الجبايات الترابية وسؤال الجهوية المتقدمة

الجبايات الترابية وسؤال الجهوية المتقدمة

territorial taxation and the question of advanced régionalisation

يونس مليح

باحث بسلك الدكتوراه بجامعة محمد الخامس بالرباط

كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية-سلا-

ملخص:

يعتبر القانون 47.06 المنظم للجبايات المحلية، نتاجا لمجموعة من الإكراهات والنواقص التي عرفها القانون المتجاوز 30.89، والذي أبان بعد ثمانية عشر سنة من تطبيقه على محدوديته، فهو جاء لتغطية عدد من المعيقات وسد الثغرات، حيث اعتبر آنذاك بأن القانون رقم 30.89 جاء كترجمة حقيقية  للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عرفها المغرب خلال فترات السبعينات والثمانينات وبداية التسعينات. فبالرغم من أن للمنظومة الجبائية السابقة مجموعة من المزايا، حيث شكلت خطوة هامة نحو العمل على تنمية الموارد  المالية للجماعات المحلية[1]، إلا أنه لم يرقى للتوقعات والأهداف المنشوذة منه، وتم تعويضه بالقانون الإصلاحي في حينه رقم 47.06، حيث أبان هو الآخر بعد 12 سنة من التطبيق على مجموعة من الإكراهات من بينها عدم مواكبته للمستجدات الدستورية خصوصا على المستوى الترابي وأيضا لما جاءت به الجهوية المتقدمة من مستجدات على الساحة الترابية ببلادنا، الأمر الذي يستدعي منا الوقوف عند أهم ما جاء به هذا القانون، وأيضا محاولة تحليل الإشكالات المثارة من خلاله.

الكلمات المفاتيح: القانون الجبائي المحلي- المستجدات الترابية- الإكراهات- سؤال الإصلاح

Abstract:

Law 47.06 regulating local levies is the result of a set of constraints and deficiencies that were defined by the law that exceeded 30.89, which showed after eighteen years of its application to its limits, as it covered a number of obstacles and filled gaps, where it was considered at the time that the law No. 30.89 was a true reflection of the political situation The economic, social and social conditions that Morocco experienced during the 1970s, 1980s and early 1990s. Although the previous tax regime has a set of advantages, as it was an important step towards the development of the financial resources of local communities, it did not meet the expectations and objectives it had set and was compensated by the reform law of the time No. 47.06, where it was revealed after 12 years of implementation. There is a set of constraints, among which the failure to keep pace with the constitutional developments, especially at the level of dirtiness, and also because of the developments in the advanced region on the soil of our country, which force us to stick to the most important of this law, and also to try to analyze the problems arising from it.

Keywords: local tax law – territorial developments – problems – question of reforms

 

 

 

” ترعرعت وأنـا متشبع بروح اللامركزية، مؤمنا بها، معتقدا أن الديمقراطية الحقيقية هي الديمقراطية المحلية، وإذا لم تكن هنـاك ديمقراطية محلية فلن توجـد أبدا ديمقراطية وطنية، تهيمن عليها، وتطبعهـا بطابع الجد والاحترام والالتزام”[1].

تقـــــــــديــــــــــــــــــــــم

لقد حل القانون المنظم للجبايات المحلية 47.06 كمنقذ ومصلح للإكراهات والنواقص التي اتسم بها القانون القديم 30.89، حيث استكمل السنة الثانية عشرة منذ دخوله حيز التطبيق سنة 2008، حيث حاول تجاوز مختلف الإكراهات سواء التقنية منها أو القانونية التي شابت القانون القديم، حيث حاول القانون الجديد للجبايات المحلية تبني مواصفات الأنظمة الجبائية الحديثة، وذلك من خلال تحقيق أهداف جديدة من بينها تبسيط الجبايات المحلية وتحسين مردوديتها؛ وذلك من خلال التقليص من عدد الرسوم، والعمل على تبسيط المساطر الجبائية، وأيضا العمل على مطابقة الجبايات المحلية لإطار اللامركزية، وملائمة الجبايات المحلية مع حاجيات الدولة.

لكن في ظل الظروف الحالية الجديدة، وفي ظل الدستور الجديد لفاتح يوليوز 2011[2]، وفي ظل المبادئ والرؤى الجديدة التي جاء بها هذا الدستور على المستوى الترابي، سنحاول مساءلة القانون 47.06 حول مدى استجابته لهذه التطورات (المبحث الأول)، ثم سنحاول البحث عن النقط السلبية التي تجعل هذا القانون لا يستجيب ومتطلبات الجهوية المتقدمة[3] التي نص عليها الدستور الجديد للمملكة (المبحث الثاني).

 

 

المبحث الأول: القانون 47.06 والجهوية المتقدمة: المبادئ والأهداف

يعتبر القانون 47.06 المتعلق بالجبايات المحلية، أحد الأدوات الرئيسية لتدبير الجباية المحلية بجميع أنواعها، فقد تم التنصيص على هذا القانون نظرا لأهمية إدخال تعديلات جوهرية تضمن التوفر على نظام يساير التوجهات العامة اللامركزية، وذلك من خلال تبني مواصفات الأنظمة الجبائية الحديثة، وكذا تجاوز النواقص والصعوبات التي تعتري المنظومة السابقة[4]، فلمعرفة مختلف إيجابيات وحتى سلبيات هذا القانون ومدى ملائمته للمبادئ الجديدة التي رسمها دستور 2011، وبالخصوص مبدأ الجهوية المتقدمة، سنعمل في مرحلة أولى على تحديد الأهداف التي جاء على أساسها القانون 47.06 (مطلب أول)، ثم بعد ذلك سنتحدث عن الجهوية المتقدمة في الدستور الجديد للمملكة (مطلب ثاني).

المطلب الأول : مبادئ وأهداف القانون 47.06

من بين الأهداف الأولية والمرجعية التي أثثت مطلب الإصلاح الجبائي المحلي، الدعوة الملكية الرسمية لربط هذا الأخير بشروط التنمية الاقتصادية، سواء ارتبطت هذه الشروط بالدعم الموجه للمقاولات والفاعلين الاقتصاديين خاصة على المستوى المحلي، أم بإيجاد السبل والوسائل المساعدة لتشجيع الاستثمار المحلي. وستجد هذه الأهداف مرجعيتها الرسمية في مجموعة من الخطب الملكية، خاصة الدعوة الملكية للحكومة من خلال خطاب الجرف الأصفر بتاريخ 25 سبتمبر 2000 إلى إعادة النظر في الجبايات المحلية، بحيث تكون الغاية المثلى للجبايات تشجيع الاستثمار المنتج الذي يخلق فرص الشغل[5]. كما أن ذات الأولوية في الاهتمام بإصلاح الجبايات المحلية وربطها بشروط التنمية الاقتصادية، سيتم تكريسها أيضا في الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح السنة التشريعية (12 أكتوبر 2000)، وأيضا في خطاب ملكي ثالث بمناسبة افتتاح المناظرة الوطنية للسياحة بمراكش بتاريخ 10 يناير 2001، وذلك ضمن التدابير المتعين اتخاذها لتأهيل القطاع السياحي وجعله قاطرة حقيقية للتنمية[6].

لقد جاء القانون الجبائي المحلي الجديد في ظل محدودية التمويل المالي التي تعيشها الجماعات المحلية، وعدم قدرة القانون رقم 89-30 على مواكبة التطورات التي تعرفها اللامركزية بالمغرب

وللاختصاصات المتزايدة للجماعات المحلية؛ وهو الأمر الذي دفع بمختلف الفعاليات المهتمة بحقل الجبايات المحلية إلى الدعوة لإصلاح النظام الجبائي المحلي، وذلك في سياق الاستجابة لمعطيات اقتصادية وسياسية واجتماعية أصبحت تفرضها اشتراطات داخلية وخارجية، الأمر الذي سيجعل المشرع المغربي في مقاربته للإصلاح الجبائي الجديد محكوما بتحقيق مجموعة من الأهداف القانونية، الاقتصادية، المالية، السياسية، الاجتماعية، والجبائية والمجالية، التي تستجيب لتوجهات السياسة الجبائية المحلية التي تنهجها الدولة[7].

وقد جاء القانون الجبائي المحلي رقم 47.06 أيضا من أجل تعزيز الديمقراطية المحلية، وذلك عبر ضمان العدالة في توزيع العبء الجبائي المحلي، ومراعاة المقدرة التكليفية للملزمين، وتعزيز الضمانات القانونية والمسطرية الممنوحة لهم بهدف إشراكهم في عملية تدبير جباياتهم، وذلك عن طريق تبسيط وتسهيل عملية ولوج مساطر المنازعات الجبائية، وذلك في سبيل بناء ثقافة الحق والواجب من أجل مواطنة جبائية مسؤولة[8].

بطبيعة الحال الهدف الرئيسي من وراء كل هذا يتمثل بالأساس في دعم اللامركزية كخيار سياسي، وذلك عن طريق مطابقة مقتضيات الإصلاح الجبائي الجديد للتطور الذي عرفته هذه الأخيرة والمتمثل في القانون 96-47 المنظم للجهات، والقانون المتعلق بالعمالات والأقاليم 00-79، والميثاق الجماعي 78.00، وعبر تبني مواصفات الأنظمة الجبائية الحديثة، وبتجاوز النواقص والصعوبات التي عرفتها المنظومة الجبائية المحلية في ظل القانون 30.89، وذلك بهدف تنمية الموارد الذاتية المحلية ودعم الاستقلال المالي للجماعات المحلية، وتمكين الهيئات المنتخبة من الاضطلاع بمهامها في أحسن الظروف، من أجل تحقيق تدبير أمثل وأكثر عقلانية لمواردها المالية ومجالات إنفاقها، وفق قواعد الممارسة الديمقراطية السليمة التي أكد جلالة الملك على ضرورة تحصينها في خطابه السامي أمام أعضاء البرلمان بتاريخ 13 أكتوبر 2000، باعتبارها شرطا أساسيا من شروط التنمية[9].

انطلاقا من المكتسبات  التي تم تحقيقها على مستوى اللامركزية وترسيخا لذلك، فان القانون رقم 06-47 حرص على تدعيم اختصاصات المجالس المنتخبة من خلال تحديده للنسب والأسعار الدنيا والقصوى لأغلبية الرسوم، منيطا بذلك أمر تحديد نسب وأسعار الرسوم  المحلية للآمر بالصرف بعد مصادقة مجلس الجماعة المحلية المعنية في حدود الأسعار الدنيا  والقصوى المحددة بالقانون[10].

ومن أهم المستجدات التي جاء بها  قانون الجبايات المحلية 47.06، إعطاء الحرية للجماعات الترابية بتحديد أسعار مجموعة من الرسوم والضرائب، كما يحدد الجدول التالي مجموع الرسوم المحددة بأسعار ثابتة:

الرسم الجماعات الترابية الجهة المستخلصة
رسم السكن الجماعات الحضرية الدولة(10بالمائة)
الرسم المهني الجماعات الحضرية الدولة(10بالمائة)
رسم الخدمات الجماعية الجماعات المعنية الدولة(5بالمائة)
الرسم على المياه المعدنية الجماعات المعنية الجماعات الترابية
الرسم على رخص السياقة العمالات وكيل المداخيل عن طريق الجهة المكلفة برخص السياقة
الرسم المفروض على السيارات الخاضعة للفحص التقني العمالات وكيل المداخيل عن طريق الجهة المكلفة بالفحص
الرسم على رخص الصيد الجهات وكيل مداخيل الجهات
الرسم على الحاصلات الغابوية العمالات إدارة المياه والغابات

المصدر: الدليل القانوني للجماعات المحلية،المديرية العامة للجماعات المحلية،غير منشور، الطبعة الثانية، يمكن الاطلاع عليه بالموقع الالكتروني للجريدة الرسمية للجماعات المحلية: www.bocl.gov.ma

فالملاحظ من الجدول، أن المشرع المغربي حدد ثمانية رسوم بأسعار ثابتة، موزعة على الشكل التالي :

  • أربع رسوم تعود للجماعات، وهي نفسها المدبرة من طرف الدولة باستثناء رسم المياه المعدنية؛
  • ثلاث رسوم تعود للعمالات؛
  • رسم واحد يعود للجهات.
    • باستثناء هذه الرسوم، اعتمد المشرع حدا أدنى وحدا أقصى في تحديد نسب وأسعار بقية الرسوم المحلية، بهدف تدعيم الاختصاصات الجبائية للجماعات الترابية وهي كالتالي :
  • الرسم على الأراضي الحضرية غير المبنية؛
  • الرسم على عمليات البناء؛
  • الرسم على عمليات تجزئة الأراضي؛
  • الرسم على محال بيع المشروبات؛
  • الرسم على الإقامة بالمؤسسات السياحية؛
  • الرسم على النقل العمومي للمسافرين؛
  • الرسم على استخراج مواد المقالع؛
  • الرسم على استغلال المناجم.
  • الرسم على الخدمات المقدمة بالموانئ.

زيادة على ما سبق، فقد أعطى المشرع المغربي ومن خلال القانون المنظم للجبايات المحلية رقم 47.06 للجماعات المحلية سلطات أيضا في ميدان زجر المخالفات، سواء عن طريق الغرامات و الجزاءات المفروضة على الملزمين عند الأداء المتأخر للرسوم، حيت تطبق في حقهم ذعيرة قدرها 10% وزيادة قدرها 5%  عن الشهر الأول و0.5 % عن كل شهر أو جزء شهر إضافي، أو من خلال الغرامات في حالة عدم الإقرار بالعناصر الخاضعة للرسم، أو عند عدم الإقرار بشغور العقار أو عدم إيداع التصريح بالتأسيس

المنصوص عليه في المادتين 67[11] و87[12] من القانون 47.06.

المطلب الثاني : الجهوية المتقدمة في دستور 2011

لقد أصبحت السياسة الجهوية في مختلف بلدان العالم من الاستراتيجيات الرئيسية للنهوض بالتنمية الاقتصادية، وللإقلاع السوسيو اقتصادي بصفة عامة، ذلك أن عقلية النخب الحاكمة آمنت واقتنعت أن التنمية الشاملة لا يمكن تحقيقها إلا بالمرور عبر التنمية الجهوية، إذ أن التنمية بصفة عامة لا بد لإنجاحها من مجال ترابي واسع ومتكامل، كفيل بإدماج كل العوامل التنموية في مسلسل الإقلاع الاقتصادي الجهوي[13].

فالجهوية احتلت مكانة في الخطاب السياسي، وأصبحت من القضايا التي شغلت رأي جميع القوى الوطنية التي هدفت إلى تحقيق الديمقراطية المحلية من خلال دعم السياسة الجهوية التي نشدتها الإصلاحات الدستورية والسياسية[14]. وجاءت الجهة في إطار تشييد مغرب حديث لتحقيق قفزة نوعية في مجال الديمقراطية المحلية وتوسيع اللامركزية لأنها تشكل أداة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وإطارا للحوار والمشاركة بين كافة مكوناتها[15].

فالمفهوم الجديد الذي كرسه دستور المملكة المغربية لسنة 2011 للجهة، قد ظهر مع منتصف

القرن العشرين كمجموعة ترابية منسجمة مجاليا تهدف إلى تكامل اقتصادي إداري تنموي، من أجل النهوض بالإمكانيات البشرية والطبيعية والمالية وتسخيرها في إطار منسجم ومتوازن. وهكذا ومن خلال نبذة حول التشريع المقارن الذي عمل بهذه التجربة، نجد بأن ألمانيا قد تبنت هذا التوجه الجهوي في دستور 1948، واسبانيا في دستور سنة 1978، وكذا فرنسا سنة 1983، والعنصر الأساسي هي التنمية الاقتصادية والاجتماعية[16].

فالجهوية بالمغرب مرت إذن عبر مراحل متعددة، فبعد خضوعها للتجربة في إطار ظهير 16 يونيو 1971 المتعلق بإحداث المناطق الاقتصادية تم الارتقاء بالجهة إلى مستوى الجماعة المحلية بمقتضى الدستور المراجع لسنة 1992، تم تدعم مركز الجهة أكثر في الدستور المراجع لسنة 1996، وأخيرا بصدور القانون رقم 96/47 بتاريخ 20 أبريل 1997 الذي أضفى عليها الشخصية المعنوية ونظم تشكيل وتسيير مجالسها وأيضا مجالات وصاية الدولة عليها[17].

فلقد انخرط المغرب في مسلسل الجهوية المتقدمة. جهوية لا يمكن تصور شكلها النهائي على الأقل في الوقت الراهن، ولكن في المقابل يمكن تحديد أهم معالمها انطلاقا من الخطب الملكية ومن تقرير اللجنة الاستشارية للجهوية ومن الدستور[18].

فقرار اعتماد جهوية متقدمة في تدبير الفعل العمومي الترابي، يشكل تطورا نوعيا على صعيد بنيات وهياكل الدولة، الأمر الذي سيمكنه من إصلاح وتحديث العلاقة بين هذه الأخيرة وبين باقي المستويات الترابية المكونة لها، وجعل الديمقراطية التشاركية عنصرا معبئا للطاقات ومنتجا للنخب الجهوية، واعتماد التدبير الترابي كمكون أساسي في خلق توازن مؤسسي بين الدولة والجهة يهدف إلى توزيع فعال وعادل للثروة، وجعل السلط والاختصاصات قائمة على المراقبة وتلبية الحاجيات الميدانية للساكنة المحلية. لذلك يندرج اعتماد الجهوية المتقدمة ضمن إعادة الترتيب الترابي داخل الدولة[19].

وتبعا لذلك جاء الفصل 63 من الدستور، الذي جعل من الجهات والجماعات الترابية الأخرى شريكا أساسيا في تفعيل السياسة العامة للدولة، وعنصرا مهما في تفعيل السياسة العامة للدولة، وعنصرا مهما في إعداد السياسات الترابية[20]. كما أولى الدستور مكانة خاصة بالجهة مقارنة مع باقي الجماعات الترابية، حين نص في الفقرة الثانية من الفصل 143 من دستور 2011 على أن الجهة تتبوأ “تحت إشراف رئيس مجلسها، مكانة الصدارة بالنسبة للجماعات الترابية الأخرى،…”، سيحتم ذات المنطق اعتماد الانتخاب المباشر عوض الانتخاب غير المباشر لأعضاء مجلس الجهة، وهو ما أكدته الفقرة الثالثة من الفصل 135 من الدستور:”تنتخب مجالس الجهات والجماعات بالاقتراع العام المباشر”[21].

فتأكيد الجهوية في خطاب جلالة الملك محمد السادس ل 9 مارس 2011 يعد نقلة نوعية ورؤية متقدمة أسست لمرحلة جديدة، فإلقاء جلالة الملك لخطابه بعد رفع تقرير اللجنة الاستشارية للجهوية المتقدمة إليه، هو ترسيخ لتوجهات الدولة وعزم يتجاوز لغة التصريح وإعلان النوايا وتجسيد حي لمدى الوعي بهذا الإشكال، كما أن الدعوة بترجمة هذا الوعي بقرار دسترة الجهة، معناه تجسيد بنود خاصة في الدستور للجهة تتعدى مسألة التنصيص عليها، من حيث اختصاصها وتنظيمها مثلا، مقارنة مع ما كان سائدا في الدساتير السابقة، كل ذلك سعيا لثبات واستقرار التنظيم الجهوي المرتقب، وتحصينا له من السيناريوهات السياسية، بما يضمن المصداقية للفعل الجهوي والجدية في أدائه، لأجل ذلك فقرار الملك القاضي بدسترة النظام الجهوي بتفاصيله الرئيسية، جاء منسجما مع القرارات الأخرى التي أشرف عليها العاهل المغربي، وأتى ورودها في خطاب 9 مارس 2011، مثل تفعيل دور المجلس الاقتصادي والاجتماعي، أو الرفع من صلاحيات المجلس الدستوري[22].

وقد أكد جلالة الملك كذلك من خلال الرسالة السامية إلى المشاركين في المؤتمر الرابع لمنظمة المدن والحكومات المحلية المتحدة، الذي احتضنته الرباط ما بين فاتح ورابع أكتوبر 2013، تحت شعار “تصور المجتمع، بناء الديمقراطية”، والذي جاء فيها ” أن المغرب بادر إلى تبني إصلاحات جوهرية، في مقدمتها دسترة الجهوية المتقدمة، التي تهدف إلى إقرار تنظيم ترابي متكامل يؤسس لمرحلة جديدة في مسار تقوية الديمقراطية المحلية، وترسيخ مكانة الجماعات الترابية كشريك أساسي بجانب الدولة والقطاع الخاص، في تدبير قضايا التنمية”.

المبحث الثاني : القانون 47.06  والجهوية المتقدمة: المعيقات والمتطلبات

من بين الأشياء التي تشكل قطيعة مع الجهوية المتقدمة نجد القانون 47.06، حيث أن هذا الأخير تم تشريعه سنة 2008 في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية تختلف عن الجهوية المتقدمة التي تم سنها في سنة 2011 من خلال الدستور الجديد للملكة، حيث يمكن القول من خلال ما تم ذكره بأن هذا الإختلاف الزمني يعد مظهرا واضحا من مظاهر عدم ملائمة القانون للجهوية، وبالتالي فإن التقطيع الترابي الجديد الذي جاء به الجهوية المتقدمة لا يتماشى ولا يتواكب مع إطار وظروف وفكر القانون 47.06.

المطلب الأول: التقطيع الترابي وإشكالاته

يوضح خطاب 6 نونبر 2008 أن “نجاح الجهوية رهين باعتماد تقسيم ناجح يتوخى قيام مناطق متكاملة اقتصاديا وجغرافيا ومنسجمة اجتماعيا وثقافيا”، فحسب الخطاب الملكي، يرتبط نجاح هذا الورش بنجاعة التقسيم الجهوي كأساس للإصلاح على المستويين البنيوي والوظيفي، والتقسيم يعد من الإشكالات الدائمة في الإصلاحات من هذا النوع لكونه يتحكم فيما تبقى ومكونات الجهوية، فالخطاب الملكي يطرح بصريح العبارة مشكل الهوية الجهوية والتكامل بين الجهات[23].

وتبين كثير من التجارب العالمية أن نجاح التجربة الجهوية يرتبط بمدى نجاح “التقطيع الجهوي”، أي الأسس التي تم اعتمادها، في إنشاء جهات تمتاز بالدينامية الاقتصادية والتكامل الوظيفي والتدبير الترابي العقلاني، فهذا التنوع في الأهداف يعتبر في حد ذاته، تحديا واضحا للتقسيم الذي طرح في الجهوية المتقدمة، بحيث تقاس صحة التقطيع بمدى سداده من حيث قابليته لإنجاح الجهوية المتقدمة[24].

فمسألة التقطيع الترابي على غاية من الأهمية، فهي الحلبة التي ستجري على مسرحها كل أطوار الاستحقاقات الانتخابية، وهو الفيصل المفضي إلى خلق وحدات ترابية ستحيى فيها كتلة بشرية معينة وتُزاوَل فيها أنشطة متعددة والمفروض العمل على أن تتوافر بها وسائل استقطاب مساعدة على الاستقرار، لذلك لا يجب الاستهانة بهذا الورش الهام، نظرا للرهانات المعلقة عليه عبر العديد من المستويات سواء منها البشرية أو الاقتصادية أو الاجتماعية وقس عليه، فاللحظة الانتخابية محدودة في الزمن، لكن التقسيم الترابي، على العكس، ممتد في الزمن، وعائده لا ينعكس على حزب واحد فقط بل على المجالات الترابية برمتها وعلى مختلف الأصعدة. لا ننسى أيضا أن المشاركة أضحت خيارا دستوريا قائما يتماشى ومبادئ الحكامة المنشودة، لكن شريطة أن يكون هذا النقاش حقيقيا وغير مفتعل، بحيث يجعل مصلحة المجال هي الأولى، وإلا تحول إلى سجال ترهنه خلفيات أخرى، تكبح عجلة الإصلاح وتهدر زمن التشريع بل وخطرا على الديموقراطية بذاتها، فالنقاش الحقيقي رهين بصدق النية كما يقول الفقهاء[25].

و بهذا تكون إشكالية التقطيع الترابي تمثل وجها أو مظهرا من مظاهر عدم استجابة القانون 47.06 للجهوية المتقدمة بحيث أن القانون وضع في أرضية مقسمة تقطيعا ترابيا اعتبره الجهوية المتقدمة تقطيعا متجاوزا وبالتالي يستحيل أن تتحقق الإستجابة.

فكل المهتمين يتفقون على أن قضية الموارد تعد أساس وجوهر الجهوية، وتبين تجربة عدة دول أنه من الصعب إيجاد ضرائب خاصة بالمجالات الترابية، وهذا ما يفسر الإشارة إلى صندوق التضامن في الخطاب الملكي وتقرير الجنة الاستشارية[26].

لدى فمن الضروري تبني قانون يحدد نظام وطرق تدخل هذا الجهاز، كما يمكن للجهات أن تراهن على التعاون فيما بينها أو بين القطاعات الوزارية، عبر صندوق التأهيل الاجتماعي الذي يهدف إلى الإسراع بسد مظاهر العجز الكبرى في الجوانب المرتبطة مباشرة بالتنمية البشرية، والتي تتقاطع بشكل واسع مع مجالات اختصاص الجهات حسب ما جاء في التقرير، إلا أنه من المستحب توضيح الإطار القانوني لهذا الصندوق، خصوصا فيما يتعلق بالاختصاصات وصلاحيات هذا الصندوق ورئيسه، كما تتوقف تقوية الوسائل المالية أيضا على إيجاد جباية خاصة لتتمكن الجهات من النهوض بمهامها التنموية في مراعاة مستلزمات العقلنة والانسجام والتكامل[27].

فالتقطيع الترابي الجهوي يشكل مفتاح نجاح ورش الجهوية الرامي إلى تحقيق التنمية الشاملة المستدامة، كما يجب أن يتم على ضوء التنمية المجالية، معتبرا أن تحقيق هذه التنمية يقتضي وضع آليات تتجلى في محددات وظيفية والتكامل والتوازن والتضامن والتنافس والتعددية والتنوع، واعتماد تقسيم ترابي يراعي الخصوصيات الجهوية مبني على التجانس اللغوي والجغرافي والتاريخي، وكذا منح الجهوية وظائف اقتصادية واجتماعية، وأن يتم خلق مجموعة من المؤسسات تكون داعمة لعمل الجهات.

المطلب الثاني: مكانة الجهة كمظهر من مظاهر عدم استجابة القانون 47.06

إذا كان من شأن التقطيع الترابي الجديد الذي جاءت به الجهوية المتقدمة يختلف عن ذلك المعتمد عند وضع قانون 47.06، يكون مظهرا من مظاهر عدم استجابة القانون للجهوية المتقدمة، فإن مكانة الجهة كجماعة ترابية في الوقت الذي وضع فيه القانون 47.06 أيضا لم تكن هي المكانة التي منحتها إياها الجهوية المتقدمة، بحيث كانت الجهات دائما ضحية القوانين المنظمة للجبايات نظرا لما تعانيه المجالس الجهوية من ضعف حجم المداخيل، مع العلم أنها هي من تشكل الإطار الخاص للتنمية على المستوى المحلي. هذا ما جعل اللجنة الإستشارية للجهوية المتقدمة تعلي بمكانة الجهة كجماعة ترابية تقوم بالدور الأساس في التنمية وفضاء رئيسي لبلورة السياسات العمومية في بعدها الجهوي، فموازاة مع الاختصاصات المنوط بها، سواء منها الذاتية أو المنقولة المتعلقة أساسا بالتشغيل والنهوض بمحيطها الترابي، والتكوين المهني و دعم المقاولات.

فلكي تتمكن الجهة باعتبارها جماعة ترابية من ممارسة الاختصاصات المنوطة بها في ميدان التنمية الجهوية، لا بد من توفرها على إمكانيات ووسائل مالية للقيام بمهامها، فتأسيس العمل بنظام جهوي محلي يستلزم منح الجهة الأدوات والوسائل المالية اللازمة لتفعيل الاستقلالية الجهوية، فلا يمكن الحديث عن قرار تنموي جهوي مستقل في ظل غياب تمتيع الجهة بالموارد المالية الكافية[28].

لذلك، ينبغي توفير موارد مناسبة لتلبية حاجيات الجهة حتى تقوم بوظائفها على أكمل وجه، فالجهوية المتقدمة تستوجب الزيادة في الموارد المرصودة للمجالس الجهوية من قبل الدولة بشكل ملموس، لكي تتمكن من إنجاز أعمال في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، يتعين الرفع من عائدات الضرائب والرسوم المرصودة من طرف الدولة بالمجالس الجهوية برفعه من الحصة المرصودة لها من الضريبة على الدخل والضريبة على الشركات من %1 إلى%5 ،  واقتسام متساوي بين الدولة والمجالس الجهوية لعائدات رسوم التسجيل و الضريبة السنوية الخاصة على العربات ذات المحرك، ثم تخويل أهلية الإستفادة من عائدات الضريبة على القيمة المضافة، وستمكن هذه المقترحات من رفع الموارد السنوية الإجمالية للجهات إلى ما لا يقل عن 8 ملايين درهم. وبهذا تكون الجهة تتمتع بسلطة جبائية توفر لها موارد مالية ذاتية قارة تساعدها على تحقيق الاستقلال المالي الفعلي واستقلالية في الرسوم والضرائب.

فعلى مستوى الجماعات الحضرية والقروية وبالإستناد إلى الميثاق الجماعي في إطار القانون رقم 08-17 نلاحظ حجم الصلاحيات التي تتوفر عليها المجالس الحضرية والقروية في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ما يعني أن جبايات هذه الجماعات ينبغي أن تساير هذه الوظيفة سواء على مستوى المردودية أو على مستوى الرفع من قدرات الجماعات الترابية على خلق الاكتفاء الذاتي والمالي الذي يجعل منها قادرة على تدبير نفسها بنفسها.

انطلاقا من هذا المعطى، فإن القانون الجبائي رقم 06-47 منح للجماعات الترابية 11 رسم، منها 4 رسوم محددة بالقانون في أسعار ثابثة، هذه الرسوم هي :

  • الرسم المهني؛
  • رسم السكن؛
  • رسم الخدمات الجماعية؛
  • الرسم على المياه المعدنية ومياه المائدة.

و تعتبر هذه الرسوم المذكورة الأكثر أهمية، لعدة اعتبارات أهمها أنها ذات مردودية مرتفعة بالمقارنة مع باقي الرسوم. في حين تم تحديد سعر أدنى و أقصى لباقي الرسوم.  زد على ذلك أن هذه الرسوم يتم استخلاصها من طرف الدولة باستثناء رسم المياه المعدنية، وما يترتب عن ذلك من اقتطاع مقابل التدبير كما يلي :

  • رسم السكن 10% للميزانية العامة؛
  • الرسم المهني 10% لفائدة غرف التجارة والصناعة والخدمات وغرف الصيد البحري، و10% لفائدة الميزانية العامة؛
  • رسم الخدمات الجماعية 5% لفائدة ميزانية الجهات.

إذن ومن خلال النسب المذكورة يتجلى لنا وبشكل واضح أن الجماعات الترابية لا تستفيد وحدها من مردودية هذه الرسوم، وإنما تستفيد معها ميزانية الدولة بسبب التدبير، في حين كان لزاما أن تستفيد منها الجماعات الترابية، طالما أننا نتحدث عن مطلب الاستقلال المالي سواء من خلال عائدات الرسوم أو من حيث التحصيل.

أما فيما يخص المستويات الترابية الأخرى (الجهات والعمالات أو الأقاليم) فالملاحظة الأولى التي تثيرها الرسوم الممنوحة لهذه المستويات الترابية، هي أن هذه المستويات لها رسوم محدودة؛ ثلاث رسوم للجهات وثلاث رسوم للعمالات والأقاليم، الأمر الذي يعكس مدى محدودية تدخل مجالس هذه المستويات في تحديد سعر هذه الرسوم والرفع من قيمتها حتى تستفيد منها هذه الوحدات. فبالنسبة للعمالات والأقاليم فقد تدخل المشرع وحدد مجموعة من الرسوم والضرائب في أسعار ثابتة، على سبيل المثال الرسم على رخص السياقة الذي حدد سعره في 150 درهم. أما الجهات فقد ترك لها المشرع حرية تحديد سعر رسمين بين حد أدنى و أقصى وهما :

  • الرسم على استغلال المناجم (ما بين درهم واحد و ثلاثة دراهم عن كل طن مستخرج)، حيث يفرض كرسم سنوي على الكميات الصافية من المواد المنجمية التي يستخرجها ذوو الامتيازات ومستغلو المناجم كيفما كان الشكل القانوني لهذا الاستغلال[29]، وذلك بمرسوم يصدر كل ثلاث سنوات باقتراح من وزير الداخلية والوزير المكلف بالمعادن، وتراعى في تحديد هذا السعر قيمة كل مادة معدنية، ويلزم مستغلو المناجم بتقديم إقرار سنوي لإدارة الجهة عن كميات المواد المعدنية المستخرجة، ويدفع مبلغ الرسم لدى صندوق وكيل مداخيل الجهة[30].
  • الرسم على الخدمات المقدمة بالموانئ (من 2 بالمائة إلى 5 بالمائة من رقم الأعمال دون احتساب الضريبة على القيمة المضافة)، بحيث يفرض على الخدمات المقدمة بالموانئ بالجهة المعنية، باستثناء الخدمات المرتبطة بالنقل الدولي وبالسلع غير الموجهة للسوق الوطني، ويتم تحديد أساس فرض هذا الرسم انطلاقا من فرضه على المستفيدين من الخدمات على المبلغ الإجمالي للخدمات المقدمة بالموانئ ولو أعفيت من الضريبة على القيمة المضافة، ويستخلص من طرف الهيئة التي تقدم الخدمات[31]، ويجب على الملزمين الإقرار ودفع الرسم، حيث يتعين على الهيئات المكلفة باستخلاص هذا الرسم إيداع إقرار للإدارة قبل فاتح أبريل من كل سنة لدى مصلحة الوعاء التابعة للجهة، ويتم دفع مبلغه تلقائيا لدى صندوق وكيل مداخيل الجهة كل ربع سنة.

فالجهات تستفيد أيضا من حصص الضرائب العائدة للدولة، وذلك طبقا للمادة 66  من القانون 47.96، والتي حددها المشرع في ثلاثة أصناف :

  • الضريبة العامة على الدخل 1%؛
  • الضريبة على الشركات 1%؛
  • ضريبة إضافية على الضريبة السنوية على السيارات.

وقد أشار القانون من جهة أخرى إلى إمكانية استفادة الجهة من حصص في ضرائب أخرى خاصة بالدولة، بمقتضى قوانين المالية، مما يجعلها ترتبط بوضعية المالية العامة، وبالتالي التقلبات التي يمكن أن تتأثر بها ستؤثر بالضرورة على حصة الجهة من الضرائب التي سيخصص جزء منها للجهة[32].

فلا شك في أن التمويل الذاتي يشكل أحد العناصر الأساسية التي تمكن الجهة من القيام بنشاطها، سواء في ميدان تغطية النفقات الاستهلاكية أو في ميدان تمويل الاستثمارات، فالتمويل الذاتي يعد أحد المعايير الرئيسية التي تقاس بها درجة الاستقلال  المالي الجهوي عن كل تدخل للدولة أو باقي الأجهزة في ميدان التدبير المالي وتسيير الجهة لشؤونها المالية بنفسها سواء في ميدان الإنفاق أو الاستثمار[33].

ومن خلال الرسوم ضعيفة المردودية الممنوحة للجهات والتي أشرنا إليها سابقا، فإنها لا تساهم في الرفع من مردودية مداخيل الجهات حتى يتسنى لها تحقيق اكتفائها المالي والذاتي، وهو ما يتجلى بشكل واضح من خلال النظر في أرقام وحصيلة هذه الرسوم الجهوية، والتي تشكل قطيعة مع مبادئ الاستقلال المالي والذاتي اللذان نادى بهما دستور 2011، وأيضا مبادئ الجهوية المتقدمة.

لذلك، يجب العمل على تمكين الجهة من التحكم في مواردها المالية وخاصة الذاتية، نظرا للأهمية البالغة لهذه المسألة، إذا أريد للجهة أن تساهم عبر البرمجة والتخطيط العقلاني، في النهوض بالتنمية الجهوية والوطنية، وأن تكون قادرة على تحقيق المشاريع والعمليات والأشغال المسطرة لتلبية الحاجيات الأساسية للسكان وخاصة الأولويات منها[34].

وأيضا يجب العمل على وضع هندسة جديدة لقانون جبايات الجماعات الترابية؛ تستجيب للتقسيم الذي أقامه الدستور ما بين الجهات وباقي الجماعات الترابية الأخرى، وتعكس مبدأ المرونة المطلوب، وذلك بالعودة لنظام الرسوم الاختيارية والإجبارية كما هو معمول به في فرنسا، لتمكين الجماعات الترابية من اختيار الرسوم التي تتناسب مع طبيعة وحجم الأوعية الموجودة بترابها[35].

وكذا العمل على توسيع السلطة الجبائية للجماعات الترابية؛ بتمكينها من سلطة اختيار الأوعية الجبائية التي تناسبها، ومنحها إمكانية الاقتراح والمساهمة في تحديد الإعفاءات والتخفيضات التي تنسجم مع واقعها الترابي وخصوصياته، بالإضافة إلى منحها سلطة واسعة في إحصاء وتحصيل أوعيتها، والقيام بعملية المراقبة والتفتيش، وذلك من أجل تمكينها فعلا من حرية إدارة شؤونها، واتخاذ المبادرة، وتحقيق فعالية التدبير، ووضوح الفعل العمومي، والمسؤولية، والديمقراطية المحلية[36].

وهذا لا يمكم أن يتحقق إلا عن طريق التنصيص على نقل السلطة التنفيذية من ممثلي الدولة إلى رؤساء المجالس الجهوية؛ وهو ما تم تفعيله من خلال نص الفصل 139 من دستور 2011، الذي نص على أنه “يقوم رؤساء مجالس الجهات، والجماعات الترابية الأخرى، بتنفيذ مداولات هذه المجالس ومقرراتها”. كما أن دستور 2011 عمل على التخفيف من سلطة الوصاية الممارسة على المجالس الجهوية، وذلك من خلال الفصل 136 الذي نص على أنه “يرتكز التنظيم الجهوي والترابي على مبادئ التدبير الحر”، كما أنه أكد من خلال الفصل 143 من الدستور على أنه “لا يجوز لأي جماعة ترابية أن تمارس وصايتها على جماعة أخرى”، وفتح بينها إمكانية التعاون من خلال الفصل 144 حينما نص على أنه

“يمكن للجماعات الترابية تأسيس مجموعات فيما بينها، من أجل التعاضد في البرامج والوسائل”.

والعمل على تعزيز اللامركزية الترابية والديمقراطية المحلية، وهو ما أكد عليه الدستور الجديد في الفصل 146 حينما تحدث عن أنه تحدد بقانون تنظيمي شروط تدبير الجهات والجماعات الترابية لشؤونها بكيفية ديمقراطية، أو في الفصل 153 حينما نص على أن الجماعات الترابية أشخاص اعتبارية، خاضعة للقانون العام، تسير شؤونها بكيفية ديمقراطية، أو حينما تحدت في الفصل 155 على خضوع المرافق العمومية في تسييرها للمبادئ والقيم الديمقراطية التي اقرها الدستور[37].

إذن، ومن خلال جل ما تم ذكره عن المعيقات التي تعترض ملائمة القانون 47.06 للجهوية المتقدمة، يمكننا الزيادة على ذلك بالقول، بأن الجهة من خلال هذا القانون وفي الوقت الذي تم فيه سنه تعتبر غير ملائمة بتاتا، ولا يمكننا الحديث عن جهوية متقدمة في ظل قانون يعج بالعديد من السلبيات التي تضر بطبيعة الحال بالموارد المالية للجماعات الترابية.

خاتمة

يمكننا التأكيد في نهاية هذا الموضوع، على أن خيار الجهوية المتقدمة يعتبر تبنيا لسياسة جديدة على مستوى تفعيل عملية التنمية الترابية حتى تواكب وتندمج في التنمية الوطنية بصفة عامة من جهة، وبداية جديدة لمسلسل اللامركزية الإدارية ببلادنا من جهة ثانية. وبخصوص حديثنا عن الجهوية المتقدمة وعلاقتها بالقانون 47.06، فهذا الأخير لا يمكن له أن يستجيب لشروط وظروف هذا الصرح الجديد، وذلك راجع للعديد من الإكراهات، من بينها عدم ملائمة القوانين التي تم سنها سنة 2008 بمناسبة تطبيق القانون 47.06 لجهوية متقدمة يفوته بعدة سنوات. وأيضا رغم الإيجابيات التي جاء بها القانون الجديد للجبايات المحلية فإنه يعج بالعديد من السلبيات التي تشكل حجر عثرة أمام تحقيق الاستقلال المالي للجماعات الترابية، في اتجاه مواكبته لمناهج توسيع الجهوية، وتعميق الديمقراطية المحلية.

لذلك ومن وجهة نظرنا، يجب أن يتم إصلاح القانون الجديد للجبايات المحلية من خلال إعطاء الأولوية للتوجهات الجديدة التي حملها دستور فاتح يوليوز 2011 في مجال التنظيم الترابي وحكامة المرافق العمومية، من أجل إنجاح الجهوية المتقدمة. فمتى سيتم توسيع ملامح الجهوية المتقدمة واستخراج استراتيجياتها ومبادئها من سطور الدستور وبسطها على أرض الواقع، الأمر الذي عرت عنه جائحة كورونا؟ ومتى سيتم إصلاح القوانين المصاحبة لتتبع وتوازي وتلائم الجهوية المتقدمة ؟.

[1] – مقتطف من خطاب الملك الراحل الحسن الثاني لأشغال المناظرة الوطنية الخامسة للجماعات المحلية، وذلك برحاب القصر الملكي العامر بالرباط، بتاريخ 21 أبريل 1992.

[2]  –  يعتبر الدستور أسمى قانون في البلاد، وتحدد هذه الوثيقة شكل العلاقات بين مختلف السلطات، ومنه تستمد الدولة شرعيتها، ومنه تستمد مختلف القوانين والأنظمة، ومنها الضمانات القانونية التي يخولها للوحدات الترابية اللامركزية من حيث إنشاءها، وتشكيل مجالسها واختصاصاتها.

أنظر في هذا الصدد: محمد دريب، الجهوية بالمغرب، محاولة في التأصيل، سلسلة اللامركزية والإدارة المحلية، طوب بريس الرباط، الطبعة الأولى، فبراير 2010 ، ص 35.

[3] – ينص الفصل الأول من الباب الأول لدستور المملكة المغربية لسنة 2011 على ما يلي:”التنظيم الترابي للملكة تنظيم لا مركزي، يقوم على الجهوية المتقدمة”.

[4] عرض وزير الداخلية حول مشروع قانون الجبايات المحلية امام لجنة الداخلية وللامركزية و البنيات الأساسية بمجلس النواب، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية،سلسلة نصوص قانونية-العدد184،2008 ص26.

[5] – خطاب الملك  محمد السادس أمام رؤساء غرف التجارة والصناعة ورؤساء المكاتب الوطنية وعدد من الفاعلين الاقتصاديين، الاثنين 25 شتنبر 2000 بالجرف الأصفر.

[6] – سعيد جفري، هشام مليح، التشريع الجديد للجبايات المحلية بالمغرب، مطبعة طوب بريس، الرباط، الطبعة الأولى، 2010، ص 18.

[7] – سعيد جفري، هشام مليح، عبد الإله منظم، جبايات الجماعات المحلية بالمغرب على ضوء القانون 47.06، مطبعة طوب بريس، الرباط، الطبعة الأولى نونبر 2008، ص 49.

[8] – المصطفى المصبحي، التدبير الجبائي المحلي على ضوء القانون رقم 47.06، المستجدات والرهانات”، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون العام، جامعة الحسن الأول، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية سطات، السنة الجامعية 2007-2008، ص 110.

[9] – سعيد جفري، هشام مليح، عبد الإله منظم، جبايات الجماعات المحلية بالمغرب على ضوء القانون 47.06، مطبعة طوب بريس الرباط، الطبعة الأولى نونبر 2008، ص ص 51-52.

[10]  الدورية الصادرة عن وزارة الداخلية ،عدد 144، بتاريخ 27 دجنبر 2007، ص 7.

[11]– تنص هذه المادة على أنه : ” -Iيتعين على الملزمين إيداع تصريح بتأسيس المؤسسة يعد وفق مطبوع نموذجي للإدارة وذلك لدى مصلحة الوعاء التابعة للجماعة التي يزاول النشاط في دائرة نفوذها داخل أجل أقصاه ثلاثون (30) يوما الموالية لتاريخ الشروع في مزاولة النشاط المذكور.

-IIيجب على الملزمين الخاضعين للرسم أن يودعوا لدى مصلحة الوعاء التابعة للجماعة إقرار بالمداخيل المحققة خلال السنة المنصرمة دون احتساب الضريبة على القيمة المضافة وذلك قبل فاتح أبريل من كل سنة. ويؤدى مبلغ الرسم تلقائيا كل ربع سنة قبل انصرام الشهر الموالي لربع السنة لدى صندوق وكيل المداخيل الجماعي على المداخيل المحققة خلال هذه الفترة دون احتساب الضريبة على القيمة المضافة وذلك بناء على بيان للأداء يعد وفق مطبوع نموذجي للإدارة.

[12]– تنص هذه المادة على أنه :”يتعين على الملزمين الخاضعين للرسم أن يودعوا لدى مصلحة الوعاء التابعة للجماعة تصريحا بالتأسيس عند الشروع في مزاولة النشاط وإقرارا بتوقيف النشاط في حالة تفويت العربة أو تغيير طبيعة النشاط أو تغيير الشكل القانوني للمؤسسة وفق مطبوع نموذجي تعد الإدارة.

[13]  – عبد الحق عقلة، القانون الإداري، الجزء الأول، مطبعة دار القلم، الرباط، طبعة 2002، ص227.

[14]  – رشيد السعيد، مدى مساهمة اللامركزية واللاتمركز الإداري في دعم الجهوية، أطروحة لنيل الدكتوراه في الحقوق، جامعة محمد الخامس، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، الرباط أكدال، 2001-2002، ص:48.

[15]  – محمد بالمحجوبي: التحدي الجهوي بالمغرب، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة مواضيع الساعة، عدد16، 1998، ص:109.

[16] – خالد الشرقاوي السموني، البعد السياسي للجهة، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عدد 16، سلسلة مواضيع الساعة، 1998، ص 11.

[17]  – أحمد أجعون، الإطار القانوني والتنظيمي للجهوية بالمغرب، المجلة المغربية للأنظمة القانونية والسياسية، فبراير 2005، ص 22.

[18] – بوجمعة بوعزاوي، التنظيم الإداري، مطبعة دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 2013، ص 153.

[19] كريم لحرش، الدستور الجديد للمملكة شرح وتحليل، سلسلة العمل التشريعي والاجتهاد القضائي، العدد 3، مطبعة النجاح الجديدة، الدارالبيضاء، 2012، ص، 16.

[20] كريم لحرش، نفس المرجع، ص، 84.

[21] – بوجمعة بوعزاوي، التنظيم الإداري، مرجع سابق، ص 157.

[22] – رشيد لبكر: التطور الدستوري للجهة بالمغرب، مجلة مسالك، عدد مزدوج 19- 20، 2012، ص 155.

[23] – El Yaagoubi Mohamed, LA notion de régionalisation avancée dans les discours royaux, Remald, série thème actuel, numéro spécial 71, 2011, p :25.

[24] – علي بولربح، الجهوية والتنظيم الترابي نحو جهوية متقدمة بالمغرب، مطبعة طوبريس، طنجة، 2012، ص:119

[25]  – رشيد لبكر، التقطيع الترابي لن ينجح بدون انخراط للمنتخبين والقوى المحلية، مقال منشور بالموقع الإلكتروني التالي لجريدة الوطن الآن:

http://alwatan-press.info

[26] – تقرير اللجنة الاستشارية حول الجهوية المتقدمة، يمكن تحميله من الرابط الإلكتروني التالي:

http://www.regionalisationavancee.ma/

[27] – El Yaagoubi Mohamed, Op Cit, p :27.

[28] – مصطفى معمر، إكراهات النظام المالي للجهة بالمغرب، المجلة المغربية للأنظمة القانونية والسياسية، عدد خاص، يونيو 2005، ص 174.

[29] – سعيد العيدي، اللامركزية الإدارية ورهان التنمية الجهوية بالمغرب- جهة الشاوية ورديغة نموذجا، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون العام، جامعة الحسن الأول، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بسطات، السنة الجامعية 2008/2009، ص 37.

[30] – سعيد جفري، وآخرون، جبايات الجماعات المحلية بالمغرب على ضوء القانون رقم 06/47 ، مرجع سابق، ص: 91.

[31] – كريم لحرش، تدبير مالية الجماعات المحلية بالمغرب على ضوء القانون 08-45، مرجع سابق، ص:38.

[32] – عبد المجيد أسعد، مالية الجهة بالمغرب، المجلة المغربية لقانون واقتصاد التنمية، العدد 45 ، 2001، ص: 68 .

[33] – محمد بوجنون، السياسة الجهوية بالمغرب بين إكراهات الواقع ومتطلبات التنمية المحلية، سلسلة اللامركزية والإدارة المحلية (الجهوية الموسعة بالمغرب أي نموذج مغربي على ضوء التجارب المقارنة؟) طوب بريس الرباط، الطبعة الأولى فبراير 2010، ص: 66 .

[34] محمد ولزيكي، الجهة أمام تحديات التنمية الاقتصادية والاجتماعية- جهة فاس بولمان نموذجا، رسالة دبلوم السلك العالي في التدبير الإداري، المدرسة الوطنية للإدارة، السنة الجامعية 2003/2004، ص 2013.

[35] – هشام مليح، في الحاجة إلى إصلاح قانون الجبايات المحلية، مجلة مسلك العلوم والتقنيات الضريبية، العدد الثالث- ماي- 2012، مطبعة الجهاد، سطات، ص 27.

[36] Abdellatif Ouerdighi, Mémoire de fin d’étude pour l’obtention du diplôme du cycle supérieur en gestion administrative, école nationale d’administration, 2003-2005, P: 87.

[37] هشام مليح، في الحاجة إلى إصلاح قانون الجبايات المحلية، مرجع سابق، ص: 25.

إقرأ أيضاً

التأطير الدستوري لمقتضيات  الوظيفة العمومية على ضوء دستور 2011

التأطير الدستوري لمقتضيات  الوظيفة العمومية على ضوء دستور 2011 الوعبان لرباس  باحث في سلك الدكتوراه …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *