الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية وآثارها السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية
محمد سلطان الشامسي
باحث بسلك الدكتوراه كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية المحمدية
جامعة الحسن الثاني الدارالبيضاء
الملخص:
يندرج الحديث عن الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنیة ضمن القضايا الدولية الراهنية، التي باتت تهدد السلم والأمن في العالم، حيث أصبحت الشبكات الإجرامية والمنظمات الإرهابية فاعلا في تحريك أجندات دول ومنظمات دولية، قصد تعبئة الإمكانات وتوحيد الجهود لمحاربة هذا النوع من الجرائم، ووضع سياسات ومخططات للتعامل مع آثارها السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، نظرا لكون أن الجريمة المنظمة، تتزايد كما وكيفا، وذلك بسبب تطور خدمات شبكة الانترنيت، والفرص التواصلية الكبيرة التي باتت تتيحها أمام الأفراد والجماعات. مما جعل هذه الشبكة فضاء لتنفيذ العديد من الجرائم بعيدا عن أعين الجهات الأمنية، مستغلين مختلف التسهيلات والإمكانات التي الثورة المعلوماتية في العالم.
وتتحدد إشكالية هذا البحث في معرفة الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنیة؛ من حيث التوصيف الدولي لها، وتوحيد تصور الدول لها، بهدف بناء مقترب التعامل معها ومع آثارها التي تستهدف الأمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات والدول. فإلى أي حد يمكن للجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنیة أن تشكل تهديدا للأمن والسلم الدوليين، في ضوء الاتفاقيات الدولية التي تعمل على تأطير الجهود الدولية للقضاء أو الحد من الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنیة، ومعالجة آثارها السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟
ويتناول هذا الموضوع مبحثين؛ الأول عالج بيان التوصيف الوظيفي للجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنیة في ضوء الاتفاقيات الدولية وإستراتيجية الدول العربية التي اعتمدها مجلس وزراء الداخلية العرب بهدف مكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب التي تضمنت جملة من العناصر ترمي إلى تنسيق الجهود، وتعزيز التعاون مع المجتمع الدولي في هذا المجال. فضلا عن بيان جملة من الخصائص التي تميز الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنیة، وفي المبحث الثاني، تم إبراز مدى التلاقي الوظيفي بين آثار الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنیة على المستوى السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي.
Ce sujet relatif à la criminalité transnationale organisée s’inscrit dans les enjeux internationaux actuels, qui menacent la paix et la sécurité dans le monde, alors que les réseaux criminels et les organisations terroristes sont devenus actifs pour faire avancer les agendas des pays et des organisations internationales, afin de mobiliser les capacités et d’unir les efforts pour combattre ce type de criminalité, et d’élaborer des politiques et des plans pour faire face à ses effets politiques, sécuritaires, économiques et sociaux, en raison du fait que le crime organisé augmente en quantité et en qualité, en raison du développement des services Internet, et de la grande possibilités de communication qu’il est devenu disponible pour les individus et les groupes. Ce qui a fait de ce réseau un espace pour commettre de nombreux crimes à l’abri des yeux des autorités de sécurité, en profitant des diverses installations et capacités offertes par la révolution de l’information dans le monde.
La problématique de cette recherche se définit dans la connaissance de la criminalité transnationale organisée ; Dans sa description internationale et l’unification de la perception , dans le but de construire une approche de son traitement et de ses effets qui vise la sécurité politique, économique et sociale des sociétés et des pays. Dans quelle mesure la criminalité transnationale organisée peut-elle constituer une menace pour la paix et la sécurité internationale, à la lumière des accords internationaux qui encadrent les efforts internationaux visant à éliminer ou à réduire la criminalité transnationale organisée et à lutter contre ses effets politiques, économiques et sociaux ?
Ce sujet traite de deux axes; Le premier traite de la description de la criminalité transnationale organisée à la lumière des accords internationaux et de la stratégie des pays arabes adoptée par le Conseil des ministres arabes de l’intérieur dans le but de lutter contre la criminalité organisée et le terrorisme, qui comprenait un certain nombre d’éléments visant à à coordonner les efforts et à renforcer la coopération avec la communauté internationale dans ce domaine. et dans le deuxième axe, l’étendue de la convergence fonctionnelle entre les effets de la criminalité transnationale organisée aux niveaux politique, sécuritaire, économique et social .
المقدمة:
لازالت الجريمة([1]) المنظمة العابرة للحدود الوطنیة تشكل في واقعنا المعاصر تحديا أمنيا كبيرا في العالم، وتؤثر سلبا على الأمن القومي للعديد من الدول، فضلا عن التهديد الذي تحمله للسلم والأمن الدوليين، وهو ما ألزم المجتمع الدولي في إقرار آليات للتعاون من أجل الحد من الجريمة المنظمة، وآثارها الوخيمة على سياسات واقتصاديات الدول.
ويندرج البحث في هذا الموضوع في إطار السياسة الجنائية الدولية التي تعمل على تأطير محاربة الجريمة، ومحاصرة آثارها التي تمتد إلى الإنسان والمجال. فضلا عن كون هذه السياسة تشكل مصدر استلهام للتشريعات الوطنية في اعتماد توجهاتها وآلياتها الرامية إلى تحقيق التعاون بين مختلف دول العالم في هذا الشأن.
وتعتبر الاتفاقيات الدولية إحدى الآليات الرامية على تجسيد التعاون والتكامل بين الدول، وذلك من خلال التوقيع عليها واعتمادها حتى ولو كانت متعارضة مع مصالحها وخصوصياتها في كثير من الأحيان. وأمام خسارة بعض الفرص التي يتيحها “المجتمع الدولي” للدولة التي فضلت عدم التوقيع بحكم ممارستها لسيادتها. فإنها تصبح دولة منعزلة ومعزولة، وغائبة عن العالم، فتتضرر صادراتها، وتُقطع علاقاتها الاقتصادية والتجارية، بل وتفرض عليها عقوبات دولية إما سياسية أو اقتصادية.. وبالتالي فالدولة اليوم، أصبحت ملزمة بالتـنازل عن جزء من سيادتها، والاستسلام لمقررات هذه الاتفاقيات والمواثيق الدولية.
وتعد المملكة المغربية إحدى الدول التي اختارت طريق الانضمام إلى الاتفاقيات الدولية، وجعلها مصدرا من مصادر تشريعها الوطني، حيث ورد في تصدير دستور المغرب ما يلي: “وإدراكا منها لضرورة تقوية الدور الذي تضطلع به على الصعيد الدولي، فإن المملكة المغربية، العضو العامل النشيط في المنظمات الدولية، تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها من مبادئ وحقوق وواجبات، وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا. كما تؤكد عزمها على مواصلة العمل للمحافظة على السلام والأمن في العالم”. حيث صادق المغرب على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية، الموقعة بباليرمو في 12 ديسمبر 2000، وقد تم اعتمادها بعد نشرها في الجريدة الرسمية رقم 5186 الصادرة يوم 12 فبراير2004، بمقتضى ظهير شريف رقم 1.02.132 صادر في 9 شوال 1424 (4 ديسمبر 2003) ([2]).
وتظهر أهمية البحث في موضوع الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنیة، وآثارها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، من خلال أن الجريمة المنظمة، تتزايد كما وكيفا، وذلك بسبب تطور خدمات شبكة الانترنيت، والفرص التواصلية الكبيرة التي باتت تتيحها أمام الأفراد والجماعات. مما جعل هذه الشبكة فضاء لتنفيذ العديد من الجرائم بعيدا عن أعين الجهات الأمنية، مستغلين مختلف التسهيلات والإمكانات التي تقدمها هذه الشبكة.
وتتصف الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنیة بعدة خصائص تجعلها عصية إلى حد ما، على التتبع والرصد والرقابة، وكلما اجتهدت الأجهزة الأمنية في الدول في تطوير آليات ووسائل مكافحتها لهذا النوع من الجرائم، إلا واجتهد المجرمون، والشبكات الإجرامية في تطوير وسائل الاحتيال والخداع للإيقاع بالضحايا، أفرادا ومجتمعات ودولا، والاعتداء عليهم، وعلى حقوقهم، ومصالحهم.
وتتحدد إشكالية هذا البحث في معرفة الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنیة؛ من حيث التوصيف الدولي لها، وتوحيد تصور الدول لها، بهدف بناء مقترب التعامل معها ومع آثارها التي تستهدف الأمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات والدول. فإلى أي حد يمكن للجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنیة أن تشكل تهديدا للأمن والسلم الدوليين، في ضوء الاتفاقيات الدولية التي تعمل على تأطير الجهود الدولية للقضاء أو الحد من الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنیة، ومعالجة آثارها السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟
ولتحليل هذه المشكلة البحثية، سيتم الاعتماد على المنهج الوظيفي لبيان حدود العلاقة الوظيفية التي تربط أجزاء هذا الموضوع فيما بينها، مع مقارنة مع الوظيفة الكلية التي ستسفر عليها هذه الظاهرة موضوع هذا البحث، وذلك من خلال مبحثين؛ الأول سيعالج بيان التوصيف الوظيفي للجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنیة في ضوء الاتفاقيات الدولية، وفي المبحث الثاني، سيتم إبراز مدى التلاقي الوظيفي بين آثار الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنیة على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
المبحث الأول:التوصيف الوظيفي للجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنیة
يستند التوصيف الوظيفي للجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنیة على مقتضيات الاتفاقيات الدولية في هذا المجال، وهي بطبيعتها تعكس الجهود الدولية المبذولة في توحيد توصيف هذا النوع من الجرائم، من أجل توحيد آليات التعامل لمحاربتها والحد من آثارها ومخلفاتها.
ونظرا لكون هذا النوع من الجرائم يحدث اختلالا بوظيفة أمن وسلم العديد من الدول، والمجتمعات، فإن وظيفة محاربة الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنیة تتأسس على تأطير المقاربة الدولية لخطورة هذه الجريمة، وآثارها الوخيمة، وهو الأمر الذي دفع بالعديد من الدول إلى الانضمام إلى هذه الاتفاقيات الدولية، توحيدا للجهود والإمكانات، واستفادة من الخبرات والتجارب المتبادلة.
أولا: التوصيف الدولي للجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية
يعتبر المؤتمر الوزاري الذي نظمته الأمم المتحدة في نابولي بإیطالیا عام 1994 أول من استعمل عبارة “الجریمة المنظمة العابرة للحدود الوطنیة”؛ بعد ما كان المصطلح المستعمل هو “الجریمة المنظمة” بصفة عامة.
وقد أطلقت المادة الثانية من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية الموقعة بباليرمو في 12 ديسمبر 2000، اصطلاح “جماعة إجرامية منظمة” على كل: جماعة محددة البنية، مؤلفة من ثلاثة أشخاص أو أكثر، موجودة لفترة من الزمن وتقوم معا بفعل مدبر بهدف ارتكاب واحدة أو أكثر من الجرائم الخطيرة أو الجرائم المقررة وفقا لهذه الاتفاقية، من أجل الحصول، بشكل مباشر أو غير مباشر، على منفعة مالية أو منفعة مادية أخرى([3])؛ وهي الاتفاقية التي صادق عليها المغرب، وقد تم اعتمادها في 4 ديسمبر 2003.
وتتميز الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية، عن الجريمة المنظمة في كون مخططاتها الإجرامية تستهدف أكثر من دولة، وهو ما يقتضي من مختلف دول العالم في أن تتعاون وتتكاثف جهودها لمحاربة هذا النوع من الجرائم.
فالجريمة المنظمة بهذا التوصيف، هي كل مشروع إجرامي يرتكب بأسلوب منظم ومستمر، يختلف كل الاختلاف عن الجرائم التقليدية من حيث التركيبة الداخلية والبنية الهيكلية والنظام الداخلي والأسلوب المتبع.. ومن أهم مبادئها السرية وتستخدم أحدث الأساليب والتقنيات فضلا عن استخدام العنف والقوة والخداع في سبيل الوصول إلى أهدافها والحصول على الربح بطرق غير مشروعة، واللجوء إلى غسل تلك الأموال الملوثة، وإرشاء المسؤولين وشراء الذمم وإفسادهم للوصول إلى غاياتهم غير المشروعة([4])، وبالتالي فالجريمة المنظمة العابرة للحدود الإقليمية، فالمراد بها ذلك الجانب الدولي للنشاط الإجرامي الذي تبدو فيه حركة المعلومات والأموال والأشياء المادية والأفراد، وتنقلها عبر حدود الدول بصورة غير مشروعة”([5]).
ومن أجل توحيد التوصيف الأممي للجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية، عرفت المادة الخامسة من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية إلى تعريف تجريم المشاركة في جماعة إجرامية منظمة؛ حيث أكدت الاتفاقية الأممية بخصوص الجريمة المنظمة، أنه يعد مشاركا في جماعة إجرامية منظمة كل([6]):
ـ شخص يتفق مع شخص آخر أو أكثر على ارتكاب جريمة خطيرة لغرض له صلة مباشرة أو غير مباشرة بالحصول على منفعة مالية أو منفعة مادية أخرى وينطوي، حيثما يشترط القانون الداخلي ذلك، على فعل يقوم به أحد المشاركين يساعد على تنفيذ الاتفاق، أو تضلع فيه جماعة إجرامية منظمة؛
ـ شخص يقوم عن علم بهدف جماعة إجرامية منظمة ونشاطها الإجرامي العام أو بعزمها على ارتكاب الجرائم المعنية، بدور فاعل في الأنشطة الإجرامية للجماعة الإجرامية المنظمة؛ أو أنشطة أخرى تضطلع بها الجماعة الإجرامية، مع علمه بأن مشاركته ستسهم في تحقيق الهدف الإجرامي المنصوص عليه.
ويستكمل التوصيف الأممي للجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية من خلال مجموعة من الاتفاقيات الأخرى المكملة أو المفسرة، وخصوصا ما يتعلق بالجرائم المنظمة الإرهابية ومنها([7]):
- اتفاقية طوكيو المتعلقة بالجرائم وبعض الأفعال الأخرى المرتكبة على متن الطائرات والموقعة بتاريخ 14 أيلول/سبتمبر 1993.
- اتفاقية مكافحة الاستيلاء غير المشروع على الطائرات الموقعة في لاهاي بتاريخ 16 كانون الأول/ ديسمبر 1970.
- اتفاقية قمع الأعمال غير المشروعة الموجهة ضد سلامة الطيران المدني الموقعة في مونتريال في 23 أيلول/سبتمبر 1971.
- البروتوكول الملحق بها، واتفاقية منع الجرائم المرتكبة ضد الأشخاص المتمتعين بحماية دولية بمن فيهم الموظفون الدبلوماسيون والمعاقبة عليها والموقعة في 14 كانون الأول/ ديسمبر 1973.
إن النظر في مقتضيات هذا التوصيف للجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية الوارد في الاتفاقيات الدولية يكشف عن الانشغال الكبير الذي يحتله هذا النوع من الجرائم في المقاربة الدولية، وتقديرا لخطورتها المتعدية وآثارها الوخيمة على الأمن والسلم الدوليين، ولذلك تجد مجموعة من الدول نفسها، وخصوصا الدول العربية، مضطرة إلى الانضمام إلى هذه الاتفاقيات، وذلك للتعاون وتذليل الصعاب من أجل تقوية الوظيفة الأمنية، داخليا وخارجيا.
أما من جهة التوصيف العربي للجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية، فيمكن القول على أن الدول العربية تأثرت بتداعيات الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية، خصوصا؛ وإن المجتمعات والدول العربية بثقافاتها السائدة وتقاليدها الموروثة تُسهل بشكل كبير، في توفير البيئة الحاضنة للجريمة المنظمة، وتجعلها في كثير من الأحيان عابرة للحدود الوطنية، ومنها الشبكات الإرهابية والإجرامية.
في المقابل أصبح الاهتمام بردع المجرمين، وشل حركتهم، وذلك من خلال سياسات أمنية منسجمة، تقوم على “مجموع الإجراءات التي تتخذها الدولة، في حدود طاقتها، للحفاظ على كيانها ومصالحها، في الحاضر والمستقبل، مع مراعاة المتغيرات الدولية… وكافة الإجراءات التي تنتهجها الدولة في كافة المجالات المتعلقة بمصالحها، مما يفيد بأن الاهتمام بالشؤون الاقتصادية والدفاعية والسياسية والأمنية – بالنسبة لأي دولة – كل لا يتجزأ([8]). وهو الأمر الذي دفع بالدول العربية إلى توحيد جهودها للتعاون من أجل التصدي لهذا النوع من الجرائم، حيث خلصت الجهود العربية لمكافحة الإرهاب إلى “إقرار إستراتيجية أمنية عربية”.
وتبعا لمختلف التحديات الأمنية التي تعرفها العديد من الدول العربية، ورغبة في توحيد الجهود والإمكانات، اعتمد مجلس وزراء الداخلية العرب إستراتيجية أمنية عربية في عام1983؛ والتي نصت على ضرورة الحفاظ على أمن الوطن العربي وحمايته من محاولات الإرهاب والتخريب الموجهة من الداخل والخارج، وفي عام1987 ظهرت للمرة الأولى فكرة إبرام “اتفاقية عربية لمكافحة الإرهاب” في اجتماع وزراء الداخلية العرب، وبدأت أولى الخطوات العملية لإقرارها في مطلع التسعينات، إلا أن حرب الخليج التي اندلعت في 1990 نتيجة غزو العراق للكويت جمدت الجهود([9]).
وفي عام 1996، أعتمد مجلس وزراء الداخلية العرب مدونة قواعد سلوك تلتزم بموجبها الدول الأعضاء في المجلس بعدم دعم الأعمال الإرهابية، والحيلولة دون استخدام أراضيها للتخطيط لأعمال الإرهاب وعدم توفير الملاذ للعناصر الإرهابية. كما تتعهد بتضييق الخناق على العناصر الإرهابية، ومنع تسللها عبر حدودها وإقامتها على أراضيها، بالإضافة إلى تبادل المعلومات في مجال إجراءات التحري والقبض على الهاربين أو المحكوم عليهم في جرائم إرهابية([10]).
وفي عام 1997 اعتمد مجلس وزراء الداخلية العرب الإستراتيجية العربية لمكافحة الإرهاب التي تضمنت جملة من العناصر ترمي إلى تنسيق جهود مكافحة الإرهاب في الدول العربية، وتعزيز التعاون مع المجتمع الدولي في هذا المجال. ولازالت الدول العربية تواصل تعاونها لمحاربة الجريمة المنظمة، وذلك لمناقشة القضايا الأمنية الملحة من بينها جرائم غسل الأموال، وجرائم الاتجار بالبشر وبالأعضاء البشرية. والبحث عن سبل تعزيز التعاون بينها في مجال مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة.
إن الانشغال العربي بخطورة الجريمة المنظمة، وخصوصا تلك التي لها طبيعة إرهابية، دفع في اتجاه “رصد ما يمكن من المواقع الإلكترونية والمحطات التليفزيونية التي تبث أفكاراً إرهابية أو معلومات ومعطيات ذات علاقة بالأعمال والأنشطة الإرهابية، والتنسيق مع الهيئات المعنية الأخرى في نطاق جامعة الدول العربية في سبيل التصدي لهذه الأفعال([11])، وذلك لتجنب وقوع هذه الجرائم بشكل استباقي، أو على الأقل تخفيف آثارها وتداعياتها السياسية أو الاقتصادية والاجتماعية.
ثانيا: خصائص الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية
واستقراء لأغلب ما كتب عن خصائص الجريمة المنظمة، يمكن ذكر أبرزها وأهمها، وذلك على الشكل الآتي:
ـ خاصية التنظيم
تتصف الجريمة المنظمة بخاصية التنظيم الدقيق في ممارسة أنشطتها الإجرامية، مع وجود التسلسل الهرمي في بناء الجماعة الإجرامية المنظمة، من حيث وجود الزعيم “القائد” للجماعة الإجرامية، ووجود المعاونين والمساعدين، ووجود العاملين في تلك الجماعات، ويزيد عدد أفراد الجماعة حسب طبيعة ونوع كل نمط إجرامي وطبيعة الأنشطة التي تمارسها، في ضوء وجود ثقافة خاصة تحدد طبيعة العمل والأدوار داخل وخارج الجماعة الإجرامية، وتعتمد على التخطيط والسعي لاستخدام أحدث التقنية، وقد يتم استخدام العنف والإكراه عند الحاجة لذلك، وتهدف إلى تحقيق أكبر عائد مادي ومالي، وتعمل على المحافظة على استمرارية العمل([12]).
وبالنظر إلى الأنشطة التي تمارس، فالجريمة المنظمة ترتكب أخطر الأفعال مثل الاتجار بالمخدرات وتهريبها عبر الدول، والاتجار بالبشر والأعضاء البشرية، والمواد المشعة، وقد تستخدم العنف ضد كل من يقف في طريقها([13]).
ويستفاد من إطلاق اسم “الجريمة المنظمة”، أن هذا النوع من الجرائم تتميز بخاصية التنظيم، فهي تعمل على توظيف كل الأدوات والآليات والمعدات التقليدية والحديثة، وتستفيد من التقنيات الحديثة في عالم الانترنيت؛ فأصبح يطلق على هذا النوع من الجرائم وصف “الجريمة الإلكترونية”؛ تغليبا لكثرة استعمالها لخدمات التقنية الحديثة.
وتتميز الجريمة المنظمة الإلكترونية بعدة مواصفات تعقد عملية تتبعها ورصدها ومراقبتها، بحيث تعمل خاصية التنظيم على تطوير الممارسات الجرمية، في إطار تجديد طرق ووسائل الاحتيال والخداع للإيقاع بالضحايا، والاعتداء عليهم، وعلى حقوقهم. وذلك من خلال “كل أشكال السلوك غير المشروع أو الضار بالمجتمع والذي يرتكب باستخدام الحاسب”، أو كل “نشاط إجرامي تستخدم فيه تقنية الحاسب بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بهدف تنفيذ العمل الإجرامي المقصود”([14]).
إن أكثر الأنظمة التقنية تقدماً وأسرعها تطوراً هي الأنظمة الأمنية، وعلى رغم سرعة تطورها إلا أنها أقل الأنظمة استقراراً وموثوقية، نظراً لتسارع وتيرة الجرائم الإلكترونية وأدواتها والثغرات الأمنية التي لا يمكن أن يتم الحد منها على المدى الطويل، فمجال أمن المعلومات في الإنترنت آخذ في التطور بشكل كبير تماشياً مع التطور في الجريمة الإلكترونية([15]).
ـ خاصية التخطيط والتنفيذ
كون الجريمة منظمة، هذا يعني أنها تسلك طرق التخطيط في رسم معالم الجريمة، وصولا إلى تنفيذها وتحقيق نتائجها الإجرامية، وإذا كانت الجريمة المنظمة تستعين بالخدمات التقنية المتطورة، فهذا يجهل تنفيذها لا يتطلب وقتا أطول، مقارنة مع الجرائم غير الإلكترونية، حيث أصبح اليوم الأمر سهلا على الشبكات الإجرامية ارتكاب هذه الجرائم؛ فبالضغط على أزرار لوحـة مفـاتيح الحاسوب، أو الهاتف يمكن أن تسلب الأفراد أموالهم، أو تحول ممتلكاتهم إلى جهة أخرى، أو تحوز الأرقام السرية لفتح الحسابات والتصرف فيها…
كما أن خاصية التنفيذ أصبحت تقوم على تقنية “عـن بعـد”، بحيث لا تتطلـب الجريمـة المنظمة، وخصوصا الإلكترونيـة فـي أغلبهـا وجـود الفاعـل فـي مكـان الجريمـة. بـل يمكـن للفاعـل تنفيـذ جريمتـه وهـو فـي دولـة بعيـدة كـل البعـد عـن مكـان الجريمــة ســواء كــان مــن خــلال الــدخول للشــبكة المعنيــة أو اعتــراض عمليــة تحويــل ماليــة أو ســرقة معلومات معينة.
فضلا عن كون التنفيذ في مثل هذه الجرائم يتصف بالسرعة والدقة، فتنفيذ الجريمة الإلكترونية لا يتطلب الوقت الكثير وبضغطة واحـدة علـى لوحـة المفـاتيح يمكن أن تنتقل ملايين الدولارات من مكان إلى آخر. وهذا لا يعنى أنها لا تتطلب الإعداد قبـل التنفيـذ أو استخدام معدات وبرامج معينة([16]).
المبحث الثاني: الآثار السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية
تتميز الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنیة، وخصوصا الجرائم التي أصبحت تستعمل الفضاء الرقمي والإلكتروني، بخاصية التنظيم، والتخطيط واستعمال البرمجيات التقنية، وهو ما يؤهلها إلى تهديد سلامة وأمن العديد من دول العالم، الأمر الذي يجعلها تشكل مصدر تهديد؛ تخلف آثارا على عدة مستويات داخليا وخارجيا، ومن أبرزها: الأمن السياسي والأمن الاقتصادي والاجتماعي.
أولا: الآثار السياسية والأمنية
وإذا كان الغالب على هذا النوع من هذه الجرائم يعمل على تحقيق خسارة مالية للضحايا، وسرقة الملكية الفكرية والبيانات الحساسة، وتضرر العلامة التجارية وسمعة الشركة وتكلفة الإجراءات المضادة والتأمين، وتكلفة استراتيجيات التخفيف والتعافي من الهجمات الإلكترونية، وخسارة التجارة والقدرة التنافسية، وفقدان الوظائف([17])، فإن جانبا آخر من هذه الآثار التي تخلفها الجريمة المنظمة ينتج في صورة سياسية، وذلك من خلال الرغبة في المساس بالاستقرار السياسي للدولة الضحية، وإحداث ارتباك أمني فيها، وفي منظومتها الأمنية والدفاعية؛ بدعوى أن الجريمة لا تنتعش إلا في إطار الفوضى وعدم الاستقرار.
ويدخل في ذلك الإرهاب الدولي والجريمة المنظمة عبر الوطنية؛ وكلها تجليات لاستهداف الأمن السياسي، والنظام العام داخل الدولة، ومن ثمة استهداف الأمن والنظام العالميين.
وفي هذا الصدد، استطاعت أغلب الدول وضع تشريعات قانونية زجرية تقطع الطريق على كل المحاولات التي تستهدف الأمن السياسي للدولة، وخصوصا ما كان يستعمل فضاء الانترنيت وتقنية المعلومات.. ونذكر هنا على سبيل المثال، أحكام المرسوم بقانون اتحادي رقم 5 لسنة 2012 في دولة الإمارات العربية المتحدة، في شأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات، والتي شددت على كل محاولة تستعمل فيها تقنية المعلومات لتغيير النظام السياسي القائم في الدولة؛ فالمادة 30 من هذا المرسوم تعاقب بالسجن المؤبد لكل من أنشأ أو أدار موقعا إلكترونيا أو أشرف عليه أو نشر معلومات على الشبكة المعلوماتية أو وسيلة تقنية معلومات، تهدف أو تدعو إلى قلب أو تغيير نظام الحكم في الدولة أو الاستيلاء عليه أو إلى تعطيل أحكام الدستور أو القوانين السارية في البلاد أو المناهضة للمبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام الحكم في الدولة([18]).
إن تحليل طبيعة الآثار السياسية التي تحدثها الجريمة المنظمة يستدعي الوقوف عن طبيعة الاختلالات التي تحصل على بنية وظائف الدولة ومرافقها ومؤسساتها، اعتبارا لكون هذه الوظائف تدخل ضمن مفهوم سيادة الدولة وسلطانها السياسي الإداري.
وعليه تعتبر الجرائم المنظمة، وخصوصا الإلكترونية إحدى أدوات القرصنة التي تستهدف اقتحام الخوادم وأنظمة الكمبيوتر للأفراد أو الشركات أو الحكومات من أجل الحصول على المعلومات، فالقرصنة أداة لشبكات الجريمة المنظمة التي تستخدمها لسرقة البيانات للابتزاز والمساومة، أو للاستفادة بطرق مالية أخرى([19]).
إن طبيعة النظام السياسي وقابليته للاختراق؛ أشخاصا ومؤسسات، تفرض على الدولة توفير حماية أمنية من شأنها التصدي لكل العمليات الإجرامية التي تستهدف معطياتها وخصوصيات بياناتها، فـ “عملية الاختراق الإلكتروني تتم عن طريق تسريب البيانات الرئيسة والرموز الخاصة ببرامج شبكة الإنترنت، وهي عملية تتم من أي مكان في العالم دون الحاجة إلى وجود شخص المخترق في الدولة التي اخترقت فيها المواقع فالبعد الجغرافي لا أهمية له في الحد من الاختراقات الإلكترونية ولا تزال نسبة كبيرة من الاختراقات لم تكتشف بعد بسبب التعقيد الذي يتصف به نظام تشغيل الحاسب الآلي”([20]).
وتتعدد الدوافع والغايات التي تقف وراء ارتكاب جريمة الاختراق أو التخريب الإلكتروني، أو سرقة البيانات والمعطيات الشخصية والمؤسساتية للضحايا، أفرادا كانوا أو مؤسسات. فقد تكون دوافع التخريب سياسية بين دول متحاربة تسعى كل منها للحصول على معلومات استراتيجية من الأخرى، وقد تكون تجارية كأن تقوم مؤسسة تجارية بسرقة أو تخریب معلومات حساسة لمؤسسة منافسة لها([21]).
ويعمل الأمن الإلكتروني على توفير حماية أمنية من شأنها التصدي لكل العمليات الإجرامية التي تستهدف معطياتها وخصوصيات بياناتها، ويعد الاختراق أحد هذه الأعمال الإجرامية التي تستهدف سرية المعلومات، أو سلامتها وذلك بتغييرها، أو وجودها وذلك بحذفها من الشبكة المعلوماتية..
إن عملية الاختراق الإلكتروني تتم عن طريق تسريب البيانات الرئيسة والرموز الخاصة ببرامج شبكة الإنترنت، وهي عملية تتم من أي مكان في العالم دون الحاجة إلى وجود شخص المخترق في الدولة التي اخترقت فيها المواقع فالبعد الجغرافي لا أهمية له في الحد من الاختراقات الإلكترونية ولا تزال نسبة كبيرة من الاختراقات لم تكتشف بعد بسبب التعقيد الذي يتصف به نظام تشغيل الحاسب الآلي([22]).
وتتجلى خطورة الاختراق في الدخول غير المصرح به إلى أجهزة أو شبكات الحاسـب الآلي. فكل عمليات الاختراق أو محاولات الاختراق تتم من خلال برامج متوفرة عـلى الإنترنـت يمكـن لمن له خبرات تقنية متواضعة أن يستخدمها لشن هجماته عـلى أجهـزة الغـير، وهنـا تكمـن الخطـورة، حيث تختلف الأهداف المباشرة للاختراقات، فقد تكون المعلومات هي الهدف المباشر حيـث يسـعى المخـترق لتغيري أو سرقة أو إزالة معلومـات معينـة. وقـد يكـون الجهـاز هـو الهـدف المبـاشر بغـض النظـر عـن المعلومات المخزنة عليه، كأن يقوم المتسلل بعمليته بقصد إبراز قدراتـه "الإختراقيـة" أو لإثبـات وجـود ثغرات في الجهاز المخترق([23]).
مع التوجه المتنامي نحو تقنية المعلومات، تبرز بوضوح الحاجة الملحة إلى إيجاد أنظمة لضبط التعاملات الإلكترونية بشتى صورها، فعلى الرغم من محدودية ما أنجز في هذا السياق؛ فإن الجهات التي تضطلع بهذه المهام تعاني من البطء في إنجاز هذه الأنظمة لكثرة الجهات الممثلة في لجان الصياغة، وتعدد الجهات المرجعية التي تقوم بمراجعة الأنظمة واعتمادها، لذا فلا بد من إعداد الأنظمة اللازمة لتحقيق الاستفادة القصوى من تقنية المعلومات، وحماية المتعاملين من المخاطر التي تنطوي عليها تلك التقنيات([24]).
لقد وجد المجرمون والإرهابيون بغيتهم في تلك الوسائل الرقمية في ثورة المعلوماتية، فأصبح للمنظمات الإرهابية العديد من المواقع على شبكة المعلومات العالمية الإنترنت، فغدت تلك المواقع من أبرز الوسائل المستخدمة في الإرهاب الإلكتروني([25]).
ثانيا: الآثار الاقتصادية والاجتماعية
تتخذ الجريمة المنظمة عدة صور وأشكال، وكلها تهدف إلى تحقيق غاية يجرمها القانون، حيث تمت ملاحظة عدد الجرائم وعمليات الاحتيال التي تتزايد يوما بعد يوم على شبكة الويب. كسرقة الهوية، والقرصنة، وتوزيع مواد إباحية للأطفال، أو البحث عن أطفال لممارسة الجنس مع الأطفال… ولعل أخطرها سرقة الهوية، وأرقام الضمان الاجتماعي، ومعرفة أرقام الحسابات المصرفية، وما إلى ذلك، كما يقوم المجرمون بالتصيد بالضحايا ومعرفة أسرارهم ومعطياتهم، وأوقات دخولهم وخروجهم، من منازلهم… وذلك من خلال برامج معلوماتية، تجعلهم في النهاية يقتحمون منازلهم وسرقة محتوياتها([26]).
وتعتبر جريمة سرقة الهويات والمعلومات الشخصية، من أخطر وأعقد جرائم الأنترنيت، وهي التي بدأت تتزايد في الوقت المعاصر، ذلك إن التحول الإلكتروني الجاري اليوم، ونظرا لخطورتها الأمنية، أصبحت تطال العديد من الشخصيات؛ من حيث سرقة معطياتهم الشخصية، والاحتيال للوصول إلى معلوماتهم الخاصة بهم، وتزوير هوياتهم، وتوظيفها في أغراض دنيئة.
إن الآثار الوخيمة للجريمة المنظمة الإلكترونية على خصوصيات الأفراد وهوياتهم الشخصية، فرضت على الدول أن تسن القوانين للحد من هذه الجريمة؛ ونذكر من ذلك المملكة المغربية التي استطاعت من خلال قانون 53.05 المتعلق بالتبادل الإلكتروني للمعطيات القانونية([27] ) أن توفر حماية جنائية لكل المعاملات الإلكترونية خصوصا ما يتعلق بالتبادل الإلكتروني، ومعادلة الوثائق المحررة ورقيا وتشفير والبيانات وكيفية إبرام العقود الإلكترونية والتوقيع الإلكتروني، وذلك من خلال “أن يتم تجريم الأفعال التي من خلالها يتم الاعتداء على منظومة التوقيع الإلكتروني ببياناتها، وكذا الاعتداء على المنظومة المالية الإلكترونية، والتي يعتبر فيها التوقيع الإلكتروني سند الإيجاب والقبول في العلاقة العقدية أثناء سحب أو دفع الأموال آليا”([28]).
وتنشط العديد من الشبكات الإجرامية المنظمة العابرة للحدود الوطنية على العديد من الجرائم؛ ومن أبرزها الإرهاب، والاتجار في البشر، وغسل الأموال، حيث تعتبر العديد من الدول والمنظمات الدولية والمراكز المالية الكبرى عمليتي الإرهاب وغسل الأموال وجهان لعملة واحدة، حيث وقفت على أهم الآثار المترتبة على هذه العلاقة وذلك لكونهما سبب رئيسي لحدوث الاستقطاعات من الدخل القومي ونزيف الاقتصاد الوطني لصالح الاقتصاد الخارجي، كما أنهما يحدثان زيادة للسيولة المحلية بشكل لا يتناسب مع الإنتاج ونوعية السلع المحلية والخدمات؛ فضلا عن كون أن غسل الأموال وسيلة للجوء ممولي الإرهاب إلى التهرب من سداد الضرائب المباشرة بغية الهروب من العقوبة وكشف هويتهم، وما يحقق ذلك من زيادة معاناة خزينة الدولة من أثر نقص الإيرادات العامة عن مجمل النفقات العامة، كما أنهما سبب رئيسي لإحداث خلل في الأنظمة العالمية([29]).
وبسبب ما تراكمه هذه الشبكات الإجرامية المنظمة من الأموال المتحصلة من جرائمها، فقد أصبحت تتحدى سلطة الدولة ومؤسساتها من خلال الفساد والعنف. ويدخل في ذلك بعض رواد قطاع المال والأعمال والذين خاطروا واستثمروا الأموال وطوروا خطوط الإنتاج، وعملوا في مناطق أخرى أعمالا غير قانونية مثل الدعارة والقمار والابتزاز، والأسلحة الصغيرة؛ فكان "رشاش طومسون" هو السلاح المفضل لأي رجل عصابات صاعد، وبدل اللجوء إلى الشرطة لإنفاذ القانون، أصبح التنفيذ من خلال العنف هو القاعدة لهذه الميليشيات، ومثال ذلك جنود "كوسا نوسترا" الذين أصبحوا يغتصبون سلطة الدولة ويسيطرون على المدينة بكل حرية لممارسة أنشطتهم غير القانونية([30]).
إن جرد مختلف الأعمال الإجرامية وآثارها السياسية والاقتصادية والاجتماعية تستدعي تقوية وتفعيل الإجراءات الداعمة لمكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب الإلكتروني؛ والتي صارت عالمية، وتتجاوز الحدود الجغرافية، بحيث يتعين على المجتمع الدولي تكثيف الجهود التعاونية بين مختلف الحكومات، ودعم التنسيق الدولي، فمنظمة الأنتربول مع هيئات أخرى يمكن أن تحد من نشاط هذه الشبكات الإجرامية في مجال مكافحة الاتجار بالبشر، فضلا عن انخراط المنظمات الدولية غير الحكومية الناشطة في هذا المجال، ووسائل الإعلام والمجتمع الأهلي المدني.
الخاتمة
إن الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية، وبمواصفاتها ودرجة خطورتها، مازالت تحمل تهديدا للنظام السياسي الدولي، وآثارا وخيمة على الاقتصاد الوطني والدولي، وذلك بسبب تركيزها للثروة، وتسخير الجماعات الضاغطة لخدمة مصالحها، وهو ما يتعين على المنتظم الدولي حشد إمكاناته وجهوده لرسم معالم إستراتيجية واضحة لتوقيف نزيف هذه الشبكات الإجرامية وشل قدراتها ومخططاتها، بالاستفادة من التطور التقني المعلومياتي الذي من شأنه الكشف الاستباقي والتدخل السريع حتى لا تتحول النوايا الإجرامية إلى أعمال ومشاريع تهدد أمن وسلم العالم.
وهذا يدفع في اتجاه التعجيل بأجرأة المجلس الأعلى للأمن وتفعيل أدواره،؛ باعتباره مؤسسة دستورية، نص عليه الفصل 54 من الدستور المغربي، من أجل وضع استراتيجيات الأمن الداخلي والخارجي للبلاد، وتدبير حالات الأزمات، والسهر أيضا على مأسسة ضوابط الحكامة الأمنية الجيدة بالمغرب.
[1] اشتقت كلمة الجريمة من فعل جرم يجرم، ومنه يقال “رجل جريم، وامرأة جريمة: ذات جرم وجسم.. والجرم مصدر الجارم الذي يجرم نفسه وقومه شرا، وجرم وأجرم جرما وإجراما، إذا أذنب. والجارم: الجاني، والمجرم، والمذنب” وعن ابن الأعرابي: الجرم التعدي، والجرم الذنب. المرجع: الأزهري، أبو منصور، تهذيب اللغة، تحقيق: محمد عوض مرعب، الطبعة الأولى، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 2001، ج/11، ص:46/48.
[2] اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية الموقعة بباليرمو في 12 ديسمبر 2000، والمنشورة بالجريدة الرسمية المغربية عدد 5186 بتاريخ 12 فبراير2004 .
[3] اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية الموقعة، الجريدة الرسمية المغربية عدد 5186 (م.س).
[4] أديبة محمد صالح، الجريمة المنظمة دراسة قانونية مقارنة، الطبعة الأولى، السليمانية، مركز كردستان للدراسات الإستراتيجية، العراق، 2009، ص:31.
[5] عبد الجواد عادل محمد، الجريمة المنظمة وخطط مكافحتها، مجلة الأمن والحياة العدد 339 – شعبان 1431هـ – أغسطس 2010م، ص:62.
[6] اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية(م.س).
[7] مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، دراسة حول تشريعات مكافحة الإرهاب في دول الخليج العربية واليمن (وثيقة عمل)، فيينا، الأمم المتحدة 2009، ص:9.
[8] خالد بن سلطان، أمن منطقة الخليج العربي من منظور وطني، سلسلة محاضرات الإمارات(18)، الطبعة الأولى، أبو ظبي، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 1997م، ص:6.
[9] مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، دراسة حول تشريعات مكافحة الإرهاب، (م.س)، ص: 8.
[10] مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، دراسة حول تشريعات مكافحة الإرهاب، (م.س)، ص: 8.
[11] مجلس وزراء الداخلية العرب، الموقع الرسمي الموقع الرسمي، اطلع عليه بتاريخ15/10/2019، الساعة 12
https://www.aim-council.org/specialized-offices
[12] عبد الجواد عادل محمد، الجريمة المنظمة وخطط مكافحتها، (م .س)، ص:63.
[13] الجدال عامر مصباح، الجريمة المنظمة المفهوم والأنماط وسبل التوقي، الطبعة الأولى، منشورات اللجنة الشعبية العامة للثقافة والإعلام،2007م، ص:87.
[14] شوقي يعيـش تمام الجريمة المعلومــاتية، دراســة تأصيلية مقارنة، الجزائر ، مطبعة الرمال الوادي، ص:19
[15] السند عبد الرحمن بن عبد الله، مكافحة وسائل الإرهاب الإلكتروني، حكمها في الإسلام وطرق مكافحتها، المؤتمر العالمي عن موقف الإسلام من الإرهاب، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1425هـ / 2004م، ص:8.
[16] ذياب موسى البداينة، الجرائم الإلكترونية: المفهوم والأسباب، ورقة علمية في إطار الملتقى العلمي في موضوع: الجرائم المستحدثة في ظل المتغيرات والتحولات الإقليمية والدولية، خلال الفترة من 2-4/9/2014م، كلية العلوم الاستراتيجية عمان، الأردن 1435هـ/2014م، ص:19-20(بتصرف). منشورة على: https://www.researchgate.net/profile/Diab-Al-Badayneh/publication.pdf
[17] Ajayi, E. F. G. , Challenges to enforcement of cyber-crimes laws and policy Vol. 6(1), In Journal of Internet and Information Systems, August 2016, p2.
[18] مرسوم بقانون اتحادي رقم 5 لسنة 2012 في شأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات، الجريدة الرسمية رقم 540، ملحق ص:19. صادر بتاريخ 2012/08/13م.
[19] Hanna Samir Kassab Jonathan D. Rosen, ILLicit Markets, Organized Crime, and Global Security, Palgrave Macmillan, Springer International Publishing 2019, p.157
[20] المزروعي موزة، الاختراقات الإلكترونية خطر كيف نواجهه، مجلة آفاق اقتصادية، دولة الإمارات العربية المتحدة، العدد التاسع، سبتمبر 2000م، ص54 .
[21] الهاجري إياس بن سمير، أمن المعلومات على شبكة الإنترنت، الطبعة الأولى، الرياض، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، 2004، ص: 141.
[22] المزروعي موزة، الاختراقات الإلكترونية خطر كيف نواجهه، مجلة آفاق اقتصادية، (م.س)، ص54 .
[23] يوسف حسن، جريمة بيع الأطفال والاتجار بالبشر، الطبعة الأولى، عمان، مركز الكتاب الأكاديمي، 2017، ص:42.
[24] السند عبد الرحمن بن عبد الله، مكافحة وسائل الإرهاب الإلكتروني، (م.س)، ص:24.
[25] السند عبد الرحمن بن عبد الله، مكافحة وسائل الإرهاب الإلكتروني، (م.س)، ص:14.
[26] Hanna Samir, Jonathan, Illicit Markets, Organized Crime, op. cit., p.156
[27] القانون رقم 53.05 المتعلق بالتبادل الإلكتروني للمعطيات القانونية، الجريدة الرسمية المغربية عدد 5584 بتاريخ 25 ذو القعدة 1428 (6 ديسمبر 2007)، ص 3879.
[28] حامدي بلقاسم، إبرام العقد الإلكتروني، أطروحة دكتوراه في العلوم القانونية تخصص: قانون الأعمال، جامعة الحاج لخضر باتنة كلية الحقوق والعلوم السياسية، السنة الجامعية: 2014-2015، ص: 234.
[29] محمد نصر محمد، مكافحة الإرهاب الدولي، دراسة تطبيقية على مكافحة غسل الأموال، الطبعة الأولى، عمان، دار الراية للنشر والتوزيع، الأردن، 2013م، ص: 244.
[30] Hanna Samir, Jonathan, Illicit Markets, Organized Crime, op. cit., p.1