Site icon مجلة المنارة

الحماية القانونية الدولية لحقوق المرأة العاملة بين  ضمانات النصوص واختلالات التطبيق :

أية حلول ؟

الحماية القانونية الدولية لحقوق المرأة العاملة بين  ضمانات النصوص واختلالات التطبيق :

أية حلول ؟

                                                                                                                                                                                             نادية الهواس

                                                                                                                                                                                             أستاذة باحثة بكلية الحقوق بفاس

                        مقدمة

                        تعيش المرأة في العديد من بقاع العالم أوضاعا أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها لا ترقى إلى مستوى ما حققته البشرية من تقدم كبير، فما زالت معاناة المرأة وضعف دورها، أو بالأحرى إضعاف هذا الدور، بعد مرور قرن من الزمان على التأسيس لحقوق المرأة بصفة عامة والمرأة العاملة على وجه التحديد، يقف عائقا أمام خروج العديد من دول العالم من حالة التقهقر وعدم النماء.

                        ولعل المفارقة الكبيرة بهذا الخصوص هي تلك المتمثلة في استمرار هذه الأوضاع على ما هي عليه في العديد من الدول، بل ورجوعها إلى الوراء في بعض الأحيان وذلك بالرغم من التطور الكبير الحاصل في ميدان التشريع، أي وبصيغة أخرى بالرغم وجود ترسانة قانونية دولية ووطنية[1] جد غنية بالقواعد والضمانات لحقوق المرأة بصفة عامة وحقوق المرأة العاملة على وجه الخصوص.

                        لقد بدأت القوانين الدولية في الظهور بقوة في مجال حقوق المرأة العاملة منذ بداية القرن الماضي (منظمة العمل الدولية، هيئة الأمم المتحدة)، كما تطورت بشكل ملفت منذ ذلك الحين، لكن دون أن يرقى تطبيقها إلى نفس المستوى في العديد من دول العالم. إن الأمر يختلف تماما في الدول المتقدمة التي تحترم القانون إلى أقصى الحدود بل وتسعى جاهدة للقضاء على ما تبقى من حيف تجاه المرأة ليس بسبب خلل في تطبيق القانون ولكن بسبب ما ترسخ في لاوعي الإنسان من معاملة دونية أو مختلفة للمرأة، في حين لا زالت دول أخرى تتخبط في مشاكل لا حصر لها في نظرتها وتعاملها مع المرأة الشيء الذي يحول دون نهضتها ونمائها.

                        فإلى أي حد يقف واقع الكثير من الدول في وجه تطبيق النصوص القانونية التي تحمي حقوق المرأة العاملة في الوقت الذي تكاد تحقق مساواة كاملة في الدول المتقدمة؟ وما أوجه تدهور أوضاعها؟ وهل من حلول

جذرية للنهوض بأوضاع المرأة ككل في دول الجنوب ومن تم أوضاع تلك الدول؟

                        أولا : أهمية الترسانة القانونية الدولية في حماية المرأة العاملة

                        لقد حظيت حقوق المرأة بصفة عامة وحقوق المرأة العاملة بصفة خاصة بأهمية كبرى في مختلف المواثيق والنصوص القانونية الدولية، كما تضمن أغلب دول العالم تلك الحقوق في قوانينها الوطنية.                       

                        فمنذ سنة 1919، حظيت حقوق العمال باهتمام خاص من المجتمع الدولي مع إنشاء منظمة العمل الدولية، ولم يغفل دستور المنظمة آنذاك التنصيص على المساواة بين النساء والرجال في عالم العمل بل اعتبرت تلك المساواة قيمة أساسية من قيم منظمة العمل الدولية. هكذا نصت ديباجة دستور المنظمة على أنه لا سبيل إلى إقامة سلام عالمي ودائم إلا إذا بني على أساس من العدالة الاجتماعية[2]، وهي المساواة التي تم التأكيد عليها في المؤتمرات الأربعة الأساسية للمنظمة[3] (1951 و 1958 و 1985 و 2000)، بل وقد دعمت المنظمة عملها في هذا المجال من خلال “قرار بشأن المساواة بين الجنسين في صميم العمل اللائق”(يونيو 2009)[4].

                        كما أن هناك أيضا مجموعة كبيرة من النصوص والمواثيق والاتفاقيات والآليات القانونية الدولية التي تعطي أهمية خاصة للمساواة بين الجنسين بشكل عام وتعتبرها من الحقوق الإنسانية الأساسية، ومن  بينها كذلك ما ينص على حقوق المرأة فيما يتعلق بمجال العمل ؛ ويأتي ميثاق هيئة الأمم المتحدة على رأس قائمة تلك النصوص بحيث ورد في  ديباجته “نحن شعوب العالم وقد آلينا على أنفسنا(…) أن نؤكد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبما للرجال والنساء (…) من حقوق متساوية” ؛ ومن أبرز النصوص والوثائق الدولية أيضا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966)، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1966)، وإعلان هيئة الأمم المتحدة بشأن القضاء على العنف ضد المرأة (1993). ومن أبرز الاتفاقيات الدولية ” اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة” “سيداو” (1979)، وهي الاتفاقية التي ألزمت الدول بتضمين المساواة بين الجنسين في القوانين الوطنية وبأن تضع الميكانيزمات الضرورية لمحاربة التمييز الذي تتعرض له النساء في جميع المجالات ومن ضمنها مجال العمل، الشيء الذي يحول دون نهضة الدول “إن التنمية التامة والكاملة لبلد ما، ورفاهية العالم، وقضية السلم، تتطلب جميعا أقصى مشاركة ممكنة من جانب المرأة على قدم المساواة مع الرجل في جميع الميادين”[5].

                        ومن بين المؤتمرات الدولية الكبرى التي كانت حقوق المرأة محورها الرئيسي “المؤتمر العالمي الأول للمرأة” (مكسيكو 1975) و”المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان” (فيينا 1993) و”المؤتمر العالمي الرابع للمرأة” (بكين 1995) و”مؤتمر الأهداف الإنمائية للألفية” (2000-2015) و”أهداف التنمية المستدامة”( 2015-2030) ، بل وحتى”اتفاق باريس بشأن المناخ” (كوب 21/2015) لم يغفل التأكيد على قضية حقوق المرأة من خلال النص في ديباجته على “المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة” على اعتبار أنه لا شيء يمكن أن يتحقق في أي مجال دون احترام حقوق الإنسان ومن ضمنها حصول المرأة على كامل مساواتها مع الرجل.

                        وتجدر الإشارة إلى أن القوانين الدولية بخصوص عمل المرأة تشوبها بعض النقائص حيث أغفل عمل المرأة في البيت والذي لا يعترف به عموما بالرغم من أنه عماد الاقتصاد، وقد تم الانتباه لذلك مؤخرا بحيث قدمت المقررة الخاصة للأمم المتحدة بخصوص الفقر المدقع والحقوق الإنسانية “تقريرا يتعلق بالعمل غير المؤدى عنه” وذلك خلال الدورة 68 للجمعية العامة سنة 2013[6]  لكن دون أن يحرز هذا المجال تقدما يذكر.

                        ثانيا : تعثرات تطبيق قوانين حماية المرأة العاملة

                        كثيرا ما تعمد الجهات الرسمية – في الدول التي لا تتمكن من ضمان العيش الكريم  لمواطنيها واحترام التزاماتها الدولية كما هو الشأن بالنسبة لحقوق المرأة- إلى الاكتفاء بمقارنة سطحية مع الوضع في الدول المتقدمة بحيث تعتبر أنها هي الأخرى تعرف التعثر. إلا أنه شتان بين هذا وذاك، فواقع المرأة في دول الشمال قد عرف ما يمكن اعتباره”قفزة نوعية” بالنظر لما تم تحقيقه، وإذا كانت هذه الدول ما زالت تعمل من أجل النهوض بأوضاع المرأة فإن ذلك لا يعني أنها تتعثر في احترام القوانين سواء منها الداخلية أو الدولية، وإنما هي تسعى للمحافظة على الحقوق المكتسبة وإلى تحقيق مساواة كاملة بالقضاء على كل الترسبات العالقة في بعض سلوك ولاوعي كل من المرأة والرجل في تلك المجتمعات والتي لا زالت تحمل بعض أشكال التمييز بين الجنسين. لكن الأمر شيء آخر بالنسبة للدول التي لا زالت تتخبط في مشاكل يصعب حصرها، فبالرغم من مصادقتها على المواثيق والمعاهدات الدولية وانضمامها للمنظمات الدولية ووضع العديد منها لقوانين وطنية تنص على حماية قوية لحقوق المرأة العاملة، فإن تطبيقها لا يرقى إلى المستوى المطلوب ناهيك على أن أوضاع المرأة على العموم في تقهقر مستمر.

                        ففي دراسة للبنك العالمي نشرت خلال الشهر الماضي (فبراير 2019) قام البنك بالبحث في العراقيل التي تعترض عمل المرأة على الصعيد العالمي خلال العشر سنين الأخيرة وشملت الدراسة كل مراحل العمل والحماية القانونية لكل مرحلة على حدة ابتداء من أول عمل وإلى غاية التقاعد، وخلص البحث إلى أن مليارين وسبعمائة امرأة حول العالم لا زالت تصطدم بعراقيل قانونية تحد من خياراتها مقارنة بالرجل[7] وذلك على الرغم من أن عددا من الدول قد تبنت قوانين وتعديلات قوانين من أجل تحسين الإدماج الاقتصادي للنساء كالقوانين المتعلقة بالحماية القانونية ضد التحرش الجنسي في العمل وقوانين فرض مبدأ المساواة في الأجر وغيرها.

                        هكذا، فالطريق طويل وشائك بل ولا ينبئ الواقع الراهن بأي تغيير يذكر في اتجاه المساواة، ومثال المغرب يعطي صورة واضحة للعراقيل أمام المساواة بين الجنسين والتي يبدو أنه من المستحيل تجاوزها إذا ما استمرت الأوضاع على ما هي عليه، ففي التقرير السنوي لبنك المغرب لسنة 2017 والذي ينبني على تحليل معطيات اقتصادية، فقد تم تحليل مشاركة المرأة في سوق الشغل، وقد أبانت كل المعطيات التي تم اعتمادها أنه حتى في الحالة التي يصرح فيها الرجال بتأييدهم لعمل المرأة فإنهم يتحفظون عندما يتعلق الأمر بقلة فرص الشغل أو حينما يتعلق الأمر بالاختيار بين عمل المرأة خارج البيت أو رعايتها للبيت[8]. ولقد اعتبر البنك بأن الوضع غير مريح من عدة نواحي “فبالإضافة إلى الآثار الاجتماعية وأيضا النفسية التي يمكن أن تنتج عن إقصاء المرأة من سوق الشغل، فالخسارة الاقتصادية هي جد مرتفعة”[9].

                        يستخلص مما سبق بأن وضعية المرأة في دول الجنوب وحتى في حالة تحسنها من الناحية القانونية فإن العراقيل أمام مساواتها مع الرجل مرسخة في عمق وواقع المجتمعات.

                        ثالثا : هل من سبيل إلى المساواة الكاملة بين الجنسين

                        إن تناول موضوع حماية المرأة العاملة بين النص القانوني والإكراهات الواقعية يتطلب تحليله في شموليته -أي من منظور استمرارية الأوضاع المتردية للمرأة وآثارها السلبية على نهوض المجتمعات وما لذلك من تداعيات على استقرار العالم ككل- بعد أن أصبح هناك ما يمكن اعتباره إجماعا عالميا لدى كل المؤسسات الدولية والمهتمين بالقضايا الدولية الكبرى ( قضايا التنمية والبيئة والهجرة والإرهاب وغيرها) بأن استمرار الأوضاع الهشة لعدد من ساكنة العالم يشكل تهديدا للسلم العالمي ؛ ففي التقرير السنوي للبرلمان الأوروبي بخصوص السياسة الخارجية والأمنية المشتركة للاتحاد (26 نوفمبر 2018)  ما يلي : “(…) إن ربع ساكنة العالم تعيش في دول أو مجتمعات في وضعية هشة تشكل أرضية خصبة لعدم المساواة السوسيو-اقتصادية (…) وهي بذلك تشكل تهديدات مباشرة للاستقرار والديمقراطية والسلم”[10].

                        لقد اتضح للعالم أجمع مؤخرا، وبما لا يدع مجالا لأي شك، بأن عدم المساواة بين الجنسين هي أكبر تحد للتنمية ومن تم للأمن العالمي، ولعل الشعارات التي رفعت بمناسبة اليوم العالمي للمرأة خاصة في إطار هيئة الأمم المتحدة، والتي ركزت كلها على المساواة،  لهي خير دليل على ذلك، كما تبين أيضا بأن القوانين الني تضعها الدول لحماية حقوق المرأة العاملة تساهم بشكل كبير في ضمان العديد من تلك الحقوق لكن دون أن تضع حدا لاستمرار أشكال التمييز ضدها، خاصة التمييز غير المباشر، ولا يوجد لحد الساعة مؤشر على أنها تتجه نحو التحسن، وهو ما لا يمكن معه توقع أي تغير لأوضاع تلك المجتمعات مبني على أسس متينة.

                        ولعل التساؤل يطرح نفسه بخصوص الأسباب التي تجعل المساواة بين الجنسين في دول الجنوب حلما بعيد المنال.

                        لقد تأكد للدول التي ذهبت بعيدا في مجال ضمان حقوق المرأة ومنها العاملة[11]، وأيضا كل الدول المتقدمة التي تعمل جاهدة لضمان مساواة كاملة بين الجنسين، إلى بأن الأسباب الكامنة وراء استمرار بعض صور التمييز لديها أو ما يعرف ب “التمييز الجنسي العادي” إنما ترجع لما ظل عالقا بالفكر وللصور النمطية عن المرأة والتي تفسر استمرار بعض مظاهر التمييز بينها وبين الرجل. لذا فهي تعمل جاهدة من أجل محو كل آثار ذلك من خلال التركيز على أبسط أشكال التعامل مع الجنسين منذ الطفولة الأولى بحيث اعتبرت أن الصور النمطية بأنها توجه بشكل كبير اختيارات الذكور والإناث في حياتهم الشخصية والمهنية[12].

                        ولقد اعترضت الحركات النسائية، خاصة منذ الثلث الأخير من القرن الماضي، على شكل بنية العلاقات بين الجنسين سواء من الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية أو غيرها[13] والتي تبنت المقولة الشهيرة ” نحن لا نولد نساء بل نصبح كذلك”. وحسب “مركز هوبرتين أوكلير” Centre Hubertine Auclert    فقد خلص الخبراء إلى أن الرجال يوصفون بالأقوياء والمتحمسون والمنافسون والبارعون في حين أن النساء تنعتن بالرقيقات والهادئات والمنظمات، مضيفين بأنه “عادة ما يقاطع الرجال النساء وهن يتحدثن”[14]

                        إلا أنه لا مجال لمقارنة ذلك مع ما هو الحال عليه في دول الجنوب حيث الوضع مختلف تماما وبعيد كل البعد عن تلك التطورات بل هو حبيس حلول سطحية غير مجدية.

                        رابعا : غياب الحلول الجذرية ونتائجها الكارثية على التنمية

                        إن الصورة قاتمة بل وكارثية، فالمرأة بشكل عام تعيش واقعا ظلاميا لا يمكن أن ينكر عتمته أحد، فهي غارقة في وحل أوضاع أقل ما يقال عنها أنها لا تبشر بغد أفضل وذلك على الرغم من كل الجهود المبذولة وعلى رأسها القوانين المتطورة التي تحمي جل حقوق المرأة، وينعكس سلبا على أوضاع المجتمع ككل. فلماذا نهضت مجتمعات وتأخرت أخرى؟ إن لذلك التأخر أسباب متعددة لعل أبرزها عدم الاهتمام بمعالجة الظواهر في العمق والاكتفاء بالحلول الجزئية والسطحية، وهو ما يحد من فعالية كل القوانين ويتطلب إعادة النظر في الواقع المتردي والبحث عن مكامن الخلل.

                        ولا يعني ذلك أن شيئا لم يحقق، بل يعني أنه بالرغم من كل الخطوات المهمة ومنها عمل المرأة في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعلمية والتكنولوجية وغيرها، خاصة في إطار العمل من أجل إنجاز مشاريع التنمية المستدامة في الدول ضعيفة النمو[15]، وبالرغم مما تتحمله المرأة في تلك الدول من مسؤوليات لا حدود لها كغيرها من نساء العالم، بل وربما أكثر، فإن وضعها في المجتمع لا يعرف نفس المسار ؛ فناهيك على أن التمييز بين الجنسين لا يزال قائما في التشريعات الوطنية لعدد من الدول[16]، فإن أوضاع المرأة في المجتمعات غير النامية هي جد متقهقرة حيث تدني مستوى التربية وثقل العادات والتقاليد وترسخ ثقافة دونية المرأة وما يتبع ذلك من قسوة وظلم وعنف في معاملتها، يضاف إلى ذلك تبعيتها الاقتصادية للرجل، والحال أن  تعزيز استقلال المرأة المادي هو الذي يمكنها من المساهمة الفعلية في التنمية الاقتصادية[17] ويحقق لها كرامتها. ولعلها أبرز المعيقات التي تحول دون تفعيل حمايتها القانونية.   

                        وإذا كانت الأسباب العميقة وراء استمرار واقع المرأة المتردي تجد أصلها في عدم المساواة بينها وبين الرجل في ممارسة السلطة والتي ترسخت في المجتمعات على مر الحقب التاريخية[18]، فإن القضاء عليها يجب أن يكون عبر تطبيق القوانين بالموازاة مع محاربة في العمق لغياب المساواة واعتماد الحلول الجذرية المتمثلة في استباقها.

                        فمن ناحية، يبدو أنه من المهم جدا البحث في جوهر الأمور واعتماد علم الاجتماع لفهم أسباب عدم تطور مجتمعات دول الجنوب بالشكل الصحيح، وهو ما يتضح لنا معه، ومن الوهلة الأولى، أن الدول التي لم تستطع إلى الآن أن تساير التطور الذي عرفته بلدان العالم المتقدم، لا زالت لم تتبن أي مشروع حضاري. ففي كتابه “سيرورة التحضر”، يرى عالم الاجتماع السياسي نوربرت إلياسNorbert ELIAS [19] ، بعد بحثه العميق في سوسيولوجيا تطور المجتمعات الأوربية  -لمعرفة كيفية وصول غرب أوربا وتطورها على مدى خمسمائة سنة (من العصور الوسطى ثم عصر النهضة إلى العصر الحديث)- من مجتمعات غلب عليها الجهل والعنف إلى مجتمعات متحضرة، خلص إلى أن ذلك مر بمراحل تبدأ في سلوك الفرد وأخلاقه والتغيير في التركيبة الاجتماعية التي هي أصل تشكل الدولة “فالعلاقة بين الفرد والمجتمع هي علاقة تفاعل متبادل حيث يطبع كل منهما الآخر، فالفرد والمجتمع وجهان لعملة واحدة”[20]. إلا أن أغلب دول الجنوب خاصة العربية والإفريقية خاصة ظلت مجتمعات تقليدية بالرغم من مظاهر التحضر علما بأن “المجتمعات التقليدية تظل دائما حبيسة عدد لا يحصى من الحواجز بهدف الإبقاء على المرأة في وضع التبعية”، “وحتى في حال تجاوز المرأة للحواجز ووصولها للقمة فإنها تظل محل أحكام مسبقة وممنهجة”[21].

                        إن الاستناد إلى مثل هذا التحليل السوسيولوجي لفهم هذه الأوضاع لا يعني أن كل المجتمعات مجبرة على المرور بنفس المسار من أجل التغيير بقدر ما يهدف التنبيه إلى أن الاشتغال على أنماط سلوك الفرد من أجل تغييرها سواء تعلق الأمر بالمرأة أم بالرجل أصبحت مسألة حتمية. لقد أصبح لزاما على كل مجتمع ابتكار الطرق المناسبة لتجاوز أوضاع لم يعد هناك جدال بخصوص عرقلتها لأية تنمية أو تحضر. ثم وانطلاقا أيضا من موضوع هيئة الأمم المتحدة لليوم العالمي للمرأة 2019 “نفكر بشكل عادل، نبني بذكاء، نبتكر من أجل التغيير”، واستجابة له باعتبار أن اختياره لم يأت عبثا بل نتيجة قناعة المجموعة الدولية بأن الدول هي في مرحلة الحاجة الملحة للابتكار من أجل بناء جديد ومغاير، هذا البناء الذي قوامه المساواة بين الجنسين والتي يجب أن تنطلق من الفكر، أي عن طريق القطع مع ما ترسخ فيه على مدى عصور من الزمن.

                        ومن ناحية ثانية، وارتباطا مع ما سبق، فلا بد من التنبيه إلى أن المرأة في هذه المجتمعات غالبا ما تعيد إنتاج واقعها بنفسها، فدور المرأة – وبالرغم من النظرة الدونية التي تلاحقها دائما – ما يزال أساسيا في تربية وتنشئة الأجيال، وهي بإتباعها لنفس أساليب التربية التقليدية، التي ظلت حبيسة قوالب جامدة قائمة على الأدوار النمطية المبنية على التمييز بين الجنسين، تعيد إنتاج نفس التركيبة الاجتماعية ونفس الواقع المر والمتردي الذي جعل حياتها معاناة لا تنتهي في جهل منها بأن المساواة بين الجنسين هي حق من الحقوق الإنسانية الأساسية وأن دورها أساسي في تفعيلها لتغيير واقعها المظلم.

                        ثم ومن ناحية ثالثة، فقد ورد في التقارير المتعددة لهيئة الأمم المتحدة أن هناك استمرار التمييز بين الجنسين في عدد من جهات العالم وفي جل المجالات ومن ضمنها عمل المرأة بالبيت دون مساهمة تذكر من جانب الرجل وذلك بالرغم من ولوجها سوق الشغل، وتبين من خلال دراسات متعددة  أنه لم يتم تكييف الرجل مع هذا التغير بحيث من الضروري إشراكه الفعلي في كل ما يتعلق بتعديل أنماط السلوك الاجتماعية والثقافية والذي يجب أن يشمل المرأة والرجل معا، وهو النهج الذي تعتمده الدول المتقدمة (كندا[22] مثلا) في كل الاستراتيجيات.

                        وأخيرا، فتحقيق المساواة بين الجنسين لا يمكن أن تتكفل به الدولة وحدها لأن هذه الأخيرة بناء أساسه الفرد والجماعات التي تعيش تحت لوائها، لذا فالأمر وإن كان في جوهره هو مسئولية الدولة وما تبرمجه من استراتيجيات، فإنه يتطلب من المجتمع ككل أن يلعب دوره بتضافر جهود كل الفعاليات وتحمل كل على حدة لمسؤولياته. فالقانون يلعب الدور الأساسي، لكن من الضروري أيضا الاعتراف بأهمية دور الفاعلين المتعددين  -كالحركات النسائية والمنظمات غير الحكومية – في رفع درجة الوعي لدى كل من المرأة والرجل، الشيء الذي يتطلب تسهيل وتشجيع عمل هذه المنظمات والحركات والتعاون معها سواء على الصعيد الوطني أو الدولي.

                        إنها مسؤولية الجميع من أجل استمرارية وازدهار حضارة مجتمعات، ولكن وبالأخص من أجل علاج مجتمعات تعاني من “شلل نصفي” يحول دون نهضتها ونمائها.


[1]  حسب دراسة للبنك العالمي بخصوص العراقيل أمام عمل المرأة حول العالم ورد في تقرير البنك أن 56 من ضمن  187 اقتصادا لم تعرف خلال العشر سنين الأخيرة أي تعديل لقوانينها يخص تحسين المساواة في الفرص بين الجنسين،

https://www.banquemondiale.org/…/despite-gains-woman-face-setbacks-in-legal-rights…

[2]  https://www.ilo.org

[3]  وهي المساواة في الأجور (المؤتمر 100 رقم، 1951)، والتمييز (في الاستخدام والمهن)(المؤتمر رقم 111، 1958)، والعمال ذوو المسؤوليات العائلية (المؤتمر رقم 156، 1981)، وحماية الأمومة (المؤتمر 183، 2000)،

   www.ilo.org/gender/Aboutus/ILOandgenderequality/lang–fr/index.htm

[4]  وهو القرار الصادر عن المؤتمر العام لمنظمة العمل الدولية في دورته الثامنة والتسعين،

https://www.ilo.org/wcms5/groups/…/wcms_113010.pdf

[5]  ديباجة “اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة” “سيداو”،

  www.un.org/womanwatch/daw/cedaw/text/0360793A.pdf

[6]  www.combatsdroitshomme.blog.lemonde.fr/…/travail-domestique-non-renumere-et-droits-d     

[7]  https://www.banquemondiale.org/…/despite-gains-woman-face-setbaks-in-legal-rights

[8]  www.leboursier.ma/…/la/majorité-des-femmes-agees-entre-15-et-29-ans-sont-inactive

[9]  المرجع السابق.

[10]  www.europarl.europa.eu/sides/getDoc.do?pubRef…REPORT+18-2018…0

[11]  حصلت خمس اقتصاديات هي بلجيكا والدانمرك وفرنسا وليتوانيا ولوكسمبورغ والسويد على نقطة 100 كأعلى نقطة كدليل على ضمانهم للمرأة نفس الحقوق التي يتمتع بها الرجال وذلك في المجالات التي شملتها الدراسة،

https://www.banquemondiale.org/…/despite-gains-woman-face-setbaks-in-legal-rights…

[12] https://www.ledauphine.com/…/le-sexisme-ordinaire-obstacle-a-l-egalite-homme-femme

[13]  المرجع السابق.

[14]  نفس المرجع.

[15] www.academie-sciences.fr/pdf/communique/nasac_0218.pdf

[16] S. BOUKARI, « Droits des femmes en Afrique : des discriminations légales persistent », 2015, www.irenes.net/bdf_fiche-defis-280_fr.html

[17] https://www.opinion-international.com/2018/…/dominique-nouvian-ouattara-lautono

 [18] المرجع السابق.

[19] ELIAS Norbert, The civilizing process, 1939.

[20]  خالد المريني، “كيف “تتحضر” المجتمعات”،

https://www.alaraby.co.uk/…/3c7d9f61-0422-467c-b6a4-3955e4d…

[21] www.afrique.lepoint.fr/…/droits-des-femmes-en-afrique-encore-un-long-chemin-a-parcourir    

[22]  « Journée internationale pour l’élimination de la violence à l’égard des femmes », www.un.org/fr/

Exit mobile version