التقائية السياسات العمومية الترابية وميثاق للاتمركز الإداري
عدي البشير
باحث في القانون العام والعلوم السياسية بجامعة ابن زهر أكادير.
تعبر الالتقائية عن مستوى من التنسيق والتقارب بين مختلف التدخلات العمومية في مجال قطاعي أو ترابي معين، أي ألا يحدث تناقض وتوتر بينها وتتكامل فيما بينها، إذ تتعدد أبعاد الالتقائية من بعد معرفي يركز على كيفية صياغة المشكلات العمومية[1] ثم بعد معياري يتعلق بكل ما هو قانوني وبعد مؤسساتي ثم بعد إجرائي. لتكون الالتقائية ذات بعد إدراكي كتصور عام وشامل متكامل للمشاكل العمومية وهنا يلعب الخبراء دورا في تحقيق هذا التصور ثم التقائية وظيفية بمواجهة نفس المشاكل لكن بتدخلات متعددة حسب كل قطاع حكومي ببرنامج عمومي محدد لتتحقق الالتقائية في السياسات العمومية[2]. فالالتقائية تسعى الى التكامل بين المشاريع والبرامج ومختلف السياسات من خلال تناسقها والاستعمال المشترك لوسائل إنجازها في إطار مندمج بتجويد التدخلات العمومية، ثم التكامل وتناسق الاستراتيجيات القطاعية من اجل ترشيد جيد لاستغلال الموارد واستغلال أمثل للمالية العمومية والزمن والطاقة.
فقد ظهرت الالتقائية مع ظهور أنماط جديد في مقاربة التنمية على المستوى الوطني وتراجع أدوار الدولة في ظل تنامي دور الجهوي والمحلي واللجوء الى البحث عن شركاء في رسم السياسات العامة والعمومية والقطاعية. ونتيجة أزمات التدبير التقليدية، حيث ولد في ظل التدبير المقاولاتي مند الثمانينات، حيث ثم استعماله لانتقاد السياسات العامة المنتهجة من طرف الحكومات من فبل البنك الدولي؛ كسياسية التقويم الهيكلي، ومؤشرات النمو ونهج سياسة التقشف وغيرها … فالإلتقائية في البرامج المحددة على المستوى الوطني؛ بين الجهة والإقليم والجماعة الترابية، تميل إلى الإنجاز دون تناقض أو تكرار أو الاستعمال المزدوج. بعد تحديد ومعرفة المتاح من الموارد، نلجأ إلى رسم فكرة للسياسات والخيارات والبدائل. وهي عملية مفاضلة بين مجموعة من المتطلبات التنموية تتفاوت حسب أهميتها في الزمان والمكان. وهنا أيضا نلجأ لطرح عدة أسئلة منهجية في تحديد الإنفاق والتمويل وإعداد البرامج والخطط والاستراتيجيات[3].
فالالتقائية تحيل إلى نوع من التسويات أو التراضي أو التنازلات من هذه الجهة أو تلك من اجل تفادي التنازع بين مختلف القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل داخل الفضاء العمومي عبر مختلف التدخلات لحل المشكلات العمومية أو لتغيير الوضعيات الغير مرغوب فيها، فلكل فاعل عمومي أجندة وأهداف على مستوى قطاعي أو جهوي محددة، تتقاطع مع أهداف فاعل ترابي أخر لتتحقق الالتقائية عبر جدلية الاعتماد المتبادل.
جاء سياق النقاش حول الالتقائية في ظل تزايد وتشابك المصالح الاقتصادية والسياسية والاجتماعية مع بداية السبعينيات إلى نهاية ارتباط السياسات العامة بالسلطة المركزية بشكل مطلق، فأزمة دولة الرعاية L’État providence مهدت لنهج انفتاح اضطراري انبثقت من خلاله أنماط جديدة للتدبير العمومي باشتراك فاعلين جدد في صياغة السياسات العامة. وفي هذا السياق تم التسريع من وتيرة خوصصة المنشآت العمومية وإشراك القطاع الخاص كقوة تنظيمية وضبطية قادرة على تدبير المرافق المخوصصة بشكل عقلاني إلا أن استحضار البعد الترابي أمام هذه المتغيرات كان القاسم المشترك لمختلف الدول المعاصرة، حيث فسح المجال أمام المبادرات المحلية كشريك أساسي للدولة بعدما عرفت هذه الأخيرة إكراهات مالية متزايدة انعكست سلبا على قدرتها التوزيعية من جهة، وبعدما برهنت سياسة مركزة القرار الاقتصادي والتطويري عن عدم فعاليتها من جهة أخرى.
والمغرب لا يكاد يخرج عن هذه القاعدة منذ تبنيه الميثاق الجماعي الصادر في 30 شتنبر 1976 كاستجابة لضرورة تأسيس الأرضية المناسبة لتنمية متوازنة ومستدامة تتم عبر إعادة هيكلة السياسات العامة، واستمر تعزيز ذلك باستبدال المحلي بالترابي في دستور 2011، ومع القوانين التنظيمية الجديدة.
وتتعقد الالتقائية عند الحديث عن السياسات العمومية الترابية حيث يلتقي في تدبيرها المعين و المنتخب، والقطاع الخاص والفاعل المدني و المواطن[4]، ليصعد دور الترابي في تدبير النشاط العمومي ليمكننا القول بأن السياسات العامة الترابية هي “سياسة إقليم تدار بتحريك وتحت مسؤولية جماعة محلية أو إقليمية أو بمجموعة منها تلتقي بشكل تعاقدي”.[5] فتبعا لهذا ظلت السياسة الترابية تعاني من مفارقة، اقترنت أولا بالرهانات التي عكستها خطابات الفاعلين السياسيين والداعية إلى تطعيم الترابي بإمكانية اتخاذ القرار، ثم اقترنت ثانيا بواقع الممارسة والمجسد لسياسة ضبط المجال[6].
فالسياسات العامة الترابية ارتبط ظهورها وتطورها بإعادة اكتشاف الترابي والوعي بمحدودية المقترب القطاعي في معالجة المشاكل الاجتماعية وبناء المشاريع التنموية. إذ أعتبر تبني اللامركزية في فرنسا بمثابة إعادة توازن إرادي بين الدولة والمصلحة الوطنية على المستوى الأفقي ولفائدة إعطاء المبادرة للترابي. إن مفهوم السياسات العامة الترابية يطرح بشكل أولي سؤال العلاقة بين الهامش والمركزي والسؤال حول هذه العلاقة يطرح مسألة مفهوم الترابي ذاته الذي هو فضاء لتنفيذ السياسات العامة، لذلك نقصد في هاته الورقة بها مجموع البرامج والسياسات والمشاريع العمومية التي يقوم بها مجموعة من المتدخلين من جماعات ترابية وإدارات ترابية فوق تراب معين أو تستهدف فئة اجتماعية فوق تراب معين، تهدف الى خلق تنمية ترابية[7].
لتكتمل هندسة الفعل العمومي بصدور الميثاق اللاتمركز الإداري، كإطار محدد لعمل الدولة في المجال الترابي، يروم تحقيق فعالية ونجاعة السياسات العمومية الترابية، بين مختلف المتدخلين من سلطة المراقبة وسلطة منتخبة ثم ممثلي المصالح الخارجية لمختلف القطاعات الحكومية.
إذ ميثاق اللاتمركز الإداري وسيلة للتنظيم الإداري ومن صور المركزية الإدارية يسعى الى تخفيف العبء عن المركز بتخويل ممثلين عنه تفويض يهم الاختصاص والتوقيع ظهر مع الحماية من خلال استحداث نظام الناحية أو الجهة بمقتضى منشور المقيم العام ل 4 غشت 1993، ليظهر أول إطار قانوني في زمن الاستقلال بتاريخ 2 أكتوبر 1993، ليتبعه مرسوم 2 دجنبر 2005 المتعلق بتحديد قواعد وتنظيم القطاعات الوزارية.
ويرتبط ميثاق اللاتمركز الإداري بالتقائية السياسات العمومية الترابية باعتباره المحدد المهم لمختلف المصالح المنفذة للسياسات العمومية على المستوى الترابي، تماشيا مع التراب الذي اصبح براديغما جديدا للتنمية بفعل التحولات الاقتصادية والاجتماعية و السياسية التي عرفتها المجتمعات والسلطة في المعمور، فالتراب[8] اصبح بديل جيد لخلق دينامية تنموية جديدة وبراديغم جديد للاندماج التحت جهوي ولتعبئة الطاقات، أن ميثاق اللاتمركز الإداري يضمن تحقيق ترابية السياسات العمومية التي تعد مقاربة جديدة تضمن تنمية متوازنة لمجموع الفضاءات الجغرافية المكونة للدولة كل تراب حسب خصوصياته واحتياجاته الخاصة به[9].
لذلك تروم الورقة البحثية البحث في إشكالية ما مدى مساهمة ميثاق اللاتمركز الإداري في التقائية السياسات العمومية الترابية؟ إذ تفترض الدراسة أن ميثاق اللاتمركز الإداري ساهم ضمن سيرورة بدأت تبحث في فعالية و نجاعة السياسات العمومية على المستوى المركزي، ومن اجل تفادي عدم الانسجام و عدم الاندماجية للسياسات العمومية تم الانتقال في التدبير العمومي من التدبير بالوسائل الى التدبير بالنتائج ثم اصبح تقييم السياسات العمومية ممارسة لدى الفاعلين، ليتم تنزيلها على المستوى الترابي عبر ملائمة القوانين التنظيمية الجديدة للجماعات الترابية مع مقتضيات دستور 2011، بفرض الانسجام بين مختلف برامج عمل الجماعات بان تخضع الأدنى للأعلى منها مستوى في انسجام تام بين مختلف السياسات العمومية الترابية التي تريد إنجازها على تراب الجماعة. وسيتم الاعتماد على المقاربة الوظيفية لتحقق من هاته الفرضية،
وللتطرق لهذا الموضوع نقترح الخطوط العريضة لها التي هي:
أولا: مشكلة عدم التقائية السياسات العمومية في المغرب.
ثانيا: دور ميثاق اللاتمركز الإداري في التقائية السياسات العمومية الترابية بالمغرب.
أولا: مشكلة عدم التقائية السياسات العمومية في المغرب.
أمام تعقد الفعل العمومي الترابي بعامل تعدد المتدخلين من جماعات ترابية والدولة عبر ممثليها على المستوى الترابي، وقطاع خاص ومجتمع مدني، هذا التعدد ناتج عن التراجع التدريجي لتدخل الدولة واعتبارا لشمولية وتكاملية التنمية الترابية التي ترتبط بجوانب اقتصادية واجتماعية وبيئية وثقافية للمجتمع، لتصبح عملية مركبة ومعقدة يصعب الفصل بين مكوناتها المتفاعلة التي دائما تعمل على تحسين مستوى عيش المجتمعات داخل قطاع ترابي معين[10]. تنمية ترابية قاعدية من الأسفل نحو الأعلى تعتمد مقاربة أفقية للتنمية من خلال تنسيق وتعبئة الموارد والطاقات تعتبر التراب حيز جغرافي يحمل ثروة ويعيش فيه الإنسان حامل لمجموعة من القيم.
ويعد الخطاب الملكي ل 18 ماي 2005 الأساس والمرجع لظهور مفهوم الالتقائية في المغرب ليأتي ملتقى الحكومي المنعقد ببني ملال بتاريخ 20 غشت 2006 الذي روج لهذا المفهوم بمختلف مراكز القرار على المستويين الترابي والوطني.
لينتشر النقاش حول التقائية السياسات العمومية في المغرب من طرف الفاعلين السياسيين ويكثر بشكل كبير، حتى أصبحت العديد من تقارير المؤسسات الدستورية توصى بضرورة الالتقائية من اجل فعالية ونجاعة أكبر لمختلف السياسات العمومية[11].
لم تأتي الالتقائية كمنهجية في تدبير الشأن العام مع ميثاق للاتمركز الجديد بل هو فقط محطة من ضمن مجموعة من المحطات إصلاح التدبير العمومي، بدأت مع الانتقال من التدبير بالوسائل الى التدبير بالنتائج ثم إصلاح القانون المتعلق بالمالية العامة 13-130، ثم برامج عمل الجماعة ومخططات التنمية للجهة كأحد اليات تدخل الجماعات الترابية بعد دستور 2011، ليكمل هاته المنظومة ميثاق اللاتمركز الجديد الذي يمثل خارطة الطريق لتدخل المصالح الخارجية لمجموع الوزارات بالتراب.
فالتدبير المبني على النتائج نمط للتدبير يعتمد على نتائج قابلة للقياس، عوض الوسائل، يستهدف فعالية ونجاعة أفضل بخصوص الإنتاجية مع الحفاظ على جودة الخدمة. ويقوم على المسائلة التي تتضمن من جهة حرية التصرف في سياق الشفافية والعمل الجماعي، ومن جهة أخرى تقديم الحساب المبني على النتائج المنجزة حسب الموارد المتوفرة.
ولأنه لا يمكن أن تكون سياسات عمومية بدون نفقة عمومية اتجه القانون التنظيمي 13 /130 المتعلق بقانون المالية الى اعتماد المقاربة جديدة لتدبير الميزانية القائمة على النتائج تحقيقا للانسجام والالتقائية عبر اليتين هما: أولا شمولية الاعتمادات وتقييم النتائج والتي ترمي الى منح المسؤولين على تدبير الاعتمادات هامشا من الحرية أوسع في استعمال الوسائل والاعتمادات الموضوعة تحت تصرفهم مقابل التزامهم بإنجاز أهداف متفق عليها مسبقا[12].
وثانيا التعاقد بين الإدارة المركزية ومصالحها اللاممركزة تعميقا لعملية اللاتمركز الإداري، هاته العلاقة التعاقدية ستدخل علاقة تدبيرية جديدة قائمة على حسن الأداء واللاتمركز وتوسيع مجال تدخل المدبرين العموميين وتعزيز الانسجام في البرامج العمومية[13].
وتتسع الالتقائية الى الجماعات الترابية حيث تم تحديد اختصاصات كل مستوى من مستويات الجماعات الترابية، فالجماعات تقوم بتقديم خدمات القرب للمواطنات والمواطنين[14]، وتناط بالعمالة أو الإقليم داخل دائرتها الترابية مهام النهوض بالتنمية الاجتماعية[15]، أما الجهة فتناط بها داخل دائرتها الترابية مهام النهوض بالتنمية المندمجة والمستدامة[16].
وتعد برامج التنمية الترابية اهم الية للسياسات العمومية الترابية فهي المخططات بعينها أي تلك الوثائق المرجعية لمختلف البرامج والمشاريع المزمع تنفيذها فوق تراب الجماعة الترابية، فقد حددت مراسيم كيفية إعداده، حيث تبدا بالتشخيص وتحديد الحاجيات والإمكانيات وأولويات ليتم جرد المشاريع المبرمجة والمتوقعة، بترتيب الأولويات التنموية عبر تقييم السياسات العمومية و وضع مصفوفة المشاريع الجهوية والإقليمية و المشاريع والأنشطة ذات الأولوية، وتقييم الموارد والنفقات أي التحليل المالي العاملي للموارد والنفقات مسارات تمويل المشاريع ليتم أخيرا إعداد وثيقة مشروع بتحديد المشاريع المبرمجة ثم الإجراءات والتدابير و التقدير المالي و التزامات الشركاء ثم أساليب التنفيذ و آجال الإنجاز وأخيرا وضع منظومة تتبع المشاريع والبرامج عبر بناء مؤشرات الفعالية والنجاعة التقرير السنوي للتقييم وسيناريوهات التحيين، دليل المصاحبة والتقويم[17].
ويلاحظ في الهندسة الجديدة انه تم إطلاق اسم البرامج على مختلف المخططات الترابية، وهذا ليس صدفة إذ هو تحول من مخططات التنمية الجماعية أي تحول من نمط التدبير المبني على الوسائل الى نمط التدبير المبني على النتائج.
فلقد جاء استجابة إلى الحاجيات المعبر عنها من طرف الساكنة، وتحسين أداء البلدان والمؤسسات الدولية، وإرساء سياسات وبرامج قابلة للقياس من أجل المواطنين والالتزام بالامتياز، والتركيز على النتائج مع الحرص على ترابط منطقي أكبر من أجل فعالية أحسن، انه انتقال من إدارة مرتكزة على تسييرها الذاتي إلى إدارة مرتكزة على المهمة، ومساطر إلى إدارة مسؤولة مبنية على الخلق والإبداع، نفقات إلى إدارة نتائج. عمودية – مصلحة لخدمة ذاتية – إلى إدارة أفقية – مصلحة لخدمة الآخرين.
وبالموازاة مع وضع هاته البرامج عليها أن تطرح أمامها مختلف السياسات القطاعية المقرر إنجازها فوق تراب الجماعة ثم الالتقائية مع مختلف برامج التنمية للجماعات الترابية الأخرى سواء في مستوى أدني أو اعلى[18].
ليعد الميثاق محطة مهمة في سبيل تعزيز التقائية السياسات العمومية الترابية، حيث سيؤثر على تنظيم و مهام المصالح المركزية، بإعادة هيكلة البنى الإدارية للدولة و إعادة توزيع سلطة القرار بين المركز و المحيط، حيث أجاب عن عدة إشكالات في العلاقة بين الجماعات الترابية و المصالح الخارجية، و أهدافه من قبيل التنصيص على آليات الشراكة و التعاون و تقديم كل أشكال الدعم للجماعات الترابية في تحقيق برامجها، في علاقة بقوانينها التنظيمية، عبر إرساء أسس شراكة فاعلة مع الجماعات الترابية من خلال إبرام عقود، بناء على تفويض.
لقد تم إدخال الروح الجديدة التي جاء بها دستور 2011 من مبادئ كمبدأ التفريع والتدبير الحر، فوجود عدد من المبادئ الدستورية المساعدة سيشكل معه شحنة لإعمال هذا النص ومبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة؛ فوفقا لقاعدة التفريع يعتبر كل مستوى في الدولة مكمل للمستوى الذي يليه. إذ العناصر المشتركة لقاعدة التفريع يسعى الى:
- تحقيق الفاعلية والنجاعة وأخذ الخصوصيات المحلية في تطبيق المفهوم؛
- أن التفريع يتميز بالشمولية؛ أي ربط الاختصاص بالموارد المالية والمادية.
ليصبح الميثاق مرجعا لمصالح الدولة على المستوى المركزي والخارجي خاصة في مجال الحكامة، وتحقيق الجودة والفعالية في البرامج المزمع تنفيذها.
ثانيا: دور ميثاق اللاتمركز الإداري في التقائية السياسات العمومية الترابية بالمغرب.
حقق ميثاق اللاتمركز الإداري التقائية السياسات العمومية الترابية عبر ثلاث مرتكزات الأولى تمثلت في سلطة الوالي الذي أصبح يلعب دورا محوريا في تنسيق أنشطة المصالح اللاممركزة، والثانية اللجنتين الوطنية والجهوية للتنسيق ثم الثالثة المتمثلة في التمثيليات المشتركة بين المصالح اللاممركزة.
يبدو أن الميثاق يراهن بشكل كبير على ضمان التقائية السياسات العمومية الترابية حيث يظهر هذا من خلال الجهاز المفاهيمي المستعمل إذ استعمل مصطلح التكامل في الوظائف ذكرت خمس مرات ومصطلح تكامل السياسات العمومية ومصطلح تكامل في الاختصاصات ومصطلح تكامل في الأهداف ومصطلح التكامل بين مكونات التمثيليات الجهوية على التوالي في المواد 7 و9 و21. ومصطلح وحدة عمل مصالح الدولة ذكرت أربع مرات في المواد 8 و10 و21 و30، ثم مصطلح التعاضد في الوسائل المادية والبشرية الذي ذكر 3 مرات في المواد 7 و10و21، ومصطلح التنسيق الذي ذكر 10 مرات في المواد 10- و5 و8 و11و23 و24 و27 و30 و33و37.
فالميثاق عزز الوظيفة التنسيقية للوالي والعامل على أن هذه الوظيفة هي أداة مهمة لتحقيق الالتقائية بين القطاعات في جميع المجالات، ركز على دور والي الجهة في تنسيق عمل المصالح اللاممركزة للدولة[19]، إذ الوالي يشارك في جميع الهيئات الاستشارية والتقريرية، ليعد والي الجهة كمشرف و منسق للمصالح الخارجية كما أنه سيعمل على تجديد مسلسل اتخاذ القرار عبر هيكلة جديدة، تسعى إلى ترشيد و استغلال الموارد بشكل مشترك، ليشكل الميثاق فرصة لتجديد طرق عمل الدولة و تعزيز سلطات رؤساء المصالح اللاممركزة و خاصة مسألة التعاقد بين الدولة و الوالي و الحكومة و المصالح اللاممركزة. هذا الدور المحوري لوالي الجهة في التنسيق بين المصالح للاممركزة، من خلال تركيز سلطات واسعة بيده باعتباره الى جانب العمال وسيط ضروري في قيادة العمل على المستوى الجهوي والإقليمي لأنه يسمح بتكسير العلاقات العمودية، بهدف تحقيق التنمية.
هاته الوظيفة تستهدف تخفيف التوترات على مستوى المصالح الخارجية، وتوحيد الجهود بين العديد من الأجهزة التي تستهدف غاية وحيدة ومحددة، ويراد به تجميع الجهود المتناثرة لضمان أقصى مردود لتحقيق التنمية. هذا الدور المحوري في الميثاق هو ملائمة وتطابق مع ما جاء به دستور 2011.
الى جانب الوالي هناك لجنة جهوية للتنسيق التي تظل معظم مهامها استشارية، فهي بمثابة هيئة استشارية؛ الى جانب الوالي بالإضافة إلى المجلس الجهوي كوسيلة هيكلية يمكن الاعتماد عليه لمساعدة الوالي في الاضطلاع بمهامه، علاوة على اللجان الاستشارية المتطلعة بعدة مهام موضوعاتية.
وتعتبر اللجنة الجهوية للتنسيق بمثابة هيئة أركان أو حكومة مصغرة على مستوى الجهة للتتبع وتفعيل البرامج، كم أنه يسمح بتقييم فعالية ومردودية المصالح الخارجية وتقوية قدرات الموظفين عبر التكوين والتكوين المستمر، وإجراء مباريات مشتركة، كما أن الميثاق عمل على توضيح العلاقات بين مصالح الدولة الخارجية والجماعات الترابية. كما أن الميثاق أحدث كتابة عامة في الشؤون الجهوية[20].
بالإضافة الى اللجنة الجهوية للتنسيق خلق الميثاق التمثيليات الإدارية المشتركة بين المصالح اللاممركزة هاته التمثيليات تختلق من تمثيليات الإدارية الجهوية، والتمثيليات الإدارية الإقليمية، ثم
التمثيليات الإدارية الجهوية المشتركة، مع إمكانية إحداث تمثيليات مشتركة مؤقتة[21].
وستمكن هاته التمثيليات من ضمان التقائية السياسات العمومية الترابية وتكاملها عبر:
- الحد من ظاهر تضخم الهياكل الإدارية؛
- تحقيق وحدة عمل مصالح الدولة على المستوى الجهوي والإقليمي؛
- تحقيق التعاضد في الوسائل البشرية والمالية
- تعزيز وتسهيل الوظيفة التنسيقية للولاة والعمال؛
- مواكبة تنزيل الجهوية؛
رغم هاته الآليات التي جاء بها ميثاق اللاتمركز الجديد لتعزيز التقائية السياسات العمومية الترابية إلا أن له مجموعة من الحدود منها محدودية السلطات المخولة للوالي والعامل، بغياب الآليات الضرورية لتتبع جميع أنشطة المصالح الخارجية للوزارات، فمثال لا توجد سلطة حقيقية يتم بها تقييم عمل مختلف المصالح، ثم إثقال كاهل مؤسسة الكاتب العام وأيضا عدم مطابقة بعض النصوص للوثيقة الدستورية في إطار تراتبية القوانين ابرزها الظهير المنظم لاختصاصات العمال الذي يجب إعادة النظر فيه ، وإخضاعهم لسلطة رئيس الحكومة على غرار الحكومة المصغرة مع ضرورة توفير الكفاءات وتفعيل مناهج التدبير الحديثة.
و في جوانب النقص التي تعتري الميثاق سجل المتدخل أن هذا الميثاق لا يتعامل مع العمال و الولاة كمصالح لا ممركزة، لأن مقتضيات الميثاق المتعلقة بالمصالح الخارجية لا تسري عليهم، و الميثاق يخصص مقتضيات خاصة بعلاقتهم بالمصالح الخارجية و كأن الولاة و العمال جهات أجنبية عن هذه المصالح و لا وجود لمقتضيات تربطهم برئيس الحكومة في مقابل المقتضيات التي تنص على علاقتهم بوزير الداخلية، كذلك يعتبر الميثاق كذلك لا يهتم بتنظيم إدارة الولايات و العمالات و الأقاليم التي لازالت خاضعة لقرار وزير الداخلية، كما انه لا يحدد علاقة الولاة بالعمال ، و لا طبيعة هذه العلاقة هل هي علاقة رئاسية مثلا .
كما أن الميثاق لا يهتم بمسألة تتبع أنشطة الولاة والعمال وتقييمها، مقابل وضعه لقواعد تتبع أنشطة المصالح الخارجية، وفي هذا الصدد اقترح المتدخل تعيين وإحداث لجنة مركزية تحت رئاسة رئيس الحكومة لمساعدتهم وتتبعهم وتقديم العون لهم. أنه لم يكن واعيا بفلسفة اللاتمكز الإداري، حيث دور اللاتمركز هو مساعدة الجماعات الترابية في تحقيق التنمية وانه يؤسس الدور المركزي للوالي على حساب العمال.
أما بخصوص التمثيليات المشتركة فيمكن القول أن:
– المرسوم لم يلزم الوزارات بإحداث تمثيليات مشتركة؛
– الواقع العملي يكشف تباين المصالح اللاممركزة؛
-العمالات والأقاليم المحدثة لازالت لا تتوفر على التمثيليات الأساسية للمصالح الخارجية؛
– غموض تموقع التمثيليات المشتركة في هيكلة الوزارات وعلاقة ممثليها بالوزراء؛
-وضعية موظفي التمثيليات المشتركة واختلاف أنظمتهم؛
-الموارد المالية وكيفية توزيعها بين القطاعات الوزارية؛
وأيضا ما محل المؤسسات العمومية والشركات التي تستحوذ على تدبير مجموعة من السياسات العمومية الترابية من مسالة اللاتمركز الإداري ومدى شمول الميثاق لها؟
[1] – تعبر المشاكل العمومية عن وضعيات غير مرغوب فيها، وتصبح مشاكل عمومية عبر صيرورة الانتقال من مشكل خاص الى مشكل جماعي تم مشكل عمومي عبر عملية التسييس وطرحه للنقاش العمومي في الفضاء العمومي من اجل اتخاذ قرار يسعى الى القضاء عليه، هذا القرار الذي يتخذ بناء على موازين القوى و استراتيجيات الفاعلين ثم عنصر توافق المرجعيات بين السلطة المتخذة القرار و الفئات المتضررة من المشكل.
[2] – Convergence : Patrick Hassenteufel Dans Dictionnaire des politiques publiques (2010), pages 180 à 188.
[3] – Bruno Jobert, Pierre Muller. L’Etat en action : Politique publiques et corporatismes. Presses Universitaires de France,1987,p :143.
[4] – عبد القادر الخاضري : الجماعات الترابية، من التسيير الإداري الى تدبير اقتصاد التنمية مقاربة قانونية سياسية، سلسلة دراسات تنموية 1، تنسيق مصطفى عيشان 2016، ص 51.
[5] – Pierre Muller : « Les politiques publiques », 2009,Collection : Que sais-je ? Presses Universitaires de France, p :47.
[6] – Sabine Planel, « Transformations de l’État et politiques territoriales dans le Maroc contemporain », L’Espace Politique [En ligne], 7 | 2009-1, mis en ligne le 30 juin 2009, consulté le 18 mars 2020. URL :http://journals.openedition.org/espace politique/1234 ; DOI : 10.4000/espacepolitique.1234
[7] – علي الحنودي: الدولة وتدبير السياسات العمومية الترابية، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عدد مزدوج 134 -135 ماي غشت 2017، ص186.
[8] – مفهوم التراب متعدد الدلالات إذ يفيد ذلك الحيز أو الفضاء الجغرافي له أبعاد مختلفة بعد اجتماعي يفيد وجود الافراد يحملون قيما فوقه يغيرون من بنية ذلك الحيز الجغرافي تأسيسا على تلك الثروات التي يحوزها ثم بعد سياسي مرتبط بسيادة الدولة التي تقوم بتقسيمه ومراقبته.
[9] – Amadou Diop, le territoire un nouveau paradigme de développement et d’intégration sous-régionale, http://www.uqac.ca/leraa/wp-content/uploads/2016/11/Territoire_paradigme.pdf
[10] – نجيب المصمودي: الجماعات الترابية بالمغرب بين مقومات التسويق الترابي ورهان التنمية المحلية المندمجة الطبعة الأولى 2014، مطبعة الخليج العربي تطوان، ص: 20.
[11] – هناك العديد من تقارير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي التي تطرقت الى موضوع الالتقائية منها: راي المجلس حول: تجانس السياسات القطاعية واتفاقية التبادل الحر سنة 2014، ثم تقرير إدماج مقتضيات التغيرات المناخية في السياسات العمومية في سنة 2015، ثم تقرير متطلبات الجهوية الموسعة وتحديات إدماج السياسات القطاعية سنة 2016، وخصص مجلس المستشارين في احدى دورات الملتقى البرلماني للجهات موضوعة للالتقائية السياسات العمومية، سنة 2017.
[12] – المادة 39 والمادة 69 من ظهير شريف رقم 62-15-1 صادر في 14 من شعبان 1436 (2 يونيو 2015) بتنفيذ القانون التنظيمي رقم 13-130 لقانون المالية، جريدة الرسمية عدد رقم 6370 تاريخ 18 يونيو 2015.
[13] – المادة 23 من المرسوم رقم 2.15.426 صادر في 28 من رمضان 1436 (15 يوليو 2015) يتعلق بإعداد وتنفيذ قوانين المالية، الجريدة الرسمية عدد 6378 الصادرة بتاريخ 29 رمضان 1436 (6 يوليو 2015).
[14] – المادة 77 من القانون التنظيمي المتعلق بالجماعات.
[15] – المادة 78 من القانون التنظيمي المتعلق بالعمالات والأقاليم.
[16] – المادة 80 من القانون التنظيمي المتعلق بالجهات.
[17] – المرسوم رقم 301.16.2 صادر في 23 من رمضان 1437(29 يونيو 2016) بتحديد مسطرة إعداد برنامج عمل الجماعة وتتبعه وتحيينه وتقييمه وآليات الحوار والتشاور لإعداده. والمرسوم رقم 299.16.2 صادر في 23 رمضان 1437(29 يونيو 2016) بتحديد مسطرة إعداد برنامج التنمية الجهوية وتتبعه وتحيينه وتقييمه وآليات الحور والتشاور لعداده والمرسوم رقم 300.16.2 صادر في 23 من رمضان 1437(29 يونيو2016) بتحديد مسطرة إعداد برنامج تنمية العمالة أوالإقليم وتتبعه وتحيينه وتقييمه وآليات الحوار والتشاور لإعداده.
[18] – تنص المادة 78 من القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات و المقاطعات على “تضع الجماعة تحت إشراف رئيس مجلسها، برنامج عمل الجماعة، و تعمل على تتبعه و تحيينه و تقييمه. يحدد هذا البرنامج الأعمال التنموية المقرر إنجازها أو المساهمة فيها بتراب الجماعة خلال مدة ست (6) سنوات. يتم إعداد برنامج عمل الجماعة في السنة الأولى من مدة انتداب المجلس على أبعد تقدير بانسجام مع توجهات برنامج التنمية الجهوية و وفق منهج تشاركي و بتنسيق مع عامل العمالة أو الإقليم، أو من ينوب عنه، بصفته مكلفا بتنسيق أنشطة المصالح اللاممركزة للإدارة المركزية. يجب أن يتضمن برنامج عمل الجماعة تشخيصا لحاجيات و إمكانيات الجماعة و تحديدا لأولوياتها و تقييما لمواردها و نفقاتها التقديرية الخاصة بالسنوات الثلاث الأولى و أن يأخذ بعين الاعتبار مقاربة النوع”.
[19] – المادة 5 من مرسوم رقم 2.17.618 صادر في 18 من ربيع الآخر 1440 بمثابة ميثاق وطني للاتمركز إداري الجريدة الرسمية العدد 6738 الصادرة بتاريخ 27 ديسمبر 2018 ص 9788.
[20] – المادة 30 من مرسوم رقم 2.17.618 صادر في 18 من ربيع الآخر 1440 بمثابة ميثاق وطني للاتمركز إداري الجريدة الرسمية العدد 6738 الصادرة بتاريخ 27 ديسمبر 2018 ص 9793.
[21] – المادة 10 من مرسوم رقم 2.17.618 صادر في 18 من ربيع الآخر 1440 بمثابة ميثاق وطني للاتمركز إداري الجريدة الرسمية العدد 6738 الصادرة بتاريخ 27 ديسمبر 2018 ص 9789.