الحق في الصمت أثناء البحث التمهيدي التلبسي
محمد الجيراري
استاذ باحث
كلية العلوم القانونية والاقتصادية والادتماعية الجديدة
تعد المسطرة الجنائية حلقة من حلقات القانون الجنائي -بمفهومه الواسع- تتتبع عن كثب الواقعة الإجرامية منذ ارتكابها، بدءا من إجراءات البحث والتحري مرورا عن متابعة مرتكب الجريمة ثم الحكم عليه بالعقوبة المقررة قانونا، وانتهاءً بتنفيذ العقوبة المحكوم عليه بها.
وخلال كل مراحل الخصومة الجنائية المذكورة، يضع قانون المسطرة الجنائية عدة مقتضيات من شأنها حماية حرية المشتبه فيهم، خاصة على مستوى مرحلة البحث، على اعتبار أن الجهة التي تتدخل في هذه المرحلة هي جهة “غير قضائية” (الضابطة القضائية)، الأمر الذي استلزم ضرورة تحقيق المشرع لنوع من التوازن بين مصلحتين متعارضتين؛ مصلحة عامة من خلال تحقيق عدالة جنائية فعالة، ومصلحة خاصة تتجلى في صون كرامة الإنسان والحفاظ على حقوقه وحرياته. ولعل تحقيق المصلحة الثانية رهين بتمتيع المشتبه فيهم بحقوق الدفاع خلال مرحلة البحث، والتي يعتبر حق التزام الصمت أولها، باعتباره حقا من الحقوق الجوهرية للمشتبه فيهم، مما يدل على ذلك حرص العديد من التشريعات الإجرائية على إيراده وإعطائه أهمية بالغة، بحكم أن عدم احترام حقوق الدفاع بشكل عام يجعل كل إجراء متخذ خلال الخصومة الجنائية باطلا على أساس أنه إجراء معيب.
ونظرا للأهمية التي يكتسبها الحق في التزام الصمت باعتباره حقا أساسيا لضمان محاكمة عادلة، فإننا آثرنا دراسته في هذه الصفحات انطلاقا من مطلبين أساسيين، الأول نقف فيه على ماهية حق المشتبه فيه في التزام الصمت، والثاني نتطرق فيه إلى آثار تفعيل ذلك الحق.
المطلب الأول : ماهية الحق في التزام الصمت
إن الحديث عن ماهية الحق في التزام الصمت خلال مرحلة البحث التمهيدي في حالة “التلبس” يفرض علينا تعريف الصمت (أولا) من جهة، وعرض تصوره التاريخي في الأنظمة الإجرائية المعاصرة (ثانيا) من جهة أخرى.
أولا : تعريف الصمت
يعرف الصمت لغة بأنه السكوت وعدم النطق، ويقال لغير الناطق صامت أي ساكت، وأصمت فلان يعني أسكته. لكننا لم نجد في التشريعات الإجرائية وكذا بالنسبة للمهتمين والباحثين في المجال القانوني من عرف “الحق في الصمت”، ولعل السبب في ذلك راجع بالأساس إلى تداول هذا المفهوم لدى العامة، فضلا عن كون المعنى الاصطلاحي للمفهوم لا يخرج عن معناه اللغوي. كل ما هنالك أن القوانين الإجرائية التي أوردت هذا الحق اكتفت بتقريره للمشتبه فيه كحق من حقوق الدفاع دون تعريفه بدقة ووضوح، وبديهي كل البداهة أن الحق في التزام الصمت لن يكون مقررا إلا لفائدة المشتبه فيه القادر على النطق أو الكلام وليس لمن لا يستطيع ذلك (كالأبكم مثلا).
ويفيد الحق في التزام الصمت خلال مرحلة البحث التمهيدي في حالة التلبس في كون المشتبه فيه في الإجابة أو عدم الإجابة عن أسئلة الضابطة القضائية، وذلك من غير أن يشكل صمته دليلا ضده أو قرينة على أنه مرتكب الجريمة، وتبعا لذلك لا يجوز للمحكمة (إذا وصلت الخصومة الجنائية إلى مرحلة المحاكمة) أن تفسر إمساك “المتهم” عن الكلام كدليل من أجل إدانته. وعليه، يكون حق التزام الصمت من الضمانات الأساسية التي يمنحها القانون للمشتبه فيه، والتي لا يمكن منعه من التمتع بها تحت أي ذريعة، وأي إخلال بهذه الضمانة من طرف الضابطة القضائية يخول للمشتبه فيه حق الطعن فيه وبالتالي بطلان الإجراءات المعيبة. وفي هذا الخصوص، صدر اجتهاد قضائي غير مسبوق عن المحكمة الابتدائية بميدلت بتاريخ 26 نونبر 2015، يكرس حق المشتبه فيه في التزام الصمت، كونه موضوع بحث من لدن الضابطة القضائية التي لم تشر في المحاضر التي أنجزتها في إطار البحث التمهيدي إلى الحق المذكور، الأمر الذي جعل المحكمة تقضي ببطلان المتابعة في حق المتابعين، وذلك لعدم احترام الضابطة القضائية لمقتضى دستوري يلزمها بإبلاغ المشتبه فيهم الموضوعين رهن الحراسة النظرية بحقهم في التزام الصمت.
ثانيا : التصور التاريخي للحق في التزام الصمت في الأنظمة الإجرائية المعاصرة
إن دراسة هذا المحور تتطلب منا الوقوف على حق الصمت في الأنظمة الأنجلوساكسونية (1) التي كانت سباقة إلى تبني حق التزام الصمت ضمن قوانينها الإجرائية، ثم بعد ذلك العروج على الحق المذكور في الأنظمة اللاتينية (2) التي تأخرت نسبيا في تضمينه داخل قوانينها، على أن نختم المحور بالوقوف على حق التزام الصمت في التشريع المغربي (3).
1 – حق الصمت في النظام الأنجلوساكسوني :
لقد ظهرت بوادر الحق في التزام الصمت في القانون الأمريكي، فيما عرف بحقوق ميراندا، وذلك نسبة إلى المدعي “إرنستو ميراندا” الذي رفع دعوى ضد ولاية أوريزونا الأمريكية. وتتلخص الواقعة التي تأصل من خلاها حق التزام الصمت في القانون الأمريكي، في قيام شرطة فينيكس بولاية أوريزونا الأمريكية بإلقاء القبض على المدعو إرنستو ميراندا في 13 مارس 1963 بتهمة اختطاف واغتصاب فتاة. وقد اعترف ميراندا بما نسب إليه بعد استجوابه، إذ وقع اعترافا بارتكابه الجريمة المنسوبة إليه على نموذج حكومي مطبوع كُتِب أعلاه أن المشتبه فيه كان على علم تام بكافة حقوقه القانونية، في حين أن شرطة أوريزونا لم تطلعه (ميراندا) على حقوقه الثلاثة الرئيسية التي يضمنها له القانون خاصة في إطار التعديل الخامس والسادس للدستور الأمريكي، وهي حقه في :
• أن يلتزم الصمت
• أن يستعين بمحام
• أن يعلم بأن تصريحاته أثناء التحقيق يمكن أن تكون أدلة ضده.
وخلال محاكمة ميراندا، وأثناء عرض النيابة العامة اعترافات ميراندا الخطية كدليل لإدانته، اعترض محاميه عليها معتبرا إياها “لم تكن اختيارية”، لأن المتهم لم يبلغ خلال استجوابه بالحقوق التي يمنحه القانون إياها والتي في طليعتها حقه في التزام الصمت. إلا أن المحكمة غضت الطرف عن دفع محامي ميراندا، فأدانت الأخير بعشرين سنة سجنا، وهو ما ستؤيده محكمة أوريزونا العليا في مرحلة الاستئناف سنة 1965.
غير أن ميراندا لم ييأس، فقرر اللجوء إلى “المحكمة العليا الأمريكية” بالعاصمة واشنطن، كمحكمة قانون من أجل نقض الحكم القاضي بإدانته. ونظرا لإصابة مؤازِره بمرض، طلب ميراندا المساعدة من “الاتحاد الأمريكي للحريات العامة”، الذي قبل فعلا طلب إرنستو ميراندا حيث وكل ثلاثة محامين لمؤازرته. وقد قبلت المحكمة العليا المذكورة النظر في قضية ميراندا إلى جانب ثلاث قضايا مشابهة.
وفي 13 يونيو 1966 قررت أغلبية المحكمة العليا بواشنطن نقض حكم ولاية أوريزونا ضد إرنستو ميراندا، على اعتبار أنها لم تحترم التعديلان الخامس والسادس من الدستور بانتهاكها لحقوق الدفاع الثلاثة المشار إليها سابقا. لكن ستتم محاكمة ميراندا فيما بعد بخصوص نفس القضية، لكن هذه المرة باحترام كل الإجراءات القانونية، فتمت إدانة ميراندا الذي قضى بضع سنوات في السجن قبل أن يحصل على السراح المشروط سنة 1972، وبعد خروجه من السجن بأربع سنوات تقريبا، لقي ميراندا حتفه سنة 1976 جراء طعنة داخل حانة. ولعل وجه الطرافة يكمن في أن قاتل ميراندا عند استجوابه فَعَّل حقه في التزام الصمت بحسب “حقوق ميراندا”، فتكرست منذ ذلك الحين “حقوق ميراندا” أو “تحذير ميراندا” في القانون الإجرائي الأمريكي.
وفي نفس التوجه، يوجب القانون الإنجليزي بأن يقال للشخص أمام جهة الاستدلال أو التحقيق أنه: “ليس ملزما بأن يقول أي شيء إلا إذا كانت لديه الرغبة في أن يقوله، ولكن كل ما سيقوله سيؤخذ كدليل”، أضف إلى ذلك ضرورة أن يكون الشخص في حالة وعي وإدراك تامين بتلك المقولة، التي أضحت قاعدة متأصلة في القانون الإجرائي الإنجليزي.
2 – حق التزام الصمت في النظام اللاتيني:
إن الحق في التزام الصمت خلال مرحلة البحث التمهيدي مستورد من النظام الأنجلوساكسوني ومستلهم من المسطرة الاتهامية التي توازن بين سلطة الاتهام وجهة الدفاع، خلافا للمسطرة التنقيبية التي تغلب كفة الاتهام على حساب جهة الدفاع، خاصة في المرحلة الجنينية (البحث التمهيدي) من الخصومة الجنائية. وهكذا نجد القانون الإجرائي الفرنسي كرس الحق في التزام الصمت أصالة عن النظام الأنجلوساكسوني أثناء البحث التمهيدي، وذلك بمقتضى قانون تدعيم البراءة ل 15 يونيو 2000 الذي ينص على أن: “للشخص المودع تحت الحراسة النظرية أن يشعر فورا بحقه في عدم الإجابة عن أسئلة المحققين”.
لكن هذا المقتضى أثار نقاشا حادا وجدلا واسعا بين المهتمين من فقهاء القانون ورجال شرطة، على اعتبار أنه من شأنه أن يعرقل إجراءات الاستماع إلى الشخص الموضوع رهن الحراسة النظرية من أجل الوصول إلى الحقيقة، التي تعد غاية النظام الإجرائي بشكل عام. وعلى إثر هذه النقاشات، تدخل المشرع الفرنسي بمقتضى قانون 04 مارس 2002 الذي عدل به المادة 1-63 من قانون المسطرة الجنائية الفرنسي، ليمنح “الخيار” للمشتبه فيه بين الإدلاء والإجابة عن الأسئلة الموجهة إليه، وبين الإمساك وعدم الإجابة عنها. وبالتالي لم يتم إلغاء هذه الضمانة المتعلقة بحق التزام الصمت، حيث بات هذا الأخير مكرسا بمضامين وأحكام المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان. فيبقى بذلك لكل مشتبه فيه موضوعا رهن الحراسة النظرية الحق في أن يلتزم الصمت أثناء استجوابه استنادا إلى النصوص القانونية ذات الصلة من جهة، والسوابق القضائية للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان من جهة أخرى.
3 – حق التزام الصمت في التشريع المغربي:
يعتبر الحق في التزام الصمت إجراء أساسيا من إجراءات المحاكمة العادلة المنصوص عليها في المواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب، وكذا القوانين الوطنية من دستور وقانون مسطرة جنائية.
فقد نص دستور المملكة المغربية لسنة 2011 في الفقرة 3 من الفصل 23 على أنه: ” يجب إخبار كل شخص تم اعتقاله، على الفور وبكيفية يفهمها، بدواعي اعتقاله وبحقوقه، ومن بينها حقه في التزام الصمت. ويحق له الاستفادة، في أقرب وقت ممكن، من مساعدة قانونية، ومن إمكانية الاتصال بأقربائه، طبقا للقانون”.
وهو ما أكده قانون المسطرة الجنائية 22.01 في المادة 66 التي تنظم تقريبا جميع الضمانات الممنوحة للمشتبه فيه خلال مرحلة البحث التمهيدي في حالة التلبس، حيث نصت الفقرة الثالثة من المادة المذكورة على أنه: “يتعين على ضابط الشرطة القضائية إخبار كل شخص تم القبض عليه أو وضع تحت الحراسة النظرية فورا و بكيفية يفهمها، بدواعي اعتقاله، وبحقوقه، ومن بينها حقه في التزام الصمت”. وجدير بالذكر أن حق التزام الصمت خلال مرحلة البحث التمهيدي يقتصر فقط على البحث التمهيدي في حالة التلبس دون البحث التمهيدي في غير حالة التلبس، مرد ذلك إلى أن المشرع عندما تدخل سنة 2011 ليعدل قانون المسطرة الجنائية بمقتضى قانون 35.11، عدل فقط المادة 66 التي تنظم النوع الأول من الأبحاث (في حالة التلبس) ولم يعدل المادة 80 التي تنظم النوع الثاني منها (في غير حالة التلبس).
وفي ختام حديثنا عن حق التزام الصمت في التشريع المغربي، تحسن الإشارة إلى أن حق التزام الصمت كان موضوع اجتهاد صادر عن المجلس الدستوري سابقا -المحكمة الدستورية حاليا- قبل أن يكرس ذلك الحق دستوريا سنة 2011. وهكذا نجد المجلس المذكور اعتبر إلزام أحد أعضاء البرلمان بالإدلاء بتصريحاته أمام الوكيل العام للملك على إثر شكاية قامت ضده، يعتبر مساسا بحريته ومن شأنه خرق قرينة البراءة.
المطلب الثاني : آثار تفعيل حق التزام الصمت
لقد أثارت مسألة تفعيل المشتبه فيه لحقه في التزام الصمت مجموعة من النقاشات، البعض منها له علاقة بأثر تفعيل الحق المذكور على أعمال الضابطة القضائية (أولا)، والبعض الآخر له ارتباط بأثر تفعيله على مبادئ أخرى؛ تحديدا مبدأ عدم تجريم الذات (ثانيا).
أولا : أثر تفعيل حق التزام الصمت على أعمال الضابطة القضائية
أناط المشرع المغربي الضابطة القضائية بمجموعة من المهام، ونخص بالذكر تلك المضمنة في المادة 18 من قانون المسطرة الجنائية 22.01، المتمثلة في التثبت من وقوع الجرائم، وجمع الأدلة، وضبط مرتكبيها (الجرائم). كما تتولى تنفيذ الأوامر والإنابات القضائية الصادرة عن قضاة التحقيق، وكذلك أوامر النيابة العامة باعتبارها جهازا يشرف، يوجه، ويراقب أعمال الضابطة القضائية.
وخلال ممارسة الضابطة القضائية لمهامها في إطار الأبحاث التمهيدية عامة والتي في حالة التلبس خاصة، تجد نفسها -على مستوى الممارسة الميدانية- مضطرة إلى التوفيق بين مصلحتين أساسيتين؛ الأولى تتعلق بضرورة تعميق الأبحاث والتحريات بشأن القضايا المعروضة عليها أو التي تصادفها أثناء مزاولة مهامها بغية الوصول إلى الحقيقة، والثانية ترتبط بضرورة احترام وعدم المساس بحقوق وضمانات المشتبه فيهم، سواء أثناء عملية توقيفهم أو خلال عملية الاستماع إليهم، وفي طليعة هذه الحقوق الحق في التزام الصمت.
وقد سبق وأشرنا إلى أن قانون المسطرة الجنائية لسنة 2002 يلزم الضابطة القضائية بإشعار المشتبه فيه بحقه في التزام الصمت، باعتباره إجراء شكليا، تحت طائلة الدفع بإلغاء الإجراء المعيب. لكن الإشكال الذي طرح يتعلق بالحالة التي يفعل فيها المشتبه فيه حق التزام الصمت وأثره على عمل الضابطة القضائية، لأن من شأن تفعيل الحق المذكور أن يعيق عمل ضابط الشرطة القضائية المكلف بالبحث في ممارسة مهامه، التي يسعى من خلالها -بالأساس- إلى الوصول إلى الأدلة التي تمكنه من حل لغز الجريمة. وهذا ما أدى إلى طرح عدة أسئلة من قبيل، مدى جواز استخلاص الضابطة القضائية لأدلة وقرائن من خلال صمت المشتبه فيه؟ وهل يكون حق التزام الصمت مطلقا أم غير مطلق ؟
اعتبر بعض الباحثين أن تفعيل حق التزام الصمت من جانب المشتبه فيه يمس بصميم المهام الموكولة للضابطة القضائية ويغل يديها، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالجرائم العادية، لا لشيء سوى لكونها تعرف مدد حراسة نظرية ضيقة (48 ساعة قابلة للتمديد 24 ساعة)، خلافا لما عليه الأمر بالنسبة للجرائم الماسة بأمن الدولة (96 ساعة قابلة للتمديد مرة واحدة) والجرائم الإرهابية (96 ساعة قابلة للتمديد مرتين)، حيث تكون مدة الحراسة النظرية خلالها نسبيا كافية للضابطة القضائية من أجل إنجاز المهام المنوطة بها؛ من بحث على أدلة وقرائن مفيدة في التحريات بغية استكشاف الحقيقة. فهذه الوضعية المذكورة خاصة بالنسبة للجرائم العادية التي تكون فيها مدة الحراسة النظرية ضيقة، تضع ضابط الشرطة القضائية على المحك، الشيء الذي من شأنه عرقلة مجريات البحث والتحري ويضع حواجز عدة أمامه. فمثلا قد يكتفي المشتبه فيه الذي تم وضعه رهن الحراسة النظرية، بتقديم هويته فقط ويمتنع عن الإجابة عن باقي أسئلة الضابطة القضائية في انتظار قدوم دفاعه، أو قد يشرع في الإجابة عن بعض الأسئلة دون البعض الآخر…إلخ. فمثل هذا الوضع من شأنه أن يعرقل عمل ضابط الشرطة القضائية المكلف بالبحث -كما ذكرنا- سابقا.
أما العارفين بأمور البحث والتحريات في المادة الجنائية، فإنهم يجدون في صمت المشتبه فيه صعوبة كبيرة كلما كان للجريمة “رأسا واحدا”؛ أي فاعل أصلي واحد دون وجود مشاركين أو مساهمين. مرد ذلك إلى أنه الوحيد لذي يملك الحقيقة، وتزداد الصعوبة كلما كان المشتبه فيه ممتهنا للأفعال الإجرامية ومن ذوي السوابق القضائية، إذ سيصبح هامش الأبحاث والتحريات آنذاك أكثر ضيقا ويؤثر سلبا على جودة محاضر الضابطة القضائية، لا سيما فيما يخص الجرائم المشار إليها في المادة 290 من قانون المسطرة الجنائية، حيث يوثق بمضمون المحاضر المنجزة بشأنها إلى أن يثبت العكس.
وتفعيل المشتبه فيه لحق التزام الصمت لا يؤثر فقط على عمل الضابطة القضائية، بل يؤثر حتى على جهاز النيابة العامة، إذ ستجد نفسها بين الفينة والأخرى مضطرة إلى مطالبة الضابطة القضائية في كل بحث فعل خلاله المشتبه فيه حق التزام الصمت، بتعميق البحث أو التماس قضاء التحقيق عبر إحالة الملفات عليه من أجل التحقيق، وذلك بخصوص الجرائم التي تقبل التحقيق. كل ذلك في سبيل الوصول إلى مفاتيح تكون الضابطة القضائية قد عجزت عن الوصول إليها، خاصة بسبب ضيق مدد وضع المشتبه فيهم رهن الحراسة النظرية في إطار الأبحاث التمهيدية كما سبق وأشرنا.
وفي نفس السياق، نود الإشارة إلى أن الحق في التزام الصمت كضمانة أساسية من ضمانات المحاكمة العادلة، يكون موضوع استغلال من طرف بعض محترفي الإجرام، الذين يكونون على اطلاع بالإكراهات التي تواجه الضابطة القضائية أثناء قيامها بالمهام الموكولة إليها، من وفرة في القضايا المعروضة عليها كما ونوعا من جهة، وقلة الموارد البشرية التي تعاني منها هذه المؤسسة من جهة أخرى، مما يجعل بعض المشتبه فيهم يستفيدون من الإكراهات السالفة الذكر؛ إما بعدم متابعتهم من طرف النيابة العامة، وإما بالحكم ببراءتهم من طرف القضاء الجالس لانعدام الأدلة، وحتى إن حصل شك ما فإنه يفسر لصالح المتهم.
غير أن ما تم ذكره في هذا الصدد لا يجب أن يفهم معه أن التزام الصمت كخيار يلجأ إليه المشتبه فيه لكي يتنصل من مسؤوليته الجنائية سيجعل الضابطة القضائية جهازا غير قادر على التتبع والمسك بخيوط الجريمة، بل أن المحكمة قد تلتمس الإدانة من خلال عناصر أخرى موجودة ومرتبطة بالأفعال موضوع المتابعة. وهناك قضية ل”جون موراي” ضد المملكة المتحدة، تفيد بأن الحق في الصمت خلال كل مراحل الخصومة الجنائية فيه إساءة إلى مصلحة المتهم أمام القضاء . لكنها (المحكمة) في جميع الأحوال، لا يجوز لها أن تفسر التزام صمت المشتبه فيه بأنه اعتراف ضمني بصحة الأفعال المنسوبة إليه، وبالتالي وجب على القضاء الزجري أن ينأى عن استخلاص قناعته بالإدانة خلال مرحلة المحاكمة من ذلك الصمت. وفي هذا الخصوص، خلصت محكمة النقض المصرية إلى أن: “سكوت المتهم لا يصح أن يتخذ قرينة على ثبوت التهمة ضده
ثانيا : أثر حق التزام الصمت على مبدأ عدم تجريم الذات
يعتبر مبدأ عدم تجريم الذات المعبر عنه بالفرنسية ب : Le principe contre l’auto-incriminiation من المبادئ التي تأصلت في الأنظمة الجنائية الأنجلوساكسونية، وإن كان الخلاف قد حصل بخصوص جذوره التاريخية والمصادر التي انبثق عنها، بين من يرجعه إلى القرن 13 م بإنجلترا ومن يرجعه إلى القرن 17 م، فيما ذهب آخرون إلى اعتبار الأصل التاريخي للمبدأ المذكور يعود إلى “الإنجيل”؛ الذي ينص على عدم اعتبار الشخص “مذنبا” بناء على إقراره الشخصي أو الذاتي.
وبخصوص علاقة مبدأ عدم تجريم الذات و حق التزام الصمت، يمكن القول أن حق التزام الصمت يكون متفرعا عن مبدأ عدم تجريم الذات أو النفس. فإذا كان الأول يفيد عدم إلزام الشخص على الحديث بالقوة، فإن الثاني يفيد عدم إجبار الشخص بأي شكل من الأشكال على أن يكون شاهدا ضد نفسه بأنه مجرم، وبالتالي كون كل منهما مكملا للآخر.
وإذا أردنا معرفة ما إذا تبنى المشرع المغربي مبدأ عدم تجريم الذات، فإننا نقول بأنه لا توجد أي إشارة صريحة تفيد اعتناق المشرع المغربي للمبدأ المذكور، سواء في الدستور أو في قانون المسطرة الجنائية. كل ما هنالك، أن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي وقع عليه المغرب في 19 يناير 1977 وصادق عليه في 3 ماي 1979، نص على مبدأ عدم تجريم الذات في البند 3 من المادة 14، الذي يؤكد بأن: “لكل متهم بجريمة أن يتمتع أثناء النظر في قضيته وعلى قدم المساواة التامة بالضمانات التالية …. أن لا يكره على الشهادة ضد نفسه أو على الاعتراف بذنب”.
لكن بالتمعن مليا في مواد قانون المسطرة الجنائية، يمكن القول في نطاق جد محدود بأن المشرع أخذ بشكل غير مباشرة بمبدأ عدم تجريم الذات، وذلك بمفهوم مغاير لا يحمل معنى إجبار الشخص على الاعتراف بكونه مجرما، بل على العكس من ذلك نجد المشرع في المادة الجنائية لا يعتبر الإقرار سيد البينات كما في المادة المدنية، إذ حتى لو اعترف المتهم بأنه ارتكب جريمة معينة، فإن القاضي الزجري قد لا يأخذ بذلك الاعتراف إذا لم يشكل له الاقتناع الصميم طبقا لما هو منصوص عليه في المادة 286 من قانون المسطرة الجنائية. وهذا ما نجده يتماشى مع القرارات الصادرة عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، التي أصدرت قرارات عديدة أكدت من خلالها أن عدم التنصيص صراحة على مبدأ عدم تجريم النفس في المادة 6 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، لا يحول دون اعتماده في إطار المعايير الدولية المعترف بها بشكل عام، ما دام يدخل ضمن مفهوم الحق في المحاكمة
العادلة التي تعتبر الغاية الأسمى التي تتحراها كل النظم الإجرائية المعاصرة في العالم.
المراجع المعتمدة
-الدستور المغربي لسنة2011
قانون المسطرة الجنائية المغربي رقم 22.01 كما تم تعديله وتتميمه بمقتضى القانون رقم 11-35-
ضمانات المشتبه فيه أثناء مرحلة البحث التمهيدي “الجزء الثاني” : د.عبد الكافي ورياشي-
حق المتهم في محاكمة عادلة ل عمر فخري الحديثي-