقيق المصالح الاقتصادية والربح فقط، بل أصبحت وسيلة لتحسين صورة الدول والارتقاء بسمعتها. إن الدبلوماسية العامة ليست فقط في خدمة الدبلوماسية الاقتصادية. وفي الواقع، فإن الدراسات التي تعالج هذا الموضوع لا تتعامل مع تداعياتها الاقتصادية. فهذا النوع من الدبلوماسية يعنى أساسا بتعزيز صورة بلد ما، وبالتفاعل مع سكان البلد المستقبل، وبتحسيس الجمهور بقضايا السياسة الخارجية. [36]

خاتمة:

تلعب القوة الاقتصادية دورا مركزيا في السياسة الخارجية، وخصوصا في ظل تراجع أهمية القوة العسكرية كأداة من أدوات السياسة الخارجية، إذ أثبتت الآليات الاقتصادية نجاعتها في العلاقات الدولية خاصة في جانبها الإيجابي المتعلق بالإنماء والمساعدات الاقتصادية، اللذين يشكلان انعكاسا للجوء الدول إلى القوة الناعمة للحفاظ على مكانتها في الساحة الدولية.

لقد اعتمدت الدول في السنوات الأخيرة سياسة اقتصادية خاصة ترتكز على عدد من المحاور، حيث يتجلى المحور الأول في تعزيز الإطار الماكرو اقتصادي والثاني في إدماج اقتصادها في بيئته الدولية والإقليمية، ويتعلق الأمر بتقوية إطار الاقتصاد الكلي وتحديد خطط العمل الوطنية. وتكمن أهمية الدبلوماسية الاقتصادية في أن أدواتها هي في الوقت الحاضر أكثر فعالية من الأدوات الاستراتيجية في بلوغ الأهداف التي ترمي إليها الدول المتقدمة أو الصاعدة على السواء، فهي إلى جانب الأرباح التي تحققها، تلعب دورا لا يقل أهمية في العلاقات الدولية عنه في المجال التجاري، من خلال تحسين صورة الدول.

 فالدبلوماسية الاقتصادية الحديثة لا تقتصر على تحقيق المصلحة الاقتصادية والرفع من مؤشرات النمو الاقتصادي، بل أصبحت آلية تعنى أيضا بتعزيز الصورة الاقتصادية للدول على الساحة الدولية، وبالتفاعل مع الرأي العام الدولي، وتحسيسه بقضايا السياسة الخارجية.

ففي عالم تحكمه العولمة والتحولات السياسية والتكنولوجية والاقتصادية المتسارعة، عرفت الدبلوماسية الاقتصادية طفرة نوعية، على اعتبار أن القوة الاقتصادية عملة ذات وجهين، أصبح استخدامها كوسيلة للتأثير يأخذ مجالا أوسع من استعمالها أداة زجرية، فدبلوماسية التأثير الاقتصادية، أثبتت قدرتها على كسب حلفاء دوليين وضمان ثقة الشركاء الاستراتيجيين والمحتملين أيضا، كما ساعدت الكثير من الدول على تحسين صورتها الاقتصادية وتقديمها كشريك جاد وحليف اقتصادي منخرط في عمليات التنمية السوسيواقتصادية.

إن انشطار الاختصاص الدبلوماسي، وظهور فاعلين جدد غير تقليديين، وتغير المؤسسات التي تقوم بهذه المهمة ومن تم تغير أشكال الأداء، كلها عوامل أدت إلى العمل على جرد أهم الهياكل الجديدة لممارسة الأبعاد الاقتصادية للعمل الدبلوماسي، وصناعة القرار الاستراتيجي في مجال الدبلوماسية الاقتصادية بمفهومها الجديد، والتي لم تعد قاصرة على الفاعلين الرسميين، وسمحت بإدماج فاعلين آخرين، حكوميين وغير حكوميين، مما جعل الدول مجبرة على تبني سياسات اقتصادية جديدة ذات جاذبية لبلوغ الأهداف وتحقيق النتائج التي تريدها في السياسة العالمية لأن بلدانا أخرى معجبة بقيمها، وتقتدي بها، وتتطلع إلى مستواها من الازدهار والانفتاح- وتريد أن تتبعها.


[1] Nicoleta Vasilcovschi; Commercial diplomacy importance and the role of peace promoter in the globalisation Ed. Iasi University Press, Romania,2005;p27.

[2] Kishan S Rana Et Bipul Chatterjee; “Economic Diplomacy; India’s Experience: The Role Of Embassies”; Nirupama M Rao, Foreign Secretary Of India At A Function In New Delhi On February 28, 2011. P. 5

[3] الرابطة الهانزِية: هي رابطة ضمت العديد من المدن التجارية في منطقة بحر الشمال (شمال ألمانيا) والبلطيق، استمرت من القرن الـ12 حتى الـ17 م. ضمت في البداية ثلاث مدن ألمانية هي: لوبيك، وهامبورغ وكولن، ثم تزايد عدد المدن المنضوية تحت لوائها حتى بلغ 80 مدينة في القرن الـ14 للميلاد. شكلت هذه المدن نواة الرابطة الهانزية، أقامت لها عدة محطات تجارية في نوفغورود )روسيا(، بيرغن (النرويج(، لندن وبروج (بلجيكا).

[4] Jerry Drew;Enterpreneurial Warriors: Privateers in Trade and War; A Dissertation in History, presented to The Faculties of University of Pennsylvania in Partial Fulfillment of The Requirement for the degree of Doctor of Philosophy;2002;p148.

[5] عطا محمد صالح زهرة، “في النظرية الدبلوماسية”، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، 2004، ص.108

[6] رافع علي المدني، ” الدبلوماسية الناعمة في السياسة الصينية تجاه افريقيا العلاقات الصينية السودانية نموذجا 2000-2010″، دار الجنان للنشر والتوزيع، 2016، ص.66

[7] Peter A.G. Bergeijk, Maaike Okano-Heijmans, Jan Melissen, « Economic Diplomacy: Economic and Political perspectives », Martinus NIJHOFF Publishers, Leiden.Boston, 2011, P.4

[8] Saner, R.Yui,« international economic diplomacy, mutations in in post-modern time »s: Netherlands Institute of International Relations, Discussion Paper No. 84, January 2003,P.8

[9] Guy Carron De La Carrière, « La Diplomatie Economique:Le Diplomate Et Le Marché »; Economica; 1998. P. 26-27

 [10] عطا محمد صالح زهرة، مرجع سابق، ص.108

[11] Kishan S Rana Et Bipul Chatterjee, “Op. Cit.. P. P 7-8

[12]ناصري سميرة، ” الآليات الدبلوماسية الجديدة في إدارة النزاعات الدولية بعد الحرب الباردة”، مذكرة مقدمة لنيل شهادة الماجستير في العلوم السياسية و العلاقات الدولية، جـامعــة محمــد خيضـر- بــسكرة، 2010. ص 29

[13] مجد الهاشمي، ” الإعلام الدبلوماسي والسياسي”، دار أسامة للنشر والتوزيع، 2008، ص. ص130-131

[14] Happymon Jacob; « Diplomatie Publique Et Intérêts Economiques: Le Cas De L’inde; Revue Mondes Les Cahiers Du Quai D’orsay; N°11-2013, P. 35

[15] Christian Chavagneux; « La Diplomatie Economique: Plus Seulement Une Affaire D’états »; Pouvoirs N°88 – La Politique Etrangère Aujourd’hui – Janvier 1999; P. 33

[16]عبد الهادي بوطالب، ” مسار الدبلوماسية العالمية ودبلوماسية القرن الواحد والعشرين”، دار الثقافة، الدار البيضاء، 2004. ص. 35

[17] Guy Carron De La Carrière, Op. Cit, P. 21

[18] Joseph S. Nye, Jr; « Soft Power:The Means To Success In World Politics; Public affairs;2004; P. 5

[19] Karolina Zielińska, « Development Diplomacy. Development Aid as a Part of Public Diplomacy in the Pursuit of Foreign Policy Aims: Theoretical and Practical Considerations », Historia i Polityka, N 16 (23)/ 2016, P.14

[20] حسين علي بحيري، مفاهيم “القوى الناعمة”، القاهرة: المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية و المستقبلية ، أكتوبر 2008، ص.12

[21] Joseph S Nye, Jr, op, cit .P.76

[22] Joseph S. Nye, « The Future of Power »; Public Affairs.2011, P.71

[23]عبد الحسين شعبان،  القوة الناعمة: جدل في المفهوم والسياسة، حزب الشعب الفلسطيني Http://Www. Ppp. Ps/Ar_Page. Php?Id=121d84ay18995274y121d84a

[24] Claude Revel; « Diplomatie Economique Multilatérale Et Influence »; Géoéconomie, N° 56, Institut Choiseul, Hiver 2010-2011;P. 59

[25]Noureddine Jebnoun,”Is The Maghreb The “Next Afghanistan”?: Mapping The Radicalization Of The Algerian Salafi Jihadist Movement”. Usa: Center For Contemporary Arab Studies Edmund A: Walsh School Of Foreign Service Georgetown University. 2007,P. 21

[26] Efe Seven; « Public Diplomacy And The Implementation Of Foreign Policyin The Us, Sweden And Turkey », Palgrave Macmillan,2017,P.35

[27] Joseph S. Nye, Jr; Op. Cit. P. 76-77

[28] علي محمد الحاج حسن، ” الحرب الناعمة: الأسس النظرية والتطبيقية”، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية العتبة العباسية المقدسة”، الطبعة الأولى ، 2018، ص 36

[29] Ouns Messaadi, « La Diplomatie Et Les Politiques Economiques »; Observatoire Tunisien De L’économie; 2015; P. 2

[30] Joseph S. Nye, Jr; Op. Cit. P.80

[31] Pierre Verluise, « L’union Européenne Est-Elle Une Puissance ? », UQAMChaire Raoul-Dandrouf en études stratégiques et diplomatiques; 11 Décembre 2013,P.14

[32] Claude Revel; Op. Cit. P. 61

[33] عطا محمد صالح زهرة، مرجع سابق، ص.110

[34] KARZAZI MOHCINE; La Coopération Décentralisée Franco-Marocaine: Entre Coopération Au Développement Et Diplomatie Économique D’influence », Thèse De Doctorat Pour L’obtention Du Titre De: Docteur En Droit Public; Université De Cergy-Pontoise;2012-2013, P.286

[35] Claude Revel; Op. Cit. 64

[36] Happymon Jacob; Op. Cit. P. 31

Exit mobile version