تقديم
إذا كان لكل شيء تاريخ، بما في ذلك القانون نفسه، فإن هذا الأخير يؤطر كل شيء ويوجهه. كما أن الوثيقة القانونية، أيا كان شكلها، تشكل مصدرا خصبا للمؤرخ؛ بحيث لا يمكنه أن يستغني عنها من أجل دراسة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع في فترة محدودة من الزمن؛ فهي مادته الأولي التي توفر له الضمانات اللازمة لدراسة المرحلة المحددة. ولذا، فهي تخضع لما تخضع له دراسة الوثائق التاريخية.
وقد استطاع، الأستاذ هشام المراكشي، الجمع في هذا البحث، الذي أتشرف بالتقديم له، بين هذين الحقلين المعرفيين مع ما بينهما من علاقة وطيدة. كما استفاد في ذلك من الجمع بين تكوينه القانوني وبين انفتاحه على العلوم الإنسانية المتمثلة في التاريخ والحضارة. ففضلا عن شواهده العليا في الحقوق من جامعة محمد الخامس بالرباط (الإجازة ثم الماستر ثم الدكتوراه)؛ انخرط في كلية الآداب والعلوم الإنسانية للتدرج في التكوين في علم التاريخ. والموضوع الذي نقدمه اليوم للقراء، “المباني التاريخية بالجديدة وأسفي”، هو ثمرة تكوينه الإعدادي في هذا المجال بإشراف كفاءة وطنية متخصصة في هذا المجال إنها الأستاذة الفاضلة ماجدة بنحيون أستاذة التاريخ القديم والأركيولوجيا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة أبو شعيب الدكالي، الجديدة.
ولا يسعني إلا أن أشجعه على المضي قدما في هذا المسار بناء على الأهمية المنوه عنها أعلاه، وانطلاقا من اهتمامي الخاص بالتأريخ للقانون وللفكر القانوني.
فالمادة التي انصب عليها البحث هي مادة تاريخية وتراثية في نفس الوقت. ولا يخفى على أهل الاختصاص مدى غنى التراث المادي والأثري الذي تزخر به بلادنا؛ وهو شاهد مهم على مرور حضارات عظيمة وتعاقب مجموعة من الدول على المغرب نظرا للموقع الجغرافي المتميز للمغرب الموجود في أقصى شمال إفريقيا والقريب من القارة الأوروبية والمطل على بحرين كبيرين الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي.
لكن التأطير كان قانونيا، أي مدى توفير الحماية القانونية لهذا التراث المادي والأثري في ضوء القانون والممارسة القانونية. ومنه انبثقت نباهة المؤلف لسبر أغوار البحث عن التأطير القانوني لمختلف المباني الأثرية والتاريخية في منطقة جغرافية محددة في دكالة وعبدة بحواضرها الثلاث ازمور الجديدة وحاضرة المحيط أسفي.
لاشك أنه كان بإمكان الأستاذ هشام المراكشي توجيه البحث وتعميمه ليشمل الحماية القانونية لجميع المباني التاريخية والأثرية المنتشرة عبر ربوع المملكة. وسيكون هذا التوجه محمودا فيما يستقبل له من البحوث؛ لكنه اختار تركيز اهتمامه على المنطقة المذكورة دون غيرها من مناطق المغرب لاعتبارات محدده عنده؛ منها ما هو ظرفي وذاتي ومنها ما هو موضوعي.
فالبحث المقدم له أعد لاستكمال شهادة الإجازة في التاريخ من جامعة ابي شعيب الدكالي بالجديدة؛ المدينة التي اشتغل بها المؤلف كإطار بإدارة المحافظة العقارية مما جعله أكثر قربا من ذاك التراث المادي المهم.
والأهم من هذا وذاك، ما تزخر به المنطقة من عشرات المباني التاريخية والأثرية الشاهدة على عراقة التاريخ هناك، وهو ما تؤكده الإحصائيات المتعلقة بها. وبالإضافة إلى ذلك نذكر الاكتشافات الأثرية الأخيرة التي تمت بمنطقة جبل ايغود بجماعة الرحاحنة ضواحي أسفي (إقليم اليوسفية حاليا حسب التقسيم الإداري الجديد للمملكة). حيث أسفرت عن العثور عن جمجمة إنسان يرجح علميا أنها تعود لأقدم إنسان على وجه الأرض.
وسيجد القارئ، سواء كان متخصصا في الدراسة القانونية أو التاريخية، في هذا المؤلف رصدا لمختلف المباني والآثار المصنفة من لدن السلطة الحكومية المعنية بالتراث الثقافي، كما سيجد فيه تحليلا للحماية التي توفرها المواثيق الدولية والقانون الوطني لهذه المباني والآثار التي تعتبر جزءا من تاريخ الأمة، وكذا لكيفية تطبيق القضاء لهذه المقتضيات، حيث عزز الباحث دراسته هاته بمجموعة من الأحكام القضائية الصادرة في مجال حماية التراث. بل لقد وجه رسالة إلى المشرع للإسراع بإخراج مشروع مدونة التراث بهدف تجاوز بعض نقائص القانون النافذ وسد ما به من ثغرات من جهة، ويكون بمثابة خارطة طريق لحماية الممتلكات الثقافية والأثرية والتاريخية التي هي ملك للجميع من جهة أخرى.
الرباط في 10 مارس 2018
بقلم
أحمد ادريوش
دكتور الدولة في الحقوق
أستاذ التعليم العالي بجامعة محمد الخامس الرباط
كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، أكدال.