Site icon مجلة المنارة

التعويض عن الضرر المعنوي من طرف القاضي الإداري

التعويض عن الضرر المعنوي من طرف القاضي الإداري

مـصطفى خربوش

طالب باحث في سلك الدكتوراه بجامعة محمد الخامس الرباط

كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بسلا

تختلف الأضرار التي قد تصيب الأفراد والجماعات من جراء أعمال الإدارة و نشاطاتها بين ضرر مادي يمس المتضرر في ذمته المالية، و ضرر معنوي يصيبه في ذمته الأدبية من قبيل المس بحياته أو سلامته الجسدية أو النفسية أو العاطفية إضافة إلى المس بشرفه و كرامته، و لما كان الضرر المعنوي يتميز عن الضرر المادي بطبيعته الغير ملموسة، فإن هذا الأمر يطرح إشكالا أساسيا يتعلق بقابلية هذا الضرر للتعويض من طرف القضاء الإداري، فضلا عن مسألة كيفية تقدير هذا التعويض و القواعد الأساسية لاحتسابه.

ذلك أن القضاء الإداري لا يقبل طلبات التعويض عن الضرر المعنوي إلا بعد أن يتأكد من توفر مجموعة من الشروط الموضوعية، و هي أن يكون الضرر محققا وخاصا و مباشرا و يصيب مصلحة مشروعة و أن يكون قابلا للتقدير النقدي، كما أن التعويض عن هذا الضرر لا يستحقه إلا المتضرر الأصلي و من يرتد إليهم من أهله و ذويه الذين تتوفر في ضررهم الشروط المذكورة أعلاه.

و قد شكل اعتراف القضاء الإداري بقابلية الضرر المعنوي للتعويض في حد ذاته مجالا حقيقيا للخلاف و الجدل، ذلك أن القضاء الإداري الفرنسي لم يبدأ في قبول طلبات التعويض عن الضرر المعنوي الذي لا يكون مقرونا بضرر مادي إلا ابتداء من سنة 1961، حيث كان يرى قبل ذلك بأن “الآلام لا يجوز تقويمها بالمال”، فيما استقر رأي القضاءين الإداريين بمصر و المغرب على الاعتراف بالضرر المعنوي و التعويض عنه منذ نشأتهما بشكل عام.

كما أن الطبيعة الغير مادية للضرر المعنوي تجعل من مسألة تقدير قيمة التعويض عنه في شكل مبلغ مالي مناسب أمراً في غاية التعقيد و الصعوبة، و لذلك فإنه يتعين على القاضي الإداري الذي يملك سلطة تقديرية واسعة في هذا المجال أن يستعين بمجموعة من القواعد و الأسس من قبيل مراعاة ظروف و ملابسات النازلة، ضرورة الحكم بتعويض كامل لجبر الضرر و عدم الاكتفاء بتعويض رمزي، الالتزام بطلبات المضرور، البحث في مدى مسؤولية المضرور نفسه عن إحداث الضرر، فضلا عن الانتباه لإمكانية تفاقم الضرر، و إلى جانب كل هذا، يكتسي الأساس الزمني لهذا التقدير أهمية بالغة و جوهرية، حيث أن قيمة المبلغ المحكوم به قد تختلف كثيرا حسب ما إذا كان القاضي الإداري قد استند إلى قيمة الضرر يوم حدوثه أو قيمته يوم صدور الحكم بالتعويض، علما بأن القاضي الإداري المغربي يذهب نحو الاستناد إلى قيمة الضرر ابتداء من تاريخ صدور الحكم، و هو توجه اعتبرناه محمودا و يستحق التنويه نظرا لاستجابته لمتطلبات الواقعية في التقدير و الفعالية في حماية الحقوق و الحريات.

مـقـــــــــــدمة

أدى تحول الدولة من جهاز حارس إلى فاعل حقيقي في مختلف المجالات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية إلى تشعب علاقاتها بالأفراد و الجماعات، فهؤلاء قد يشكلون موضوعا لأعمالها و نشاطاتها الإدارية التي تباشرها في إطار تسييرها للمرافق العامة التي تنشئها إشباعا للحاجيات العامة التي تتزايد باستمرار.

 و لما كان لهذه الأعمال و النشاطات الإدارية أثر مباشر على حقوق و حريات الأفراد، و كذا على سلامتهم الجسدية و النفسية، بات من الضروري إقرار نظام للمسؤولية الإدارية للأشخاص المعنوية العامة على غرار نظام المسؤولية المعمول به في المجال المدني، و قد شكل قرار “بلانكو” الشهير[1] الذي أصدرته محكمة التنازع الفرنسية بتاريخ 08 فبراير 1873 بداية التكريس القضائي لمبدأ مسؤولية الدولة عن أعمالها و نشاطاتها، و لاختصاص القضاء الإداري بالبث في المنازعات المتعلقة بها، و ذلك استنادا إلى معيار المرفق العام.

و بالرجوع إلى التطور التاريخي لعمل القضاء الإداري في مجال المسؤولية الإدارية، يتبين بأن هذه الأخيرة قد تقوم على أساس الخطأ، بحيث لا يجوز التصريح بمسؤولية الإدارة و بتعويض المتضرر إلا إذا اجتمعت ثلاثة عناصر أساسية، و هي وجود خطأ صادر عن الإدارة، و ثبوت الضرر بالنسبة للمطالب بالتعويض، إضافة إلى وجود علاقة سببية بينهما، كما يمكن أن تقوم هذه المسؤولية كذلك حتى بدون ارتكاب الإدارة لأي خطأ، بحيث يمكن التصريح بقيام المسؤولية الإدارية متى كانت هناك فقط علاقة مباشرة بين نشاط الإدارة و الضرر الحاصل للمطالب بالتعويض، و دون وجود أي خطأ صادر عن الجهة الإدارية، و في هذه الحالة قد يستند القاضي الإداري على فكرة المخاطر أو المساواة أمام الأعباء العامة أو حتى مبدأ التضامن الوطني.

و مما سبق، يتبين بأنه إذا كان عنصر الخطأ قد يحضر و قد يغيب في المنازعات المتعلقة بالمسؤولية الإدارية، فإن عنصر الضرر يبقى هو الدافع الأساسي لمقاضاة الإدارة بسبب نشاطها الإداري، و مطالبتها بأداء تعويض مناسب لفائدة المتضرر، و قد يكون هذا الضرر ماديا يمس المتضرر في أمواله أو ممتلكاته و يؤثر على ذمته المالية، كما قد يكون ضررا معنويا يمسه في نفسه أو كرامته أو عاطفته أو سمعته أو حريته.

و إذا كان الفصل 264 من قانون الالتزامات و العقود المغربي[2] قد أعطى تعريفا للضرر بشكل عام، بأنه “هو ما لحق الدائن من خسارة حقيقية و ما فاته من كسب متى كانا ناتجين مباشرة عن عدم الوفاء بالالتزام”، فإن الضرر المعنوي يفتقد لتعريف تشريعي دقيق، و هو ما يحتم علينا الرجوع إلى ما صدر بشأنه عن القضاء الإداري من أحكام و قرارات لنستشف ماهيته و عناصره الأساسية، و من ذلك يمكن القول بأن الضرر المعنوي هو ذاك الضرر الذي يصيب حقا ثابتا من حقوق الإنسان غير المالية، و الذي يمسه في جسده أو شرفه أو شعوره، و بالتالي فالضرر المعنوي قد يتخذ إحدى الصور الأربعة التالية :

  1. الأضرار الجسدية: تتجسد في إصابة الإنسان بعاهات أو أعطاب أو أمراض بدنية، أو فقدانه لعضو من أعضاء جسده، أو حتى وفاته ؛
  2. الأضرار العاطفية: و تتعلق أساسا بالتسبب في شعور الإنسان بالحزن و الأسى و الألم النفسي، خاصة في حالة فقدانه لشخص عزيز ؛
  3. الأضرار الماسة بشرف الإنسان و سمعته و كرامته: كاتهام شخص ما بارتكاب أفعال مشينة أو غير مشروعة، أو التشهير به و إهانته ؛
  4. الأضرار الماسة بالحريات الفردية و الجماعية: كمنع شخص أو تنظيم معين من ممارسة بعض حقوقه التي يضمنها له القانون و منها حق التنقل مثلا[3].

و كيفما كانت الصورة التي يتخذها الضرر المعنوي، فإنه يبقى من الناحية المبدئية و المنطقية مفسدة كبيرة ينبغي جبرها و التعويض عنها طبقا لقواعد الإنصاف و العدالة و احتراما لمبادئ دولة الحق و القانون. و لا نجد لمفهوم التعويض بدوره أي تعريف تشريعي يحدد معناه، غير أن الفقه أعطى لهذا المفهوم عدة تعريفات، فهناك من عرفه مثلا على أنه “وسيلة القضاء لمحو الضرر، أو تخفيف وطأته إذا لم يكن محوه ممكنا، و الغالب أن يكون مبلغا من المال يُحكم به للمضرور على من أحدث الضرر، و لكنه قد يكون شيئا آخرا غير المال، كالنشر في الصحف أو التنويه بحق المدعي في الحكم”[4] بينما ذهب البعض الآخر إلى أن “التعويض هو وسيلة جبر الضرر الذي لحق المصاب”[5]، و هو نفس الاتجاه الذي سار عليه القضاء الإداري المغربي، حيث صرحت المحكمة الإدارية بالدار البيضاء بأن ” التعويض هو الوسيلة القانونية الوحيدة لجبر الضرر الحاصل للمدعية…”[6].

و نظرا للطبيعة الغير ملموسة للضرر المعنوي، فإن التعويض عنه في إطار المسؤولية الإدارية التي يختص بها القضاء الإداري، يشكل في حد ذاته إشكالية رئيسية تتعلق بقابلية هذا الضرر للتعويض، فضلا عن مسألة تقدير هذا التعويض و قواعده الأساسية.

و سنتناول هذا الموضوع من خلال التطرق للحق في التعويض عن الضرر المعنوي و موقف القضاء منه )المبحث الأول(، ثم الحديث عن أنواع هذا التعويض و قواعد تحديد قيمته )المبحث الثاني(.       

المبحث الأول: الحق في التعويض عن الضرر المعنوي و موقف القضاء الإداري منه

يتسم الضرر المعنوي بطبيعة متميزة، تجعل من الحق في التعويض عنه مسألة معقدة تخضع لمحددات و ضوابط خاصة )المطلب الأول(، وقد كان لهذه الطبيعة الخاصة أثر مهم على موقف القضاء الإداري من أحقية المتضرر معنويا في الحصول على التعويض )المطلب الثاني(.

المطلب الأول: الحق في الحصول على تعويض لجبر الضرر المعنوي الناتج عن أعمال الإدارة

 يجمع الفقه والقضاء الإداريين على أن الضرر المعنوي الذي ينتج عن نشاط الإدارة لا يكون موجبا لأي تعويض إلا إذا توفرت فيه مجموعة من الشروط التي تمنحه السند القانوني لكي يشكل ركنا أساسيا من أركان المسؤولية الإدارية، وتتمثل هذه الشروط أساسا في أن يكون هذا الضرر خاصا و مباشرا و محققا و يخل بمصلحة يحميها القانون، فضلا عن كونه قابلا للتعويض النقدي، و هي شروط دائما ما يؤكد القاضي الإداري على ضرورة توفرها في الضرر المعنوي حتى يعتبره ضررا قابلا للتعويض القضائي، و ذلك على النحو الذي نجده في حكم المحكمة الإدارية بالدار البيضاء في قضية السيد محمد العلمي ضد الجماعة الحضرية لبني ملال[7]، و الذي جاء بأنه “و حيث إنه من المجمع عليه فقها و قضاء أن الضرر كركن لانعقاد المسؤولية الإدارية، إما أن يكون ماديا متمثلا في الإخلال بمصلحة ذات قيمة مالية، و إما أن يكون أدبيا يصيب المضرور في شعوره أو كرامته أو شرفه، و أنه ينبغي أن تتوفر فيه شروط لنشوء التزام في ذمة المسؤول عنه، و هي أن يكون مباشرا بمعنى أن يكون تحققه بمثابة نتيجة طبيعية لسلوك الإدارة الخاطئ، و أن يكون محققا أي وقع بالفعل أو كان وشيك الوقوع بصورة مؤكدة، و على العكس من ذلك، فإن الضرر الاحتمالي لا يجوز التعويض عنه ما دام لم يقع بالفعل، هذا فضلا على أنه ينبغي أن يصيب مصلحة مشروعة للمضرور يحميها القانون و أن يكون خاصا و قابلا للتقدير النقدي، لأن التعويض في القانون الإداري لا يكون إلا نقدا”.

  1. أن يكون الضرر محققا و ثابتا:

لا يشكل الضرر المعنوي سببا لقيام المسؤولية الإدارية الموجبة للتعويض إلا إذا كان ضررا مؤكد الوقوع، و لا يكون كذلك إلا إذا كان قد حدث بالفعل أو أنه سيحدث مستقبلا بشكل مؤكد و لاشك فيه، و في كلتا الحالتين يمكن اعتباره ضررا محققا يجب جبره بالتعويض المناسب، على عكس الضرر المحتمل الذي قد يقع أو لا يقع، و هو ضرر لا يمكن التعويض عنه مادام أنه مفترض فقط و ليس مؤكدا و لا حتميا، و هي قاعدة دأب القضاء الإداري على التأكيد عليها في العديد من أحكامه و قراراته، و منها حكم المحكمة الإدارية بالرباط في قضية السيدة إكرام النادي و من معها ضد المكتب الوطني للكهرباء و الماء الصالح للشرب[8] الذي جاء فيه بأنه “وحيث إن الثابت قانونا وقضاء أن التعويض عن الأضرار ينبغي أن يشمل الضرر المحقق والحال ولا يمكن أن يمتد إلى ضرر غير محقق أو محتمل أو غير مباشر”.

و على خلاف الضرر المعنوي المحتمل الذي لا يكون سببا للحكم بالتعويض من طرف القاضي الإداري، نجد أن هذا الأخير يعتبر الضرر المتمثل في فوات الفرصة التي كانت ستحقق للمتقاضي كسبا أو فائدة مؤكدة -يعتبره- ضررا محققا يستوجب الحكم بالتعويض عنه، و هو ما نجده في أحكام و قرارات قضائية عديدة، من أشهرها حكم مجلس الدولة الفرنسي في قضية PONCIN[9] بتاريخ 12 نونبر 1965، حيث قضى المجلس بتعويض طبيب تم اقصاؤه من المشاركة في مباراة توظيف، و اعتبر أن قرار الاقصاء الغير مشروع حتى إن تم إلغاؤه من طرف القضاء، فإنه قد فوت على المعني بالأمر فرصة حقيقية للنجاح، و بذلك فهو يشكل ضررا مؤكدا لحق بمسار و سمعة المدعي.

و قد سار القضاء الإداري المغربي بدوره في هذا التوجه من خلال أحكامه و قراراته، و من ذلك حكم المحكمة الإدارية بمراكش الذي جاء فيه بأنه “و حيث أن إلغاء قرار إقصاء الطاعن من الكلية متعددة التخصصات بآسفي لاتسامه بعيب انعدام التعليل الذي يصنف ضمن عيوب الموضوعية يجعله محقا في الحصول على تعويض عن الأضرار التي لحقته جراء تنفيذ القرار الإداري المتسم بالتجاوز في استعمال السلطة، و المتمثلة في ما فاته من فرص محققة خلال مدة إقصائه”[10]

وقد يتساءل سائل عن مناط التعويض عن فوات الفرصة، مادام أن هذه الأخيرة تبقى في حد ذاتها مجرد أمر محتمل. غير أن الجواب على هذا التساؤل يكمن في كون التعويض عن فوات الفرصة يكون عن التفويت متى كان محققا و ليس عن الفرصة التي لم يستفد منها المتضرر، و هذا المعنى يؤكده قرار الغرفة الإدارية بمحكمة النقض الصادر بتاريخ 15 يناير 2015، و الذي جاء فيه بأنه “من المستقر عليه في قضاء هذه المحكمة أن التعويض عن فوات الفرصة يكون له محل كلما كان تفويتها محققا بصرف النظر عن كون الفرصة في حد ذاتها أمرا محتملا، و أن التعويض ينصب على التفويت المذكور و ليس على الفرصة نفسها”[11].

ويشترط القضاء الإداري كذلك أن يكون الضرر المعنوي ثابتا حتى يكون موجبا للتعويض، فمثلا، في حكم صادر بتاريخ 21 نونبر 2014 عن المحكمة الإدارية بالرباط، نجد بأنه “وحيث إنه فيما يخص طلب التعويض عن الضرر المعنوي، فإن الثابت من وقائع النازلة أن قرار المنع شكل اعتداء على حق ثابت هو حق التجمع و الاجتماع، مما أحدث ضررا أدبيا أصاب الجمعية ككيان معنوي…” [12].

من شروط الضرر المعنوي القابل للتعويض أن يكون ضررا خاصا و شخصيا، و يقصد بالضرر الخاص ذاك الذي يصيب شخصا واحدا أو عددا محددا من الأشخاص دون سواهم، و يقابله الضرر العام الذي يلحق بجماعة غير محدودة العدد، و هو ضرر يعتبر من قبيل الأعباء العامة التي يجب أن يتحمل تبعاتها الجميع على وجه المساواة حسب ما ينص عليه الدستور المغربي لسنة 2011[13]، فلا تقبل مثلا طلبات التعويض عن تفشي وباء معين أو عن استفحال ظاهرة التلوث البيئي، لأن ذلك يمس الجميع أو يصيب أشخاص غير محددين بذواتهم أو صفاتهم.

و يتفرع عن شرط الخصوصية المطلوب للتعويض عن الضرر المعنوي أن يكون هذا الضرر شخصيا أيضا، بمعنى أن يكون قد لحق المضرور بصفته الشخصية، و هو شرط يرتبط في جوهره كذلك بشرط المصلحة المطلوب لقبول الدعوى الإدارية عموما، غير أن الضرر قد يكون شخصيا كذلك بالنسبة لمن يقربون للشخص المتضرر بالدرجة الأولى كأولاده أو والديه أو زوجه، فإذا أخذ الضرر صورة المساس بالشرف أو السمعة مثلا، فإن هذا المس يلحق الأقارب كذلك ما داموا يعيشون معه و يحملون اسمه، أما إذا تسبب النشاط الإداري في وفاة الشخص، فإن الضرر المعنوي يكون قد لحق بأقاربه بشكل شخصي و هو الضرر المتمثل في الحزن و الأسى الذي يصيبه من جراء فقدانه و فراقه.

بالرجوع إلى مضامين الفصل 79 من قانون الالتزامات والعقود الذي يشكل الأساس المعياري للمسؤولية الإدارية بالمغرب، نجده ينص على أن “الدولة والبلديات مسؤولة عن الأضرار الناتجة مباشرة عن تسيير إدارتها وعن الأخطاء المصلحية لمستخدميها”، ومنه يتبين بوضوح بأن الشخص المضرور من نشاط الإدارة لا يقبل طلبه بالحصول على تعويض إلا إذا كان الضرر الذي أصابه قد نتج بطريقة مباشرة عن عمل الإدارة أو نشاطها، وهو ما يصطلح عليه بالضرر المباشر، ومفاده أن العلاقة السببية بين الضرر الذي يطالب المدعي بالتعويض عنه و تصرف الإدارة الذي نتج عنه الضرر ينبغي أن تكون علاقة مباشرة و واضحة، سواء أكان هذا التصرف مشروعا أو غير مشروع، و سواء أكانت الإدارة قد ارتكبت خطأ بالفعل أو لم تكن مخطئة.

و بناءً على هذا الشرط الأساسي، نجد أن القضاء الإداري لا يحكم على الإدارة بالتعويض إلا بعد أن يتحقق من وجود رابطة العلاقة السببية المباشرة بين الضرر و سلوك الإدارة، و هو ما يتضح على سبيل المثال في قرار الغرفة الإدارية بمحكمة النقض عدد 206 بتاريخ 12 أبريل 2012، الذي جاء فيه بأنه “لكن حيث أن الخطأ المرفقي يتجلى في عدم أداء الإدارة للخدمة، أو بطئها في أدائها، أو أدائها من طرفها على وجه سيء. و أن فتح أبواب المستشفى أمام المطلوب باعتباره زائر لأحد المرضى قبل موعد الزيارة، و في وقت تنظيف أرضية المستشفى، يشكل أداء للخدمة على وجه سيء، مما نتج عنه انزلاق المطلوب في النقض، و بالتالي إصابته بالأضرار التي لحقت به من جراء ذلك الانزلاق. و من تم يكون الخطأ المرفقي قائما في حق إدارة المستشفى. و هذا الخطأ هو السبب المباشر في وقوع الضرر للمطلوب الذي لو تم منعه من ولوج المستشفى وقت التنظيف لما تعرض للأضرار التي لحقت به، و بالتالي فإن الدولة تتحمل المسؤولية عن هذه الأضرار. و المحكمة لما قضت بتحميل الدولة المسؤولية عما لحق المطلوب من أضرار فإنها تكون قد بنت قرارها على أساس سليم بهذه العلة التي تعوض العلة المنتقدة”[14].

كما أن القاضي الإداري لا يعتبر الضرر المعنوي مباشرا إذا نتج عن سبب آخر مرتبط بوجود قوة قاهرة أو بخطأ المتضرر، و هنا تنتفي مسؤولية الإدارة أو يتقلص نطاقها، و القضاء الإداري يؤكد هذه القاعدة في العديد من أحكامه و قراراته، منها حكم المحكمة الإدارية بالرباط في قضية ورثة المرحوم مراد اشحيمة و المكتب الوطني للسكك الحديدية[15] الذي جاء فيه بأنه “و حيث أن المدعى عليه (المكتب الوطني للسكك الحديدية) باعتباره مؤسسة عمومية يخضع بالنسبة للضرر الذي يلحق الأشخاص بفعله لمقتضيات الفصل 79 من قانون الالتزامات و العقود الذي يحدد مسؤولية الدولة و البلديات عن الأضرار الناتجة مباشرة عن تسيير إدارتها. إن مسؤولية الدولة مؤسسة على المخاطر، و يكفي لقيامها وجود الضرر و علاقة السببية بينه و بين الآلة الخطيرة المستعملة من جانب مصالح الدولة و لا تعفى الدولة من هذه المسؤولية إلا بإثبات وجود القوة القاهرة أو خطأ الضحية”.

أما إذا ساهمت عدة أسباب في إنتاج الضرر المعنوي، و كان منها ما يرتبط بنشاط الإدارة و منها ما يخرج عن ذلك، فإن القاضي الإداري يأخذ بنظرية السبب المنتج من أجل الحسم في قيام المسؤولية الإدارية من عدمه، فمثلا في قرار صادر عن محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط بتاريخ 15 نونبر 2017 في قضية المفضل مقور ضد الشركة الوطنية للطرق السيارة بالمغرب[16]، أكدت المحكمة بأنه “…لأننا هنا لسنا في صورة خطأين مستقلين، حتى يسأل مرتكب كل منهما في حدود ما ارتكبه من خطأ، و إنما أمام حادثة سير و إن تدخلت في حدوثها عدة عوامل فإن مرتكب الخطأ الذي تسبب مباشرة في حدوثها هو الذي يبقى متحملا لكامل المسؤولية عنها و الذي هو في نازلة الحال الشركة الوطنية للطرق السيارة بالمغرب، و التي يبقى خطأها المتمثل في عدم تسييج الطريق السيار بقصد منع الغير الأجنبي من ولوجها هو الخطأ المنتج و المباشر في وقوع هذه الحادثة، و ذلك تطبيقا لنظرية السبب المنتح أو الفعال في إحداث الضرر المدعى به و التي جاء بها الفقه و الاجتهاد القضائي، و التي كرسها الفصل 79 من قانون الالتزامات و العقود، و هو الاتجاه الذي استقر عليه قضاء الغرفة الإدارية بمحكمة النقض…”

يشترط في الضرر المعنوي لكي يكون قابلا للتعويض من طرف القاضي الإداري أن يكون قد أصاب مصلحة مشروعة و يحميها القانون، و هذا يعني أن المركز الأدبي للشخص الذي يطالب بالتعويض يجب أن يكون قانونيا و سليما، و أن يكون الأذى قد مسه في حق من حقوقه الثابتة و الموجودة فعلا و المعترف بها من طرف القانون.

و لا يتوانى القاضي الإداري بمناسبة البث في المنازعات المرفوعة أمامه بخصوص التعويض عن الضرر المعنوي المنشئ للمسؤولية الإدارية، في أن يتحقق من وجود هذا الشرط قبل أن يحسم في النازلة، على غرار ما نجده في الحكم الصادر عن المحكمة الإدارية بالرباط بتاريخ 21 نونبر 2014، حيث يشير القاضي الإداري إلى أنه “و حيث أن الضرر الذي يستتبع المسؤولية و التعويض هو الأذى الذي يصيب الشخص من جراء المساس بحق من حقوقه أو بمصلحة مشروعة له، يستوي في ذلك أن يكون الضرر ماديا أو معنويا بحسب نوعية الحق الذي أصابه الضرر أو الأذى، و شرط أن يكون ضررا ثابتا و محققا، شخصيا و مباشرا، و مس مصلحة قانونية مادية أو أدبية طبقا لمقتضيات الفصلين 77 و 78 من قانون الالتزامات و العقود”[17].

لقد سبقت الإشارة إلى أنه يشترط للتعويض عن الضرر المعنوي في إطار المسؤولية الإدارية أن يكون هذا الضرر قد أصاب الشخص بصفة شخصية و أصلية، مع اعتبار الضرر الذي يصل إلى أقارب هذا الشخص و من يعيشون معه كذلك ضررا شخصيا و كافيا لجبر ما لحقهم من خسائر معنوية. و عليه، فإن الأشخاص الذي يحق لهم المطالبة بالتعويض عن الضرر المعنوي هم الانسان الذي كان موضوعا لآثار عمل الإدارة الضار، إضافة إلى ذويه من والدين و أبناء و زوج و إخوة، و كل هؤلاء يحق لهم أن يطالبوا بالتعويض عن الضرر الذي وصل إليهم من جراء تعرض قريبهم للضرر الأصلي، و يسمى الضرر الذي يمس المتضرر بدرجة مباشرة بالضرر الأصلي، أما الضرر الذي يصيب الأقارب فيعرف بالضرر المنتقل أو المرتد[18].

و بالاطلاع على مجموعة من الأحكام و القرارات الصادرة عن محاكم القضاء الإداري بالمغرب، نجدها تقضي بأحقية هؤلاء الأقارب في الحصول على تعويض عما أصابهم من ضرر مرتد، و من ذلك حكم المحكمة الإدارية بأكادير عدد 166/2008 في قضية ورثة السيد رشيد بوكيت و المكتب الوطني للكهرباء[19]، حيث جاء في مضمون هذا الحكم بأنه “و حيث أن الضحية هو المعيل الوحيد للمدعيين كما هو ثابت من رسم التحمل العائلي المؤرخ في 19/03/2007 المضمن تحت عدد 79 ص 58 كناش المختلفة رقم 23 توثيق أكادير.

و حيث أن المدعيين محقان في المطالبة بالتعويض المادي لحرمانهما من معيليهما و التعويض المعنوي نظرا لما تعرضان له من ألم نفسي في فقدان ابنهما”.

و في حكم آخر صادر عن المحكمة الإدارية بالدار البيضاء، نجد القاضي الإداري يؤكد على أحقية الابنة التي تفقد والدها جراء عمل الإدارة في الحصول على تعويض مالي لجبر ما أصابها من حزن و ألم ناتج عن وفاة والدها، حيث قضت المحكمة بأنه “و حيث إنه فيما يخص التعويض، فإن وفاة مورث المدعية قد سبب لها الأسى و الحسرة مما تكون معه محقة في المطالبة بالتعويض عن الضرر المعنوي…”[20].

و ينبغي التمييز بخصوص الضرر المعنوي المرتد بين الحالة التي يؤدي فيها العمل الإداري الضار إلى وفاة المتضرر الأصلي و تلك التي لا تنتج فيها وفاة المتضرر الأصلي عن عمل الإدارة. ففي الحال الأولى يعتبر الشعور بالحزن و الأسى و الألم من جراء فقدان الهالك ضررا معنويا في حد ذاته و يستوجب التعويض المناسب لفائدة ذوي الضحية، (و لقد سبقت الإشارة بشكل واضح في الحكمين السابقين أعلاه إلى تأكيد القضاء الإداري على هذا الأمر)، أما في الحالة التي لا يؤدي فيها الضرر المعنوي إلى وفاة المتضرر، فإن أقاربه لا يملكون الحق في المطالبة بالتعويض عن هذا الضرر الذي أصاب قريبهم مادام لم يقم هو بنفسه برفع دعوى التعويض قيد حياته، أو وجد اتفاق مسبق بينه و بين المتسبب في الضرر يحدد قيمة التعويض أو ينص على إمكانية انتقال هذا التعويض إلى ورثته.

أما إذا أقام المتضرر الأصلي دعوى المطالبة بالتعويض عن الضرر المعنوي و مات قبل صدور حكم المحكمة، فيحق لورثته مواصلة الدعوى و اقتسام التعويض حسب قواعد الإرث المتعارف عليها و المعمول بها، ففي حكم صادر عن محكمة الاستئناف بالرباط[21] نجد القضاء يصرح بأن “موت المتضرر الطارئ أثناء النظر في الدعوى لسبب خارج عن الحادث الذي أدى إلى إصابته يجب الاعتداد به عند تحديد التعويض الذي يتقرر لورثة المتضرر بعد وفاته…”.

و من هذا الحكم نفهم بأن الحق في التعويض عن الضرر المعنوي يمكن أن ينتقل بالوراثة في حالة وفاة المتضرر الأصلي قبل حصوله على الحكم بالتعويض، و بأنه يحق للورثة مواصلة الدعوى التي كان مورثهم قد أقامها قبل وفاته قصد الحصول على التعويض عما أصابه من ضرر معنوي قيد حياته.

أما إذا تعدد أفراد أسرة الشخص المتوفى بسبب نشاط الإدارة، فإن التعويض عن الضرر في هذه الحالة يستحقه أكثر من تأثر مركزه القانوني و الأدبي منهم و كانت خسارته أكثر فداحة، مع الإشارة إلى أن القضاء الإداري الفرنسي لا يشترط ضرورة أن يكون المتضرر فردا من أفراد أسرة المتوفى، بل يكفي أن يكون المطالب بالتعويض قد أصابه ضرر عاطفي و نفسي بليغ و فادح و مؤكد حتى و أن كانت عشيقته[22].

المطلب الثاني: موقف القضاء الإداري من التعويض عن الضرر المعنوي في إطار المسؤولية الإدارية

لا شك أنه من الأمور المحسومة فقها و قضاء أن كل ضرر مادي ناجم عن عمل الإدارة يستوجب الحكم بتعويض ملائم و كاف لتغطية ما لحق المتضرر من خسارة و ما فاته من كسب، إلا أن التعويض عن الضرر المعنوي في مجال المسؤولية الإدارية طالما اختلفت بخصوصه توجهات القضاء الإداري، و تأرجحت الأحكام الصادرة بشأنه بين القبول و الرفض، و هو ما سنحاول توضيحه في هذا المطلب من خلال التطرق في الفقرة الأولى لموقف القضاءين الإداريين بكل من فرنسا و مصر، قبل التطرق لموقف القضاء الإداري المغربي في فقرة ثانية.

أولا: موقف القضاء الإداري الفرنسي

يمكن تحقيب عمل القضاء الإداري الفرنسي بخصوص مسألة التعويض عن الضرر المعنوي من خلال مرحلتين أساسيتين:

  1. مرحلة ما قبل 1961:

لم يكن مجلس الدولة الفرنسي يقبل طلبات التعويض عن الضرر المعنوي إلا إذا كان هذا الضرر مقرونا بضرر مادي، فيحكم بتعويض إجمالي واحد يشمل الضررين المادي و المعنوي معا، و دون تحديد مبلغ كل منهما على حدة. و لا بد من الإشارة في هذا الصدد إلى قرار مجلس الدولة الفرنسي في قضية الزوجين Delpech[23]  بتاريخ 20 يناير 1911، حيث قضى المجلس لفائدة المدعيين بتعويض إجمالي قدره 1500 فرنك فرنسي عما لحقهما من ضرر مادي متمثل في تضرر أثاثهما و ضرر معنوي متمثل في تدهور صحة أطفالهما، و قد نتج الضررين معا عن حرمانهما من ولوج المسكن الوظيفي من طرف عمدة بلدية ليم Leyme.

و في سنة 1927، عرف توجه مجلس الدولة الفرنسي تطورا جديدا بمناسبة قراره الصادر بتاريخ 23 دجنبر 1927 في قضية السيدMays SMITH [24]، و تمثل هذا المستجد في الحكم بمبلغ محدد كتعويض عن الضرر المعنوي و بمبلغ آخر كتعويض عن الضرر المادي، و ذلك مع تشبث المجلس دائما بضرورة اقتران الضررين معا حتى يقبل التعويض عن الضرر المعنوي.

أما إذا كان طلب التعويض ينصب على ضرر معنوي غير مقترن بضرر مادي، فقد كان مجلس الدولة يرفضه في هذه المرحلة بذريعة أن الآلام لا يجوز أن تقوم بالمال[25]، و ذلك على غرار ما نجده في قرار مجلس الدولة الصادر بتاريخ 01 يوليوز 1927 في قضية السيد Demoreuil[26] الذي جاء فيه بأنه “اعتبارا لأنه، إذا كانت الوقائع التي يشتكي منها المدعي شكلت في الواقع أخطاء ذات خطورة استثنائية ارتكبت من طرف المرفق العام المكلف باستخلاص المساهمات، وبالتالي فهي أخطاء ذات طبيعة تستلزم انعقاد مسؤولية الدولة، فإنه لا يمكن منح هذا المدعي الذي لم يثبت تعرضه لأي ضرر مادي مادام أنه لم يقدم على بيع أي أثاث، أي تعويض آخر باستثناء تحميل الدولة مصاريف الدعوى.

شكل قرار مجلس الدولة الفرنسي في قضية السيد Letisserand[27] الصادر بتاريخ 24 نونبر 1961 تحولا تاريخيا في توجه القضاء الإداري الفرنسي بشأن التعويض عن الأضرار المعنوية الناجمة عن أعمال الإدارة، و التي تدخل في باب المسؤولية الإدارية، حيث قضى مجلس الدولة في هذا القرار لأول مرة في تاريخه بأحقية المتضرر معنويا في الحصول على التعويض دون أن يكون الضرر الذي لحقه مقترنا بضرر مادي، و تتلخص وقائع القضية في أنه بتاريخ 03 ماي 1955 تعرض السيدPaul Letisserand  و ابنه لحادثة سير مميتة أودت بحياتهما بعدما صدمتهما شاحنة تملكها محافظة الآليي Département de l’Allier، فتقدمت زوجته بدعوى للمطالبة بتعويض عما لحقها من أضرار مادية تتمثل في فقدان معيلها الوحيد هي و أبنائها، حيث كان زوجها هو من يتكفل بهم ماديا لوحده، فضلا عما أصابها من أضرار مستها في نفسيتها و عاطفتها بسبب ما لحقها ما ألم و حزن جراء فقدان زوجها و ابنها، و إلى جانب الزوجة تقدم السيد Camille Letisserand -و هو والد السيد -Paul Letisserand بدعوى أخرى يطالب من خلالها بتعويض عما أصابه من ضرر معنوي متمثل في وفاة ابنه و حفيده، و ذلك دون أن يشير لاقتران ضرره المعنوي بأي ضرر مادي، و قد استجاب مجلس الدولة لطلبه و قضى بأحقيته في الحصول على تعويض عن الضرر المعنوي قدره 1000 فرنك فرنسي، و بذلك يكون القضاء الإداري الفرنسي قد تخلى عن موقفه السابق المتمثل في ضرورة اقتران الضرر المعنوي بضرر مادي حتى يقبل التعويض عنه.

ثانيا: موقف القضاء الإداري المصري

لم يعرف القضاء الإداري المصري ذلك التحول الذي عرفه توجه القضاء الإداري الفرنسي فيما يخص التعويض عن الضرر المعنوي الصرف )الغير مقترن بضرر مادي(، حيث درج منذ نشأته على الحكم بالتعويض عن الأضرار المعنوية كلما تأكد من قيام المسؤولية الإدارية و دون أن يشترط في ذلك وجود ضرر مادي مواز، و بذلك فهو يخالف كذلك مسار القضاء المدني بمصر، الذي كان في البداية يرفض طلبات التعويض المرفوعة إليه لجبر الضرر المعنوي، و ذلك على غرار القضاء الإداري الفرنسي في المرحلة الأولى[28].

و من أحكام القضاء الإداري المصري التي يساوي فيها بين الضرر المعنوي و الضرر المادي، حكم محكمة القضاء الإداري الصادر سنة 1974، و الذي جاء فيه بأنه “إذا كان المدعي لم يقدم دليلا على ما يدعي به لحقوقه من ضرر مادي أصابه من قرار الاستيلاء… فإنه بالنسبة إلى الضرر الأدبي فليس ثمة شك في الاستيلاء على كسب المعصرة حاضره و مستقبله و ما استلزمه من إجراءات تفتيش… كل ذلك من شأنه أن يسيء إليه و يمس سمعته التجارية مما يجعل له الحق في التعويض الذي تقرره المحكمة”[29].

بعد البحث في عدد مهم من الأحكام و القرارات الصادرة عن محاكم القضاء الإداري المغربي في شأن طلبات التعويض عن الضرر المعنوي المرفوعة إليها، نلاحظ أن القاضي الإداري المغربي -على غرار القضاء الإداري المصري- لم يتجه نحو التفرقة بين الضرر المعنوي المقترن بالضرر المادي و الضرر المعنوي الصرف، حيث كان و لازال يقضي بأحقية المتضرر معنويا في التعويض عن هذا الضرر، و ذلك كلما توفرت فيه عناصر المسؤولية الإدارية.

صحيح أنه يوجد اتجاه فقهي و قضائي يقول بعدم جواز التعويض عن الضرر المعنوي، بحجة أن الدموع و الحسرة و الألم لا يمكن تعويضها بالمال، و بأن ذلك يخالف الأخلاق، و بأنه من الصعب تحديد الأطراف المتضررة معنويا، فضلا عن صعوبة إثبات هذا الضرر المعنوي، و صحيح أيضا أن القضاء العادي المغربي كان قد تبنى بدوره هذا الاتجاه في فترة معينة على غرار ما يتبين من خلال الحكم الصادر عن المحكمة الابتدائية بالرباط بتاريخ /08051957/، و الذي جاء فيه بأنه “يرتكز اجتهاد مجلس الدولة على استحالة إصلاح الضرر المعنوي، و على الالتزام بعدم إصلاح سوى الضرر المادي المباشر و المحقق، وضمن هذه الحدود و عندما يتعلق الأمر بوفاة طفل، فإن الضرر المادي إنما يتفق مع الاضطراب الحاصل في ظروف العيش”[30]، غير أن القضاء الإداري بالمغرب استقر بصفة عامة على الحكم بالتعويض عن الضرر المعنوي دون الحاجة إلى إثبات وجود ضرر مادي مواز، و هو ما نجده بوضوح في حكم المحكمة الإدارية بالرباط الصادر بتاريخ 16 يناير 2015[31]، حيث رفضت المحكمة طلب التعويض عن الضرر المادي لكنها قضت بمنح الطرف المدعي تعويضا عن الضرر المعنوي، و جاء في حيثيات هذا الحكم بأنه “و حيث إن الأضرار المادية التي ادعت المدعية أنها لحقتها بسبب المنع، بقيت بدون إثبات، لذا يتعين رفض طلب التعويض عن هذه الأضرار.

و حيث أنه فيما يخص التعويض عن الضرر المعنوي، فإن الثابت من وقائع النازلة أن المنع شكل اعتداء على حق ثابت هو حق التجمع و الاجتماع، مما أحدث ضررا أدبيا أصاب الجمعية ككيان معنوي يمارس الحقوق و يتحمل الواجبات في إطار قانوني منظم و يستفيد بهذه الصفة من الحماية القانونية، مما يستدعي إعادة الاعتبار للجهة المتضررة بالنظر لما أحدثه منع نشاطها بدون سبب قانوني من مساس بصورتها كجمعية من صميم مهامها الدفاع عن حقوق الانسان و إشاعة هذه الثقافة و التربية عليها، و تعويضها عما لحقها تعويضا كاملا لا رمزيا كمقابل لجبر هذا الضرر المعنوي…”.

و عموما، يمكن القول بأن المشرع المغربي قد حسم هذا الأمر بدوره، من خلال تنصيصه في الفصل 78 من قانون الالتزامات و العقود، بأن “كل شخص مسؤول عن الضرر المعنوي أو المادي الذي أحدثه، لا بفعله فقط ولكن بخطئه أيضا، وذلك عندما يثبت أن هذا الخطأ هو السبب المباشر في ذلك الضرر”، و بذلك يكون قد سوى بين الضررين المادي و المعنوي و أقر بضرورة منح التعويض في حالة حدوث كل منهما، و لاشك بأن القضاء الإداري المغربي باتباعه في هذا المجال نفس المقاييس التي يتبعها القاضي العادي يكون قد تفادى ذلك المد و الجزر الذي عرفه مسار القضاء الإداري الفرنسي بخصوص الاعتراف بقابلية الضرر المعنوي للتعويض[32].

المبحث الثاني: أنواع التعويض عن الضرر المعنوي وقواعد تحديد قيمته

إن الاعتراف بقابلية الضرر المعنوي للتعويض من طرف القضاء الإداري بالرغم من طبيعته اللامادية يجعلنا نتساءل بإلحاح عن أنواع هذا التعويض القضائي )المطلب الأول(، إضافة إلى القواعد الأساسية التي يمكن أن يعتمد عليها القاضي الإداري في تحديد قيمة التعويض )المطلب الثاني(.

المطلب الأول: أنواع التعويض عن الضرر المعنوي

إن التعويض الذي يحكم به القاضي الإداري عن الأضرار المعنوية في مجال المسؤولية الإدارية، يأتي عادة في شكل مبلغ مالي محدد يتوجب على الإدارة المسؤولة عن إحداث الضرر أن تؤديه للمتضرر قصد التخفيف عنه مما أصابه من مساس بكرامته أو إحساسه أو حريته أو فقدان أحد أقاربه.

و يعرف هذا النوع من التعويض ب “التعويض النقدي”، و هو الشائع و المعمول به في أغلب الدول التي تأخذ بنظام القضاء الإداري، بل إن التعويض النقدي يعتبر هو الطريقة الفضلى و الأكثر فعالية لجبر الضرر المعنوي بشكل خاص، حيث أن هذا الأخير يتميز بطبيعة خاصة لا تسمح بإعمال أي نوع آخر من أنواع التعويض، فلا يصلح مثلا أن يحكم القاضي الإداري بإرجاع الحالة إلى ما كانت عليه، خصوصا إذا كان الضرر متمثلا في وفاة الشخص الذي أصابه الضرر الناتج عن نشاط الإدارة.

كما أن شكل التعويض النقدي قد يختلف بدوره بين الحكم بمبلغ مالي محدد تدفعه الإدارة للمتضرر دفعة واحدة، و بين الحكم بتعويض على شكل مرتب يتلقاه المتضرر بشكل دوري و منظم يحدده القاضي الإداري، و ذلك في حالة إذا أدى الضرر إلى عجز بدني دائم يجعل المتضرر غير قادر على كسب قوته أو تحصيل أي دخل يكفيه لسد حاجياته المادية.

أما بالنسبة لكيفية تحديد قيمة التعويض المناسب لجبر الضرر المعنوي، نشير إلى أن هناك ثلاث حالات رئيسية تتمثل في:

يقصد بالتعويض غير النقدي عموما الحكم بإرجاع الحالة إلى ما كانت عليه قبل وقوع الضرر، حيث يأخذ التعويض شكل إلزام الإدارة المتسببة في إحداث الضرر المعنوي بإعلان أو نشر ما يفيد براءة المتضرر من بعض التهم التي وجهت إليه بدون وجه حق، مما تسبب له في ضرر معنوي متمثل في المساس بكرامته، أو منحه حق الرد على بعض الادعاءات التي قيلت في حقه بشكل تعسفي، بالإضافة إلى قيام الإدارة بسحب بعض القرارات الغير مشروعة التي أثرت في المركز القانوني للمتضرر و ألحقت به خسائر معنوية.

غير أن الملاحظ من الناحية العملية، هو أن القاضي الإداري لا يلجأ إلى الحكم بالتعويض العيني أو الغير نقدي، و ذلك نظرا لعدم جدواه في جبر الضرر الناشئ عن المسؤولية الإدارية عموما، و جبر الضرر المعنوي بشكل خاص، فمن المستحيل عمليا أن يتم إرجاع الحالة إلى ما كانت عليه إذا كان الضرر المعنوي قد تجسد في وفاة شخص أو فقدانه لعضو من أعضاء جسده أو إصابته بمرض خطير.

و حتى إذا كان من الممكن عمليا إرجاع الحالة إلى ما كانت عليه، فإن مبدأ فصل السلط و عدم جواز توجيه أوامر إلى الإدارة يمنع القاضي الإداري من الحكم بتعويض من هذا القبيل، فضلا على أن الإدارة تمثل المصلحة العامة التي يجب تقديمها على المصلحة الخاصة للأفراد، و بالتالي لا يجوز إجبارها على التراجع عما أقدمت عليه من أعمال و نشاطات، حتى و إن أدت هذه الأعمال إلى إصابة الغير بأضرار معنوية و مهما بلغت جسامتها، و لا يبقى لهؤلاء المتضررين إلا المطالبة بتعويض نقدي لعله يسعف في التخفيف عنهم مما أصابهم من ضرر.

و مما سبق ذكره في هذا المطلب نتبين بأن التعويض عن الضرر المعنوي في مجال المسؤولية الإدارية لا يكون إلا نقدا، و هو ما أكده حكم المحكمة الإدارية بالدار البيضاء الصادر بتاريخ 03/12/2007 الذي جاء فيه بأن “…التعويض في القانون الإداري لا يكون إلا نقدا”[33]. بل أكثر من ذلك، نجد القاضي الإداري يرفض حتى التعويض الرمزي، وذلك في العديد من المناسبات، منها حكم المحكمة الإدارية بالرباط رقم 5793 الصادر بتاريخ 24 نونبر 2014 الذي جاء فيه بأنه “… مما يستدعي إعادة الاعتبار للجهة المتضررة بالنظر لما أحدثه منع ندوتها بدون وجه حق من مساس بصورتها كجمعية من صميم مهامها الدفاع عن حقوق الإنسان و إشاعة هذه الثقافة و التربية عليها، و تعويضها تعويضا كاملا لا رمزيا كمقابل لجبر هذا الضرر المعنوي”[34].

المطلب الثاني: قواعد تحديد قيمة التعويض عن الضرر المعنوي

على غرار التعويض عن الضرر المادي، تخضع مسألة تقدير قيمة التعويض عن الضرر المعنوي للسلطة التقديرية للقاضي الإداري، غير أن الإعمال الصحيح و السليم لهذه السلطة التقديرية يتطلب استحضار مجموعة من القواعد التي قد ترتبط بعناصر التقدير )الفقرة الأولى( كما قد ترتبط بالأساس الزمني لهذا التقدير )الفقرة الثاني(.

إذا كان القاضي الإداري يرتكز في إعماله لهذه السلطة التقديرية بالنسبة للضرر المادي على قاعدة تعويض المتضرر بناء على ما لحقه من خسائر و ما فاته من أرباح، فإنه بالنظر للصعوبة البالغة التي تعتري تقييم الخسائر المتولدة عن الضرر المعنوي، لا بد أن يستعين هذا القاضي الإداري بعناصر أخرى تساعده على تحديد مبلغ التعويض المناسب، و أبرزها:

  1. ظروف و ملابسات الضرر :

حيث يستند القاضي الإداري في تقديره لقيمة التعويض على درجة جسامة الضرر و فداحته، و ليس على جسامة الخطأ المرتكب من طرف الإدارة، حيث جاء في قرار الغرفة الإدارية بمحكمة النقض عدد 129 الصادر بتاريخ 01 مارس 2012 بأن “المسؤولية الإدارية للدولة لا تقوم على الخطأ فقط بل يمكن أن تترتب بدون خطأ كذلك، عندما يتعلق الأمر بما تقتضيه ظروف وملابسات تستوجب مساهمة الدولة في تحمل الأعباء العامة، ويندرج بذلك مجال مسؤوليتها في نطاق تسيير إدارتها وحماية موظفيها مما قد يتعرضون له من أضرار لم تكن لتحدث لولا ارتباطها المباشر بنشاطهم المهني وبمناسبة عملهم”[35]، كما نجد المحكمة الإدارية بالرباط تصرح في حكمها رقم 5793 المذكور أعلاه[36] بأنه “استنادا إلى وقائع و ظروف النازلة، و إعمالا من المحكمة لسلطتها التقديرية في هذا الباب، ارتأت تحديد التعويض في مبلغ مائة ألف درهم، تؤديه الدولة في شخص رئيس الحكومة انسجاما مع مقتضيات الفصل 515 من قانون المسطرة المدنية”.

كما أشرنا إلى ذلك آنفا، يتشبث القاضي الإداري بأن جبر الضرر المعنوي لا يكون بتعويض رمزي، بل يجب أن يكون التعويض عنه كاملا غير منقوص، و قد عبر عن هذا الموقف في قرارات و أحكام عديدة، منها قرار الغرفة الإدارية بمحكمة النقض الصادر بتاريخ 10 يوليوز 1986الذي جاء فيه بأن “التعويض عن الضرر المعنوي مثل التعويض عن الضرر المادي يجب أن يكون كاملا لا رمزيا…” [37].

كما أن الغرفة الإدارية بمحكمة النقض قضت في قرارها عدد 129) 01 مارس 2012( المذكور أعلاه، بأن منح التعويض الكامل عن المسؤولية الإدارية الناجمة عن إلحاق الضرر المعنوي بالغير، لا يحول دون استفادة المتضررين من تعويضات أخرى يمنحها لهم القانون، كمعاش الزمانة مثلا، حيث جاء في هذا القرار القضائي بأن ” تعرض موظف لاعتداء أودى بحياته أثناء مغادرته لمقر عمله تتحمل الدولة المسؤولية عنه في إطار تضامنها مع المتضررين لحماية موظفيها مما قد يتعرضون له من أضرار أثناء أو بمناسبة قيامهم بعملهم. ويستحق ورثته معاش الزمانة والتعويض عن الأضرار الناتجة عن تسيير الإدارة أو عن الأخطاء المصلحية”.

استنادا إلى مقتضيات الفصل 3 من قانون المسطرة المدنية[38] التي تنص على أنه “يتعين على القاضي أن يبت في حدود طلبات الأطراف ولا يسوغ له أن يغير تلقائيا موضوع أو سبب هذه الطلبات…” لا يجوز للقاضي الإداري أن يقضي بمنح المتضرر معنويا من نشاط الإدارة تعويضا يفوق ما طلبه في عرائضه و مقالاته.

و الواقع أنه من خلال الاطلاع على مجموعة من الأحكام و القرارات الصادرة عن محاكم القضاء الإداري بالمغرب، لاحظنا بأن قيمة المبلغ المحكوم به كتعويض عن الضرر المعنوي لا تتجاوز في معظم الحالات نصف المبلغ الذي طلبه المدعي في عريضته.

كما سبقت الإشارة في المبحث الأول من هذا المقال، فإن مسؤولية الإدارة عن الضرر المعنوي قد يتقلص نطاقها حسب درجة اتصال هذا الضرر بنشاط الإدارة، بمعنى أن القاضي الإداري يتحقق عند تقدير قيمة التعويض من مدى تحمل المتضرر لقسط من المسؤولية كما هو الشأن بالنسبة لحكم المحكمة الإدارية بأكادير الصادر بتاريخ 22 دجنبر 2015 الذي جاء فيه بأنه “و حيث إن المدعي مسؤول من جانبه عن الضرر اللاحق به جراء فترة الاعتقال، لخلو وثائق الملف مما يستدل منه على سعيه لتحسين فرص إطلاق سراحه، بمساهمته في الإغفال عن ممارسة الطعون الممكنة ضد القرارات الصادرة في حقه عن النيابة العامة أو قاضي التحقيق وفقا لمقتضيات المادتين 74 و 223 من قانون المسطرة الجنائية من أجل رفع حالة الاعتقال الاحتياطي، و ذلك بتقديم طلب السراح المؤقت أو تقديم كفالة مالية أو شخصية، علاوة على أنها إمكانيات تنطوي على حظوظ كافية لإطلاق سراحه، غير أنه تنازل عنها فارتكب خطأ موجبا للمسؤولية مما يتعين معه تشطير مسؤوليته مع الإدارة المدعى عليها في تحديد التعويض المستحق له”[39].

إذا كان الضرر المعنوي الموجب للتعويض يشترط فيه أن يكون ضررا محققا، فإن هذا الضرر المعنوي المحقق قد يكون ذو طبيعة ثابتة كما قد يكون ضررا معنويا متغيرا، ذلك أن الضرر الثابت هو ذاك الذي يستقر على حالة واحدة و لا مجال لتغير مداه أو درجة خطورته، و في هذه الحالة يكون التعويض المحكوم به لجبر هذا الضرر تعويضا نهائيا و لا يجوز للمتضرر المطالبة بتعديله مستقبلا، و ذلك بعد أن يصبح الحكم انتهائيا و غير قابل لأي نوع من أنواع الطعن القضائية.

أما الضرر المعنوي المتغير فهو الضرر الذي لا يبقى على نفس الحالة التي كان عليها يوم حدوثه و يبقى مرشحا للتطور و التغير حتى بعد صدور الحكم، و ذلك من قبيل الضرر الجسدي الذي يتفاقم و يستفحل حتى يصل إلى درجة العاهة المستديمة مثلا، و في هذه الحالة يجوز للقاضي الإداري أن يحتفظ للمضرور بحق الرجوع للمطالبة بتعديل قيمة التعويض إذا أثبت بأن هذا التعويض لم يعد يكفي لجبر ضرره المعنوي جزئيا أو كليا.

لا شك أنه خلال الفترة الزمنية الفاصلة بين تاريخ حدوث الضرر المعنوي و تاريخ صدور حكم القضاء الإداري بالتعويض عنه تحدث تغيرات اقتصادية و اجتماعية مهمة و عديدة، و يكون لها أثر بالغ على مستوى المعيشة و متطلباتها، كما أن هذا الضرر المعنوي نفسه قد تتزايد خطورته أو تتناقص على النحو الذي قمنا بتوضيحه في الفقرة السابقة، و بالتالي، فإن قيمة التعويض عن هذا الضرر قد تتغير حسب ما إذا استند القاضي الإداري في تحديده إلى وقت حدوث الضرر أو استند في ذلك إلى وقت صدور الحكم.

و باستقراء مجموعة من الأحكام و القرارات القضائية الصادرة في شأن التعويض عن الضرر المعنوي، اتضح لنا بأن القاضي الإداري المغربي يقوم بتقدير التعويض المناسب استنادا إلى وقت صدور الحكم و ليس إلى وقت حدوث الضرر، و هو توجه يستحق التنويه و الإشادة نظرا لما ينطوي عليه من واقعية و فعالية في حماية حقوق المتقاضين و صيانتها.

أما موقف القضاء الإداري الفرنسي، فقد عرف تطورا ملحوظا في هذا المجال، حيث كان في مرحلة أولى -وهي مرحلة ما قبل سنة 1947- يقضي بتحديد التعويض بناء على أساس زمني مرتبط بوقت حدوث الضرر، أما في مرحلة ما بعد 1947 فقد أصبح مجلس الدولة الفرنسي يفرق بين الضرر المعنوي الذي يصيب المتضرر في شخصه و الضرر الذي يصيبه في أمواله، حيث يقدر التعويض بناء على وقت صدور الحكم في الحالة الأولى و استنادا إلى وقت حدوث الضرر في الحالة الثانية[40]، غير أنه ما فتئ في قراراته الحديثة يتجاوز هذا التمييز، و أصبح يقوم بتقدير التعويض استنادا إلى وقت صدور الحكم سواء أكان الضرر يمس الشخص أو الأموال[41]، و هو نفس الاتجاه الذي سارت فيه محكمة النقض الفرنسية حينما قضت بأنه “إذا كان حق المتضرر في الحصول على تعويض عن الضرر يوجد منذ وقوع الضرر، فإن تقدير هذا الضرر يجب أن يحصل وفقا لما تكون عليه حالة المتضرر وقت صدور الحكم، و أنه إلى أن يصدر الحكم يكون محل الحق غير محدد، و من تم فإن القاضي في تحديده لمقدار التعويض، يجب أن يعتد بجميع الحوادث التي تكون قد حدثت إلى اليوم الذي يصدر فيه الحكم”[42].

خــــــــــاتمة

بغض النظر عن الاختلاف الفقهي و التردد القضائي بخصوص التعويض عن الضرر المعنوي نظرا لطبيعته غير المادية، و رغم كون الألم النفسي و العاطفي لا يمكن جبره بالمال مهما بلغت قيمة التعويض، فإن مبادئ العدالة و قيم التضامن الإنساني الواجب تقتضي اعتبار هذا الضرر المعنوي موجبا للتعويض الكامل و المنصف، لأن فداحة هذا الضرر في نظرنا تفوق بكثير فداحة الضرر المادي لأنه غالبا ما ينطوي إضافة إلى الحزن و الألم النفسي العميق، على خسائر مادية كبيرة تتمثل في فقدان مصدر للدخل المادي بالنسبة للشخص المتضرر الأصلي و لذويه، و خصوصا في حالة العجز البدني و حالة الوفاة.


[1]. Tribunal des conflits, Arrêt Blanco, 08 février 1873, Affaire N°00012, Publié au recueil Lebon.

Téléchargé à partir du : https://www.conseil-etat.fr/arianeweb/#/view-document/?storage=true.

[2]. ظهير 09 رمضان 1331 الموافق ل 12 غشت 1913 بمثابة قانون الالتزامات و العقود كما تم تعديله و تغييره و تتميمه بموجب عدة نصوص قانونية، كان آخرها الظهير الشريف رقم 1.16.05 الصادر بتاريخ 23 ربيع الآخر 1437 (03 فبراير2016) بتنفيذ القانون 107.12 بتغيير و تتميم رقم 44.00 بشأن بيع العقارات في طور الإنجاز، الجريدة الرسمية عدد 6440 بتاريخ 09 جمادى الأولى 1437 (18 فبراير 2016)، ص 932.

.[3] فقد جاء في حكم صادر عن المحكمة الإدارية بالدار البيضاء بتاريخ 10 فبراير 2010، في قضية السيد محمد الوان و شركة باركيكران، ملف رقم 08/13/2009 بأنه “وحيث أن الثابت قانونا أن منع المواطن من التنقل بواسطة وسائل النقل الخاصة يعتبر مسا بحق دستوري يتمثل في حق التجول و الاستقرار بجميع أنحاء المملكة و لا يجوز مخالفته أو المس به إلا بواسطة القضاء الذي يمكنه في بعض الحالات تحديد أماكن معينة للبعض للاستقرار بها”، حكم غير منشور.

.[4] تعريف الأستاذ حسن حنتوش رشيد الحسناوي، التعويض القضائي في نطاق المسؤولية العقدية –دراسة مقارنة-، دار الثقافة للنشر و التوزيع، عمان، 1999، ص 38، أورده هشام محمد علي سليمان، بحث مقدم استكمالا لمتطلبات الحصول على درجة الماجيستير في السياسة الجنائية، جامعة نايف للعلوم الأمنية، الرياض، 2005، ص 91.

.[5] تعريف الأستاذ سليمان مرقص، الوافي في شرح القانون المدني، القاهرة، الطبعة الخامسة، 1992ج2، ص 507، أورده هشام محمد علي سليمان، نفس المرجع السابق، ص 92.

[6]. نفس الحكم الصادر عن المحكمة الإدارية بالدار البيضاء المشار إليه أعلاه.

[7].  حكم المحكمة الإدارية بالدار البيضاء الصادر بتاريخ 03/12/2007، في قضية محمد العلمي ضد الجماعة الحضرية لبني ملال، ملف رقم 584/2002ت، حكم غير منشور.

.[8] حكم المحكمة الإدارية بالرباط عدد 1412، الصادر بتاريخ 22/4/2013، في قضية السيدة إكرام النادي و من معها ضد المكتب الوطني للكهرباء و الماء الصالح للشرب، ملف رقم 531-12-2011، حكم غير منشور.

[9]. Arrêt du Conseil d’Etat, 12 nov. 1965, n° 62342, Poncin : Publié au recueil Lebon, Lecture du vendredi 12 novembre 1965.

    Téléchargée à partir du : https://www.conseil-etat.fr/arianeweb/#/view-document/?storage=true

[10]. حكم المحكمة الإدارية بمراكش، الصادر بتاريخ 25 يناير 2017، في قضية السيد عبعوب هشام ضد جامعة القاضي عياض بمراكش، ملف عدد 814/7112/16، حكم منشور بالمجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، السلسلة العادية، عدد 137، نونبر – دجنبر 2017، ص402.

.[11] قرار الغرفة الإدارية بمحكمة النقض، عدد 32، الصادر بتاريخ 15 يناير 2015، ملف إداري 2145/4/2/2013، غير منشور. 

[12]. حكم المحكمة الإدارية بالرباط، رقم 5793، الصادر بتاريخ 21/11/2014، الجمعية المغربية لحقوق الإنسان ضد ولاية جهة الرباط سلا زمور زعير، ملف رقم 949/7112/2014، منشور بمجلة العلوم القانونية، سلسلة فقه القضاء الإداري، عدد مزدوج 3 – 4، الجزء الأول، ص 213.

[13]. الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.11.91 بتاريخ 27 شعبان 1432 الموافق ل 29 يوليوز 2011، الجريدة الرسمية عدد 5964 مكرر، بتاريخ 28 شعبان 1432 الموافق ل 30 يوليوز 2011، ص 3600.

[14]. قرار الغرفة الإدارية بمحكمة النقض، عدد 206، الصادر بتاريخ 12 أبريل 2012، في الملف الإداري عدد 830/4/2/2011، في قضية) ر.ب( ضد الوكيل القضائي للمملكة، منشور في مؤلف الأستاذين خالد علامي و عبد الغني بامو، التوجهات الحديثة لمحكمة النقض في مسؤولية المرفق العام الطبي –الغرفة الإدارية- الجزء الأول، دار الأفاق المغربية للنشر و التوزيع، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2017.

[15]. حكم المحكمة الإدارية بالرباط رقم 1624، الصادر بتاريخ 06 ماي 2013، ملف رقم 169/12/2012 بين ورثة المرحوم مراد اشحيمة و المكتب الوطني للسكك الحديدية، حكم غير منشور.

[16]. قرار محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط، رقم 4712، الصادر بتاريخ 15 نونبر2017، ملف عدد 1052/7206/2017، في قضية المفضل مقور ضد الشركة الوطنية للطرق السيارة بالمغرب، منشور بالمجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، السلسلة العادية، عدد 141، يوليوز – غشت 2018، ص 346.

[17]. حكم المحكمة الإدارية بالرباط رقم 5793، الصادر بتاريخ 21 نونبر 2014، سبقت الإشارة إليه.

[18]. هيمن حسين حمد أمين، الضرر المعنوي و التعويض عنه في القانون و القضاء الإداري المقارن، المركز العربي للنشر و التوزيع، الطبعة الأولى 2018، ص 207.

[19]. حكم المحكمة الإدارية بأكادير عدد 2008/166 الصادر بتاريخ 2008/03/26، ملف عدد 2008/258 ش، بين ورثة السيد بوكيت رشيد و المكتب الوطني للكهرباء، حكم غير منشور.

[20]. حكم لمحكمة الإدارية بالدار البيضاء صادر بتاريخ 2008/05/07، ملف رقم 2007/1877ق ش، بين السيدة فتيحة الكنتي و الجماعة الحضرية لمدينة سطات، حكم غير منشور.

[21]. حكم محكمة الاستئناف بالرباط، رقم 5555، صادر بتاريخ 12 نونبر 1963، أورده الأستاذ حسن صحيب، القضاء الإداري المغربي، سلسلة دراسات و أبحاث في الإدارة و القانون، العدد الثالث، الطبعة الثانية، ماي 2019، ص 107، من مجموعة قرارات المحاكم الاستئنافية بالمغرب، ص 169-170.

[22]. هيمن حسين حمد أمين، مرجع سابق، ص 208، نقلا عن محمد يحيى المحاسنة، أصحاب الحق في التعويض عن الضرر الأدبي في حالة موت المصاب، بحث منشور بمجلة الحقوق، العدد الثاني – السنة الرابعة و العشرون- يونيو 2000، ص 283 و 284.

[23]. Arrêt du CE N°29304, 20/01/1911, Sieur et dame DELPECH/Maire de Leyme, publiée au recueil des arrêts du conseil d’Etat, Tome 81, 2ème série, année 1911, P 53.

Téléchargé à partir du : https://gallica.bnf.fr/ark:/12148/bpt6k5736628h/f62. 

[24]. Arrêt du CE N°89965, 23/12/1927, Sieur Mays SMITH/Ministère du commerce et de l’industrie, publiée au recueil des arrêts du conseil d’Etat, Tome 97, 2ème série, année 1927, P 1264 – 1266.

Téléchargé à partir du : https://gallica.bnf.fr/ark:/12148/bpt6k5742696c/f1269. 

[25]. هيمن حسين حمد أمين، مرجع سابق، ص 64.

[26]. Arrêt du CE N°86543, 01/07/1927, Sieur Demoreuil/Ministère des Finances, publiée au recueil des arrêts du conseil d’Etat, Tome 97, 2ème série, année 1927, P 1264 – 1266.

Téléchargé à partir du : https://gallica.bnf.fr/ark:/12148/bpt6k5742696c/f744.

[27]. Arrêt du CE N°48841, 24/11/1961, Sieur Camille Letisserand/Département de l’Allier, publiée au recueil Publié au recueil Lebon, Lecture du vendredi 24 novembre 1961.

Téléchargé à partir du : https://www.conseil-etat.fr/arianeweb/#/view-document/?storage=true .

[28]. بهذا الخصوص أشارت الأستاذة سلوى حسين حسن رزق، في مقالها “الضرر المعنوي و التعويض عنه في ضوء اجتهادات ديوان المظالم” إلى قرار محكمة الاستئناف بقنا المصرية بتاريخ 11 ديسمبر 1900، الذي قضت فيه بأن الشرف لا يقوم بالمال، و هو قرار منشور بمجلة الحقوق، العدد 16، ص 11، و قرار محكمة الاستئناف الوطنية بتاريخ 04 يناير 1896، الذي قضت فيه بأنه لا يستحق تعويضا إلا من اختل نظام معيشته بسبب موت المضرور –قرار منشور بمجلة الحقوق العدد 114- ص 247. أورده الأستاذ عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، مصادر الالتزام بوجه عام، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، لبنان، طبعة 2011، ص 985.

[29]. أورده هيمن حسين حمد أمين، مرجع سابق، ص 69. و أشار إليه سعد ضويحي السبيعي، التعويض عن القرارات الإدارية –دراسة مقارنة بين القضاء المصري و الكويتي- رسالة دكتوراه، كلية الحقوق، جامعة القاهرة، 2012، الهامش رقم 1، ص 232.

[30]. أشار إليه الأستاذان نجاة خلدون و المكي السراجي في كتابهما “دعوى التعويض أمام القضاء الإداري”، الطبعة الأولى، ص 195، و قد ذكره الأستاذ إبراهيم زعيم الماسي في مرجعه العملي للاجتهاد القضائي الإداري، طبعة 1996، مطبعة النجاح الجديدة، ص 336 و 337.

[31]. حكم المحكمة الإدارية بالرباط رقم 114، الصادر بتاريخ 16 يناير2015، ملف رقم 2014/7112/988، في قضية الجمعية المغربية لحقوق الإنسان ضد الدولة المغربية، منشور بمجلة العلوم القانونية، سلسلة فقه القضاء الإداري، عدد مزدوج 3 – 4، الجزء الثاني، ص 236.

[32]. حسن صحيب، مرجع سابق، ص 101.

[33]. حكم المحكمة الإدارية بالدار البيضاء الصادر بتاريخ 03/12/2007، في قضية محمد العلمي ضد الجماعة الحضرية لبني ملال، سبقت الإشارة إليه.

[34]. سبقت الإشارة إليه.

[35]. قرار الغرفة الإدارية بمحكمة النقض رقم 129، الصادر بتاريخ 01 مارس 2012، في الملف الإداري عدد 2010/1/4/870، بين ورثة السيد محمد الشريف العثماني و الوكيل العام للمملكة، قرار غير منشور.

[36]. سبقت الإشارة إليه.

[37]. قرار الغرفة الإدارية بمحكمة النقض رقم 125، الصادر بتاريخ 10 يوليوز 1986، في الملف الإداري رقم 89639، غير منشور.

[38]. قانون المسطرة المدنية المغربي المصادق عليه بمقتضى الظهير الشريف بمثابة قانون رقم 1.74.447 بتاريخ 11 رمضان 1394 (28 شتنبر 1974)، الجريدة الرسمية عدد 3230 مكرر، بتاريخ 13 رمضان 1394 (30 شتنبر 1974)، ص 2741، كما تم تعديله و تغييره و تتميمه بموجب عدة نصوص قانونية، كان آخرها الظهير الشريف رقم 1.14.14 بتاريخ 4 جمادى الأولى 1435 (6 مارس 2014)، الجريدة الرسمية عدد 6240 بتاريخ 18 جمادى الأولى 1435 (20 مارس 2014)، ص 3229.

[39]. حكم المحكمة الإدارية بأكادير الصادر بتاريخ 22/12/2015، في الملف عدد 749/7112/2013، بين المدعي و الدولة المغربية، منشور بالمجلة المغربية للإدارة المحلية و التنمية، السلسلة العادية، عدد 142، شتنبر-أكتوبر 2018، ص 295-300.

[40]. هيمن حسين حمد أمين، مرجع سابق، ص 249.   

[41]. جورج فيدل و بيير دلفولفي، القانون الإداري، الجزء الأول، الطبعة الأولى، ترجمة و تحقيق منصور القاضي، المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر، 2008، ص523.

[42]. أشار إليه الأستاذ حسن صحيب، مرجع سابق، ص 106، و أورده ميشيل روسي و آخرون، القانون الإداري المغربي، الطبعة الأولى 1988، المطبعة الملكية، ص 606.

Exit mobile version